حديثنا الليلة عن سيرة الإمام عليّ - عليه السلام -، وكيف نستلهم لحياتنا العِبَر من هذه السيرة الطاهرة؟
الدكتور إبراهيم الجعفري:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة، والسلام على محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وجميع عباد الله الصالحين.. سيرة الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - حاشدة بالعِبَر التي تموّل الإنسان بنظريات عمل، وسلوك، ومواقف على أكثر من صعيد. لو أن المتلقي فتح عقله وقلبه عندما يستنطق سيرة الإمام علي - عليه السلام - لوجد في زادها مادة معنوية وفكرية وتجسيداً من خلال المواقف. ليس غريباً على أمير المؤمنين أن يكون كذلك فهو ربيب رسول الله - صلى الله عليه وآله-، وقد أخذ منه كل شيء، وجسّد بعظمته عظمة رسول الله. إذا أردنا أن نعرض واقعنا على واقع عليّ، ونقيّم سيرتنا على هدي سيرته نجد أن ما تعاني منه كل التجمّعات هو مسألة غياب النظرية.
ليالي رمضان برنامج في حلقات يلقي الضوء على ما ينفع المؤمن في هذا الشهر الفضيل، ولعل خير من يمكن ان يؤدي هذا الدور هو الدكتور ابراهيم الاشيقر الجعفري.
كيف تقوم العلاقة الاجتماعية على أسس صحيحة، وكيف يتحوّل الكمّ البشريّ من حالة عفوية مرتجلة تتقاذفها الرياح والأمواج إلى حالة هادفة، وتنتظم بطريق معيّن؛ لتحقيق هدف؟
أغلب العلاقات الاجتماعية اليوم تعيش تحت وطأة المدّ والجزر، فمرة تجد علاقة اجتماعية عميقة بلا وعي، ومرة تجدها متباعدة ومتنافرة. هذه العلاقات سرعان ما ينفرط عُقدها؛ لأنها ما قامت على نظرية.
إذا أردنا أن نبحث عن نظرية نؤصّل فيها لعموم العلاقات بدءاً بالعلاقة الشخصية مروراً بالعلاقة الأسرية والعلاقات الاجتماعية، وانتهاءً بالعلاقات الإدارية والسياسية وما يترتـّب عليها من بُنى فوقية على هدي سيرة الإمام علي - عليه السلام - نجده يقول للإمام الحسن - عليه السلام -: (أصدقاؤك ثلاثة، وأعداؤك ثلاثة: صديقك، وصديق صديقك، وعدو عدوك)
هذا الخطاب يعني وجود فكر يجمع بين الاثنين، فليست الصداقة قضية عاطفة، صديق صديقك هو صديقك وإن كنتَ لم ترَه، لكن يوجد فكر جمعك معه؛ إذن التقى اثنان على نفس الفكرة، ولم يلتقيا على مستوى الجسم، وعلى مستوى الرؤية المباشرة، فصديقك وصديق صديقك، ووفق هذا المبدأ أسّس العلاقة على أساس فكريّ، بلا ارتجال ولا عفوية.
الصديق، وصديق الصديق، وعدو العدو علاقات تقوم على أسس فكرية تدخل هذه الأصناف الثلاثة في حيّزها.
لا ينبغي أن تخضع الصداقة والعداوة لهبوب الرياح العاطفية، وإنما يجب أن تـُعقلـَن، ويجب أن تخضع لمفاهيم صحيحة؛ حتى نعرف المسافة بيننا وبين الآخرين، وحتى تكون مسافة تقوم على أساس فكريّ؛ فيصبح القريب قريباً فكرياً، والبعيد بعيداً فكرياً، فنتجنب شهونة العقل التي تزخر بالتناقضات، وتجعل عدوك بالفكرة صديقك بالعاطفة، وصديقك بالفكرة وهو عدوك بالعاطفة.
القرآن الكريم أسّس العلاقات وفق مبدأ الأخوّة، يقول الله تعالى:
((إنما المؤمنون إخوة))
فأقامها على قاعدة الإيمان، ونقلها من الإيمان إلى التجسيد، واستخدم مفردة (إنما) لتدلّ على حصر الأخوّة بالإيمان، واعتبرها الأخوّة الحقيقية.. هذا هو الأساس الأول.
العنصر الثاني: نقل الأخوة من حيّز التنظير إلى التطبيق والتجسيد، وقد جاءت النصوص تترى بأنه لا ينبغي أن تكون العلاقة بين الناس علاقة فكر مجرّد جافة ً لا حبّ فيها، ومنها: (حُبَّ لأخيك ما تحب لنفسك)، و (ليس منا من لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
المحبّة في الإسلام تشكّل عنصراً أساسياً في داخل العلاقة، وحين تكون العلاقة مُفعَمة بالحب فقد أمّنا للعنصر الأول (العنصر الفكري) أن تكون العلاقة علاقة فيها دفء، وحنان، واحترام تتصاغر أمامها الخلافات مهما كبرت؛ لأنه وإن دلـّت مؤشرات الفكر على خلافات، لكن مؤشرات العاطفة المعقلنة تضغط على هذه الخلافات، إن لم تمنع تهويلها، ولا تأخذ حجماً أكبر من حجمها الطبيعي.. الحب في العلاقة مطلوبة، وهو مفهوم قرآنيّ:
((محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم))
انتقل إلى العاطفة، وجعل العلاقة التي تقوم على أساس فكريّ موشّحة ومتوّجة بإكليل الحبّ والعاطفة.
العنصر الثالث الذي أمّنه لنا الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام -، وأكّد عليه هو الوفاء.
يقول الإمام علي - عليه السلام -: (لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاثة: في نكبته وغيبته ووفاته).
يتجسّد الوفاء حين يحتاج الشخص لإخوانه، والإنسان كريم الأخلاق هو مَن يمتدّ بالوفاء لصديقه، ويلبّي حاجته، ولا يجعل للشيطان منفذاً بأن يوسوس له فيتعامل بالمثل، ويُعين صديقه رجاءَ أن يردّ له هذا المعروف، إنما يجود بأخلاقه وكرمه، ويلبّي حاجته دونما مقابل.
أما في غيبته، فيحفظه، كما يحفظه في الحضور، ولا ينتقص منه، ولا يذكره بسوء. فإذا كان يذكر الناس بسوء في غيبتهم، وينتقص منهم، فهو حتماً سيذكر صديقه بسوء، وينتقص من قيمته، وهذا يعطينا فرقاً بين أدب الحضور وأدب الغياب.
وأما في (مماته)، فأروع الشخصيات خُلـُقاً هو من يزيّن حديثه بذكر عدد معيّن من الذين مرّوا بحياته، ويترحّم عليهم، وهذا هو ذروة الوفاء.
هذا التدرّج يصوّر الوفاء كأنه سلسلة من الجبال فيها قمم، قمتها الأولى (الغائب)، ثم صعد إلى القمة الثانية (النكبة)، ثم الثالثة الأعلى (الممات)..
العنصر الرابع: هو الثقة بين الأصدقاء والإخوة، ويتفرّع عنها الصدق في الفكر والعاطفة والوعد والصدق عند ذكر الآخرين في غيبتهم والصدق معهم في نكبتهم، وحتى في مماتهم.
الصداقة مفهوم واسع، ومبدأ الأخوّة الذي أطلقه القرآن أوسع:
((إنما المؤمنون إخوة))
هو ينطبق على العلاقة بين الزوج وزوجته، وعلى علاقة الأب بابنه، وحتى على الالتقاء الفكريّ.
((إنما المؤمنون إخوة)) تتسع لهذه العلاقات، أما إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه، وحين يتسرّب الشك تهتزّ العلاقة من أساسها، وتضعف الثقة، ويبدأ أحدهما يشكّك في كل ما صدر عن الآخر، ويفسّر كلامه على غير ما يسمع، حتى حين يبتسم يفسّر ابتسامته على غير ما يقصد، فيبدأ المرض ينهش العلاقة.
ونحن في هذا الشهر المبارك علينا أن نحافظ على الثقة فيما بيننا، فالثقة تجعل الطرف الآخر في مأمن.
لو نظرنا إلى العملية السياسية لوجدنا أن الكثير من المشاكل السياسية منشأها نفسيّ، وعدم وجود الثقة بين بعض الفرقاء السياسيين، والخلافات القائمة الآن لم تكن كلها بسبب اختلاف القراءات الميدانية، أو إنها تعبّر عن مسافات فكرية، فبعضها تعبّر عن مسافات فيها شك مسيطر.
عندما يتعامل الإنسان مع إخوانه بثقة، ويوفر أجواءً تقوم على أساس التسامح بناءً على أن كل الأفعال لا تنطبق مع ما تريد، بل قد يكون في بعضها تقصير محتمل، فلا ننتظر عالماً من العلاقات خالياً من العثرات، يقول الإمام علي - عليه السلام -: (اتقوا ذوي المروءات عثراتهم فما من أحد منهم يعثر إلا ويد الله ترفعه)
لماذا لا تتوقع أن تتعثر مع الآخرين، وتتوقع أن الآخرين يتعثرون معك، لماذا تنتظر من الآخرين أن يتجاوزوا عن عثراتك وعن سيئاتك، ولا تتجاوز عن عثراتهم وعن سيئاتهم؟
على الإنسان أن يراجع نفسه، ويقيّم أفعاله، فإن كان فيها خطأ فلينتقل إلى الصواب، وهو هذا معنى الارتقاء على سُلَّم التربية، والارتقاء بسُلَّم الزمن نحو الأفضل.
لو طبّقنا هذا المعيار لكان الخير الكثير.
لقد طبّق الإمام علي - عليه السلام - كل هذه النظريات، والشيء الرائع أن الكلمات تضيق أمام سلوكه، ولا تعرف كيف تصفه، ففي حرب صفين كانت الناس تتهمه، وتشتمه إلى درجة اتهمّوه أنه لا يصلي، لكنّ الشيء الذي لا يستطيعون أن يغطوه هو الشجاعة: (لافتى إلا علي، لا سيف إلا ذو الفقار).
كانت العرب تحتضن من ينجو من سيف عليّ بالاحترام والتقدير، فيما كان الذي يهرب من أيّ معركة لا تستقبله قبيلته، ويذهب إلى قبيلة أخرى، ويمشي منكوس الرأس، ويوم وصل إلى أهل الشام خبر مقتل عليّ وهو يصلي، تساءل الناس: وهل كان علي يصلي.. هذه إحدى نظريات الإعلام الحربيّ التي تُعتمَد في الحروب، وهي التشكيك بالطرف المقابل.
وفي صفين أيضاً مرّ الإمام علي - عليه السلام -، فسمع بعض الجنود يسبّون، ويشتمون الطرف الآخر، فقال لهم: (كرهت لكم أن تكونوا سبّابين شتـّامين، لو قلتم: لو هدانا وهداهم الله.....)
كأنه يقول: أنصفوا الآخر، وهذا أدب قرآنيّ:
((لا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى))
حتى عدوك، وأنت في عمق المعركة لا تتهمه بشيء، ولا تكذب، ولا تسلبه حسنة، ولا تحمّله سيئة، وإنما تكلم على أبعاده الحقيقية.
حين يكون الإنسان بهذه الدرجة فهذا منتهى الروعة، كما إن التوسُّط في العلاقات بديع جداً، فنحن بعض الأحيان قد نغالي حين نحبّ، فنتطرّف، أو نتطرّف حين نكره، يقول أمير المؤمنين: (احبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما)
ويوجد أناس تبدأ علاقاتهم بخصومة، ثم تنتهي إلى محبة، فلا تبالغ في مرحلة الخصومة، فقد تندم عندما ترسي تلك العلاقة.
مثل هذا النوع من التوسّط القرآنيّ يجعل الإنسان في حالة استقرار حين يقيم علاقة مع أحد. نحتاج في كل المجالات من دون استثناء خصوصاً في المجال السياسيّ لأن نؤصّل علاقتنا على قاعدة فكرية صحيحة، ونتطلع إلى التجسيد، والإمام علي - عليه السلام - أروع من نظـّر وأروع من طبّق حتى انتهى إلى ما انتهى عليه.
في ليلة جرحه - صلوات الله وسلامه عليه - حين قال: (فزتُ ورب الكعبة) خاطب الحاضرين: (ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه)
ليجعل العلاقة بينه وبين الآخرين قائمة على أسس فكرية، واعتبر هذا المعتدي قد عبّر عن فكرة.
هذه مبدئية، وهذا هو الفكر الذي يتجسّد بهذه الصورة الرائعة في شخصية أمير المؤمنين ذلك النموذج الفريد بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله -.
- لو انتهج السياسيون العراقيون نهج الإمام علي - عليه السلام - كيف سيكون الوضع السياسيّ في العراق؟
الجعفري: يختلف تماماً..
لقد نزلت بحق الإمام عليّ - عليه السلام - آيات قرآنية كريمة، وعدّها المقريزي بحوالى ثلاثمائة آية، ومنها:
((أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام))
((رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه))
((ياأيها الرسول بلغ ما أُنزِل إليك من ربك))
ويقول بحقه النبيّ الأكرم:
(يا علي أنا وأنت أبَوَا هذه الأمة)، (ولأعطين الراية غداً لرجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، وغيرهما كثير جداً.. بهذه المكانة عند الله - تعالى - وعند نبيه - صلى الله عليه وآله -، وبهذه العظمة تعامل مع مَن اعتدوا عليه بإنسانية رائعة.
إذا كان كل واحد من الموجودين لا يشكّل جزءاً من شخصية علي بن أبي طالب
- عليه السلام -، ولا يملك مقوّمات كمقوّمات الإمام علي، ولا يتعامل مع من اعتدوا عليه بهذه الأخلاقية العالية نكون قد جنينا على أنفسنا، وجنينا حتى على الإمام علي.
لو كان المتصدون في المجال السياسيّ والاجتماعيّ والمجال الفكريّ والثقافي وفي كل المجالات يتمثلون صورة الإمام علي - عليه السلام - لكان الحال العامّ غير الحال اليوم.
لقد كتب عن فضائل الإمام علي - عليه السلام - الآخر المذهبي، ومنهم: عبد الفتاح عبد المقصود، كما كتب عنه الآخر الديني: ومنهم جورج جرداق بخمسة أجزاء، وهو كتاب قيّم.. يكفيك أن الأمم المتحدة طبعت عام 2002 كتابه إلى واليه على مصر مالك الأشتر بمائة وستين صفحة باللغة الإنكليزية. في هذا الكتاب يقسّم الإمام علي - عليه السلام - الناسَ، وينصح مالكاً الأشتر بأن يتعامل مع مختلف الطبقات الاجتماعية: (الجيش، والعسكر، والقضاة، والعمال، والرعية). يمضي الزمن بـ(1400 سنة) والإمام علي يمشي أمام الأمة الإسلامية بل أمام الآخر الدينيّ والآخر القوميّ والآخر الجغرافيّ.
الآخر المُنصِف يتحدّث بعلم، وأما من يجهل أو أصابته الجهالة أو سحق على عقله بعُقـَد معيّنة فلا تتوقع منه الإنصاف، يقول الإمام علي - عليه السلام -: (هلك فيّ اثنان مُحِب غال ٍومُبغِض قال ٍ)
انظر الروعة التي تنمّ عن شجاعة إذ قدّم المُحِب الغالي على المُبغض القالي, كأنه يقول من أحبّني، وغالى في حبّي فقد عبر الحدود العقائدية، وهو هالك، وكذا من أبغضني فهو هالك أيضاً.
الإمام علي عليه السلام نظرية وتجسيد نتعلم منها كيف نتعامل مع الآخر.
التعليقات (0)