الأبيض منتصراً على الأفريقي الليل والهندي الحرّ
ألكسي دوتوكفيل
ترجمة: بسام حجار
تمتدّ الأراضي التي يشملها الاتحاد الأميركي، أو يُطالب بضمّها إليه، من شواطئ المحيط الأطلسي إلى شواطئ بحر الجنوب. فحدوده إلى الشرق والغرب إذاً هي حدود القارة نفسها، وتمتدّ جنوباً حتّى خطوط الاستواء، وتبلغ شمالاً الأقاليم المتجمّدة الشمالية.
لا يشكّل السكّان المنتشرون في هذه المساحة فروعاً متعدّدة لأصلٍ واحد، كما هي الحال في أوروبا. فلا يشقّ على المرء أن يُلاحظ، من النظرة الأولى، ثلاثة أعراق ( races ) متمايزة بطبيعتها، لا بل أكاد أن أقولُ ثلاثة أعراق متعادية. عوامل كثيرة، كالتربية والقانون والأصل وحتّى ملامح المظهر والقسمات، أقامت حواجز، شبه مانعة، فيما بينها. وإذا كانت الصدفة شاءت أن تجتمع هذه الأعراق على أرض واحدة فإنّها أفلحت في الجمع فيما بينها غير أنّها عجزت عن دمجها، فأقام كلّ منها على مساره ومصيره.
إنّ أوّل ما يسترعي الانتباه، بين هذه الأقوام المختلفة، وأرقاها استنارةً، وأشدّها نفوذاً وسلطاناً، وأوفرها رخاء، هو العرق الأبيض، الإنسان الأوروبي، الإنسان بامتياز، ويليه مرتبةً الزنجيّ فالهنديّ.
لا يشترك هذان العرقان البائسان لا في المحتد ولا في الملامح وقسمات الوجه، ولا في اللغة ولا في العادات والأعراف. ما يشتركان به هو شقاؤهما فحسب. كلاهما يحتلّ مرتبةً دنيا في البلد الذي يقطنه. كلاهما يُعاني تبعات الطغيان. وإذا اختلفت أوجه بؤسهما، فإن مصدرها واحد.
ألا يميل واحدنا، إذ يشهد ما يجري في العالم بأسره، إلى الاعتقاد بأنّ الأوروبي قياساً بالأقوام من أعراق أخرى هو نظير الإنسان نفسه قياساً بالحيوان؟ فهو يُسخّره لقضاء أغراضه، وإذا عجز عن إخضاعه، قضى عليه.
لقد جرّد الاضطهادُ ذرية الأفارقة من جميع المزايا البشريّة تقريباً! لقد جُرّد الزنجيّ في الولايات المتحدة حتّى من أيّ ذكرى، مجرّد ذكرى، عن بلاده. وما عاد يسمع لغة آبائه وأجداده؛ وتنكّر لديانتهم ونسي عاداتهم وأعرافهم. غير أنّ فَقدَه انتماءه لإفريقيا لم يُكسبه الحقّ في أيّ من نِعَمِ أوروبا، بل لبث مقيماً بين المجتمعين، معزولاً بين الشعبين؛ بين الشعب الذي باعه، والشعب الذي نَبَذَه، فلم يجد في المعمورة مأوى غير دارة سيّده التي توفّر له صورةً غير مكتملةٍ عن الموطن.
ليس للزنجي أسرة. ولا يسعه أن يرى في المرأة إلاّ شريكة موقتّة لملذّاته، أمّا أولاده، فهم، منذ ولادتهم، أندادٌ له.
أهو نعمةٌ من الله أو علامة أخيرة من علامات سخطه استعداد النفسِ هذا لأن يجعل الإنسان عديم الإحساسِ بأشدّ أشكال البؤس، لا بل غالباً ما يُكسبُه نوعاً من الرضاء المنحرف عن سبب شقائه؟
لا يكاد الزنجي الغارقُ في ربقة الآلام هذه أن يشعر بوطأة حظّه العاثر. لقد ألقى به العنفُ تحت نير الرقّ، وأكسبه اعتياده العبوديّة أفكار الرقّ وطموحه. فإذا به يكنّ إعجاباً للمستبدّين به يفوق ما يعتملُ في نفسِه من كراهةٍ حيالهم، ويجد مسرّةً وزهواً في محاكاته الحرفيّة لمن يضطهدونه.
لقد انحطّ فكرُه إلى الدَرْكِ الذي قنعت به نفسُه.
يدخل الزنجي في العبوديّة يومَ تبصر عيناه النور. لا بل حتّى قبل أن يولَد. إذ يُشترى وهو جنين بعدُ في بطن أمّه، ويغدو عبداً رقيقاً قبل أن يولد.
لا يرغبُ في شيءٍ، لا يصبو إلى متعة، عديم الجدوى لذات نفسِه، يُدركُ أوَل ما يُدركُ من مفاهيم هذا العالم، أنّه مُلكية شخص آخر من مصلحته أن يرعاه ويقيه الهلاك. يُدرك إذاً أنّ مصيره ليس ملكه؛ وحتّى الفكر يبدو في عينيه نعمةً من نِعَم الله غير المُجدية، ويستمتع، وديعاً، بمزايا الوضاعة جميعها.
إذا قيض له أن يُعتقَ ويغدو حرّاً، يرى الحريّة عبئاً أشدّ وطأة من الرقّ نفسه.
ذلك أنّه في مسار حياته كلّها تعلّم أن يخضع لكلّ شيء، ما عدا العقل. وعندما يغدو العقل مُرشدُه الوحيد يكون عاجزاً عن الإصغاء إليه. تطبق عليه احتياجات مستجدّة لا تُحصى ولا تُعَدّ، غير أنّه لا يملك لا المعرفة ولا الطاقة اللازمتين لمقاومتها. فالحاجات أسيادٌ ينبغي التصدّي لها، أمّا هو فلم يتعلّم سوى الرضوخ والطاعة. إلى مثل حضيض البؤس هذا تؤول حاله إذا، فالرقّ يخبله والحريّةُ تُهلِكه.
لم يكن تأثير الاضطهاد أقلّ وطأة على الأعراق الهنديّة، غير أنّ نتائجه جاءت مختلفة.
قبل وفود البيض إلى العالم الجديد، كان الناس الذين يقطنون أميركا الشمالية يحيون حياةً هانئة في البراري. كانوا يكابدون صروف حياة التوحّش وتقلّباتها اليومية، ويُظهرون في مسلكهم مساوئ وحسنات الشعوب غير المتمدّنة. وعندما جاء الأوروبيون وشتّتوا القبائل الهنديّة في أرجاء القفار البعيدة، قضوا عليها بحياة الترحالِ والتنقّل وما تنطوي عليه مثل هذه الحياة من بؤس لا يوصف.
لا تُحكَمُ الأمم المتوحّشة إلاّ بالاعتقاد والعرف.
ولكن عبر السعي وراء إضعاف حس الانتماء إلى موطنٍ لدى هنود أميركا، وتفريق أسرهم، وطمس تقاليدهم وفصم عرى ذكرياتهم وتغيير جميع عاداتهم، وعبر السعي وراء تضخيم احتياجاتهم على نحوٍ غير مسبوق، تمكّن الطغيان الأوروبي من جعلهم أكثر تفرّقاً وأقلّ تحضّراً مما كانوا عليه من قبل. وقد ترافق هذا السعي المتمادي مع تردّي الأوضاع المعنوية والماديّة لهذه الشعوب، فكانت تزداد بربريّة في سلوكها كلّما تعاظم بؤسها وتردّت أحوالها. مع ذلك لم يتمكّن الأوروبيون أن يُغيّروا طبع الهنود كلياً، وعلى الرغم من امتلاكهم القدرة على القضاء عليهم، فإنّهم لم يمتلكوا يوماً القدرةَ على تمدينهم وإخضاعهم.
أقام الزنجيّ على تخوم العبوديّة القصوى، وأقام الهنديّ على تخوم الحريّة القصوى. ولم يكن تأثير العبوديّة على الأول بأسوأ من تأثير الحريّة على الثاني.
لقد فقد الزنجيّ حتّى مُلكيّته لذاته، فلا يسعه التصرّف بحياته هو من دون أن يُعدّ تصرفه ضرباً من ضروب السرقة.
أمّا المتوحّشُ فيُترَك لمصيره ما أن يُصبح قادراً على التصرّف. لا يكاد يعرف سلطة العائلة، ولا يُخضع إرادته يوماً لإرادة أحدٍ من بني جنسه، ولم يلقّنه أحدٌ من قبل كيف يميّز بين الانصياع الطوعي وبين الإذعانِ المُخزي، ويجهل من القانون حتّى اسمه. فأن يكون حرّاً هو في نظره التفلّت من جميع الروابط الاجتماعية أو معظمها. يستهويه استقلاله البربريّ هذا، وقد يؤثِر الهلاك على التخلّي عنه لصالح أيّ كان. وليس للحضارة أي سلطان على إنسان كهذا.
يبذل الزنجيّ جهوداً غير مُجدية للاندماج في مجتمع ينبذه. فيرضخ لميول مضطهديه، ويتبنّى آراءهم ومعتقداتهم، ويصبو، عبر محاكاة سلوكهم، إلى الاندماج في مجتمعهم. لقد تردّد على مسامعه منذ ولادته أنّ العرق الذي ينتمي إليه هو أدنى مرتبةً بطبيعته من عرق البيض، وهو يكاد أن يصدّق ما يُقال، ويشعر إذاً بالخجلِ من نفسِه. ففي كلّ قسمةٍ من قسماته يرى أثراً للعبوديّة، وقد يقبل، لو كان ذلك بمِكْنَتِه، أن ينبذ نفسَه بنفسِه.
أمّا الهندي فيتمتّع، على الضدّ من ذلك، بمخيّلةٍ زاخرةٍ بنبالة محتده المزعومة. إنّه يحيا ويموت في كنف أحلامه وكبريائه. ولمّا كان بعيداً كلّ البعد عن السعي وراء موافقة أعرافه لأعرافنا، يتمسّك بالهمجيّة بوصفها العلامة الفارقة لعرقه، ويبتعد عن الحضارة لا كُرهاً بها، على الأرجح، بل خشيةَ التشبّه بالأوروبيين .
لا يجدُ الهنديّ لمقارعةِ ما بلغته صُنَعُنا من كمال إلاّ ما يتوافر له من موارد القفار. ويواجِهُ حيلنا الحربيّة بشجاعته التي تُعوِزها الدراية والتنظيم؛ كما يتحدّى خططنا المرسومة بدقّة بما تمليه عليه طبيعته المتوحشّة من غرائز فطريّة.
يودّ الزنجي أن يندمج في مجتمع الأوروبي، غير أنّه لا يستطيع. أمّا الهندي فقد يُفلِح في ذلك إلى حدّ ما، غير أنّه يُحجم عن المحاولة. فذلّة الأوّل تقضي عليه بالعبودية، وكبرياء الثاني يقضي عليه بالموت.
أذكر أنني خلال رحلةٍ قمتُ بها إلى الغابات التي ما زالت تغطّي معظم ولاية ألاباما، وجدتني ذات يوم على مقربةٍ من كوخٍ لأحد الروّاد. لم أشأ الدخول إلى منزل الأميركي، وإنما أردتُ أن أستريح لبعض الوقت على ضفّة ساقية لم تكن بعيدة من المكانِ وسط دغل. خلال استراحتي في ذلك المكان ( الذي يقع بجوار الأرض التي تقطنها أمّة قبائل الكريكس ) جاءت امرأة هندية ممسكة بيد طفلةٍ من العرق الأبيض، في الخامسة أو السادسة من عمرها، فتبادر إلى ذهني أنّها ابنة الرجل صاحب الكوخ. وكانت امرأة زنجية تتبعهما. كان ثوب الهنديّة يوحي بشيء من البذخ البربريّ: حلقات معدنيّة تتدلّى من أذنيها ومنخريها. أمّا شعرها المزركش بالخَرَز، فكان مُسبلاً على كتفيها. لاحظت على الفور أنها ليست زوجة، لأنها كانت لا تزال تزيّن عنقها بعقد الأصداف الذي تقضي الأعراف الهنديّة بأن تطرحه الفتيات العذراوات على فراشهنّ الزوجي. أمّا الزنجيّة فكانت ترتدي ملابس أوروبيّة هي أشبه بالأسمال البالية.
جاءت الفتيات الثلاث وجلسنَ على حافّة الساقية؛ كانت المتوحّشةُ ( الهنديّة ) تحتضن الفتاة الصغيرة بين ذراعيها وتداعبها بحنان كما تغمر أمّ أطفالها. أمّا الزنجيّة فتحاول بألف حيلة أن تلفت انتباه الطفلة إليها، فيما تبادلهما الطفلةُ استعلاءً بادياً في كلّ حركة من حركاتها يتنافى كلياً مع ضعفها وحداثة سنّها، وكأنّها تتقبّل رعاية مرافقتيها لها بشيء من التنازل المشوب بالعجرفة.
كانت الزنجيّة جالسةً القرفصاء أمام سيّدتها، متنبّهةً لأي إشارة قد تصدر عنها لكي تسارع إلى تلبيتها، وتبدو في ذلك كأن مشاعرها موزّعةً بين تعلّقها شبه الأموميّ بها وبين خشية ذليلة منها. أمّا المرأة المتوحشة، وعلى الرغمِ مما تبديه من فيض الحنان والعطف، فتحافظ على تلقائيّة في تصرّفاتها، وعلى سيماء زهوٍ نَفور.
كنت قد دنوت منهنّ ولَبِثتُ متأمّلاً في ما أراه لبعض الوقت. ويبدو أن فضولي هذا لم يرق المرأة الهنديّة، فهبّت واقفةً على نحوٍ مباغت وأبعدت الطفلة عنها قليلاً بشيء من الخشونة، وبعد أن رمقتني بنظرات حانقة، توارت متوغّلةً بين شجيرات الغابة.
كثيراً ما كنتُ أصادفُ في تجوالي اجتماع أفراد ينتمون إلى الأعراق البشرية الثلاثة التي تقطن أميركا الشمالية. وفي كلّ مرّة كانت الدلائل تشيرُ إلى الغَلَبة التي تميّز البيض. غير أنّ المشهد الذي وصفته توّاً ينطوي على عنصرٍ فريد ومؤثر: ففي هذا المشهد ثمة رابطٌ عاطفي يجمع بين المُضطَهَدين والمُضطَهِدين، وإذ تسعى الطبيعة للتقريب بينهم إنّما تُبرِزُ الفرق الشاسع بينهم والذي أقرّته مشاعر التحيّز المُسبقة والقوانين.
القبائل الهنديّة التي تقيم على أرض الاتحاد: أحوالها الراهنة وما يُحتَمَل أن يكون عليه مستقبلها
الانقراض التدريجي لأعراق السكان الأصليين. ـ كيف يتمّ هذا الانقراض.ـ أشكال البؤس التي تصاحبُ هجرات الهنود القسريّة. ـ لم يكن أمام متوحّشي أميركا الشمالية سوى وسيلتين للنجاة من الإبادة: الحب أو الحضارة. ـ ما عادوا قادرين على خوض الحرب. ـ لِمَ يرفضون التحضّر عندما يكون مُتاحاً لهم، ويعجزون عنه عندما يرتضون به. ـ مَثَل قبائل الكريكس والشيروكي. ـ سياسة الولايات الخاصّة بهؤلاء الهنود. ـ سياسة الحكومة الفيدرالية.
لم يعد لسائر القبائل الهندية التي كانت تقطن فيما مضى أرض نيوإنغلند، أي قبائل النارّاغنسيت والموهيكان والبيكوت، من وجود إلاّ في ذاكرة البشر. كما انقرضت اليوم قبائل الليناب التي استقبلت بن (Penn) قبل مئة وخمسين عاماً على ضفاف ديلاوير. كما أنني التقيتُ شخصياً عدداً من هنود الإيروكوا، وهم آخر من تبقّى من سلالتهم، الذين امتهنوا التسوّل مصدراً للرزق. جميع الأمم الهنديّة التي ذكرت كانت منتشرة، فيما مضى، حتّى شواطئ البحر؛ أمّا اليوم فيتعيّن على المرء أن يتوغّل لما يزيد على المئة فرسخ باتجاه الداخل كي يُصادف هندياً. ولا يعود انكفاء هؤلاء المتوحشين إلى رغبتهم هم في ذلك وحسب، بل يعود أيضاً إلى ما تعرّضوا له من إبادة . ومع انكفاء السكان الأصليين وتعرّضهم للهلاك، يفدُ شعبٌ آخر كثير العدد ليحلّ محلّهم. فنحن لم نعرف بين الأمم من قبل أمّةً شهدت هذا القدر من النموّ وشهدت، في الوقت نفسه، هذا القدر من الإبادة السريعة.
أمّا النحو الذي تتخذه هذه الإبادة، فأمرٌ لا يشقّ التدليل عليه.
عندما كان الهنود يقطنون القفار التي يُنفون عنها اليوم، كانت احتياجات عيشهم قليلة. كانوا يصنّعون أسلحتهم بأنفسهم، ويشربون مياه الأنهار، يلبسون جلد الحيوانات ويأكلون لحومها.
ثمّ جاء الأوروبيون وعرّفوا السكان الأصليين في أميركا الشمالية على ما جلبوه معهم من أسلحة نارية، وحديد وشرابٍ مُسكِر (ماء الحياة).
وعلّموهم أن يستبدلوا بمنسوجاتنا الملابس البربريّة التي طالما قنعت بها بساطتهم الهنديّة. ومع اكتسابهم أذواقاً وميولاً جديدة، لم يتعلّم الهنود فنون تلبيتها، فاضطروا إلى اللجوء إلى البيض لكي يحصلوا عليها. ولم يكن المتوحّش قادراً على المقايضة مقابِلَ البضائع التي يحصل عليها إلاّ بالفراء الثمينة التي كانت لا تزال متوافرة في الغابات والقفار. وبذلك لم يعد الصيد مصدراً لسدّ حاجاته هو، بل أيضاً لتلبيّة نزوات أوروبا العابثة. وما عاد يكتفي بمطاردة حيوانات الغابة طلباً للغذاء، بل أضحى يُطاردها حيثما وجدت للحصولِ على بضاعة المقايضة الوحيدة التي يقدر عليها .
وهكذا نرى أنّه فيما كانت حاجات الهنود تزداد يوماً بعد يوم، كانت مواردهم تقلّ أو تنضب.
وما أن تُقام منشأة أوروبية بجوار أرض يقطنها الهنود، حتّى تستشعر الطريدة الخطرَ المحدق بها. ما كان يُخيفها الآلاف من المتوحّشين الرّحّل الذين يجوبون الغابات لاقتناصها، ولكن ما أن يتناهى إلى سمعها ضجيج فبارك الأوروبيين من موضع ما، حتّى تفرّ مجفلةً باتجاه الغرب حيث تُنبئها غريزتها بأنّها ستجد مساحات شاسعة من البراري. "قطعان البيسون (الثور الأميركي) تنكفئ باستمرار، يقول السيّدان كاس وكلارك في تقريرهما إلى الكونغرس في 4 شباط/فبراير 1829، قبل بضع سنوات كانت تجازف بالاقتراب حتّى سفوح جبال الأليغاني؛ وفي غضون سنوات قليلة مقبلة قد يصبح من المستحيل أن نصادف أياً منها في السهول الشاسعة التي تحاذي جبال روكي". وثمّة من أكّد لي أنّ القطعان غالباً ما تستشعر بغريزتها اقتراب البيض منها عن بعدِ مئتي فرسخ من حدودهم. وهكذا يطاول تأثيرهم قبائلَ يكادون ألاّ يعرفوا أسماءها، فتعاني من مضار الغَصْبِ قبل أن تتعرّف إلى مسبّبها بزمنٍ طويل.
وسرعان ما يتوغّل مغامرون مقدامون إلى عمقِ الأقاليم الهنديّة؛ يتقدّمون مسافةَ خمسة عشر أو عشرين فرسخاً بعيداً من حدود البيض، ويُشيّدون مسكنَ الإنسان المتمدّن في عقر دار البربريّة. وهم لا يجدون مشقّة في ذلك: فالمعالم التي تحدّ أرض شعبٍ صيّاد ليست ثابتة ومحدّدة. ثمّ أن الأرض مُلكٌ للأمّة بأسرها وليست مُلكية أحد. ولذلك فإنّ المصلحة الفردية لا تقضي بالدفاع عن أي جزء منها.
في آخر المطاف تمكّنت بضع أسر أوروبيّة، كانت قد استقرّت في أماكن متباعدة جداً، من طرد الحيوانات البريّة نهائياً من المساحات الوسيطة الممتدة فيما بينها. وبات الهنود الذين عاشوا إلى تاريخه في ما يشبه الوفرة، يجدون مشقّةً في توفير أسباب عيشهم، ومشقّةً أكبر في الحصولِ على ما يحتاجون إليه من سلع المقايضة. فإبعاد الطرائد عن مجال سعيهم هو نظيرُ التسبّب بمَحْلِ التربة في حقولِ مزارعينا. وسُرعان ما تنضب موارد عيشهم بالكليّة. وإذ ذاك تتكاثر أعداد منكودي الحظّ الهائمين كذئابٍ جائعة عبرَ براريهم التي هجرتها الحيوانات. إنّ حبّهم الغريزي لموطنهم يجعلهم متشبّثين بالأرض التي شهدت ولادتهم ، والتي باتوا لا يواجهون فيها إلاّ البؤس والموت. فيعقدون العزم أخيراً على الرحيل، ومتتبعين من بُعدٍ مسار هروبِ العَلَنْد والجاموس والقُندس، يتركون لهذه الحيوانات البريّة حريّة أن تختار لهم موطناً جديداً. الأوروبيون إذاً ليسوا هم الذين يطردون، بحصر المعنى، السكّان الأصليين من أميركا، بل المجاعة: ولعلّها القضيّة التي أغفلها حلاّلو القضايا الضميريّة والتي تنبّه لها فقهاء القانون العصريون.
قد يشقّ علينا تصوّر مقدار الألم الذي يُصاحب هذه الهجرات القسريّة. فحين عقد الهنود العزم على مغادرة حقول آبائهم، كانوا قد أضحوا شعباً منهوكاً فقد الكثير من أفراده. ولم يبقَ أمامهم إلاّ أن يستقرّوا في أراضٍ مأهولة من قبل سكّان ينظرون بعين الحسد إلى الوافدين الجدد. فالجوع من ورائهم، والحرب من أمامهم وأينما حلّوا حلّ الجوع بين ظهرانيهم. لذلك، سعياً منهم وراء النجاة من فتكِ هذا القدر من الأعداء، ينقسمون. يسعى كلّ منهم وراء الانعزال كي يقتنص، في غفلةٍ، أسباب البقاء، ويحيا وسط القفار الشاسعة كما يحيا المنبوذ في المجتمعات المتحضّرة. وإذ ذاك لا بدّ للرابط الاجتماعي المتراخي منذ زمن طويل من أن ينقطع. فلا يبقَ وطنٌ موجوداً في نظرهم، ولا شعب. ولا يبقى الرابط الأسريّ إلاّ بمشقّة. فيمّحي الاسم الجامعُ وتُنسى اللغةُ وتزول آثار المحتد. الأمّة لم تعد موجودة. لم يبق لها أثرٌ إلاّ في ذاكرة تجّار العتقيّات الأميركيين، ولا يعرفها إلاّ حفنة من علماء أوروبا.
لا أودّ هنا أن أحمل القارئ على الاعتقاد أنني أسرف في رسمِ الصورة مجلّلةً بالسواد. لقد شهدتُ، بأمّ العين، عدداً لا يُحصى من أشكال البؤس التي وصفتها؛ وعاينتُ الآلام التي أعجز الآن عن سردها.
في أواخر العام 1831 كنتُ مُقيماً على الضفّة اليُسرى من نهر المسيسيبي، في مكان أسماهُ الأوروبيون "ممفيس". خلال إقامتي في ذلك المكان وفدت إليه جماعةٌ من هنود التشوكتاو (يسمّيهم فرنسيو لويزيانا هنود الشاكتا). كان هؤلاء يغادرون موطنهم محاولين العبور إلى ضفّة المسيسيبي اليمنى، حيث كانوا يفاخرون بأنهم سيجدون فيها ملاذاً تعهّدت به لهم الحكومة الأميركيّة. كنّا في عزّ الشتاء وكان الشتاء في ذلك العام قاسياً. وكان الثلج قد أضحى جليداً على الأرض، ومياه النهر تتدفّق بصخور من الجماد. والهنود يصطحبون معهم أسرهم، وجرحاهم، ومرضاهم ومواليدهم الجدد وعجائزهم المشرفين على الموت. ولم يكن لديهم لا خيم ولا عربات، بل بعض المؤن والأسلحة. رأيتهم يستقلّون السفينة لعبور النهر الكبير، ولن أنسى يوماً ما رأيت. لم يصدر عن هذه الجمهرة المجتمعة من الناس لا نحيب ولا شكوى. كانوا صامتين. مآسيهم مزمنة ويشعرون أنّ لا علاج لها. صعدوا جميعهم إلى متن السفينة التي ينبغي أن تقلّهم. وبقيت كلابهم على المرسى. وعندما شعرت الكلاب أنّ الجمعَ قد أبحر مبتعداً عنها، أطلقت نباحاً مرّاً، وارتمت جميعها في مياه المسيسيبي القارسة، سابحةً للحاقِ بأصحابها.
اليوم، غالباً ما يجري تجريد الهنود من ملكيّاتهم على نحوٍ منتظم، بل لنقل: على نحو شرعي لا غبار عليه.
عندما يبدأ الأوروبيون بالتقدّم من القفار التي تقطنها أمّة متوحّشة، تعمد حكومة الولايات المتحدة إلى إيفاد بعثةٍ رسميّة إلى الأمّة المذكورة. يجمع البيضُ الهنودَ في سهلةٍ واسعة، وبعد أن يشاطروهم المأكل والشراب يقولون لهم: "ماذا تصنعون في أرض أجدادكم؟ عمّا قريب سوف يتعيّن عليكم نبش عظامهم لكي تبقوا على قيد الحياة. ما الذي يُميّز الأرض التي تقطنونها الآن عن أرض أخرى؟ ألا يوجد غابات ومستنقعات وحقول إلاّ حيث تقطنون، ألا يسعكم العيش تحت سماء أخرى؟ ما وراء هذه الجبال التي ترونها عند الأفق، وما وراء البحيرة التي تحدّ أرضكم إلى الغرب، هناك مساحات شاسعة ما زالت الحيوانات البرّية تعيش فيها بأعداد كبيرة؛ فلتتخلّوا عن أرضكم لقاء ما شئتم واذهبوا للعيش بسلام في تلك الأمكنة". عقب الخطاب الطنّان يُعرَض على الهنود أنواع من الأسلحة النارية وملابس الصوف وبراميل "ماء الحياة" وقلادات الخرز وأساور القصدير والأقراط والمرايا. وإذا بقي الهنود على عنادهم على الرغم مما يُعرّض عليهم من مغريات، يُلمّح الأوروبيون إلى اضطرارهم للقبول بما يُعرض عليهم وإلاّ وجدت الحكومة نفسها عاجزةً عمّا قريب عن ضمان حقوقهم. فما العمل إذاً؟ يرضخ الهنود، شبه مقتنعين وشبه مُرغمين. ويمضون مبتعدينَ للاستقرار في قفار أخرى لن يلبثوا فيها بسلام لأكثر من عشر سنواتٍ من دون أن يلحق بهم البيض لأجل اتفاقيّاتٍ مماثلة. على هذا النحو امتلك الأميركيون مقاطعات بأكملها بأسعار زهيدة، ما كان لملوك أوروبا أن يمتلكوها لقاء مال الدنيا.
لقد عَرضتُ توّاً لبلايا عظيمة الشأن، وأردفُ قولي بأنّها متعذّرٌ إصلاحها. ففي اعتقادي أنّ العرق الهندي في أميركا الشمالية محتومٌ عليه الهلاك، وظنّي أنّ اليوم الذي سيشهد بلوغ الأوروبيين شواطئ المحيط الهادئ هو اليوم الذي سيشهد زوال هذا العرق من الوجود .
لم يكن أمام هنود أميركا الشمالية سوى سبيلَيْن للخلاص: الحرب أو الحضارة. أي أنّهم كانوا أمام خيارين: فإمّا أن يبيدوا الأوروبيين وإمّا أن يصبحوا أنداداً لهم.
عند نشأة المستوطنات كان بمستطاع الهنود، عبر توحيد قواهم، أن يتخلّصوا من حفنةٍ ضئيلة العدد من الأجانب نزلوا على شواطئ القارّة . حاولوا مراراً، وكادوا أن يُفلِحوا في مسعاهم. أمّا اليوم فقد أضحى الفرق شاسعاً في الموارد ما يجعلهم عاجزين حتّى عن التفكير في المحاولة. ومع ذلك ما زلنا نشهد، بين الفينة والفينة، بروز رجالٍ متبصّرين بين الأمم الهنديّة يتوقّعون المصير المحتوم الذي ستؤول إليه الأمم المتوحّشة ويسعون إلى توحيد جميع القبائل على خلفيّة الكراهية المشتركة للأوروبيين. غير أنّ سعيهم هذا يبقى من دون جدوى. فالهنود الذين يجاورون البيض باتوا في حالٍ من الضعف البالغ تثنيهم عن إبداء أيّ مقاومة فاعلة. فيما ينتظر الآخرون، في استسلامهم لتلك اللامبالاة بالمستقبل المميّزة للطبيعة المتوحّشة، أن يغدو الخطر داهماً لكي يتصدّوا له. فالبعض عاجز، والبعض الآخر لا يريد أن يحرّك ساكناً.
لذا، من اليسير علينا أن نتوقّع بأنّ الهنود لن يقبلوا يوماً بالانخراط في صيرورة التمدّن، أو أنّهم، إذا قيض لهم أن يقبلوا به يوماً، فَلَسوف يسعون وراءه بعد فوات الأوان.
الحضارةُ هي نتاج عمليّة اجتماعية طويلة الأمد تجري في مكانٍ معيّن، تتوارثها الأجيال المتعاقبة فيما بينها. ولعلّ الأمم التي لا تفلح الحضارة في أن تسودَها إلاّ بمشقّة هي الأمم التي تعتمد الصيد نمطاً لعيشها. صحيحٌ أنّ القبائل الرعوية تنتقل باستمرار من مكان إلى الآخر، لكنّها تتبع في هجراتها، على الدوام، مساراً منتظماً، وتعود باستمرار إلى النقطة التي انطلقت منها. أمّا مساكن الصيّادين فتختلف باختلاف مثابات الحيوانات التي تطاردها.
جرت محاولات عدّة لنشر التعليم بين الهنود الحمر من دون العمل على الحدّ من عادات الترحال لديهم. كان اليسوعيون قد أجروا محاولات من هذا القبيل في كندا، وكذلك فعل الطهرانيون ( البيوريتانيون ) في نيو إنغلند. غير أنّ محاولات الفريقين لم تسفر عن نتائج مستديمة. كانت الحضارة تولد في الكوخ غير أنّها سرعانَ ما تذوي وتموت في الغابة أو القفر. ولعلّ الخطأ الفادح الذي ارتكبه المشترعون في الشأن الهندي هو إغفالهم حقيقة أن الشرط الأوّل لتمدين شعب ما يقضي بأن يقتنع هذا الشعب بالاستقرار في مكان واحد، وهو لن يستقرّ بالتأكيد إلاّ إذا عمل على زراعة الأرض. إذاً المشكلة تكمن أولاً في جعل الهنود مزارعين.
غير أنّها لا تقتصر على كون الهنود لا يملكون هذا الاستعداد الأوّلي اللازم للأخذ بأسباب الحضارة، بل تتعدّاه إلى كونهم لن يكتسبوا هذا الاستعداد إلاّ بمشقّة بالغة.
إنّ الذين انصرفوا طيلة حياتهم إلى حياة القنص المتبطّلة المُغامِرة لا بدّ أن يشعروا بنفورٍ عظيمٍ من الأشغالِ المنتظمة والشاقّة التي تتطلبها الزراعة. مثل هذا الأمر قد نلحظه في مجتمعاتنا، نحن، غير أنّه بارز للعيانِ على نحوٍ أوضح لدى الشعوب التي صارت عادات القنص لديها بمثابة تقاليد قوميّة.
ولكن بصرف النظر عن هذه الصعوبة ذات الطابع العام، ثمّة صعوبة أخرى، لا تقل عن سابقتها من حيث التأثير والأهمية، وهي تصدق فقط على حالة الهنود وحدهم. لقد أشرتُ إليها فيما سبق، ولا بأس من العودة إليها.
إنّ سكان أميركا الشمالية الأصليين لا يعتبرون العملَ شرّاً وحسب، بل أيضاً يعتبرونه عاراً، وصراعُهُم ضدّ التمدّن لا يعود إلى كبريائهم وحسب، بل إلى كسلهم أيضاً.
التعليقات (0)