عندما تُتهم الدول العربية والشعوب العربية المسلمة بالانغلاق و التقوقع - وكأن الانغلاق هو أكبر خطيئة اقترفها الإنسان على وجه المعمورة - فإنه في المقابل و من الانصاف أيضا أن نجرم الانفتاح المطلق .. و أن نتحدث على مساوئه عبر التاريخ .. ونضعه في قفص الاتهام.. و نضع في قفص الاتهام أيضا كل إنسان يدعو للانفتاح المفرط و تقبل الآخر - بمعنى تقليده تقليدا أعمى و سحق الذات و رميها في أقرب سلة مهملات - أيما تقبل !!
و لو و ضعنا كلا من الانغلاق والانفتاح في قفص الاتهام وحاولنا مقارنتهما و مقارنة مساوئهما المريرة لوجدنا أن الانفتاح أكثر ضرر من الانغلاق .. لأن الانغلاق يُورث أمراض نفسية تحتاج لعلاجات سريرية كي تستمر الحياة مستقبلا.. بينما الانفتاح يورث أمراضا عضال يصعب استشفاءها لاحقا لأن صاحبها لا يعلم بها أولا .. و لأنها باتت جزء لا يتجزأ من كيانه الذاتي ثانيا ..
و إليك عزيزي القاريء بعضا من مراحل الانفتاح التي لابد أن يمر بها كل داعٍ للانفتاح المطلق :
1- أول ما يدعو الانسان للانفتاح على الآخرين هو " احتقار الذات " !! إذا الدافعية بالأصل سلبية و قبيحة و غير شرعية .. فما الذي ننتظره من هكذا دافعية !!
2- بعدما يبدأ الإنسان باحتقار ذاته وتاريخه و ماضيه فإنه حتما سيبحث عن شيء يحترمه و يوقره في ذاته.. و عن من يملأ هذا الفراغ النفسي و الروحي الذي أحدثه احتقار الذات و عدم احترامها ..
3- الإنسان في هذه المرحلة سيصبح في جاهزية جيدة لاستقبال أي شيء و أي فكر و أي توجه و أي هوية قابلة للتبني والأخذ .. لأن هويته الذاتية مطموسة في ذاته فلا وجود لها إلا في مخيلة وذاكرة يتمنى أن يخلعها من عقله وقلبه مستقبلا و كلما انغمس في الآخرين.. كما أنه يحتاج لهوية جديدة لكي يحملها و لكي يفتخر بالانتماء إليها .. و لأن " الرغبة في الانتماء " حاجة نفسية .. و لا يستطيع الإنسان التخلي عنها ..
4- و تبدأ هذه النفس الهائمة في البحث و التجوال هنا و هناك .. و تصول وتجول بين المذاهب و التيارات .. فغالبا تتلبس و تتبنى هذه النفس اللقيطة أي مذهب يُعلي من شأنها ماديا و أي توجه يضمن لها الحياة الهانئة الكريمة .. و في أوقات أخرى نراها تتبنى التيار الذي يصب في مصلحة الصالح العام و الإنسانية كقناع تخدع به نفسها والآخرين .. و مرة أخرى تجد هذه النفس المُتعبة من البحث عن " الحريات المطلقة " ملاذا آمنا للتنفيس عن كرب العقد النفسية التي أورثها الانغلاق في المجتمعات المحافظة ..
هذه هي مراحل الغرق في واحل الانفتاح الذي بات الجميع يدعو له دون أدنى روية أو تفكر حكيم ..
وأقول أن الانفتاح المطلق و الانغلاق المطلق مذهبان و وجهان لعملة واحدة فاسدة .. فكلاهما يضران ولا ينفعان .. و كم جميل أن ننفتح على الآخرين بحدود .. و لا يكون هذا الانفتاح نابع من الافتقار للهوية بل نابع من رغبة الاستفادة من هذا الآخر المقابل .. و دون أن نحتقر ذواتنا .. بل نكتسب من الآخرين ما من شأنه أن يرفع من قدرنا ومن قدر الإنسانية بشكل عام .. كذلك فإن المحافظة على ثوابتنا الأصيلة كشريعتنا الإسلامية السمحة المعتدلة .. ولغتنا العربية الجميلة .. و عادتنا العربية من ملبس ومشرب و أخلاقيات وتعاملات .. و المحافظة على كل ما يمت لهويتنا العربية الأصيلة التي تميزنا عن غيرنا من الشعوب والأمم و الهويات الثقافية الأخرى .. هذا الانغلاق المحدود و التحفظ الرزين المحدد من شأنه أن يضفي شيء مميز على الحضارة البشرية بشكل عام ..
فلا نكن بذلك عالة على الأمم الأخرى و على الآخرين .. فنلهث وراءهم كي يمنحونا هوية .. و نقف عند أبوابهم عراة الفكر واليدين .. بل يجب أن يشعر هذا الآخر أنه في المقابل سيستفيد منك .. وأنك ستضفي شيء مميزا عليه .. فيحدث التقبُل الصحي الجيد المنشود.. و يقطف كلا مني - أنا العربي - و من هذا الآخر ثمار الانفتاح الصحي .. أطيب المنى ..
التعليقات (0)