النظرة السوداويه ..
لم تكن براحة الجبري في حي العيوني سوى مركز العالم بالنسبة لي، أما المبرز فكانت العالم نفسه، محاطا بهالة من البساتين من جميع الجهات بإستثناء جهة الغرب. ومن المصادفات العجيبة أن من الغرب أيضا جاء كل شيء ! بالمعنى الإيجابي والسلبي لهذه العبارة. فلست أذيع سرا فأنا وغيري قد لازمنا شعور منذ الطفولة بأن هناك نظرة سوداوية تراكمت عبر السنين تجاه الإحساء! لدرجة أننا كنا نتقي الإفصاح عن هويتنا خارج حدود الواحة، تلافيا لدحر نظرة نمطية تلذذ الكثيرون بترديدها، تتعلق بالعرق والطائفة والمذهب بما في ذلك العادات واللهجة ونمط الحياة .
ظلت تلك النظرة تطارد المجتمع الإحسائي ولم يشف منها إلى يومنا هذا . لقد جربت حظي مرارا في فهمها ولكن إدراكي مني بالفشل! مع التأكيد أن السوداوية ليست بالضرورة أن تكون سلبية ، فهناك العديد من المدن الجميلة والرائعة في حقبة معينة، وصمت بتلك النظرة، منها على سبيل المثال إسطنبول. أي أن السوداويه قد تكون سمة لأي مدينة فقدت بريقها وأفل نجمها لأسباب خارجة عن إرادتها. ولكن يبدو لي أن ماضي الإحساء الزاهر لم يعد كافيا لزخرفة حاضرها، مع ذلك أكاد أجزم بعدم وجود تلك النظرة عندما كانت المبرز مركزا لحكم آل عرير، ذلك الحاكم الذي فرد جناحيه على الإحساء وعلى مساحة شاسعة من أصقاع نجد.
لكن الحياة علمتنا بمجرد أن ينسحب البساط من تحت الأرجل فعليك أن تتوقع كل شيء .. حتى تقدير الناس لأهلها "الحساوية" يأتي مترددا يتخلله شك وحذر ! مع ذلك نسمع أحيانا من الآخرين جمل جاهزة تمجد الإحساء وتنعت أهلها بالطيبة ! بطرائق تتسم بالوضوح والغموض في آن معا ، تُقال في المناسبات كأنهم يحاولون ترميم صورتها بالكلمات المجردة ! أيضا أهل الإحساء أنفسهم استجابوا لتلك النظرة وألبسوها ملامح الأم المسكينة التي تسعى وتشقى في مواجهة عقوق الآخرين. أحيانا تنزلق بنا الأحاديث إلى موضوعات تتعلق بالتخرص عن ما يشعر به الآخرون تجاه الإحساء كموطن للكوليرا والحمير والذباب ! مع قليل من الاعتراف بثروتها وبفضلها كمركز للعلم والتجارة ،وبخيرها المتمثل في وفرة المياه والمحاصيل وإتقان الحرف. فالرؤى السلبية المتواترة تجاه أهلها، أفرزت صورة ذهنية عنهم، أشبه ما تكون بمشروع إهانة ! تعوض فيه المخيّلة عن النظرة الواقعية المتمدنة ، فلما لا ؟ فالخيال أكثر سخاء من الواقع!
قبل أن أولد، وقبل قيام الدولة، لم تكن الدمام سوى أرض سبخة لا تُنبت ولا تساوي شيئا ، أما نجد فهي صحراء قاحلة متحركة، تغذيها الصراعات، عندما لا يغذيها المطر، صحاري ظمآنة يحجب الغيث نفسه عنها دهورا طويلة ، وأفق مزدحم بالفخاخ والمخاطر المفزعة. نسمع كبار السن يرددون أبيات من الفلكلور الشعبي القديم:
يا نجد مافيك بطيخ - ولا قفص ولا سعنه
مافيك إلا الصلافيح - ومجاذب الاعنّــــــه
فبيت القصيد يرزح في عجز البيت الثاني (مجاذب الاعنه!) هي بالفعل صورة دقيقة لنجد البدويه في قيمها الاجتماعية، ذات النزعة الأحادية، عرق واحد ومذهب واحد وموروث ثقافي واحد، بشقيها البدوي بالدرجة الأولى والحضري بدرجة أقل . كان ذلك قبيل قيام الدولة واكتشاف البترول. ولكنها حتما كانت على النقيض مما كانت عليه الإحساء، رخاء يصل إلى حد الاكتفاء الذاتي، فتح شهية حكّام تعاقبوا عليها، ساعدهم في السيطرة عليها، نظام اجتماعي سائد شبيه بنظام الإقطاع ! بمكوناته الأساسية من ملاّك وفلاحين وحرفيين. فأهل الإحساء قد عرفوا أن التمرس على الغزو وقطع الطريق هو انسلاخ من المدنية، بينما القليل منهم يعرف فائدة تلك الممارسات في مكان آخر ! البعض اعتبرها مأخذا عليهم لعدم اهتمامهم بسلوك هم أصلا ليسو بحاجة إليه! فترعرع المجتمع في ظل وجود نظام وحكّام تكفلوا بحمايته. تلك الظروف مجتمعة ، ربما رسّخت مفهوم الاستقرار وزرعت في وجدان الإحسائي الهدوء والطيبة، فأصبح المجتمع برمته غارقا في الخدر الذهني الهادئ لروتينه اليومي . فهناك حقيقة محيرة ومزعجه وهي ان الناس الذين يملكون شيئا يستحق القتال دفاعاً عنه لا يشعرون برغبة في القتال ! أي إن الذين يعيشون حياة مليئة ذات قيمه لا يكونون عادة مستعدين للموت. ولكن لو افترضنا جدلا أن هؤلاء انشغلوا بالكر والفر، عوضا عن الفلاحة والصناعة والتجارة، فمن غيرهم سوف يزرع ويعمر هذه الواحة المزدهرة ؟ خصوصا أنها كانت واحة آمنة نسبيا ومعزولة بأسوار، ومحاطة من كل الجهات،بكل مستحيلات الزمان والمكان،التي لا طائل من نفخ الحياة فيها.
كما أن الملاك أنفسهم استطاعوا إلى حد ما حماية أملاكهم من سطو القبائل في فترات الضعف أو الغياب المتقطع للسلطات المتعاقبة ، من دون الحاجة إلى ركوب صهوات الخيل وخوض المنايا، عن طريق الكرم الموجه والهبات المسيسة وأحيانا المصاهرة، الأمر الذي يعزز أن السيادة موهبة والوجاهة فن وكلاهما تدخل في ظروف النشأة والتربية.
ناهيك عن التعدد الثقافي، المكون من فئات مختلفة تتمازج وتتداخل بشكل ساحر يندر وجوده في سواها، لكن نظرة الآخرين المشبعة بإرث من البدواة من جهة ، والتشدد الديني من جهة أخرى، حولت تلك السمة الاستثنائية والفريدة إلى نقيصة قابلة للتندر! وهاهم اليوم بعد عقود طويلة يكتشفون أن ذلك التعدد الذي كانت تنعم به الواحة، لم يكن سوى سمة حضارية قلما تجد لها نظير في شبه الجزيرة. ومما يثير الاستغراب والدهشة، أن يخرج في الوقت الراهن ومن صلب أولئك من ينادي بالتعايش وينافح عن التعددية، لكنه نداء وضجيج لا يرتقي إلى مستوى الممارسة، ولا يقارن بالنمط الإحسائي. ولكن لا عجب أن للحقيقة وجهين وللناس أيضا !
فالسنة بمذاهبهم الأربعة والشيعة بمرجعياتهم المختلفة. أما بادية الإحساء فلقد نأوا بأنفسهم خارج منظومة الانتماء الحقيقي، على الرغم من دورهم الفعال في الحركة الاقتصادية. أيضا لا بد من التنويه عن البعض من شعراء البادية الذين عبروا عن حبهم العميق للإحساء من أمثال شباب العتيبي وسعيد الحمالي وخالد بن بادي العتيبي، من خلال قصائد في غاية الروعة والجمال. لكن ربما الذي يؤخذ على أهل الواحة بوجه عام، هو عجزهم عن تحقيق الانتماء الحقيقي لها، فلقد بقى لدى كل فريق اعتقاد، أن الانحياز الفئوي واجب طغى في أغلب الاحيان على الانتماء الإقليمي للواحة، فأثر سلبا على تعزيز مكانتها في نظر الآخرين.
التعليقات (0)