الإغراء.. فنّ الكشف والإخفاء!
كلّ أزياء المرأة تحكي قصص صراعات بين رغبتين: الأولى مشروعة، وهي تغطية الجسم، والثانية غير مشروعة وهي تعريته...
وفي الحالتين، فإنّ فنّ الإغراء، المشروع وغير المشروع، يكمن في هذا التوازن بين الكشف والإخفاء، بين ما يراه الآخرون، وبين ما يتخيّلونه، وقد فضّل العرب القدماء، وما يزالون، لعبة الإخفاء التي تترك للخيالات مكاناً واسعاً، أمّا الغربيون فقد سارعوا إلى تغليب الكشف الفاضح، وهنا، ربّما، أسباب ترجع لطبيعة الحضارة المعاصرة، حيث السرعة، والإرتجال، وغياب الخيال الذي لا يسمح ضيق الوقت له بمتّسع في الحياة اليومية.
وحتى في اللغة، فقد وضعت كلمة الإغواء مقابل الإغراء، للتفريق بين غاية مشروعة وأخرى ليست كذلك، فالإغواء إبتذال للمرأة، ووصمها بشيئ واحد هو الجسد والجنس، أمّا الإغراء فهو غاية نبيلة توصل إلى نتيجة محسومة محسوبة سلفاً، باعتبارها تسير على طريق واضح، مشروعة بالضرورة.
وقصّة الشاعر الدارمي، الذي ترك الشعر، فكانت واضحة ومعبّرة عن الأمر، حيث كانت عودته لشعر الغزل وسيلة لزيادة ربح تاجر خُمُر العراق، حيث تعَشَّقَ صاحبة الخمار الأسود، وما فيها من إغراء. يقول صاحب “الأغاني” في ذلك: ” فلم تبق مليحة في المدينة إلا إشترت خماراً أسود، وباع التاجر ما كان معه “.
يقول الشاعر الدارمي:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بزاهــــد متعبّــــــد
قد كان شمّر للصلاة ثيابـــــــه
حتى خطرت له بباب المسجد
رُدي علية صلاته وصيامــــــه
لا تقتليه بحَــقّ ديـــن محمـــد
وصارت المرأة العربية أُغنية في قصيدة .. والقصيدة أُغنية على أوتار المغنيات، فكان أن تحوّلت عقلية العربي، بفعل سحر شعر الغزل، الذي يسعر القلوب، ويستفزُّ العقول، ويستخفُّ الحليم، من عشق الجواري إلى التهافت على الحرائر، والخمار الذي يخفي ويغري. شارك في الوصول إلى تلك النتيجة مغنيات حاذقات، صار لهن مكانة وموكب ودار ،
وشبّه جسد المرأة، على الدوام، بالوردة، الجميلة بتناسق أجزائها وتكوينها التشكيلي العام، فعندما نريد صياغة كل المحاسن التي تغنى بها الشعراء لتكوين الجسد “المثال” في جسم الوردة الواحد لا يمكن أن نحصل إلا على تمثال لآلهة أنثى، كما رسمتها الحضارات القديمة، صورة ارتبطت بالمقدس، وإحتلت تشبيهاتهم لترمز إلى المرأة المُؤلهة التي عُبدت في الماضي.
ونظرا لوحدة وجمالية الوردة فقد حُبّذ رسمها إبتداءً من الصدر والنهد، الخصر ،البطن، الردف ثم الفخذ لينطبع في الأذهان التناسق الجسدي للصورة الشعرية للمرأة مع تناسق الطول والقد، كما يقول الباحث المغربي.
الصدر والنهد:
ووصف الشاعر العربي صدر المرأة فجعله مثيراً، وفاتحاً للكون الجنسي وشهياً، تتجاوز حدوده العالم الحسّي، حيث لعبة الكشف والإخفاء، فشبهوه بالرمانة في إستدارته، وبحُق العاج لصفائه وبياضه، وبالحمام وبالمرمر ،وبالثمار، وقد سمَّى بعضهم النهدين ثماراً لنحور، وسُميت المرأة بأسماء شكل نهديها، فالكاعب التي كان نهداها في أول بروزهما، والناهد غير الكعوب من حيث كبرالنهدين، وقد جاء ذكر (الكواعب الأتراب) بالقرآن الكريم.
أما الجميل من الحلمات ما كان نافراً وردياً، تُسمّى نقطة العنبر، يقول النابغة الذبياني:
والبطن ذو عُكَن خميص ُُُ طيّه .. والصدر تنفجه بثدي مُقعد.
الخــصـر:
وأحب العرب من الخصور الضّامر، والنحيل، والناعم، وهو الحزام الأنثوي الذي يفصل بين عقل الإشتهاء وإشتهاء العقل، بين أعلى الجسد وبين ما أسفله، أعباؤه لا حصر لها، فهو بحمل صدراً بارزاً و مكتنزاً.
قال ابن الدمينة:
عقيليّة ،أما مَلاتُ إزارها فدِعْصُ ،وأما خصرها فبتيلُ ُ
(دعص= قطعة مستديرة بتيل = ضامر)
وقال ابن الرومي:
وشربت كأس مدامة من كفها مقرونة بمدامة من ثغرها
وتمايلت فضحكت من أردافها عجباً ولكني بكيت لخصرها.
الـبـطن :
تولّه العرب، وإحتل وجدانهم الشعري السمين والممتلئ من جسد المرأة، فشبّهوا البطن وطيّاته بالأقمشة، وبالأمواج المترقرقة، ثم ما لبث الذوق أن تحوّل إلى محبّة البطن الضامر، قليل الارتفاع، ففي البطن مكمن أخاذ من مكامن الإثارة والاشتهاء، إنه السُّرة، والواسعة منها رسمها بعض الشعراء وصفا بمُذهُنُ العاج، إشارة إلى اتساعها وقالوا: إنها تسِع أوقِية من المسك.
قال بشر بن أبي خازم :
نبيلة موضِعِ الحِجلين خَود وفي الكشحين والبطن اضمرارُ
وقال النابغة الذبياني :
والبطنُ ذو عُكَنٍ لطيف طيُّه والنَّحر تنفُجُهُ بثَذيٍ مُقعدِ
وقال عنترة بن شدّاد :
وبطن كبطن السّابريّةِ ليِّن أَقَبُّ لطيف ضامرُ الكشحِ مُدمَجُ
الـرّدف :
الرّدفان هما بُؤرة الشهوة عند العربي ، وأكثر ما تمتاز به المرأة في المخيال العربي، وقد أحب العرب الأرداف الضخمة الممتلئة، وكانت عندهم فُسحة مُضيئة في خريطة الجمال والأنوثة والرغبة لديهم، وقد شبّهوا الردفين بكثيب الرمل ، بالدعص ،وبالموج ، يقول النابغة الذبياني:
مخطوطة المتنين،غير مفاضة ريَّا الروادف ، بضّة المتجرّد
ويقول جميل بثينة:
مخطوطة المتنين مُضمَرة الخَشا ريَّا الروادف، خلقها ممكور
ويقول عمر بن أبي ربيعة:
خَدَلَّجَة اذا انصرفت رأيت وشاحها قلقا
وساقا تملأ الخُلخـــا لَ فيه تراه مُختَنقا
الـفـخذ :
أما الفخدان، ففيهما الإغواء والإغراء والشهوة، فهما تفضيان إلى مكامن السحر والجمال ، ولذا كانت الفخذ الجميلة هي اللَّفاء المكتنزة ، تتناسق مع عظم الردف وتدويره وقالوا إنه أنعم من الحرير وألين من الزبد، والساق المثال عندهم هي الساق الرّيّا الممتلئة القوية .وشبَّهوا الساقين بعمودين من المرمر .
يقول النابغة الذبياني:
سقط النضيف ولم تُرد إسقاطه فتناولنه واتَّقَتنا ،باليد
بمخضَّب رخص كأن بنانــــه عنم على أغصانه لم يُعقد
ويقول امرئ القبس:
وكسح لطيف كالجديل مُخضَرّ وساق كأُنبوب السقي المُذَلَّل
الطول والقد :
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت “لا يفوتَنَّكُم الطول والبياض، فهما علامتا الجمال”. فالتشبيه لهذه الخاصية كان له حظ وافر من المعاني فشُبه بقضيب البان، قضيب الخيزران ،والرمح وشبَّهوا المرأة الطويلة بتمثال في كنيسة.
يقول النابغة الذبياني :
أو دمية من المرمر، مرفوعة بُنيت بآجُر ، يشاد بقَرمَد
ويقول عمر بن أبي ربيعة :
تمشي الهُوينا إذا مشت فُضُلا وهي كمثل العسلوج في الشجر
الأطـراف :
لقد حازت الأطراف إهتمام الشعراء، بإعتبارهما ركناً من أركان الجاذبية، وعموداً من أعمدة الشهوة، فنظرة العربي لجسد المرأة ترتكز على ساقاها البضّتان ، وذراعاها الناعمان الأملسان .
لماذا حظي الساقان بذلك الاهتمام ؟ يرد خليل عبد الكريم ذلك إلى أن” الأعرابي كان (ولا يزال) يعتبر الساقين الممتلئين الخَدَلَّجين شارة موثقة وعلامة مؤكدة على أن المَرَة التي تملكهما تهب متعة مضاعفة، ومن هنا ينطلق التشديد على سترهما وتغطيتهما”.
وقد شبّهوا الساعد بصفيحة من فضة من شدّة البياض، أما الكف فله فعل السحر في الجذب والفتنة ، وخاصة إذا أخفت بهما المرأة وجهها أو سترت بهما مفاتنها إذا تجرّدت، أو إذا أشارت بهما للوداع، أو مدّتهما للسُقيا .
شبَّه الشعراء الأنامل بالعنم، وهو شجر ليّن الأغصان أحمر الثمر، وبالعاج واللؤلؤ.
قال امرؤ القيس :
سِباط البَنان والعرانين والقنا لِطَافِ الخصور في تمام وإكمال.
وقال دو قلةُ المنبجّي :
امتد من أعضادها قصب فَعم تلته مرافق دُردُ
والمعصمان فما يُرى لهما من نعمة وبَضاضَة زندُ
ولها بنان لو أردت لـــــه عقدا بكَفّكَ أمكنَ العَقدُ
الـحركـة :
لقد نظر العربي إلى هذه الأوصاف الجسدية في تناسقها وهي تشغل حيزاً في الفضاء، فاعتبر حركة المرأة عنصراً من عناصر الفتنة والإغراء له مغناطيس وجاذبية، بخلاف السكون الذي يعطّل الإثارة ويجمّد تضاريس الجسد، وقد جاء الشعر ناتئاً بأوصاف تُمجّد الحركة في الأنثى، حيث وصفوها بغصن البان ، حقف النّقا، المهاة ،مسير الغمامة ،خطو القطا والنعام .
يقول الأعشى:
غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهُوينا كما يمشي الوَجيُ الوَحلُ
أما عمر بن ابي ربيعة فقال في ذلك :
بيضا حسانا خرائدا قُطُفا يمشين هونا كمشية البقر.
الخيال من الإخفاء
ونظرا لصعوبة تجميع هذه الخصائص الجسدية إلا في مخيلة شبقية، وقد عُرف عن الشعراء سعة التخيُّل والشطح في التوهُّم فإن الصور التي يعرضها الشعراء في قصائدهم ومعلقاتهم..الخ، محض خيال، مجرد وهم أو على الأقل هي أماني عشّشت في أدمغتهم أو نماذج مثالية لم يجدها الشعراء في الواقع فأودعوها أبياتهم
التعليقات (0)