الإعلام الطبي العربي بين الحنطة والزيوان
من المهام الأساسية للإعلام الطبي والصحي هو أن يكون هادفا وموجها لتوعية المجتمع بشكل يتناسب مع ثقافته وتقاليده وطبيعة الأمراض الشائعة به.يبدو أنه لفترة طويلة أنفرد هذا الأعلام بالعمل وبدون رقابة أو تقييم بنشر ما يشاء من التقارير وبعيدا عن أي نقد وتوجيه محدثا بذلك في بعض الأحيان بلبلة صحية. وطبعا أنه من غير الأخلاقي طبيا نشر مقالات في الصحف أو المواقع حول البحوث الصحية والطبية بدون نتائج ثابتة وصادقة. فالمواطن البسيط عندما يقرأ أو يسمع مثل هذه الأخبار يمكن أن يتخذ قرارات على أساس معلومات ناقصة قد تضر بصحته. وفي عيادتي في بريطانيا كثيرا ما يحضر لي المرضى قصاصات من الجرائد أو من النت يستفسرون عن طرق جديدة للتشخيص أو العلاج مازالت في مراحلها الأولية وقيد البحث والدراسة.
فإلى أي درجة يجب أن نثق بالتقارير الطبية المنشورة هنا وهناك وما هي درجة مصداقيتها؟
الجواب جاء لحسن الحظ من استراليا في دراسة موسعة حول مصداقية الإعلام الطبي تم نشرها في موقع بولسون للأبحاث في آذار 2009. فقد درس الباحثون محتوى 1200 مقالة طبية نشرت في الصفحات الأولى من الصحف والمواقع الالكترونية والراديو والتلفزيون وقيمت مصداقيتها العلمية بموازين معترف عليها.، فكانت النتائج مفاجئة ومقلقة للجميع حيث أن 58% فقط من تقارير صفحات الجرائد الأساسية نجحت في هذا الاختبار، ثم 48% لمواقع الانترنت والمجلات الشعبية والمذهل أن اقل من ثلث البرامج الطبية التلفزيونية المنبثة نجحت في هذا التقييم.
طبعا هذا يجري في دولة يعتقد أنها تحترم وتحافظ على دقة الإعلام، فماذا يحدث يا ترى في أميركا و أوروبا؟ والجواب جاء في دراسة علمية موسعة من جامعة هونج كونج نشرت في تموز 2009، حيث قام الباحثون برصد و تقييم علمي ل 734 من الصفحات و البحوث الطبية والصحية المنشورة على شبكات الانترنت غير الحكومية وأيضا المقالات الطبية المنشورة في الصحف والمجلات المرموقة عالميا والتي تصدر باللغة الانجليزية لمدة 3 سنوات ونشرت مؤخرا في موقع بولسون.أورغ. والنتائج كانت مخيبة ومشابهة في بعض النواحي إلى البحث السابق حيث وجد العلماء أن تسعين في المئة من الأخبار عن نتائج البحوث نشرت بدون نقد أو تعليق وإن 57 ٪ فقط من القصص الإخبارية في الصفحات الأولى من الصحف هي ناضجة علميا ومكتملة وتستند إلى البحوث ولكن للأسف فقط ربع هذه الأخبار هي من مرتبة الدرجة العلمية الأولى أو الثانية . كما أن 31 ٪ من الأخبار المنشورة كانت تستند إلى رأي الخبراء فقط وليس للبحث العلمي المقارن. والطريف أنه 24 ٪ من المقالات الطبية المنشورة في الصحف كانت تتعلق بالمرأة ووجد العلماء ايضا أن 18 ٪ من هذه الأخبار لا تستند إلى البحوث المدروسة. إذا فهناك مشكلة كبيرة في دقة وشفافيته الأعلام الطبي التي يجب نضع لها الحلول. و إن انطباعي الشخصي عن المواقع الإنكليزية الصحية يتطابق مع هذه الأرقام حيث فيها الكثير من العيوب وعدم الأمانة في نشر الأخبار لهدف تجاري. وهناك نقطة هامة بأن الكثير من التقارير عن علاجات جديدة وخاصة عن السرطان لازالت في مراحلها التجريبية .
فإذا كانت وسائل الأعلام الغربية ناقصة ومقلقة أحيانا في إعلامها الصحي، فكم يا ترى نواقص الإعلام الطبي والصحي في الدول العربية ومن سيقيمها علميا؟ سؤال جريء يستوجب البحث العاجل من أجل أن نخدم المواطن العربي بأمانة.
لدى مراقبتي الطويلة للأخبار والتقارير الطبية العربية المنشورة أو المعلنة وجدت بأن غالبيتها مترجمة أو منقولة. أما من ناحية التنوع، فإن اختيارها ونشرها هو تبعي واعتباطي وبعيدا عن احتياجات مجتمعاتنا العربية. كما أن محتوى بعض التقارير شكلا وقالبا يتناسب مع مستوى طلاب الطب وليس المواطن العادي. فعلى سبيل المثال فرأت مؤخرا مقالة مترجمة ومعقدة في إحدى المواقع عن الكشف الوراثي لمرض سرطان نيوربلاستوما الدماغي وهو نادر جدا، بينما لا أتذكر أنني شاهدت موضوعا يناقش مرض التهاب السحايا الخطير والمنتشر في الدول النامية. فيجب إذا أن نقدم للمواطن معلومات عن أمراض شائعة في منطقته وقريبة من واقعه ومعاناته قبل أن نعلمه عن النوادر منها.
ماذا عن البرامج الصحية في القنوات العربية؟
للأسف وحسب قناعتي فإن أغلب البرامج التلفزيونية العربية تفتقر إلى الحيوية والتشويق وينقصها المستوى العلمي المطلوب. وحتى الآن فإن معظمها كلاسيكي وتقدم بشكل مقابلات مع الأخصائيين أغلبها جامدة ورتيبة. لكن هناك بعض المحاولات الجدية لدى بعض الفضائيات للتنويع في الأخبار الطبية والصحية إنما عرضها للأسف يتم أشبه بأداء نشرة الأخبار لذا تفقد جاذبيتها. كما أن بعضها هو يعرض بشكل سريع ليترك المشاهد في حيرة بعد نهاية البرنامج. وللمقارنة، فإن راديو و قناة الBBC1 في نهاية برامجها الصحية توجه المواطن إلى موقعها الإلكتروني للمزيد من المعلومات.
وماذا عن تقارير المواقع الإلكترونية؟
أخبار وتقارير الصحة والطب في مواقع الإنترنت أصبحت غزيرة جدا إلى درجة الفوضى والتخبط. ويبدو أن هناك رغبة وحماس كبيرة لدى بعض المواقع الإلكترونية لنشر كل ماهو جديد لتعبئة الصفحة الأولى وبغض النظر عن محتواها وعلاقتها بمجتمعنا. كما أن معظم ما ينشر هو منقول أو مترجم والكثير منها للأسف ترجم بشكل سريع وغير متقن أو بشكل ناقص بهدف الإثارة وهذا بالطبع يكون مشوشاً للقارئ. ولقد لاحظت أيضا بأن كثيرا من المواد الإخبارية بهذا الخصوص والمنشورة في المنتديات هي غير أمينة لدرجة الضرر والخطورة.
ومن الملاحظ أيضا أن ظاهرة القص واللصق هي شائعة جدا وبشكل مشوه أحيانا وغالبا بدون ذكر اسم المؤلف أو المرجع وخاصة في المنتديات الشخصية وهذا طبعا غير أخلاقي من الناحية الإعلامية. سؤالي هو: من المسؤول هنا عن توعية وإرشاد هذا الكم الهائل من المواقع لتوجيهها ولتحذير القارئ من نقص مصداقيتها؟
لقد وجدت ثغرات كثيرة ونواقص في إعلامنا الطبي يجب الالتفات إليها ولدي بعض الاقتراحات:
١. التدقيق في صحة المعلومات المترجمة والمنقولة قبل نشرها.
2. ذكر مصدر المقالة بشكل واضح.
3. عرض المقالات على لجنة طبية مهتمة بتعليم المواطن لتقييمها قبل نشرها.
4. أن يكون الإعلام الطبي والصحي العربي مختارا وموجها بشكل يتناسب مع المشاكل الصحية الشائعة مع الأخذ بعين الاعتبار التقاليد ومستوى الثقافة في الشارع العربي.
5. عرض الأخبار العلمية بلغة مبسطة ومختصرة ومشوقة ومع بعض التعليق.
6. إعطاء القارئ فرصة لتقييم المقالة من مستوى نجمة واحدة إلى خمسة نجوم لمعرفة ما يحبذه القراء.
7. إنشاء قناة فضائية طبية عربية يديرها صحفيون متخصصون في هذا الجال. فهناك مثلا عدد كبير جدا من القنوات السياسية والدينية وغيرها ولكن لا يوجد هناك أية قناة إعلامية صحية . لماذا؟ فهل صحة المواطن يا ترى هي أقل أهمية من باقي المواضيع؟
8. إنشاء موقع أنترنت عربي طبي صحي موحد لتثقيف المواطن. فلو احتاج المواطن مثلا أن يقرأ عن أمراض المعدة فإلى أي مصدر موثوق يلتجئ؟ ففي بريطانيا مثلا الأمر محلول فهناك موقع حكومي للتثقيف ونفس النظام موجود في أمريكا وغيرها من الدول المتقدمة حيث هناك مواقع معتمدة لتثقيف المواطن صحيا وبعيدا عن فلك المواقع التجارية. أنه مشروع أنساني وحضاري رائد يحتاج لدعم مؤسسة إعلامية مهنية أتمنى أن تتبناه إحدى جامعات الخليج بالتنسيق والتعاون مع الجهات المختصة في هذا المجال كما في بريطانيا مثل NHSDIRECT والتي لها خبرة كبيرة في هذا المجال وحسب خبرتي معهم فإنهم سيتجاوبون مع أي مشروع جدي.
ختاما لهذا العرض السريع أود أن أقول بأن الأعلام العلمي العربي بشكل عام هو بحاجة ماسة إلى من يسعفه من سباته العميق.
KENSHRINE.COM
د. فيليب حردو- لندن 2009
DR Philip Hardo FRCP
التعليقات (0)