الإنسان بين العبودية ودعوى الألوهية
بقلم: سلمان عبدالأعلى
إن الاعتقاد بوجود الخالق سبحانه وتعالى أمر يعتقد به جميع المؤمنون بالأديان السماوية أو الوضعية، فالجميع يؤمن بوجود خالق لهذا العالم، ما عدا الملحدون الذين لا يؤمنون بهذه الحقيقة ولا يعترفون بها ..
فالكل إذاً ما عدا الملحدون يتفقون في اعتقادهم وإيمانهم بوجود خالق لهذا الكون، ولكنهم مع إيمانهم به لا يتفقون في تحديد من هو هذا الخالق ؟ فنراهم يتخبطون في تحديده، ويتيهون يميناً وشمالاً، ولهذا نراهم يعبدون غيره (كالشمس، القمر، النجوم، الكواكب، النار، البقر.. وغيرها) من المعبودات والآلهة التي اتخذها الإنسان وقدم لها طقوس العبادة والخضوع، وأحياناً يكون الإنسان معتقداً بوجود الخالق سبحانه وتعالى، ولكنه مع ذلك نراه يعبد غيره كالأصنام، كما كان شأن أهل الجاهلية قبل الإسلام، ويبرر موقفه هذا بقوله: ﴿ما عبدناهم إلا ليقربونا من الله زلفى﴾.
ومن هنا جاءت الحكمة الإلهية ببعثة الأنبياء، لأنه على الرغم من أن العقل البشري قد يتوصل إلى نتيجة مفادها، أن لهذا الكون خالق إلا أنه قد يخطأ في معرفة من هو هذا الخالق؟ ولهذا نراه يعبد غيره، أو أنه لا يخطأ في ذلك ولكنه لا يعرف الطريقة التي يمكنه بها أن يعبده، فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعبده كما يريد هو لا كما نريد نحن، ولهذا نرى الموقف من إبليس، إذ أنه لم يرفض عبادة الله سبحانه وتعالى كلياً، وإنما أراد أن يعبد الله كما يريد هو(على هواه) لا كما يريد الله سبحانه وتعالى، ولذلك جاءت الحكمة الإلهية ببعث الأنبياء حتى يتعرف الإنسان على خالقه وعلى الكيفية والطريقة التي يريدنا أن نعبده بها.
ولهذا نرى جهود الأنبياء منصبة ومرتكزة على توجيه الخلق لعبادة الله سبحانه وتعالى، إذ أنهم بينوا أصول الاعتقاد به، كما بينوا أيضاً كيفية ممارسة طقوس عبادته، ولكن مع ذلك كله نجد أن التصور للخالق سبحانه وتعالى لم يتوحد بشكل كلي بين أبناء البشر، فهو يختلف في بعض جزئياته من فئة إلى أخرى، بل من شخص لآخر، فحتى المسلمون غير متوحدون في تصورهم لخالقهم، إذ نجد أن هناك تباين واختلف كبير فيما بينهم.
فنجد بعضهم مثلاً يفسر بعض الصفات الواردة في بعض الآيات القرآنية من قبيل قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ على ظاهرها ويقول أن المقصود بها أن لله سبحانه وتعالى يد، ولكن ليس كأيدينا وإنما يد تليق بجلاله، أو أنها يد بلا كيف وغيرها من العبارات التي يرفضها فريق آخر من المسلمون الذين يفسرون اليد التي وردت في الآية، بأنها كناية عن القدرة الإلهية .. وهكذا، إذ نجد الكثير من الاختلافات بين المسلمين في هذا الشأن، وما ذكرناه هو أحد الأمثلة فقط وليس الكل، وإلا فهناك الكثير من الشواهد غير ما ذكر.
المهم عندنا هنا التركيز على الاختلاف في التصور للخالق في الأمور التي تبدو وكأنها بديهية، ولكنها مع ذلك لم تحظى بالتوافق بين الجميع، لأن التصور الذهني لها مختلف فيه بين المسلمين حتى في داخل المذهب الواحد، لأنها قد تختلف من شخص لآخر تقريباً، وأعني بكلامي هذا تصور العبد لبعض الصفات التي وصف بها نفسه سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، حيث أنه سبحانه وتعالى، وصف نفسه تارة بـ ((شديد العقاب))، وتارة أخرى بأنه ((رءوف رحيم)) إذ أن الجمع بين هاتين الصفتين يبدو أمر متعسر لدى البعض.
ولهذا نراهم ينحازون كثيراً لصفة واحدة ويركزون عليها ويهملون الصفة الأخرى، فالله عندهم إما ((شديد العقاب)) أو ((رءوف رحيم))، ولا أعني بكلامي هذا أن الكثير يرفض الجمع بين هاتين الصفتين في كلامه أو في ما يظهره من اعتقاداته، وإنما أقصد به الجمع بينهما في البناء والتصور الذهني، لأنني لا أظن بأن هناك في المسلمين من لا يدعي أو لا يتظاهر بأنه يعتقد بالأمرين (شديد العقاب و رءوف رحيم).
فنحن مثلاً نجد أن بعض المسلمين يتصور الله سبحانه وتعالى ذهنياً، وكأنه دائماً وفي كل الحالات ((شديد العقاب))، حيث يتضخم عنده هذا الاعتقاد لدرجة يتصور فيها أن الله سبحانه وتعالى، هو ذلك الجلاد العابس المتهكم الوجه الذي يتحين الفرصة ليذل عبده، فهو واقف في انتظار صدور الخطأ من العبد حتى ينهال على ظهره بالسياط لتأديبه أو ليشفي غليله ويذله وينتقم منه.
إن البعض هكذا يتصور الله سبحانه وتعالى، ويغفل بأنه رحمان رحيم ورءوف رحيم، ولا نستغرب إذا كان هذا التصور موجود، فالكثير من الدعاة ورجال الدين يصورون الخالق بهذه الصورة أو بصورة مشابهة لها إلى حد ليس ببعيد، وهذا الأمر يجعل الإنسان لا يتجه في حركته العبادية إلا من جانب الخوف من الله سبحانه وتعالى أو بمعنى أدق الخوف من عقوبته وعذابه، فهو لولا العقاب لما عبده، وهذا العبد المسكين غافل بأن الله سبحانه وتعالى بالإضافة إلى كونه شديد العقاب هو رءوف رحيم.
والمشكلة الكبرى ليست هنا، وإنما إذا تعدى أثر هذا الاعتقاد والتصور من الشخص ذاته إلى غيره، ونحن نرى أن البعض يتضخم عنده هذا التصور عن الله لدرجة يصل فيها لدرجة لا يستطيع أن يشاهد أحداً يخطأ دون أن يمر من أمامه بدون عقاب شديد، وكل ذلك لأن الله في اعتقاده وتصوره دائماً شديد العقاب، وكأنه أصبح موكلاً عن الله في القيام بهذا الأمر، وهذا هو ما يعتقده فعلاً، فالبعض يتصور أنه مكلف بمحاسبة الخلق من باب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولهذا نرى انعكاس هذا التصور أصبح أمراً واضحاً في سلوكياته وتصرفاته، وليست مقتصرة فقط على آراءه الذاتية، فهو يتعامل مع غيره أيضاً بالغلظة والقسوة والشدة، وكل ذلك لأنه يعتقد بأنه ينوب عن الله سبحانه وتعالى في معاقبة المذنبين، ولهذا نراه أيضاً من حيث يشعر أو لا يشعر شديد العقاب، حيث لا يتهاون في معاقبة هؤلاء المذنبين عقاباً شديداً، وكأنه أصبح مفوضاً من قبل الله سبحانه للقيام بهذه المهمة في هذه الدنيا، وكأن لسان حاله يقول: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ .
وهذا ما نلاحظه بشكل واضح وجلي في بعض التنظيمات الإرهابية كـ تنظيم القاعدة وحركة طالبان، إذ أنهم يتعاملون مع مخالفيهم بهذا المنطق، وكأنهم قد قاموا بتعجيل الحساب في الدنيا قبل الآخرة، وكل ذلك لأنهم يعتقدون بأن مخالفيهم مذنبون ولا يجوز تركهم والتهاون معهم، ولهذا نرى القتل والسفك والعنف بأشكاله وكل ذلك باسم محاربة الكفار والمبطلين الذين يستحقون عقوبة الله الشديدة في الدنيا والآخرة.
وهكذا أصبح الخالق ألعوبة وأداة بيد المخلوق يستطيع فيها أن يلبي عقده النفسية وأهواءه وأوامر نفسه الأمارة بالسوء بكل حرية وباسم الشريعة، ومن هنا نفهم كلمة أحد المفكرين الذي قال معلقاً على الرواية التي تقول: ﴿خلق الله خلق آدم على صوته﴾ حيث عكسها وقال: ليس الله خلق آدم على صورته فقط بل الإنسان أيضاً خلق الله على صورته. راجع كتاب التراث والعلمانية ص 75.
ومقصوده هو أن الإنسان يخلق تصوره عن الله سبحانه وتعالى، لا أنه يخلقه فعلاً .. فالإنسان يخلق تصور عن الخالق وهذا التصور ينعكس في الكثير من الأحيان على سلوكه وتصرفاته، فمن يتمسك مثلاً ويتصور بأن الله رءوف رحيم نراه ينطلق من هذا التصور، ومن يتصور أن الله شديد العقاب هو الآخر ينطلق في حياته من هذا التصور أيضاً، والقليل أو الأندر هم أولئك الذي يستطيعون تحقيق الجمع في التصور الذهني والتوازن بين كلا التصورين.
ولهذا نقول: بأن تصور الإنسان لخالقه سبحانه وتعالى يجعله يمارس في الكثير من الأحيان، أفعاله وصفاته((أدواره))، ولهذا نجده يصبح الجبار، القهار، المعز، المذل، ... وهكذا.
فتصور الإنسان لله سبحانه وتعالى واعتقاده به يكون في الكثير من الأحيان منعكس على ما يفعله وما يمارسه من أعمال وسلوكيات، لدرجة لا يمكنه أحياناً أن يفصل ويميز بين ما يريد هو، وما يريد الخالق، بمعنى أنه أخذ يلعب أدواراً ليست له، وهو يعتقد بأنه في ذلك يقوم بإرادة الله وأوامره.
لابد أن يتذكر الإنسان دائماً بأنه عبد وليس إله، ولهذا ينبغي له أن يتصرف تصرفات العبيد لا تصرفات الآلهة، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وليس ليؤلهون أو ليتألهون، وتعجبي عبارات الدكتور عبد الكريم سروش في هذا الأمر إذ يقول: ((إن الخطاب المهم لجميع الأديان في هذا العالم يتلخص في بيان هذه الحقيقة وهو أننا جئنا إلى هنا لتحقيق حالة العبودية لا لدعوى الألوهية، وهذه العبودية لها عرض عريض وتستوجب جميع شؤون حياة الإنسان من الإقتصاد والسياسة والحكومة إلى الأخلاق وأمور الحياة الطبيعية)).
ويردف موضحاً ذلك بقوله:(( بمعنى أن إقتصادنا يجب أن يكون اقتصاد العبيد وسياستنا سياسة العبيد وحكومتنا حكومة العبيد، فحكومة وسياسة الآلهة ليست من شأن العبيد، وهنا ربما نتعجب من بعض سلوكيات المتدينين حيث يبرزون العبودية من جهة، ومن جهة أخرى يتحركون من موقع الألوهية وادعاء الربوبية)). راجع كتاب الصراطات المستقيمة ص 199
ولكن الكثير من الناس يتصرفون أحياناً وكأنهم آلهة، فبعض رجال الدين على سبيل المثال، نجدهم إذا رضوا عن أحدهم، لا يقولوا بأنهم راضون عنه، بل يقولون بأن الله راضي عنه، أو يقولون بأنهم راضون عنه لأن الله راضي عنه، ولهذا هو يدعمونه ويؤيدنه لأنه محب لله ولرسوله، ونفس الشيء إذا غضبوا على أحدهم، لأنه خالفهم أو اختلف معهم أو لأي سبب كان، لا يقولون بأنه خالفهم، بل يقولون بأنه خالف الله ورسوله، ولهذا هم يكرهونه في الله، لأنه مخالف لأمر الله أو لأنه عدو لله، ولذلك كان عليهم محاربته من باب محاربة أعداء الله .. وهكذا، وكأن الله الذي يعنونه هو هم أو موجود على شاكلتهم.
وهذا الأمر ليس بالضرورة أن يكون مقصوداً، بل ربما يكون غير مقصود، ولكن هذا لا ينفي أن هناك من يستخدم الله كذريعة وأداة لأعماله، فالكثير يستخدم الله أداةً لتحقيق مصالحه وأهدافه، ولهذا نراه إذا احتاج إلى خالق شديد العقاب استخدم هذا اللفظ، وإذا احتاج لخالق رءوف رحيم استخدم هذه الصفة أيضاً، وكل ذلك بحسب مصالحه وأهدافه، وعادة ما يكون الله سبحانه وتعالى لدى هؤلاء شديد العقاب لغيرهم، ورءوف رحيم لهم أو للمحسوبين عليهم، فالله سبحانه وتعالى إذا قد يستخدم ويستغل اسمه كأداة لتنفيذ رغبات البعض أو لتبرير أعمالهم.
ويقول المرحوم الدكتور علي الوردي واصفاً بعض الذين يتظاهرون بالتقوى وخشية الله أو حب الحقيقة على حد تعبيره بقوله: ((إنه ينسى هفواته طبعاً فهي في نظره قد جاءت سهواً. والله لا يؤاخذ على السهو. أما منافسه فهفواته تنقلب إلى ذنوب تكاد السماوات تنفطر منها وتنشق الأرض، ويصبح مقترفها إذن عدو الله ورسوله)) راجع كتاب مهزلة العقل البشري ص 97
ولهذا نرى في التاريخ أن الكثير من الحكام استغل بعض المسائل العقائدية لدعم أو لتبرير مواقفهم، فبعض الحكام نراه دعم بكل ما أوتي من قوة عقيدة الجبر التي قال بها الأشاعرة، والتي تقول بأن الإنسان مجبر على أفعاله وغير مخير فيها، في مقابل عقيدة المعتزلة الذي قالوا بعقيدة التخيير أي أن الإنسان مخير وغير مجبر على أفعاله، وسبب دعمهم لعقيدة الجبر هي لدعم أعمالهم غير الشرعية أو لتبريرها، إذ أن أعمالهم التي تصدر منهم طبقاً لهذا الاعتقاد تكون لا دخل لهم فيها، لأنهم مجبورين عليها وغير مخيرين فيها، وإلا لو كان الله سبحانه وتعالى يريدهم أن لا يفعلوها لما كان باستطاعتهم فعلها.
وأتذكر أنني قرأت مقولة عن أحد قادة القرامطة، وهو الذي أعاد الحجر الأسود لمكانه في مكة المكرمة بعد أن أخذوه منها لمدة زمنية ليست بالقليلة حيث قال: ((أخذناه – يقصد الحجر الأسود-بإذن الله وأرجعناه بأمر الله)) أي أن الله كان قادراً على منعنا لو لم يرد ذلك ..
وهكذا توظف العقائد أحياناً لتبرير أو لإعطاء الشرعية الدينية لبعض التصرفات غير الشرعية أو الإجرامية، ولهذا يقول المفكر اللبناني الدكتور علي حرب: ((لم تعد المسألة إذا أن نؤمن أو لا نؤمن، وإنما كيف يترجم الواحد منا إيمانه أو معتقده أو مذهبه، أياً كان الشعار والاسم)) راجع كتاب تواطؤ الأضداد الآلهة الجدد وخراب العالم ص 96.
ومما تقدم أرى أن الرواية التي تقول: ((من عرف نفسه فقد عرف ربه)) قد تشير إلى هذا المعنى بوجه من الوجوه، فمن عرف حقيقة العبودية عرف حقيقة الألوهية، ومن يعرف ضعفه وذلته ونقصه حق المعرفة ينطلق لمعرفة قوة الله سبحانه وعزته وكماله، كذلك أيضاً يمكننا أن نفهم الروايات التي تتحدث عن أن الله عند حسن ظن عبد المؤمن بهذا المعنى أيضاً، كالرواية الواردة عن الإمام الرضا عليه السلام: (أحسِنْ الظن بالله!.. فإنّ الله عز وجل يقول: أنا عند حسن ظن عبدي المؤمن بي؛ إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا). ... فقد يكون أحد معانيها أن تصور العبد لخالقه، ينعكس بصورة أو بأخرى على أعماله وتصرفاته، على نحو ما تحدثنا به في هذا المقال.
التعليقات (0)