الکتابة، دنيا من الارهاصات و الاختلاجات و التفاعلات المتباينة يتم عکسها في صورة کلمات و جمل تعبر عن حالات فهم و إدراك و معايشة محددة لثمة قضية أو عدة قضايا متداخلة مع بعضها البعض، و يسعى الکاتب من خلال ذلك أن يوصل للقارئ وجهة نظره. وقد يطرح الکاتب قضايا ذاتية أو موضوعية أو قد يزاوج و يخلط فيما بينهما، وعلى الرغم من أن الکتابة الذاتية(الوجدانية)، تبدو من ظاهرها أنها حالة فضفضة و تفريغ لمعاناة او احساس ما، ويغلب عليها الطابع الذاتي من حيث کونها تتعلق بالأنا، إلا أن ذلك لا يمنحها صکا و مبررا حتى تتجاوز من خلاله منصة و شرفة القارئ التي هي السراط الذي بعبوره تتحدد القيمة الاعتبارية لذلك العمل الابداعي.
کتابات حسين مردان و محمد الماغوط و بودلير و البير کامو و فرانسواز ساغان و سيمون دوبوفوار و غادة السمان وعزيز نسين و صادق هدايت و فروغ فروغزاد و حافظ جميل"شاعر الخمرة العراقي"، وآخرون کثر، لو لم تکتحل بنظرات القراء لما کان لها هذا الشأن و الاعتبار، هؤلاء الکتاب و الشعراء الذاتيون وان لم يخاطبوا الجمهور بشکل مباشر، لکنهم تواصلوا معه بشکل أکثر خصوصية و عمقا و توغلوا في أدق مفرداتهم و تفاصيلهم اليومية مما عکس في حد ذاته حالة عوز و إحتياج عارمة إعترتهم و دفعتهم الى إصدار صرخات إستغاثات و ندائات و حالات تمزق و ضياع و جنون جسدوا من خلالها عمومية المعاناة الذاتية و کونها حالة تداخل و تواصل و تفاعل بين أکثر من طرف. أما الکاتب الموضوعي او الذي يجمع بين الحالتين و يسعى للتواصل مع القراء بشکل مباشر عبر طرح أفکاره و رؤاه للأمور في صيغ مختلفة، فلاغرو انه يعلن و بکل وضوح ان القارئ يمثل لديه المعيار الاهم في عملية تقييم و غربلة نتاجه الفکري ومنحها القالب النهائي الذي تستقر فيه.
وکما ان الکتابة عالم خاص قائم بحد ذاته، فإن القراءة أيضا دنيا قد تکون أکبر و اوسع و أشمل من دنيا الکتابة وأکثر عمومية منها، ومثلما أن الکاتب بالامکان تشبيهه بربان سفينة ما يمخر عباب البحار و المحيطات بحثا عن درر و لآلئ الکلام، فإن القارئ هو بمثابة البحر الذي يحمله على ظهره و يوصله الى بر الامان وقد تنقلب تلك السفينة و يغرق ربانها بين الامواج المتلاطمة مالم يکن حذقا و نبها و يحسب للبحر حسابه وذلك هو قطعا حال الکاتب الذي يرفضه أو لايستسيغه القراء.
ولطالما اهتم کتاب کبار و مشهورون بآراء القراء و کانوا على تواصل معهم و نهلوا من وجهات نظرهم و من فهمهم و رؤيتهم لما يکتبون، وبطبيعة الحال، مثلما ان هناك فرقا بين کاتب و آخر، فإنه هناك أيضا فرقا بين قارئ و آخر، إذ کما نعلم يقرأ الجميع ثمة بحث أو مقالة أدبية أو سياسية، لکن عند مراجعة عملية الإستيعاب و الفهم لدى الجميع نجد ثمة بون شاسع في الامر، سيما عندما تجد أن(البعض)منهم لم يتوقف عند عملية الفهم و الاستيعاب الکاملين لما طرح في ذلك البحث أو المقالة، وانما يتجاوزه بتحديد معايب و ثمة نواقص محددة فيه ومثل هذا القارئ يکون کالنسر المحلق فوق رأس الکاتب الذي يحذر کثيرا من أية زلة او هفوة ما يقتنصها بين مخالبه. ان القراء المثاليين، وهم قطعا کالنخبة الخاصة، يمکن إعتبار آرائهم و إنطباعاتهم عن أية أعمال إبداعية بمثابة مناهل مهمة و نوعية للکتاب لا يملکون إلا أن يقروا بدورها البناء في صقل و تشذيب عمليتهم الابداعية، وليس بمستبعد أبدا أن يساهم هکذا قراء حاذقون بقسط وافر في شکل و مضمون النتاج الفکري الابداعي للکاتب ومن هنا وبالاستناد لهذا الدور الحيوي و المثمر، فقد يستحق مثل هؤلاء أن يغدق عليهم لقب الاستاذ و الموجه المجهول للکاتب.
لکن هذا لايعني أبدا ان نلقي بکل القراء الاعتياديين جانبا و لانضع ثمة إعتبار محدد لهم، لأنهم و في کل الاحوال شئنا أم أبينا، فهم يشکلون رکنا اساسيا من ارکان إکتمال و نضوج العملية الابداعية ولاسيما وان الکتابة اساسا هي عملية تواصل تعتمد على المتلقي کشرط جذري لبلوغ الاهداف النهائية للعملية.
التعليقات (0)