د. اثير محمد شهاب
أسهمت الدراسات اللغوية الحديثة على يد العالم السويسري فردينان دي سوسير في وضع اللبنات الأولى لعلم العلامات اللغوية على الرغم من تنازع الأمر بين أسبقية بيرس على سوسير في الأصول لعلم العلامات، ومع وجود هذا النزاع فإن الأسبقية لدراسة العلامة اللغوية تبقى من نصيب سوسير الذي أكد ذلك بقوله:(( اللغة نظام من الإشارات)).
يبدو أنّ الحديث عن الأصول والبدايات يضع الدراسة في خانة الدراسات المستهلكة، فلا ضير من تخطي مسألة أصول الدراسات السيميائية والفروقات بين كل نوع ( سيمياء التواصل، والثقافة، والدلالة)، للوصول إلى الاهتمام باللغة بوصفها علامة بخلاف العلامات غير اللغوية.
وتبقى أهمية العلامة في حياتنا أكثر تأثيراً من بقية أنظمة الاتصال الأخرى، نتيجة التماس اليومي معها، وهذا التماس جعل حياتنا مؤطّرة داخل هذا الحقل وأن أي إلغاء للعلامة سوف ((يخلّ بتوازن المجتمع والفرد معاً))، بمعنى تحولها إلى جزء من النسيج الإدراكي للمجتمع على الرغم من مقولات أرسطو – أثناء حديثه عن التعرف وأقسامه- التي تعيب النوع الأول من التعرف بالعلامات، لأنها تستخدم ((لضعف الفكر))، ولا أعرف القصد الذي قدمه أرسطو لرفضه، ويبدو السبب من خلال ارتباط العلامة في مفهومها بالبدائية والشعائريات بوصفها قاتلة لعمل الفكر.
إنّ شيوع العلامة اللغوية يعني الانتقال باللغة من التفكير الذهني إلى التفكير البصري، أي استقبال اللغة ومن ثمّ تحويلها إلى صورة ذهنية لها أصل مرجعي صوري في الواقع؛ لأن البشر في طبيعتهم ((يودعون في اللغة نظرتهم للعالم)) والانتقال بالتفكير اللغوي من الذهني إلى الصوري يجسد – بالنتيجة – فكرة نقل المحسوسات الخارجية إلى واقع لغوي أكثر أدبية، وهو ما أكّده روبرت شولز بقوله: (( وكلما حاول الكاتب إرجاع ظاهرة المطر التي لا يمتلك منها سوى الاحساسات إلى مجرد كلمات، زاد ذلك الفضاء امتلاء واتساعاً من الناحية المادية المجسدة ويمكن لكل اتساع في وصف المطر أن يكون أكثر أدبية)) وقد تذبذبت الآراء في دراسة السيمياء للعلامات اللغوية، على أن بعضهم من يرى خلاف ذلك فضلاً عن رفض بعضهم إشارة العلامة اللغوية إلى وجود المرجع، بدءاً من تقسيم سوسير وانتهاء برفض إيكو الذي يقول: (( إنّ مشكلة المشار إليه تخرج عن نطاق علم السيميوطيقا))، وقد خالفه بعضهم، في أن إلغاء المرجع ينفي الثبات والمصداقية عن توصيف العلامات بالعلم؛ لأن المصداقية تتحدد في ضوء مطابقة الصورةِ العلامةَ للواقع المشار إليه، وقد ابتعد كوهين عن قبول العلامة وما تشير إليه لاعتقاده (بصدفة) إشارة الدخان إلى النار، إذ من المحتمل عدم إشارة الدخان إلى النار، وخارج إطار العلمية ، فإن اللغة سوف تتراجع إذا ما اهتمت بالمرجع؛ لأن ((تغذية اللغة بالخبرات اللالغوية الجديدة هي التي تحفظ اللغة من الاضمحلال)).
ومفهوم المشار إليه وضع السيمياء ضمن الدراسات النصية التي تهتم بعلاقة العلامة بسياقها اللغوي والتركيبي من جهة، وخارج النصية من خلال إحالتها إلى واقع خارجي يطابق الصورة الذهنية من جهة أخرى، وقد أشار الباحث غريب طارش إلى أن الواقع الخارجي لا يشبه ذلك الواقع الذي تدرسه المناهج السياقية؛ لأنه يدرس ويتجلى ((من خلال البنية الداخلية للنص لا العكس، كما تنظر إلى ذلك المناهج الخارجية ))، وثمة رأي يؤشر الفرق الحاصل بين الإشارة إلى العالم الخارجي وعدمها من خلال نوعية الدراسة، فإذا كانت الدراسة سيميائية فإنها لا تحيل إلى واقع خارجي ما عدا العلاقات داخل اللغة، وإذا كانت الدراسة دلالية، فإنها تهتم ((بالعلاقة بين العلامات والأشياء التي تشير إليها))، ولم يكتف النقاد بما قيل في المشار إليه الى هذا الحد، إذ اتجه موكاروفسكي إلى بيان خصوصية العلامة من خلال إشارتها إلى أكثر من مشار إليه، أي مرونتها في الإشارة إلى أكثر من واقع وصورة، ويبدو لي أن هذا التصوّر ينطبق على العلامات المسرحية التي تحيل بالضرورة – إلى واقع اجتماعي / سلوكي/ نفسي، على خلاف العلامة الشعرية التي تجتهد في نفي صلتها بالواقع؛ لأنها – في بادئ الأمر- تحيل إلى الواقع الخارجي، وعند ربطها بسياقها ينتفي ذلك الواقع، لتتجسد دلالة العلامة سياقياً.
وقد أكد إمبرتو إيكو على أن العلامة المسرحية تُجسد المكان والزمان والواقع، في حين العلامة اللغوية تشير لفظياً إلى الواقع والزمان والمكان، والإشارة تعني – هنا – الإحالة ضمن الفاعلية النصية وليس التجسد الخارجي.
وثمة مسألة تحتاج إلى بيان، هي دراسة أغلب الباحثين الخلاف الحاصل بين سوسير وبارت حول أيهما أشمل السيميولوجيا أم اللسانيات؟ فقد قال سوسير : إن علم اللغة جزء من السيميولوجيا، في حين عدّ بارت اللسانيات أشمل من السيميولوجيا، ويبدو لي أن سوسير لم يقل بشمولية السيميولوجيا، وإنما تجسدت نظرته من خلال محاولته وضع اللغة في مصاف العلوم الأخرى التي تعتمد التبويب والضبط، يقول:((تمكنا للمرة الأولى من إدراج علم اللغة في مصاف العلوم، فذلك لأننا تمكنا من إلحاقه بالسيميولوجيا)) وليس من باب إلحاق علم اللغة بالسيميولوجيا على أنها أشمل.
وثمة قضايا تحتاج الى بيان منها وظائف العلامة وطرائق استقبالها وحرارتها وبرودتها وأقسامها سنحاول توضيحها، وأول القضايا قضية وظيفة العلامة، وكما هو معروف فإن وظائف العلامة تتحدد في ضوء الخط الذي تتواصل ضمنه (سيمياء التواصل، والثقافة، والدلالة) ومع وجود هذه الأنواع، إلا أن السمة المهيمنة على وظيفة العلامة سمة ((قصد إيصال المعنى))، والوصول إلى الإبلاغ ويتضح أن قصد الإيصال يقع ضمن مفاهيم الاتصال أو الالتقاء مع الآخر، أما خارج الالتقاء مع الآخر، فإنها تبتعد عن التوصيف بالعلامة، والسبب يعود إلى خروج الإشارة والعلامة عن تسميتها حينما لا يكون هنالك قصد في إيصال الدلالة، من ذلك اختلف النقاد في تسمية الإشارية علامة، والسبب بحسب قولهم:((ليس في نية السماء الغائمة أن تخبرنا بشيء))، وانتفاء صفة النية، دليل على انتفاء صفة القصد التي تكون من أولويات سيمياء التواصل، لذلك وضعت أسس ووظائف عدة للعلامة:
1. التواصل: قصد إيصال المعنى.
2. الاصطلاح والتواضع بين مستعملي العلامة.
3. العلة:أي العلاقة القائمة بين الدال والمدلول على أساس وجود العلة.
وقد أضاف (زيك) وظائف أخرى تحدد نوعية العلامة تبعاً لأدائها داخل الفعل الدرامي ((الأولى... وصفية، أي إنها تحدد بشكل فعال مكان وشخصيات الحدث، والثانية وظيفية أي إنها تشارك في الحدث الدرامي))، ويمكن حصر هذه الوظائف بما اختصره موريس، من أن ((العلاقة بين الإشارة والمجموعة الاجتماعية هي علاقة دلالية، والعلاقة بين الإشارة والإشارات الأخرى هي علاقة تركيبية، أما العلاقة بين الإشارة ومستعمليها فهي علاقة وظيفية)). والقضية الثانية هي طرائق استقبال العلامة اللغوية، والأمر – هنا – لا يخلو من إشكال يتعلق في ربط دارسي العلامة أغلبهم طرائق استقبالها بمخطط ياكبسون ولوتمان، أي الابتعاد عن طرائق استقبال العلامة إلى الاهتمام بنوعية الإيصال ووظيفته الذي يحدده حضور أحد الاطراف أوغيابه أو اتجاه الرسالة من متكلم إلى مخاطب أو من متكلم إلى متكلم.
والابتعاد عن هذا يحرف طرائق إيصال العلامة عن سياقها؛ لان استقبال العلامة لا يعتمد على نوعية الحضور أو تركيز الخطاب تجاه نقطة معينة، وإنما يعتمد على نقل دلالة العلامة من وإلى بمعزل عن اتصاف هذا الخطاب بالتعبيرية أو الفنية أو الشعرية؛ لأن القصد – بسبب التواصل – يضع إيصال الدلالة من أولويات بحثه، وقد لخص بعضهم طرائق استقبال العلامة وإيصالها في ضوء الوظيفة التي تتمتع بها، فقالوا: إن ((تواصل سوسير حدث اجتماعي، وتواصل بلومفيلد سلوكي، وتواصل شينون وويفر نقل خبري))، واعتماد مخطط ياكبسون أو غيره لا يضعنا في الأساس الحقيقي للاستقبال، لأنه يصح على نقل اللغة بوصفها لغة، ولا يصح على اللغة بوصفها علامة، لذلك كان لا بد من رسم حدود جديدة لإيصال العلامة اللغوية، ويخيل إليّ أن طرائق نقل العلامة اللغوية واستقبالها يتم في ضوء نقل اللغة من سياقها البصري – الكتابي، والسمعي- الكلامي إلى سياق ذهني يحوّل وينتج صورة علامية:
http://www.beladitoday.com/index.php?aa=news&id22=3195
التعليقات (0)