بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإيران تحت ذريعة الحفاظ على الأمن الروحي للمغاربة من الخطر الشيعي، ظهرت مقالات وسودت حوارات وتعرض مواطنون مغاربة للمضايقات والاستنطاقات من لدن السلطات المحلية والمخابرات، وسلبت منهم كتبهم، ومنعت الكتب الشيعية من المكتبات، بل منعت كتب كان عنوانها يدور حول الشيعة ولو كان كاتبها سني كما وقع لكتاب للدكتور أحمد زقاقي كما حكى لي شخصيا. كما منعت منشورات مشرقية من الدخول لسوق النشر بالمغرب، وهنا أفتح قوسا لأحكي ما وقع لشيعي مغربي احتفظت المخابرات بكتبه بعد استنطاقه،أي اعتقلوا كتبه وأطلقوا سراحه، فسألته : متى تسترجع كتبك النفيسة ؟ قال سأتركها لهم لعلهم يهتدوا للإسلام المحمدي الأصيل!!
كلام هذا المغربي "المتهم" بالتشيع أضحكني من شدة المفارقة الغريبة والعجيبة في الأسلوب المتخذ لمعالجة ملف كبير جدا يتجاوز المذهب والعقيدة إلى العلاقات الدولية، فتصورت لو أن السيد المخبر قرأ هذي الكتب وأصبح خبيرا في المذهب الشيعي وبات مقتنعا بالمذهب المحمدي الأصيل بتعبير صديقنا الشيعي، فهل تتم معالجة هذا "الداء" بالداء نفسه؟؟
ربما هذا سؤال ساذج، ما علينا!! لنبتعد عن حديث السياسة ونسمع لحديث العلاقات الدبلوماسية والدولية، ونفتح كتاب عبد اللطيف الفيلالي رحمه الله والمعنون بـ" المغرب والعالم العربي" الكتاب الذي قدم له "هوبير فدرين" الوزير السابق للشؤون الخارجية الفرنسي (1997-2002)، يقول الدكتور عبد اللطيف الفيلالي" قام الحسن الثاني بزيارة رسمية إلى طهران من 12 إلى 20 ابريل 1968، حيث استقبل من لدن الشاه بالمطار وامتطيا سيارة مصفحة. وعند وصولهما إلى أبواب طهران، دعا الشاه الملك إلى تغيير السيارة حيث سيستقلان سيارة مكشوفة كما جرت العادة في مثل هذه المناسبات.قبل أن يعطي الشاه الإشارة للسائق للانطلاق، انحنى للملك وقال له: " هل تعرف إني ادخل، لأول مرة، إلى طهران في سيارة مكشوفة؟" استغرب الملك وسأله ما السبب في ذلك. استطرد الشاه مبتسما: " لأنني اوجد برفقتكم، وبرفقتكم لن يحدث لي شيء...لن يجرأ أحد على إطلاق الرصاص علي، وأنا بجانب سليل الحسين! أنا أوجد تحت حمايتكم..." ص: 202.
ويقول الفيلالي أيضا معلقا على الحدث " انبهر الملك أمام هذه التصريحات، لكنه سيلاحظ انه منذ أن انطلقت السيارة، شرع الجمهور في ترديد" يا علي! يا حسين!" ص: 203.
هذا الحدث وقع قبل الثورة التي قادها روح الله الخمني، أي في عهد الشاه الذي كان يحكم شعبه حكما مطلقا لنفتح الكتاب كرة أخرى الصفحة 204-205 ، أما في عهد الخميني وبعده، فيذكر الفيلالي رحمه الله أنه في عهد الخميني، زار المغرب دبلوماسي إيراني ذكي فقل مخاطبا عبد الطيف الفيلالي قائلا" أتعتقدون أن هذا الوضع بيننا سيستمر طويلا؟ تعرفون روابط الدم ، أقول روابط الدم التي تجمع بلدي وبلدكم الذي يحكمه ملك من سلالة علي ...ففي كل الأسر تحدث خلافات وخصومات، لكن عين العقل تنتصر في النهاية. هذا ما تأمله على أية حال في طهران.." ويذكر الفيلالي أيضا بأنه لما حضر قمة إسلامية باسطنبول طلب منه زميله كمال خراجي وهو دبلوماسي ذكي عمل في الأمم المتحدة سنوات وعمل على ربط علاقات قوية مع دول كثيرة من العالم، طلب منه أن يلتقيه، ولما التقاه قال له : السلام على أهل البيت.!!
أما رافسنجاني فكان يكلف السيد الفيلالي حين يلتقيه بأن يبلغه متمنياته وصداقته " لسليل ملكنا الحسن الثاني..." بعبارة رفسنجاني !!
ويحكي عبد اللطيف الفيلالي قصة طريفة تعكس تعلق الإيرانيين بالأسرة العلوية بالمغرب، فأثناء القمة الإسلامية المنعقدة بطهران ما بين 9الى 11 دجنبر 1997 ، استقبل الإمام علي خامنائي كل رؤساء الوفود حسب الترتيب البروتوكولي الذي وضع الأمير ولي عهد العربية السعودية على رأس القائمة، وبالنسبة للسيد عبد اللطيف الفيلالي كوزير احتل المرتبة الأخيرة. فكان الزوار مطالبين بنزع أحذيتهم، ولما هم الفيلالي بالدخول وإذا بالمسؤول عن البروتوكول طلب منه ألا ينزع حذاءه مضيفا إن هذا قرار الإمام نفسه، وقال الإمام الخامنائي: " أرجوكم أن تبلغوا صاحب الجلالة كل متمنياتي بالسعادة والتوفيق له ولشعبكم. فان ملككم ، سليل علي، ، شريف، وهذا ما يجعله يحظى لدينا بمكانة خاصة" .
أما البروفيسور ادوارد سعيد فقد خصص الفصل الثاني من كتابه " تغطية الإسلام" لكيفية تناول وسائل الإعلام الأمريكية لبلد إيران بعد ثورة الخميني، فبعد احتلال السفارة الأمريكية في طهران في 4 نونبر 1979 وتحويلها إلى سفارة دولة فلسطين فكل وسائل الإعلام الأمريكية اعتبرت أن حربها الدبلوماسية ضد إيران هي حرب مقدسة. يقول ادوارد سعيد في الصفحة 191-192 : " كان جانب كبير من الأخبار التي حفل العقد المنصرم،.. وهي أخبار لا تقتصر على إيران بل تشمل الصراع العربي الإسرائيلي، والنفط، وأفغانستان، أخبارا عما يسمى (الإسلام). ولم يبرز ذلك بصورة أوضح من الصورة التي برز بها في أثناء الأزمة الإيرانية المديدة، إذ قدمت أجهزة الإعلام إلى الأمريكيين الذين يتابعون الأنباء غذاء متواصلا من المعلومات عن شعب معين، وثقافة معينة، ودين معين- وان لم تزد تلك" المعلومات" عن تجريدات ساء فهمها إلى حد بعيد فصورته دائما في حالة إيران، في صورة المناوئ الخطر المعادي لأمريكا".
ويخلص المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد يرحمه الله، وهو مسيحي وعلماني، إلى أن أمريكا والغرب هم من فقد إيران، وليس إيران هي من فقدت الغرب، ذلك أن إيران قادت ثورة شعبية ضد حاكم ظالم لشعبه هو الشاه، وحافظت على الدولة بل وطورتها وحاولت الانفتاح على العالم!!
أما عبد اللطيف الفيلالي فيقول في كتابه "المغرب والعالم العربي" ص" 207: " فبعد ثلاث زيارات لإيران، يمكنني أن أقول بان هذا البلد جذاب وكريم وعلى غرار العراق غني بثقافة كبرى. فلدى الإيرانيين طموح من أجلهم ومن أجل بلدهم. من سيؤاخذهم؟ لكن نلاحظ بعض الغموض ويبدو لي أن ما ينقص إيران هو أن تنسجم مع العالم كما هو".
على إيران أن تنسجم مع العالم كما هو... نعم هذا هو سبب عداوة العالم لإيران..نعم هذا هو السبب.. ولذلك فدولنا العربية والإسلامية تفهم العالم كما هو، وتفهم جيدا تحيزه السافر للكيان الصهيوني، وديمقراطيته التي تكيل بمكيالين، ومعاداته لثقافتنا الأصيلة، وتجاربه المريرة معنا إبان فترات الاحتلال، فخرج المحتل الأجنبي، ليحتلنا ابن جلدتنا الذي ينطق بكلامنا،وبكلام ليس بكلامنا كما قال أحد النحاة العرب. فحكوماتنا المجيدة لا يهمها شعبها، ولا مقدراتها الاقتصادية، ولا هموم تقدم "مواطنيها" ولا القضايا العادلة في عالمنا العربي والإسلامي، ولا الاحتلال الخارجي، ولا التجزئة والصهينة والتبعية والذلقراطية...وهلم إجراما!!
لأنها دولنا المجزأة والمقسمة،كما اشتاق لها المستعمر وكان له ذلك،لا تريد أن تغضب ولي نعمتها الذي جعلها راعيا متواطئا مع الذئب في القضاء علينا عبر شيوع ثقافة الاستسلام والخنوع كما قال الشاعر عمر أبو ريشة، وهو صادق:
لا يلام الذئب في عدوانه إن كان الراعي عدو الغنم
إن حكامنا الميامين يفهمون العالم كما هو.. ولذلك نجد أبواقهم وألسنتهم الطويلة تتحدث عن حكم الملالي في إيران واستبداد ولاية الفقيه بالحكم في إيران، ويتباكون على الديمقراطية، وكأن شعوبهم أصيبت بتخمة الديمقراطية، وباتت حرة تستطيع بمظاهرة أن تطيح بالحاكم العربي، وتغيره بحاكم آخر يحكم بإرادة الشعوب، ضدا على ذاك الحاكم بأمر ذلك البيت...البيت الأبيض طبعا، كما يحكم نظام الملالي في إيران بأمر الله!!
إن ما يحدث في إيران الآن، يفترض أن يناقش نقاشا علميا يستحضر الدين والدولة والثقافة في إيران، وكذا العلاقات الدولية التي تتحكم فيها دول الاستكبار الفرعوني، والمال القاروني، الذي جعلنا ، من شدة سذاجتنا نؤمن بالأساطير المعاصرة التي تنتجها إمبراطورية الإعلام المختلفة أنواعها، والتي جعلت منا ببغاوات نردد ما يقوله الآخر ونصدقه ونعيش عليه، ونحيا به، وكأننا لا نملك أسنانا تقضم أو معدة تهضم !!
على سبيل الختم:
يقولون بأنه ليس هناك عداوات دائمة ولا صداقات دائمة، وإنما هناك مصالح دائمة.
بناء على هذا المعطى الدبلوماسي، فما هي مصلحة المغرب من قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران لاسيما وأن الإيرانيين، أي الشعب الإيراني عامته سواء قبل الثورة أو بعدها، يعتقدون أن النظام السياسي بالمغرب من سلالة آل البيت؟! وإذا كان السبب لقطع العلاقة هو المذهب الشيعي الاثناعشري الذي بدأ ينتشر في المغرب ويهدد " الأمن الروحي للمغاربة" فهل نطالب إيران بأن تصبح من أهل السنة والجماعة كما كانت سابقا قبل تشيع المجتمع والدولة حتى نعيد ربط العلاقات الدبلوماسية معها؟ وهل سبب تشيع المغاربة هو دولة إيران أم أن هناك أسبابا أخرى اجتماعية ونفسية وفكرية وتواصلية تقوم على المثاقفة ؟ والسؤال المهم ،برأيي،إذا كانت إيران مسؤولة عن انتشار المذهب الشيعي فماذا فعلنا نحن لننشر مذهب أهل السنة والجماعة؟
يحكي لي صحافي مغربي حضر احتفال السفارة الإيرانية ،بمناسبة الثورة الإسلامية،بالمغرب في العقد الأخير من القرن المنصرم، فلم يحضر كثيرمن الصحفيين المدعوين، فتساءل السفير الإيراني عن غياب الصحافيين ، فقل له صديقي الصحافي: أين الويسكي وأين البيرة حتى يحضر جميعنا ؟!!!
ولما انتهى الحفل جلس السفير الإيراني مع الصحفي المغربي وسأله كرة أخرى : أو ليس لديكم شيعة بالمغرب؟ فأجابه الصحفي: بلى.. يوجد شيعة بالمغرب. فقل السفير الإيراني: اشتغلت في الزايير/ جمهورية الكونغو الديمقراطية حاليا، وكان عدد الشيعة هناك 12 نفرا، وكانوا يزورونني أسبوعيا، فأجابه الصحفي المغربي بأن الشيعة المغاربة ليسوا في حاجة لكتبكم التبشيرية، فالكتب الشيعية موجودة بالمغرب وتباع في المكتبات المعروفة على الصعيد القطري، كما أن الشيعة المغاربة ليسوا على قلب رجل واحد حتى يأتوا عنده، ويخطبوا وده !!.
إن صحافيينا مثل دبلوماسيينا، ولا أعمم طبعا،، فالدبلوماسيون الإيرانيون في دول الغرب، يدافعون دفاعا مستميتا عن عقيدتهم، وعن مذهبهم في ندوات ومحاضرات وأنشطة ثقافية متنوعة، واحتفالات بأئمتهم وثورتهم...
أما دبلوماسيونا – نحن العرب والمسلمين- فمشغولون بعشيقاتهم ومراكمة أرصدتهم المالية واحتفالات تافهة لا تعبر عن عمق ثقافتنا وحضارتنا وعقيدتنا ومذهبنا!!
نعم، هذي هي الحقيقة !!!
ملحوظة:
لا يفهم من كلامي أني أدافع عن إيران، بل لي مؤاخذات عليها نشرت بعض المقالات عنها في جريدة "القدس العربي" قبل أربع سنوات، وكذلك فعلت، هنا، على صفحات هسبريس، وإنما وددت أن ألفت النظر إلى معالجة المسألة من زاوية أخرى، أي معاداة إيران لأسباب "غير مفهومة" حاولت أن أعري جانبا منها، وأكشف عن المستور من وجهة نظري عن ظاهرة أنفلونزا"الإيرانوفوبيا" في الخطاب السياسي والإعلامي العربي والغربي على حد سواء.
التعليقات (0)