لطالما تساءلت عن الغزو الدنيء الذي نتعرض له عبر كثير من الشاشات العربية تحديدا ، فوجدت أسبابا عديدة ، لكن أخطرها وأهمها المقولة التالية :
إن الأمم تسمو بكل منْ وما فيها ، حين تكون قادرة على الذود عن نفسها ، وقادرة أن ترد الصاع صاعين لكل من يتجرّأ عليها ، وبالمقابل ، ينهزم كل منْ وما في الأمة ويصغر ويتضاءل ، إذا كانت الأمة منهارة ، مستباحة ، لا حول لها ولا قوة ..
وعليه : فإن الإعلام جزء هام من الأمة ، ومعبر عن حالها خير تعبير ..
فما هي الحالة التي كانت عليها أمتنا العربية ، حين بدأت هذه الشاشات العربية تعرض علينا عهرَها ؟؟؟
بُعيد الغزو الأمريكي الكارثي للعراق والذي كان المقدمة لتكوين شرق أوسط جديد ـ حسب النظرية البوشية ـ وبعد سقوط بغداد الفاجع ، والذي تصادف ذكراه المشؤومة السابعة ، بدأت أمريكا بإنشاء صحف وإذاعات وتلفزة ، موجهة للدول العربية ، في محاولة منها لتلطيف جريمتها الكبرى ولتلميع صورتها القذرة المشوهة ، ولتوجيه الرأي العام العربي نحو عدو لهم غير إسرائيل " المستفيد الأكبر من احتلال العراق " فكان أن وجهت أمريكا " إذاعة سوا " و " قناة الحرة " لبث السموم في فضاء الشعب العربي ، واشتروا لهما كثيرا من إعلاميي التلفزة العربية البارزين ، وسخروا لهما أموالا طائلة في محاولة لتحقيق أهدافها ((كدولة منتصرة ، وصاحبة لمشروع الشرق الأوسط الجديد ))
لكن لم تستطع هذه الدعاية رغم كل ما جندته لها ـ وبحمد الله ـ أن تحقق أيا من الأهداف التي وجدت من أجلها ، واعترفوا بفشلهم ، وهزيمتهم ..
وحين عجزت أمريكا وأذنابها عن توجيه الشراع حسبما تقتضيه مصالحهم ، وحين أفلست أدواتهم الإعلامية ، وانكشف كذبها وزيفها ، ولمسوا فشلها الذريع ، واعترفوا به ، كان لابد من غزو من نوع آخر ، مضمون النتائج ، ولا يكلف كثيرا ، ولا يحتاج لما تحتاج إليه القنوات الإخبارية مثلا ، من معدات هائلة ومتطورة ، واستديوهات متعددة الأغراض ، وإعلاميين ومراسلين ومحررين ومذيعين ومذيعات وما يلحق بذلك من مستلزمات الظهور التلفزيوني الدائم ..
وبدأت سلسلة المحطات الوليدة الهجينة ، تغزونا في عقر بيوتنا هذه المرة ، وبين أطفالنا ونسائنا ، وفي غرف نومنا ، في سابقة خطيرة جدا .. فكما كانت الهجمة الأمريكية على العراق والمنطقة مدعومة بالسيوف العربية وبالمال العربي وبالنفط العربي وبالماء العربي ، برا وبحرا وجوا ، فإن الهجمة الإعلامية هذه نسخة طبق الأصل ، بشكل أو بآخر ..
في السياسة نَصِف إعلامًا ما بأنه : إعلام مأجور أو عميل أو معادٍ أو مغرض أو مدسوس أو متواطئ ، أو بكل ذلك ...
فبماذا يوصف الآن إعلام الشاشات الراقصة التي تبث عهرها ـ ويتباهون ـ أربعًا وعشرين ساعة في اليوم ، وسبعة أيام في الأسبوع ؟؟؟
هل ذلك هو الفن ؟؟
من حيث المبدأ ، أنا لست ضد الفن ، بل أنا أحب جميع أنواع الفن ، بكل ما تحمل الكلمة من معنى إيجابي ، وعندما يكون الفن ذا رسالة إنسانية أو أخلاقية أو أدبية أو علمية ... أيًا تكن الرسالة ، المهم أن تكون ذا غاية نبيلة ..
فإذا جُرّدَ الفن من ثوبه ذاك ، فهل يبقى فنا ؟؟
لن أعود إلى فكرة الفن الملتزم ، لكن سأعود إلى إعلام الشاشات الساقطة لأتساءل وأسأل بكل موضوعية :
ألا تخجلون من عائلاتكم وأمهاتكم وزوجاتكم وبناتكم وأخواتكم حينما تشاهدون معًا ما تبثه قنواتكم أيها المحترمون ؟؟؟
ألا تخجلون ـ أيضا ـ أيها المخرجون المحترمون من لقطات كاميراتكم المليئة بكل أنواع العهر الرخيص والبذيء حينما تشاهدونها مع أسركم ؟؟
إن العدو لا يلام على ما يفعل بعدوه .. فهل أنتم من أعدائنا ؟؟
أيهما أكثر خطورة : التلفزة أم الإنترنت ؟؟
أنا أقول : التلفزة أشد خطورة بكثير جدا ..
فالتلفزة متاحة للجميع ، وفي كل البيوت ، بل في بعض الدول العربية ، في كل غرفة يوجد تلفزيون ، ولكل فرد من أفراد العائلة تلفزيونه الخاص مع ملحقات الاستقبال الفضائي ، وهي أداة رخيصة الاستخدام بل شبه مجانية ، ومتوفرة على مدار الساعة ، ومتعددة الخيارات بوجود آلاف القنوات ..
هل هذه القنوات مشاريع تجارية ؟؟
نعم ، إنها مشاريع تجارية حتما .. ففيها أموال كبيرة موظفة ولا بد من عائد ربحي لها ، وهذه أبسط قواعد التجارة ..
لكنها تجارة استهلاكية ، تستهلكنا وتستهلك كل العاملين فيها ، وكل الذين نراهم على شاشاتهم ، وكل الذين يعملون وراء الكاميرات وأمامها وفي الكواليس
من هم ضحاياها ؟؟
ضحاياها بالملايين .. نحن وأسرنا وأطفالنا وأجيالنا وقضايانا ومستقبلنا وفكرنا وثقافتنا وعقائدنا وتراثنا .. كل هؤلاء ضحايا لهم بشكل مباشر أو غير مباشر ..
وثمة ضحايا أخريات هنَّ الوسيلة وهنَّ أدوات النصب الأساسية التي تقوم عليها استثمارات المستثمرين ، وأعتقد أن أسبابا كثيرة أجبرتهنَّ على أن يكنَّ سلعة رخيصة (ولا أريد الآن الغوص فيها) ، وبالتالي ، هنَّ ضحايا لرأس المال القذر ، الذي لا يكون إلا مستغِلا وفي أسوأ الظروف وأبشعها ..
وأعتقد أن المسؤولية الأخلاقية أولا تقع علينا إذا استجبنا لمغريات هؤلاء وسايرناهم في جريمتهم ، ووقفنا منها موقف المتفرج الأبكم ..
وتقع المسؤولية بكل أشكالها ، أيضا ، على من يملك أو يستثمر تلك القنوات ، فلولا أمواله القذرة أصلا لما عرض لنا ما يُعرض .. يشاركه في هذه المسؤولية : المخططون والمبرمجون والمشاركون والمستفيدون وأصحاب المصلحة والمحرضون والمنفذون ، وكل من له صلة منذ اللحظة الأولى للفكرة البشعة ، وحتى انتشار الوهج الأبشع لقنواتهم ..
وثمة مسؤولية أخرى تقع على الجهة التي تسمح لهم بذلك النوع من الإتجار الموسوم بشبهة التنكر لقيم مجتمعاتنا وعقائده ..
{وبعض هؤلاء المسؤولين عن أقمار البث العربية أدوا دورهم ( بأمانة وإخلاص ) ـ يشكرون عليه كثيرا ـ حين حاولوا وقف بث قناة المنار ، في وقتٍ عجز العالم كله عن إسكاتها ، وكان من أهم أهداف حرب العدو الصهيوني على لبنان عام 2006 إسكات قناة المنار ..
وكذلك حين أوقفوا بث قناة العالم مرات متعددة } ..
من هنا يجب أن ندرك ، كم يلعب الإعلام دورا خطيرا ، حتى يدفع بأعدائنا ليحاربونا وبأسلحتنا ، فيما بعض إعلامنا يشاركهم بتوجيه سهامه إلى نحورنا ..
أليس هذا الدور مشابها لدورهم في احتلال العراق ؟؟؟؟؟
السبت/10/نيسان/2010
التعليقات (0)