الإعجاز العلمي في الكتب المقدسة
بدايتا لا بد من التنبيه إلى إن مراجع ومصادر هذا المقال كانت طويلة وكثيرة ومتشعبة مما يصعب علينا ذكرها جميعآ.....ونقدم أعتذارنا لكل من أقتبسنا منه ولم نذكر أسمة أو اسم كتابة أو مقالة.
قضية الاعجاز العلمي في الكتب المقدسة قضية قديمة ، فكل ديانة تحاول ان تثبت ان كتابها الديني قد تحدث عن " حقائق علمية" . وسمعنا مثل هذا الكلام من القساوسة عن الانجيل ، وسمعناه من الحاخامات عن التوراة.
في رأيي ان قضية الاعجاز العلمي للكتب المقدسة هي محاولة فاشلة للتضخيم من شأن الكتاب المقدس ،اذ من الواضح ان هذا المسلك يحمل النص اكثر مما يتحمل ، فأنت ببساطة تأخذ نصا ادبيا بلاغيا من القرآن ، ثم تقوم بلي عنقه ، وتسقط عليه تفسيرا معاصرا لا يناسبه البتة !!! اعطني أي نص أدبي ( شعر أو نثر لا فرق ) كي اجعل له عشرات الابعاد العلمية والنفسية والتاريخية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية ....الخ .
وأبدأ هذا الموضوع بتساؤل بسيط ، أعتقد أن الإجابة عليه لن تكون محل اختلاف بيننا. والسؤال هو:
لو كنتُ قادراً على رؤية المستقبل بشكل أو بآخر ، ومن خلال ذلك نقلتُ بدقة ما أراه من اكتشافات واختراعات وغير ذلك إلى الزمن الذى أعيش فيه الآن ، هل سيعتبر كلامى هذا إعجازاً علمياً فى زمنى وفى الأزمنة التالية له أم لا؟
أتمنى أن يقوم كل منَّا بالتفكير فى هذا السؤال للحظة أو اثنتين قبل الاستمرار فى القراءة ، مع الوضع فى الاعتبار أنى أعرف جيداً أن السؤال غير علمى فى المقام الأول ، إذ أنه يتعامل مع مسألة خيالية – أو على الأقل – غير علمية ، وهى (رؤية المستقبل).
أعتقد أنه والحال كهذا ، لا يوجد اعتراض حقيقى على كون إجابة هذا السؤال ستكون (نعم). أما لو كانت الإجابة (لا) ، فسأكون ممتناً لو عرفتُ كيف وصل القارئ لهذه الإجابة بشكل عقلانى وغير تعسفى ، ودون محاولة للعب على الألفاظ.
حسن .. الآن وقد طرحنا هذا السؤال ، سأتكلم قليلاً عن بعض الاحداث المثيرة في هذا الجانب والذي اطلعت ةعليها في مواقع الاجاز العلمي: منذ أيام استمعت إلى محاضرة لدكتور في الجيولوجيا استضافه مؤتمر "الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة" الذي عقد في الكويت خلال الأسبوع . وقال في مطلع حديثه ما معناه أنه بعث برسالة إلى اللجنة المشرفة على جائزة نوبل في العلوم يحيطها بأن العالمين الفائزين بجائزة الفيزياء لعام 2006 عن اكتشافيهما للبصمة الوراثية لنشأة الكون لم يأتيا بجديد . فقد تنبأ القرآن الكريم منذ 1400 سنة في عدد من آياته بهذه الحقيقة العلمية . ما لم يخبرنا المذكور هو عن رد اللجنة المشرفة . أو لماذا لم يسبق الفائزين إلى الجائزة إن كان يملك الدليل على هذا الاكتشاف العظيم ؟
هذا الدكتور واحد من فرقة طفيلية منتفعة ظهرت في السنوات الأخيرة . وهي فرقة تحاول تلبيس القرآن الكريم بالعلم الحديث وبمسمى خادع وجذاب : "الإعجاز العلمي في القرآن" . ومؤخراً أضيفت السنة النبوية المطهرة إلى هذا الباب الواسع . وجميع المنتمين إلى هذه الفرقة دون استثناء هم أشخاص لا صلة لهم بالاكتشافات العلمية أو العلوم الدينية من قريب أو بعيد . بل الأدهى أنه لا تنسب إلى أي منهم أية مساهمات ذات قيمة في المجال الذي يطرقونه ، وهو تطابق نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية ومعانيهما مع مفردات ومدلولات الاكتشافات العلمية . وهي فئة تروج لبضاعة هشة تضلل البسطاء وتنطلي على غير العلماء وتشبع أهواء تجار الدين . فتنحرف بمقاصد الدين وتعزز أوهام العظمة عند الكثير من المسلمين بأن كتاب الله الذي يؤمنون به مرجع للعلوم الحديثة بل سابقاً لاكتشافاتها . ولقد سمعنا من بعض هؤلاء كثيراً من هذه الغطرسة الفارغة مثلما ذكرنا في صدر المقال . في وقت هم أحوج إلى العمل الجاد والإنجاز الصادق في ميادين العلم والاقتصاد وفي عالم يتقدم بسرعة فائقة لا مكان فيه للمتخلفين .
وقوام مهنة هؤلاء الادعاء بتنبؤ القرآن الكريم بالكثير من الاكتشافات العلمية ، وأن ذلك برهان على سبقه في ميادين لم يكتشفها العلم الحديث إلا بالأمس القريب . وخطورة هذه الادعاءات أنهم تزج أقدس ما عند المسلمين ، وهو كلام الله القدير الذي لا يأتيه الباطل وسنة رسوله الكريم المطهرة ، في تنافس مع اكتشافات علمية وضعية يقوم بها علماء لا صلة للسواد الأعظم منهم بالإسلام ، وفي مختبرات تمولها وتشرف عليها جهات جلها أجنبي ولأغراض علمية واقتصادية بحتة .
وفضلاً عن ذلك فإن هذه الادعاءات تتناقض مع تراث الإسلام وإيمان المسلمين المرتكزين على أن القرآن الكريم هو بحد ذاته معجزة الإسلام التي نزلها الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . والمعجزة لغة هي حدث خارق ولا يتكرر . وهي غير قابلة للتفسير حسب قوانين الطبيعة وإلا فقدت مغزاها الإعجازي . وهي فوق قدرات العقل البشري . لذلك فالبحث عن الإعجاز العلمي في نصوص القرآن الكريم فيه إيحاء منكر – وغير مقصود بالطبع – بأن القرآن الكريم يحتاج إلى برهان إضافي لإظهار إعجازه أمام العالم . وهنا تبرز إشكالية . فالمسلمون حكماً يؤمنون بكتابهم الكريم كما هو منزل على رسولهم العظيم . وهو بذاته معجزة إلهية لذلك هم ليسوا بحاجة إلى برهان بإعجازه العلمي . ولن يزيد ذلك إيمانهم المطلق قنطاراً . أما غير المسلمين فلا يعنيهم الإعجاز العلمي للقرآن الكريم . ولم يبرهن أي من المشتغلين بأبحاث الإعجاز العلمي على دخول واحد إلى الإسلام بسبب نتائج أبحاثهم . بل جل المتحولون إلى الإسلام هم من الباحثين عن الجوانب الروحية والقيمية والعدالة . وجميع هؤلاء لا تعنيهم الاكتشافات العلمية ومدى تطابقها مع آيات القرآن الكريم .
يُرجع الباحثون في الإعجاز العلمي للقرآن جذوره إلى الإمام الغزالي الذي اعتبر أن القرآن يحوي "مجامع علم الأولين والآخرين"، و"هو البحر المحيط، ومنه يتشعّب علم الأوّلين والآخرين"، ويعتبر الغزالي أن جميع العلوم داخلة في أفعال الله وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله، فمقصد الغزالي من مقولته التعرف على الله من خلال القرآن وما اشتمل عليه من أصول العلوم ومفاتيحها، ثم جاء الرازي ليطبق فكرة الغزالي ويوظف العلوم في معرفة أسرار القرآن والوجود، ولم يسمِّ ذلك تفسيرا أو إعجاز علميا، إنما كان جاريا على نسق علماء كل عصر في الاستفادة من معارف زمنهم وتوظيفها في اختصاصاتهم.
ولم يظهر تعبير "الإعجاز" أو التفسير العلمي إلا بعد اكتشاف العالم الإسلامي الهوة الساحقة بينه وبين الغرب في مجال العلوم خصوصا، فتمت العودة إلى القرآن كوسيلة لاستعادة الثقة بالذات والتعويض عن التأخر العلمي لدى المسلمين، لذلك يعلل طنطاوي جوهري -صاحب أول وأشمل تفسير علمي- عمله بأنه رأى "أن شباب الأمة المسلمة وبعض أجلّة العلماء، عن العلوم الكونية معرضون"، فوضع تفسيره عسى أن يكون سبيلا ترتفع به مدنية المسلمين إلى العُلا فتفوق الفرنجة في الزراعة والطب والمعادن والحساب والهندسة والفلك وغيرها من العلوم والصناعات".
كن تفسيره قوبل بالرفض؛ ليس لمبالغاته فقط، وإنما يرجع إلى علة أخرى هي أثر ذلك السلبي على القرآن لا من حيث المبدأ، وإنما من حيث الاستناد إلى نظريات علمية لم تصل إلى القطع فيتم بتغيرها نقض التفسير، وبالتالي الطعن بالقرآن، لذلك قيد المعترضون التفسير بأن يكون بالحقائق العلمية، فمعظم الجدل حول مشروعية التفسير العلمي لم يكن في جوهره موقفا من المبدأ، إنما من نماذجه وممارساته، وهذا يقتضي أن يتجه النقاش فيه إلى مسألة أعمّ -كما يرى أحميده النيفر- وهي التفسير الأيديولوجي للقرآن والذي لا يختلف عنه التفسير العلمي في جوهره.
وفي العقدين الأخيرين، تصاعد صوت خطاب جديد مختلف عن تلك الأشكال السابقة، بدأ مع دعاة الإعجاز والوعاظ وسرى إلى بعض كتب علوم القرآن. وكانت سمة هذا الخطاب أو التوجه التأكيد على "إعجاز" القرآن من مدخل العلوم الطبيعية ومقولاتها السائدة في هذا العصر.
وما
هذا التوجه الجديد لدي علماء المسلمين والمسمي بالإعجاز العلمي ومحاولة جر القرآن إلى المختبر العلمي، ووضعه تحت مجهر العلماء؛ بهدف البرهنة على موافقة العلم للقرآن وإثبات أنه معجِز! إلا محاولة أخيرة فاشلة لصد الرسالة الإلهية الجديدة للإنسان والمتمثلة في (العلم والمعرفة.) والذي سنوضحها لاحقا في بحثنا هذا في باب العقائد.
وقد بدأ الشيخ عبد المجيد الزنداني في أوائل الثمانينيات يقرع أبواب الإعلام، ويدعو إلى "الإعجاز" بصوت إعلامي عال، حيث أسس "الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة"، واكتسب خلال هذه الفترة صفة العالمية، وأصبح محط اهتمام العديد من وسائل الإعلام العالمية الدينية الإسلامية بأبحاثه ومناظراته مع بروفسورات الغرب". وكانت المساجد وقاعات المحاضرات في اليمن وغيرها المنفذ الذي تسللت منه وسائل الإعلام – وخاصة الفضائيات – إلى دعوة الزنداني.
و قبل التطرق إلى الطريقة التي تُتداول بها أطروحات الإعجاز العلمي للقرآن ، أود الإشارة إلى التألق الإعلامي، الذي صاحبه "المجد التليفزيوني" والذي قد توهج في التسعينيات مع دخول د. زغلول النجار – ذي الخبرة الدعوية والعلمية معاً- للفضائيات، وانتشاره الإعلامي في مصر على المستوى الرسمي (التليفزيون المصري والصحافة القومية المصرية)
تم تدشين نظرية الإعجاز العلمى فى كتب الحديث بواسطة د.زغلول النجار فقد كان أول وأبرز صوت يعلن عن هذا الإكتشاف المذهل، فقد كان أستاذه مصطفى محمود أكثر حذراً ولم يحاول الإقتراب من هذه المنطقة الشائكة لأنه كان قد فطن إلى أن التدخل فى منطقة السنة النبوية بنظريات الإعجاز سيتحول إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر، فهى منطقة ألغام شديدة الإنفجار لأن السنة النبوية فى النهاية نتاج بشرى فى معظمها وهذا لايعنى إنكاراً للسنة النبوية وإلا ماكان الصحابة يراجعون النبى بسؤالهم الشهير :أهو الرأى أم الوحى ؟، ولذلك فالأخطاء العلمية واردة ولاعيب فيها ولانقيصة، ذلك لأن الرسول –صلعم – كان يتحدث بمفردات عصره وأفكار وعلوم زمنه وإلا مافهمه ولاإقتنع بنبوته أحد فى هذه البقعة الجافة القاحلة علمياً قبل زراعياً، وكانت جرأة د.زغلول صادمة حين بدأ بحديث الذبابة الشهير محاولاً منحه صبغة علمية فقد أطلق زغلول النجار فى 11 نوفمبر 2003 فى جريدة الأهرام صفحة 22 قنبلة كانت أقوى من إحتمالى ولاتحتمل السكوت، فقد تحدث عن حديث الذبابة وجعل منه كشفاً علمياً وفتحاً بيولوجياً على الغرب الجاهل أن يحلله ويفتح معامله لإستقباله والإحتفاء به، والحديث يقول "إذا وقع الذباب فى شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن فى إحدى جناحيه داء وفى الأخرى شفاء "، ويعلق قائلاً أنه من الناحية العلمية ثبت أن الذباب يتغذى على النفايات والمواد العضوية المتعفنة حيث تنتشر الفيروسات والبكتيريا والجراثيم ولكى ينفرد ربنا بالوحدانية خلق كل شئ فى زوجية واضحة فخلق البكتيريا وأَضدادها وقد أعطى الله للذباب القدرة على حمل الفيروسات والبكتيريا على جناح والمضادات على جناح، وأكد الدكتور زغلول على أن مجموعات من أبحاث المسلمين قامت بإجراء أبحاث على أنواع مختلفة من الأشربة وغمست الذباب فى بعضها ولم يغمس فى الباقى وعند الفحص المجهرى إتضح أن الأشربة التى غمس فيها الذباب خالية من كل الجراثيم المسببة للمرض !!، وبالطبع لايصمد هذا الكلام أمام أى تحليل علمى والسؤال ومادام الدكتور زغلول بهذه العبقرية لماذا لم ينشئ لنا مصنعاً إسلامياً لإستخراج المضادات الحيوية من أجنحة الذباب ويكفينا شر الجات وغلاء المضادات الحيوية؟، والمدهش أن هذه البديهية كنا قد تصورنا أنها حسمت فى العشرينات حين تبنى المفكر الإسلامى محمد رشيد رضا فى مجلته المنار ذات التوجه الإسلامى فكرة أن هذا الحديث غريب ويجب ألا نتمسك به حين قال فى المجلد 29 الجزء الأول " حديث الذباب المذكور غريب عن الرأى والتشريع، فمن قواعد الشرع العامة أن كل ضار قطعاً فهو محرم قطعاً، وكل ضار ظناً فهو مكروه كراهة تحريمية أو تنزيهية على الأقل"، وكان بعض الشيوخ قد كفروا د.محمد توفيق صدقى حين هاجم هذا الحديث فى العشرينات فى نفس المجلة وقد دافع عنه رشيد رضا قائلاً " ذلك المسلم الغيور لم يطعن فى صحة هذا الحديث إلا لعلمه بأن تصحيحه من المطاعن التى تنفر الناس من الإسلام، وتكون سبباً لردة بعض ضعفاء الإيمان، وقليلى العلم الذين لايجدون مخرجاً من مثل هذا المطعن إلا بأن فيه علة فى المتن تمنع صحته، وماكلف الله مسلماً أن يقرأ صحيح البخارى ويؤمن بكل مافيه وإن لم يصح عنده " لذلك لجأ المُحْدَثون من المشتغلين بالإعجاز العلمي إلى إعلان التقيد بالحقائق العلمية القاطعة التي لا رجعة فيها، أما النظريات العلمية فاستخدموها في التفسير العلمي دون الإعجاز (كما يقول زغلول النجار/ موقع أهل التفسير). المشكلة الأساسية فى مدَّعى ومتبعى الإعجاز العلمى فى الأديان هو تصميمهم الذى لا يقبل الجدل على أن هذه الإعجازات مجال البحث لا يتطرق إليها الباطل أبداً ، متصورين أنه لو تم دحض أحد هذه الإعجازات فإن هذا يعنى دحض الدين ذاته. طبعاً هذه رؤية خاطئة تماماً.
ونجد فى المقابل تمسُّك اللادينيين بأن أى وكل إعجاز علمى مزعوم هو خاطئ ، وقد ظهر لى بوضوح أن كثيراً من الزملاء اللادينيين لا يكاد يرى دينياً يذكر إعجازاً علمياً إلا وقام بتكذيبه أولاً ، ثم البحث بعد ذلك عن أدلة هذا التكذيب. أنا أعتقد أن الموقفين كليهما خاطئ ويحتاج لتعديل. لكن على كل حال ، ليس هذا هو محور النقاش فى هذه البحث.
هنا سأحاول أن أناقش فكرة الإعجاز العلمى فى الأديان بنظرة شمولية خارجية نوعاً ، مع مقارنتها ببعض الظواهر الأخرى التى سأقوم بذكرها هنا ، ثم أنهى الكلام بمحاولة استقراء المعطيات الموجودة والوصول بها إلى نتيجة قد تكون أرضاً محايدة يقف عليها الدينيون وغيرهم فى نقاشاتهم حول هذا الموضوع.
البحث عن براهين الإعجاز يعرض معتقدات المؤمنين الثابتة والمستقرة للتبدل في ظل تغير مجريات الاكتشافات العلمية ومعانيها . فالاكتشافات تتعاظم وتتسع طارقة مجالات جديدة . وأحياناً كثيرة ينسخ بعضها الآخر أو يفتح مجالاً لم يكن في الحسبان أو البيان سابقاً . فهكذا تتجدد معرفة الإنسان في الحياة والكون وظواهرهما من حوله . والعلم الحديث يقوم على الشك بينما العقيدة الدينية تقوم على الإيمان باليقين . فديدن منهج العلماء الحقيقيين هو التشكيك والتحري الدائم عن البدائل . فما هو صحيح اليوم في كافة العلوم قد تأتي نظرية أو اكتشاف جديد ينسفه من الأساس أو يبدله أو يطوره . هكذا تتقدم العلوم ويتبارز العلماء . فلا ثابت لديهم إلا ما تبرهن عليه التجارب القاطعة وفي حينه فقط . ولا يجد العلماء الأحقاق حرجاً في ذلك .. بل متعة في التحدي الذهني والمعرفي . فمن أساسيات منهج البحث العلمي أن آلاف الشواهد والنتائج الإيجابية ليست بالدليل الكافي أو القاطع على صحة نظرية ما . فنتائج تجربة متقنة سلبية واحدة فقط قد تكون كافية لإسقاط هذه النظرية أو إثارة الشبهات حولها . فتتكرر المحاولات والتجارب حتى يستقر الرأي العلمي . وإلى حين فقط .
والإيمان الديني لا علاقة له بالدليل المادي ، وهو في غنى عنه . والمؤمن يعيش حياة روحية خاصة تربطه بخالقه دون وسيط . ويعيش حياته راضياً عن قناعة لا تؤثر فيها تبدلات الحياة المادية من حوله . فالمؤمنون الإحقاق في كل الديانات والمعتقدات ، بما فيهم المسلمون ، لا يجدون حرجاً في هذا المنظور المتوازي للحياة حياة الإيمان المطلق بالمعتقدات الدينية وطقوسها وقيمها وبعدها الروحاني .. جنباً إلى جنب مع الاستكشافات العلمية والاستمتاع بما تثيره من فضول والاستفادة مما توفره من تسهيلات لحياتهم . ولا يجد هؤلاء حاجة إلى برهان على صحة معتقداتهم من قبل العلماء . وكثير من العلماء ينتمون إلى معتقدات دينية مختلفة ويمارسون طقوسها بينما مهنتهم اليومية هو البحث العلمي عن أسرار الحياة عبر أدواته المادية . بل يجد المؤمنون أن في الاكتشافات العلمية المذهلة (مثل النسبية والجينات والفضاء والكيمياء والاتصالات) تجليات على صنع الخالق .
لذلك لا يستقيم ربط النظريات والاكتشافات العلمية وشواهدها بالنصوص الدينية الثابتة ومعانيها . بل من يحاول ذلك فقد أساء إلى النص الديني الثابت والمعتقدات المرتبطة بها . وعرض عقيدة المؤمنين إلى الاختلال والتشكيك مع تبدل النظريات والاكتشافات . والجريمة تتضخم عندما نعرف أن الذين يحاولون البحث عن الإعجاز العلمي في القرآن ليسوا بباحثين علميين حقيقيين (رغم تصدير أسمائهم بحروف الدال) وإنما هم من يتعاطون البحث القسري عن التوافق اللغوي وتفسير المعاني بين نصوص القرآن الكريم والترجمة العربية للاكتشافات العلمية . فيختصرون البحث العلمي التجريبي بالبلاغة اللغوية . وشتان بين النهجين .
يغلب على نشاط المشتغلين في "الإعجاز العلمي" غياب المنهج المتكامل . فنشاطهم يقوم على الانتقائية المتفرقة للنصوص وتحوير معانيها لمطابقة مقاصدهم . فمن علوم الكون الواسعة لا يختارون إلا قصص الكواكب والنجوم . والجيولوجيا عبارة عن زلازل وجبال . ويختزلون علوم الطب المتشعبة في علم الأجنة والتداوي بالحبة السوداء والحجامة وفوائد العسل . بينما نجد هؤلاء أنفسهم يهرولون إلى أحدث مستشفيات العالم للعلاج عندما يصيبهم مرض .
وفي الغالب، تميل معظم الأطروحات الإعلامية في الخطاب الإلكتروني لقضية الإعجاز إلى التمجيد من دلالة الإعجاز على بلاغة القرآن وتقدم المسلمين خاصة وأن الجهود "الإعلامية" النقدية لفكرة "الإعجاز العلمي" مشتتة، وقليلاً ما تجد مثل جهود (صفحة الإسلام وقضايا العصر), في تكثيف نقد فكرة الإعجاز في شكل إعلامي واضح ومتسع لكبار العلماء ذوي المصداقية، لأن مطارحة الأفكار الإعلامية الرائجة، تحتاج إلى صك وصياغة رسائل إعلامية "موثوقة" و"مُلحة".
تهدف هذه الورقة إلى التعرف على دور الإعلام - وتحديداً الانترنت - في تسويق الفكرة واستقطاب مريديها، ونظراً للاقتباسات الكثيرة في مواقع الإعجاز بعضها من بعض، واعتماد بعضها على ذات المصادر، سأعكف على دراسة خمسة مواقع فقط، وأترك البعض الآخر لمن يود الاطلاع عليها، في قائمة الروابط الخارجية.
والمواقع الخمس هي:
موقع الدكتور زغلول النجار
الهيئة العالمية للإعجاز العلمي
موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
المدخل الدعوي الماضوي العاطفي
يصوغ المؤمنون بفكرة "الإعجاز العلمي" رسائلهم الإعلامية على شكل قالب دعوي بعيد كل البعد عن قالب البحث العلمي الذي يتسم بخصائص جوهرية هي: المنهجية، والحيادية، والرغبة في الوصول إلى "الحقيقة".
دعونا، نبدأ من مقالات الدكتور زغلول النجار، لأنها الأكثر رواجا إعلامياً، فضلا عن تبني العديد من مواقع الإعجاز لنشرها، ومحاكاتها أسلوبا ومنهجاً. يعتمد النجار في طرحه للموضوعات المتخصصة عن الإعجاز على تقنية ثابتة في الكتابة، وهي:
- اختيار آية (تتصل بجسد الإنسان أو معالم الكون) لتتصدر عنوان المقال.
- اعتماد مقدمة طويلة جدا (تقترب من نصف مساحة المقال)، عبارة عن معلومات عن السورة التي نزلت فيها الآية (عنوان المقال)، وهل هي مدنية أم مكية، والركائز الأخلاقية والعقدية التي طرحتها السورة إجمالاً وتفصيلاً.
- المزج في النصف الثاني من المقال بين المعلومات العلمية (غير موثقة المصادر) والأحاديث النبوية والآيات القرآنية (مع الحرص التام على نسبتها إلى المصادر التراثية)، ويتم تناول المعلومات العلمية على أنها حقائق مؤكدة غير قابلة للشك أو المراجعة.
- خاتمة المقالات (التي يسميها أبحاثا علمية!) عبارة عن دعاء وصلاة على النبي