مواضيع اليوم

الإنسان .. والآثار .. والفكرة (1)

عبد الهادي فنجان الساعدي
من خلال فرضية الانسان .. والالة .. والفكرة استطعنا ان نبني فرضية اخرى هي .. الانسان والاثار .. والفكرة. والانسان هنا هو الانسان القديم، والاثار هي كل ما صنعه الانسان من موروثات لحياته العامة والخاصة والتي استطاع بواسطتها بناء حضارته والفكرة هي الصورة المشرقة التي عكست ما وصل اليه الانسان في ذلك العصر من خلال الاثار التي تركها .
الصورة الثانية للفرضية هي الانسان والانسان هنا هو الانسان في العصور الحديثة الذي اكتشف هذه الاثار .. والفكرة هي انه بنى المتاحف ليعرض فيها هذه الاثار ليعكس صورة الجذور الانسانية الممتدة عبر التاريخ لتلكم الحضارة وليثبت تسلسله الدرامي من خلال هذه الموروثات .
الصورة الثالثة هي الانسان المعاصر والاثار هي الاثار الموجودة في المتاحف وفي المواقع الاثارية .. والفكرة هي سرقة هذه الاثار .. وهذه الفرضية تعكس صورة الانسان في عودته الى عصور الهمجية والخروج على القوانين التي كانت تفرضها الحاجة للثقافة الاخلاقية قبل الحاجة المادية .
الصورة الرابعة هي الانسان ويمثله هنا انسان اللحظة الانية والاثار هي الاثار المسروقة والفكرة هي كيفية اعادة هذه الاثار المسروقة .. وهنا تكمن اهمية هذا البحث المستقبلية .
من خلال التجارب الشخصية .. كلفني احد الاصدقاء بعرض مخطوطتين احداهما للطبيب المجريطي والاخرى لجزء من القران الكريم وهي في غاية الروعة والاتقان وتعود الى القرن الثاني عشر الهجري وقد حددت ذلك من خلال خبرتي في تحقيق الوثائق التي اكتسبتها من عملي في متحف ثورة العشرين في النجف الاشرف في الثمانينيات وخبرة الاستاذ عبد الله حامد مدير عام المركز الوطني للمخطوطات انذاك اضافة الى خبرة بعض المختصين في هذا المجال . عندما سالت صاحبها عن السبب في بيعهما قال : كفرا .. وكان يعني قول الامام علي (ع) (كاد الفقر ان يكون كفرا) . وقد بقيت احدى هاتين المخطوطتين في المركز الوطني للمخطوطات لمدة ثلاثة اشهر ثم سحبتها بعد ان كتب عنها الاستاذ عبد الله حامد مدير المركز تقريره وعرضتها على الدكتورة اميرة الذهب التي كانت انذاك مديرة قسم الدراسات والبحوث فاستدعت احد اعضاء لجنة تقييم وتثمين المخطوطات فقال : يجب أن تعيدها الى المركز الوطني للمخطوطات لكي يرسلها الينا عن طريقه .. قلت بانني احد منتسبي هذه الدائرة وقد عرضتها على المركز وقيموها ثم ارسلوها اليكم لغرض التقييم والتثمين اما انا فمهمتي هي ايصالها اليكم لانني اعرف بانكم اذا لم تستلموها فسوف يرسلها صاحبها الى احدى الدول المجاورة لغرض بيعها بمبلغ يعادل اضعاف ما تباع به في العراق .. رفض استلامها .. واعدتها لصاحبها .. وعرضت الامر في اجتماعنا مع السيد رئيس الهيئة السابق ولكن المخطوطتين عبرتا الحدود بخمسة الاف دينار .. والف دينار لختم الجواز بعبارة (خالي من مرض الايدرز) .
التجربة الثانية هي ان احدى مراسلات جريدة الاهالي كلفتني بان اعرض امر وجود اثار مسروقة في الاحياء التي تحيط بالمتحف ولكن اصحابها لا يعرفون كيف يعيدونها جهلا وخوفا .. وعندما عرضت هذا الامر في نفس الاجتماع وعلى نفس المسؤول .. قال : الاعلام ووسائل الاعلام خط أحمر .. لا يجوز التعامل مع الاعلام بتاتا .. وقطعنا حينها حبل السرة مع الاعلام .. وبقي الحال كما هو عليه .. ولا ندري متى وصلت هذه المسروقات الى الدول الشقيقة والصديقة ودول الائتلاف حتى ظهرت على الانترنيت لتعرض للبيع .
التجربة الثالثة هي ان أحد الاصدقاء بعث لي احد الاشخاص ومشكلته هي انه جلب قطعتين اثاريتين منذ سنة 2003 ولم يحصل على مبلغ المكافاة .. واخيرا وبعد تدخلات عديدة تم تقييم القطعتين بمليون دينار عراقي في الحين الذي اقسم لي هذا الرجل بانه اشتراهما بمبلغ (23) ورقة والورقة كما يعلم الجميع هي مئة دولار امريكي وكان بامكانه كما قال ان يشتري بذلك المبلغ سيارة حديثة في حينه ولا ادري مالذي دفعه لاعادة هاتين القطعتين الى المتحف العراقي .. هل هي (كفرا) .. أم هي حالة اخلاقية ام وطنية. لا ادري ولكنني سمعته يقسم للمرة الثانية بان احد الاشخاص في احدى المحافظات الجنوبية القريبة من بغداد لديه 100 (مئة قطعة) عرضها عليه للبيع ولكنه قرر عدم الخوض في مثل هذه التجربة اللعينة .
لقد طرحت الحكومة شعار اعادة اعمار العراق اما نحن في جريدة الاهالي فقد طرحنا شعار اعادة اعمار الانسان العراقي وكانت المعالجة تتم بطرح اسلوب اعادة اعمار البنية التحتية لاخلاق الانسان وذلك باعادة صياغة القوانين التي تحكم العلاقة بين الانسان والدولة والمنهجية التي تتم بها تلك المعالجة هي تقسيم المجتمع الى شرائح مثل شريحة المتقاعدين وشريحة الطلاب وشريحة الموظفين وشريحة الخريجين وشريحة العاطلين وشريحة الارامل وشريحة اطفال الشوارع وصياغة قوانين انسانية تنصف كل شريحة من هذه الشرائح .
وعندما نعود الى الفرضية السابقة .. التي هي الانسان .. والاثار .. والفكرة المتمثلة بكيفية اعادة هذه الاثار تتوضح امامنا الصورة وهي اعادة صياغة العلاقة بين المواطن ودائرة الاثار والتراث وذلك من خلال اعادة صياغة تلكم القوانين التي تحكم العلاقة بين الانسان وهذه الدائرة ... اننا بحاجة الى اعادة صياغة الهيكلية العامة لقوانين هذه الدائرة وجعلها تعي بان البيروقراطية، تدمر كل الصياغات الانسانية والعلمية التي افرزتها الحضارة وكانت في خدمة الانسان حيث ان اثر الحروب على الاثار تكون نتائجها كارثية ولكنها محدودة بوقت حدوث تلكم الحروب والنزاعات .. اما العلاقة البيروقراطية بين الموظفين والمواطنين في مجال الاثار فهي كارثة يومية تتكرر طالما بقيت هيكلية الدوائر بهذه الصيغة اننا في هذه الدوائر لسنا في خدمة المواطن ولا في خدمة الاثار .. ولا حتى في خدمة انفسنا .. لاننا ما زلنا محكومين بقوانين وقرارات مجلس قيادة الثورة المنحل .
هنالك مثل عالمي يقول بان للنجاح الاف الاباء .. ونحن اذا لم نساهم في صياغة قوانين جديدة تحكم جدلية العلاقة بين هذه الدوائر والمواطن فبالتاكيد لن يكون هناك فسحة لنجاح هذه العلاقة وسيكون الخاسر الاكبر هو المواطن بعد ان توزع ثروات هذا البلد على دول الجوار ودول الائتلاف وحتما سيبقى هذا المواطن بلا جذور .. لان الاثار هي الجذور التي تربط هذا الانسان المبدع بتاريخه الرائع . هنالك تساؤل وهو اذا اردنا ان نشتري قرطاسية فسوف نشكل لجنة مشتريات من امناء القانونية والحسابات والادارية .. فلماذا لا نشكل لجنة من امناء او مختصين او اصحاب الصنعة في الحين الذي يتطلب الظرف التعامل مع عناصر الحضارة وحلقاتها المهمة وهي الاثار. الا يستحق المواطن الذي يجلب لنا هذه العناصر ان نعامله بشكل يليق بانسانيته .. الا يستحق التكريم بحسب قانون نيوتن الثالث في الفيزياء (لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه) لقد سمعت بان اللجان السابقة كان يمثلها خيرة المختصين من الاثاريين الافذاذ امثال الدكتور بهنام ابو الصوف والاستاذ فوزي رشيد وكانت تقيم الاثار بملايين الدنانير العراقية التي كانت في ذلك الوقت تعادل واحد الى ثلاثة من الدولارات الامريكية التي دمرت البنية التحتية لاخلاق الانسان العراقي .
وبحسب نابليون بونابرت .. اما ان نكون ملوكا او نكون عبيدا .. ولا اعتقد بان الانسان العراقي يستحق ان يعيش عبدا بعد ان خلف كل هذا الكم الهائل من الاثار .. والحضارات التي ايقظت الانسانية من سباتها .
الحواشي:
(1) محاضرة القيت في الندوة العلمية الاثارية التي اقيمت على قاعة الهيئة العامة للاثار والتراث في سنة 2008 "اثر الارهاب والحروب على الآثار والتراث في العراق".

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !