الدين ليس مقدساً لكن مجموعة القيم والتعاليم الدينية هى التى تؤهلنا وترفعنا إلى مستوى قداسة الله الذى أعطانا تلك التعاليم
، لكن ذلك التقديس الزائف الذى يصبغه رجال الدين على الدين وتعاليمه هو الذى يعوق قبولنا وبحثنا لفهم مشيئة الله الحقيقية التى أعطاها لنا بالوحى المقدس فى الإنجيل ، والتى تعوق أيضاً الأعتراف بما يحدث فى حياة البشر من إغتصاب وإهانة وقتل وتشريد بأسم قداسة الدين وسلطة رجاله الذين ساهموا بمواقفهم فى الكثير من حروب العالم وعدم رغبتنا فى فهم أكثر مما ورثناه ونتلقاه من أجدادنا ورجال الأديان الحاليين دون وجود رغبة داخل الفرد فى دراسة ومعرفة ما وراء تلك الكتابات والأقوال المتداولة التى لا تؤدى إلى معرفة يقينية عن الحق الذى يريد الله منا أن نسير عليه ، بل ينصهر فى تلك الكتابات البشرية الحق والباطل الخير والشر الصحيح والبدعة لأنها كتابات إنسانية لأفراد كانوا وثنيين وفلاسفة وكانت كتاباتهم وشروحاتهم تعمل على التوفيق بين العقائد الوثنية وبين العقائد المسيحية .
نسترشد فى البداية بقول السيد المسيح كلام الحق الذى يضع لنا القاعدة الذهبية فى عدم قبولنا بالبابوية " .. وأما أنتم فلا تدعوا سيدى لأن معلمكم واحد المسيح وأنتم جميعاً إخوة ولا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد الذى فى السموات .. " إنجيل متى 23 : 8 ، 9 .
فى الإصحاح الثالث والعشرين " لإنجيل متى " يستمر السيد المسيح فى تقديم الويلات الكثيرة لنظام الكهنوت اليهودى للكتبة والفريسيين الجالسين على كرسى موسى وأدانهم على سلوكهم الذى لا يتفق وتعاليم الله الحقيقية ، وواضح من قول السيد المسيح أن المؤمن الحق لا يجب أن يلقب رجل ما بصفة دينية مثل سيدى أو ما يقابلها من ألقاب دينية أخرى لأن القاعدة هى أن المعلم الوحيد هو المسيح وأننا جميعاً إخوة ، كذلك أكد السيد المسيح على أن لا ندعو أحداً بلقب أبونا أو أبانا أو بابا لأن الله واحد .
كانت هذه هى مبادئ وقيم المسيح والرسل من بعده والتى نستشف منها قيم وأسس ومبادئ المسيحية الحقة وليس قيم ومبادئ بعض المسيحيين الذين طوروها من خلال خلفياتهم الدينية المختلفة الوثنية وصاغوها فى عباداتهم المختلفة خلال العصور الأولى لنشأة المسيحية ، إن ألقاب مثل : البابا أو وكيل الله على الأرض أو خليفة الله أو خليفة بطرس أو الحبر الأعظم وبطريرك ورئيس الكهنة ونائب المسيح وصاحب القداسة وصاحب الغبطة ، كلها ألقاب غير إنجيلية أى ليست من تعاليم الإنجيل ولا يرضى بها الله ، فالسلطة الكهنوتية التى أبتدعها المشرفين على الكنيسة الأولى بخلفياتهم الوثنية لم يعترف بها حتى بطرس نفسه الذى يستشهد به الكاثوليك للقول بأنه خليفة المسيح والرسل ، لنقرأ ما يقوله فى رسالته الأولى 5 : 1 " أطلب إلى الشيوخ الذين بينكم أنا الشيخ رفيقهم .. " فهو لا يطلب من فرد واحد يتسلط على الجماعة بل يطلب من الشيوخ ، ويشير إلى نفسه بأعتباره الشيخ رفيقهم فى الخدمة وليس بأعتباره البابا أو رئيس كهنة أو أسقف أو حتى قائد للرسل أو للمسيحيين .
أتوقف بفكرى قليلاً أمام هذه البابوية والتى نتعرف عليها جيداً من خلال كتب التاريخ أنها سلطة دينية وثنية لا علاقة لها لا بالله ولا بالمسيح أبتدعها رجال الدين فى عصور المسيحية الأولى عندما بدأت الكنائس الشرقية والغربية تتنازع فيما بينها من يملك السلطة الأعلى أو الكلمة العليا أو المرجع الدينى الأكبر فى المسيحية، وكان الأمبراطور الرومانى يفرض الديانة الوثنية على سكان إمبراطوريته باعتبارها الديانة الرسمية للبلاد ، وكان الإمبراطور نفسه يلقب بالحبر الأعظم أى رئيس الكهنة الوثنيين .
كلمة بابا جاءت من الكلمة اليونانية باباس والتى تعنى أب ، وهو لقب أخذه المسيحيين من النظام الدينى للديانة الوثنية الرومانية ، وكان أسقف روما يلقب بهذا اللقب بأعتباره أعلى سلطة دينية للمسيحيين كخليفة لبطرس رسول المسيح ، بالرغم من أن بطرس لم يفكر لحظة فى تبشيره وفى عظاته وخطاباته المختلفة أن يشير من قريب أو من بعيد إلى قول المسيح له " أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبنى كنيستى .. " إنجيل متى 16 : 18 لأن هذه العبارة لا تعنى سلطان أو خلافة دينية ، لكن الكاثوليك أو رجال الدين فى روما بأسلوب فلسفى وثنى أبتدعوا موضوع الخلافة الرسولية وهيمنة رسول على بقية الرسل أو على جميع الكنائس المسيحية فى العالم أنذاك ، هذه العبارة فهمها الجميع فى حدود المعنى الذى أراده المسيح وفهمه التلاميذ والرسل ولم يتجرأ أحد من الرسل بأن يقول بتفسير أو شرح مغاير لما قاله السيد المسيح ، لذلك نجد أن كل ما جاء فى سفر أعمال الرسل ورسائل الرسل المختلفة تلك التى تشرح الفترة بعد قيامة السيد المسيح من بين الأموات وبدء الكرازة المسيحية خالية تماماً من أية إشارات لألقاب دينية .
لكى نتتبع بأكثر تفصيل نقرأ على سبيل المثال أول إجتماع أو مجمع لجماعة المؤمنين المسيحية فى العصر المسيحى الأول عندما أجتمعوا فى أورشليم لمعالجة مشكلة هل يجب ختان غير اليهود أم لا ، نقرأ فى الأصحاح الخامس عشر لسفر أعمال الرسل أن جماعة المؤمنين " رتبوا أن يصعد بولس وبرنابا وإناس آخرون إلى الرسل والمشايخ إلى أورشليم من أجل هذه المسألة " ، " ولما حضروا إلى أورشليم قبلتهم الكنيسة والرسل والمشايخ .. " نلاحظ فى هذا الإصحاح تكرار عبارة الكنيسة والرسل والمشايخ مما يؤكد على وحدانية التعليم المسيحى ووحدانية النموذج الذين كانوا يسيرون عليه أى نموذج المعلم يسوع المسيح رأس الكنيسة .
واضح أن فى العصر الأول المسيحى لم يلقب الرسل أنفسهم بلقب أساقفة أو بابوات أو غيره من الألقاب ، وفى نهاية المجمع المسيحى الأولى نقرأ سفر أعمال الرسل 15 : 22 يقول " حينئذ رأى الرسل والمشايخ مع كل الكنيسة ... " واضح أن الشيوخ والرسل الذين يقومون بتعليم المؤمنين أى الكنيسة " كلمة كنيسة تعنى جماعة المؤمنين " أتخذوا قراراتهم معاً بصورة جماعية ، يعنى لم يكن هناك قائد لجماعة المؤمنين أى للكنيسة بمعنى أسقف أو بابا بل الجميع كانوا متحدين فى إخوة مسيحية مثالها السيد المسيح ، والذى قرأ قرارات الإجتماع كان يعقوب الرسول وليس بطرس ، وتأكيداً لهذا المبدأ كتبوا رسالة إلى جماعة المؤمنين المسيحية " وكتبوا بأيديهم هكذا : الرسل والمشايخ والإخوة يهدون سلاماً إلى الإخوة .. " أعمال 15 : 23 بأستمرار لم يكن هناك قائد أو زعيم روحى للجماعة بل رسل ومشايخ مشرفين على تنظيم الجماعة المسيحية الجميع واحد وكان المسيح هو رأس الكنيسة أو جماعة المؤمنين المسيحيين .
بعد إنتهاء العصر الأول المسيحى بدأ يظهر تأثير الفلسفة اليونانية على تعاليم ومعتقدات المسيحيين نظراً لأنهم كانوا قلة وسط شعوب وثنية يتأثرون بخلفياتهم الدينية ويحاولون تآويلها وتكييفها لتتناسب مع العقيدة المسيحية وإيمانهم الجديد ، ويكفى أن نذكر هنا الإمبراطور قسطنين ودوره فى مجمع نيقية سنة 325 ميلادية السياسى والضغط الذى قام به على الحاضرين لقبول عقيدة الثالوث ، تلك العقيدة التى أرتد عنها قبل أن يموت .
بمرور الوقت قام القادة الدينيين الذين تشبعوا بمحبة الرئاسة والكراسى والمناصب الدنيوية بتكوين هيئات دينية ووضعوا الأسماء اليونانية مثل شماس وقس وأسقف ورئيس أساقفة وبطريرك وبابا ، وطوروا وظائفهم وإزدادات إنقساماتهم العقيدية حتى وصل الأمر إلى نشأة الطوائف والألقاب الدينية وإهمال تعليم المسيح ، لكن الجميع تقبلها ولم يناقشها ولم يشكوا لحظة فيها لأنهم لم يفكروا فى صحتها أو نقدها بل كان تسليمهم المطلق لكل ما يقوله هؤلاء الكهنة أو رجال الدين هو السبب الرئيسى فى تشويه وجه المسيحية الحقيقى ، لذلك نحتاج فى زمننا الحاضر أن نرجع إلى مسيحية الإنجيل مسيحية المحبة والسلام مسيحية الخلاص من قيود العبودية لننال الحرية حسب معرفة خالقنا العظيم .
لن أتكلم عن الفساد والإنحراف الذى صاحب تاريخ البابوية ، فهذا يعرفه كل باحث ودارس بل وكل قارئ للتاريخ ، لكن الذى يحتاج أن يقف عنده كل فرد هو التأمل فى السلطات الدينية ومدى مطابقتها مع كلام الله ، وأن نرجع إلى الأصل لا لكى نجادل أو نتهم ونتبادل الإساءة ، بل لكى نرجع إلى الله بقلب يعى الحقيقة الإلهية التى أراد الله أن تصلنا عن طريق يسوع المسيح ، وأن لا نقف مكتوفى الأيدى ننظر بأستعجاب قائلين : هل يعقل أن العالم كله يجهل هذا الكلام ! يكفى أن نقرأ ما قاله الوحى فى الإصحاح السابع عشر لأعمال الرسل الآية الحادية عشرة " وكان هؤلاء أشرف من الذين فى تسالونيكى فقبلوا الكلمة بكل نشاط فاحصين الكتب كل يوم هل هذه الأمور هكذا ؟ " لقد أعتبر هؤلاء المسيحيين الجدد أو الوثنيين أشرف من الذين فى تسالونيكى لأنهم لم يجلسوا مستمعين أو متفرجين بل قبلوا كلام الإيمان المسيحى بكل نشاط وفحصوا كل الكتب الدينية وقارنوا ما قيل لهم بما هو مكتوب ليتحققوا من صحة هذه الأمور التى سمعوها من رسل المسيح .
إذن تحتاج الجماعة المسيحية إلى إصلاح نفسها لتعود نموذجاً إنجيلياً ناظرين إلى نور المسيح وليس إلى نور الفلسفة ونور العالم الذى أعمى أفكار الكثيرين وجعلهم يجلبون عادات وتقاليد دينية غريبة عن روح الإنجيل المسيحى ويمارسونها دون النظر فى إتفاقها مع نصوص الوحى المقدس .
إنه تحدى كبير للإنسان المسيحى فى عالم اليوم أن يأخذ زمام المبادرة ويواجه نفسه وضميره بالحقائق الإنجيلية فى كتابه المقدس ويقارنها بالتى يسمعها ويراها فى تراثه أو فى حياته اليومية ، وأن لا يقف ساخراً أو مستغرباً بل عاملاً دارساً كلمة الله بكل نشاط وأن لا يعطل مواهب الله فيه بل أن يفكر بروح متواضعة فى كل شئ دون أن يضع أحكام مسبقة على كل ما يقرأه بل يجب الأخذ فى الإعتبار أن أزمنة الجهل قد أنتهت ونعيش فى عالم تكثر فيه المعرفة وعلينا مسئولية فحص كل ما نؤمن به وما نعتقد فيه ليكون كل شئ حسب فكر المسيح الخلاصى وليس حسب فكر العالم ، وكل إنسان له حرية الأختيار كما قال السيد المسيح : " من له أذنان للسمع فليسمع " .
2005 / 4 / 19
التعليقات (0)