خلافا لطبيعة الولايات المتحدة الأمريكية، بلدان الاتحاد الأوروبي ليست بالمجتمعات التي تطغى عليها الصبغة الدينية. ففقط 51٪ من سكانها من يؤمنون بالله. وهؤلاء، الغالبية الساحقة منهم هي جزء ممن تطلق عليهم تسمية "المؤمنين غير الممارسين".
بلدان هذا الاتحاد هي إذن لا تتصرف وفقا للمعتقدات الدينية لشعوبها، بل فقط وفقا لمصالحها المادية البحتة. وهذا ما يجعل منها أنظمة ليس لها أصدقاء أو أعداء دائمين، إنما فقط شركاء يتغيرون وفقا لتغيرات مصالحها السياسية والاقتصادية والعلمية، إلى آخره.
في الوقت الحاضر، مصالحها المادية البحتة تتطلب منها الحفاظ على علاقات طيبة مع العرب والإسرائيليين في آن واحد. في إطار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يجب ألا تكون مؤيدة للفلسطينيين ولا مؤيدة لإسرائيل. يجب أن تقوم بإمساك العصا من منتصفها وأن تعمل على إرضاء الدولة الإسرائيلية والدول العربية في نفس الوقت بواسطة نفس السياسة.
لهذا هي اليوم تدافع بكل ما أوتيت من قوة عن "حل الدولتين". أي الحل الذي يتعارض مع مشروع التعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين داخل دولة واحدة "ثنائية القومية" ويقترح بالمقابل إنشاء دولتين منفصلتين ومستقلتين عن بعضهما البعض : الواحدة منهما إسرائيلية والأخرى فلسطينية.
حكامها ينتقدون إسرائيل أو يفرضون عقوبات عليها عندما يقوم قادتها بسياسات تتعارض مع هذا الحل. وبالموازاة، يقومون بتصنيف جميع المنظمات الفلسطينية والإسلامية التي ترفض الاعتراف بإسرائيل وتهدف إلى إبادتها في خانة "المنظمات الإرهابية".
في إطار معاقبتها للنظام الإسرائيلي، لا يمكن لبلدان الاتحاد الأوروبي أن تذهب إلى مدى بعيد. فعندما يتعلق الأمر بالدول العربية، هي قد تتدخل عسكريا وتأتي لمساعدة إسرائيل إذا ما قررت هذه البلدان مهاجمتها في يوم من الأيام. لكن إذا ما تعلق الأمر بالدولة اليهودية، فلا ينبغي للمرء أن يتوقع منها أن تتصرف بنفس الطريقة إذا ما قامت إسرائيل بعمليات مسلحة ينتج عنها مقتل مئات أو حتى آلاف الفلسطينيين.
سبق ورأينا في بداية التسعينيات من القرن الماضي دول الاتحاد الأوروبي وهي ترسل جيوشها إلى العراق لمحاربة نظام صدام حسين. كما رأيناها مؤخرا وهي تشن حربا في ليبيا ضد نظام معمر القذافي. ولكن قيامها بإرسال قواتها إلى فلسطين للدفاع عن الشعب الفلسطيني، هذا ما لم نره من قبل ومن المؤكد أننا لن نراه غدا.
فعندما يتعلق الأمر بمعاقبة إسرائيل، العقوبات الأوروبية هي دائما "ناعمة". أولا، إسرائيل لديها ظهر جيد. هي بمثابة الإبنة المذللة للولايات المتحدة الأمريكية التي ترى في الدفاع عنها "واجب ديني"، "التزام إتجاه الرب" و "عبادة مقدسة" يجب أن تؤدى على نحو جيد في جميع الظروف، جيدة كانت أو سيئة.بالتالي "من يقول إعلان الحرب على إسرائيل، يقل الدخول في حرب ضد الولايات المتحدة الأمريكية"... وهذا أمر، دول الاتحاد الأوروبي ليست على استعداد للقيام به.
ثانيا، الدولة الإسرائيلية هي واحدة من أكبر الشركاء الاقتصاديين للاتحاد الأوروبي. فمن ناحية، لديهما حجم تبادل تجاري يتجاوز 20 مليار يورو سنويا. ومن ناحية ثانية، 48٪ من الشركات الأجنبية التابعة لأكبر 20 شركة إسرائيلية متعددة الجنسية، هي تتموقع وتستثمر داخل بلدان الاتحاد الأوروبي.
ومن ناحية ثالثة، فإن إسرائيل هي أكبر شريك علمي وأمني للمنظومة الأوروبية. فهذا الاتحاد يعتمد اعتمادا كبيرا على معرفة وعبقرية العلماء الإسرائيليين للمضي قدما في أبحاثه العلمية. كما يعتمد كذلك على خبراء الموساد لتحسين سياسته وتكنولوجيته الأمنية وإنجاح خططه في مجال مكافحة الإرهاب.
ناهيك عن الدور الذي يلعبه رجال الأعمال والعلماء والمثقفون والفنانون من مواطني دول هذا الاتحاد الذين لديهم أصول يهودية أو ينتمون لتيار الصهيونية المسيحية والذين يستخدمون وزنهم وكل ما لديهم من نفوذ لمنع القادة الأوروبيين من اتخاذ قرارات من شأنها أن تسبب ضررا كبيرا لإسرائيل.
لدى رغم كون أنه من الناحية السياسية، الاتحاد الأوروبي وإسرائيل لديهما وجهات نظر متعارضة تماما "خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية"، فاقتصاديا، علميا وتكنولوجيا، الاثنين لديهما مصائر مرتبطة ارتباطا وطيد. كل واحد منهما لا يمكنه أن يحمي وجوده ويبني تقدمه بشكل مريح من دون التعاون والتنسيق مع الآخر.
ولهذا تبقى علاقاتهما قوية رغم خلافاتهما السياسية. سواء قامت إسرائيل باحتلال أراضي فلسطينية جديدة أم أن جيشها قام بقتل المئات أو حتى الآلاف من الفلسطينيين، فإن روابطهما ستبقى جد متينة وخصوصا في المجالات الاقتصادية، العلمية، الثقافية والاستراتيجية.
في الماضي، عارض الاتحاد الأوروبي بناء أحياء إسرائيلية جديدة في الضفة الغربية والقدس الشرقية. أبدى تأييده لقرار محكمة العدل الدولية الصادر في عام 2004 بشأن تشييد الجدار العازل. وفي عام 2009، انتقد عملية "الرصاص المصبوب" بقطاع غزة وقرر تجميد المصادقة على بعض الاتفاقيات مع إسرائيل. "بعض الاتفاقيات" وليس "جميع الاتفاقات" أو "جميع صلاته" مع إسرائيل !
وهذا ما سمح للمنتج الإسرائيلي بالاستمرار في الاندماج بشكل جيد داخل السوق الأوروبية وللمؤسسات الإسرائيلية بتمثيلية جيدة وحضور وازن في العديد من برامج الاتحاد الأوروبي. فالعقوبات المتخذة لم تعق مشاركة إسرائيل في برنامج الأبحاث العلمية الأوروبية وفي مختلف المجموعات التي تشتغل على ملفات مثل مكافحة الإرهاب، سياسة الأمن والدفاع الأوروبية، و مراقبة تجارة الأسلحة.
كذلك هي لم تمنع المصادقة على اتفاقات جديدة، أبرزها إتفاقية "تجارة المنتجات الزراعية" المصادق عليها في يناير 2010 والتي نتج عنها زيادة الصادرات الإسرائيلية إلى بلدان الاتحاد الأوروبي بنسبة 20 في المائة. فالعقوبات الأوروبية يتم تصميمها بشكل لا تتأذى منه إسرائيل كثيرا. لكنه كافي للضحك على العرب وإيهامهم بأن دول هذا الاتحاد تدافع عن قيم الديمقراطية وستكون دائما حاضرة للدفاع عن حرية الشعب الفلسطيني وحقه في إنشاء دولة فلسطين.
التعليقات (3)
1 - لا صالح لأوروبا في معاداة إسرائيل
المحجوب ذهيبة - 2018-01-12 18:21:39
رؤية صائبة أستاذ. فأوروبا ليس لها صالح في الدخول في صراع مع إسرائيل وحاضنتها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل أعين العرب والفلسطينيين. بالتالي انتظار تدخل قوي منها فهو غباء ما بعده غباء
2 - تحليل سليم
وفاء الخياطي - 2018-01-13 16:18:28
أحسنتم النشر سيدي وشكرا لكم على التوضيح.
3 - كراهية العرب والمسلمين
فتاح خواجة - 2018-01-14 12:58:58
أمريكا وأوروبا كلاهما وجهان لعملة واحدة. الاثنين معا يكرهان العرب والمسلمين إلى أقصى حد. يتضامنان معهم في العلن، وفي السر يرقصان على إيقاعات أحزانهم.