يدل الواقع التعليمي في بلادنا، والوضع المتخبط الذي وصل إليه في السنين الأخيرة على أن حقنة الميثاق الوطني للتربية والتكوين كانت موجعة دون أن تحد من انتشار فيروس الفشل والعشوائية داخل الميدان التعليمي، ثم نما هذا الفيروس خلال العشر سنوات منذ بداية أجرأة الميثاق وتطبيقه. فبينما تضعف ملكات الطفل التلميذ، وتقصر وسائله الخاصة لقابلية التعلم والتمدرس، يكون الميثاق قد سلخ عشر سنوات من عمره دون أن يترك أثرا واضحا وجليا في الساحة التعليمية .
ومن خلال الملاحظات الأولية، ومن خلال كوني رجل تعليم، ومتابعاتي للتغيرات التربوية في الساحة التعليمية، نجد أن بنود الميثاق الإدارية _أي القوانين والإجراءات التي تخص الجانب الإداري_ قد تم تفعيلها على حساب تأجيل الجوانب التربوية والبيداغوجية التي تخص بالأساس الطفل والمدرسة .
وقد لاحظ بعض الدارسين والمتتبعين للشأن التعليمي ببلادنا هذا القصور في التفعيل والأجرأة الواقعية، بل وجهوا انتقادات واضحة ومعارضة علنية لبنود هذا الميثاق، لكنها ظلت حبيسة الورق والعقول المؤمنة بها دون الأخذ بعين الاعتبار لها في هذا الموضوع الحساس والمهم بالنسبة للجميع، وخاصة أن المسألة التعليمية تأتي من بين أولويات الدولة والحكومة بعد مسألة الوحدة الترابية، لكن للأسف الشديد، تم القفز عليها، للانهماك في مسائل أخرى أبسط منها، إن لم نقل أسخف منها .
في الكثير من المناسبات الرسمية وغير الرسمية، نسمع الشعارات حول رفع مستوى التعليم في بلادنا وفي الكثير من المنتديات يتم تبني الخطط والبرامج للإصلاح التعليمي. ومهما كان الاستعداد الفطري لدى الإنسان، وحتى تبني الخطط والشعارات والبرامج لديه دون أجرأتها على أرض الواقع يبقى ذلك الكلام الذي قيل والذي سيقال لا محالة، مجرد لعب بالمصطلحات لا توجد نوايا حقيقية وراءه لحصوله على الأرض.
إن الأسرة، والفاعل التربوي، والطفل التلميذ، كل هذه الأطراف تتمنى أن يكون الفعل أكثر من القول، فالمحيط الكوني الذي يعيشون فيه ويغري بالأحسن وطلب الأفضل لمعرفته وتعلمه، وتقديمه للطفل التواق إلى معرفة محيطه بكل شفافية. وإن اكتساب الطفل للمعرفة وتمكنه من التعلم الذاتي في ظل التوجيه والتأطير التربوي الفعال، لجدير بالعمل على تفعيله أكثر، والابتعاد عن الشعارات الفارغة من المحتوى والمادة المعقلنة المرغوب فيها .
إن أنماط التعليم وأساليبها الحالية في المغرب جد تقليدية وغارقة في الغموض والتخلف، بل تقتل روح الإبداع والخق لدى الناشئة، وتجعله منغلقا في محيطه وبيئته دون الخروج نحو العالم والبحث عن الجديد من أجل التغيير، والتقدم الذي بدون ناشئتنا لن نحقق منه إلا الفتات
أمام الآخرين. وتبعا لاختلاف الظروف والثقافات والتقاليد من منطقة إلى أخرى ولتنوع موروثنا المجتمعي يؤدي إلى إحداث قفزة نوعية تخدم الطفل، يدفعنا إلى تبني استراتيجية تعليمية وتربوية جديدة وفق طموحاته وحاجياته المختلفة .
لقد أضاف الإصلاح _ كما يعبر عنه أصحابه_ إلى التقليدية التي كان يعاني منها تعليمنا من قبل، أضاف إليها الغموض والتخبط العشوائي في الأجرأة والتفعيل الواقعيين، ودفع كل هذا بالطفل إلى التسرب الدراسي بعد قضاء سنته الأولى بالمدرسة أو على أكثر تقدير خمس سنوات أو ست، وأصبح للغة الأرقام في مجالنا التربوي والتعليمي الغلبة والقدرة على الوجود والإقناع، كما أصبحت الألفاظ الإدارية مستحكمة بدورها في خطاب المسؤولين عن القطاع. فنجد مصطلح تعميم التعليم الذي دخل التعليم منذ سنوات بمثابة برنامج حزبي يدفع المسؤولين على القطاع بالغالي والنفيس من أجل تحقيقه على أمور أخرى تخص الفاعلين التربويين أو المدرسة نفسها، دون استحضار الظروف الملائمة لتطبيقه على أرض الواقع من أقسام وأساتذة ومرافق أخرى ضرورية كالمطاعم والمراحيض والماء الصالح للشرب والكهرباء .
وفي الوقت نفسه، كلما انسحقت الشهور والسنوات، زادت المشاكل والصعوبات التي تواجه قطاعنا التعليمي والفاعلين القريبين من التلميذ والطالب، وزاد البعد السوسيولوجي بين المدرسة والمحيط في الهوة والعمق، الأمر الذي يقود إلى انغلاق المدرسة على نفسها وعلى فئاتها، ويشجع على خلق سلوكات عدائية ضدها وضد الفاعلين فيها، مما يؤدي بالتالي إلى تردي الوضع المدرسي، وينتج ضعف المردودية وزيادة التسرب الدراسي، والسلوكات الانتقامية ضدها. كل هذه المشاكل بالجملة عاشتها المدرسة في السنين الأخيرة، لكن عوض أن يكون الإصلاح الجديد ذلك المنقذ والمخلص الذي عول عليه الكثيرون، زادت المشاكل صعوبة وتوغلا في جسم الوضع التعليمي ببلادنا .
أصبحت وسائل الاتصال الجديدة من تلفاز، وحاسوب آلي، وإنترنيت، تستحوذ على لب الطفل وتشده إليها بمشاهدها وصورها الإغرائية، بما تستعمله من صور ملونة فائقة ومظاهر ومناظر مختلفة جذابة ومثيرة، يغفل عن متابعة دروسه وتمارينه في البيت، وعن ملاحقة الأستاذ في القسم أثناء الشرح، فصار ذهنه مليئا بكلام الأغاني والمسلسلات، وعقله مفعما بأحداث ووقائع يشاهدها يوميا على الشاشة. فالمشكلة هنا، ليست هي تفاعل الطفل مع هذه الوسائل، لأنها صراحة تساعد الطفل على التحرر المعرفي والتعلم الذاتي، ولكن تبعا لجدول مرسوم ومتفق عليه بلا عشوائية. ولكن المشكلة الرئيسة هي ضعف الإصلاح الجديد في وضع خطة عقلانية ومحكمة _تربوية وتعليمية طبعا_ لاستثمار هذا التفاعل بين الطرفين، ولعل تجربة استخدام الهاتف والشاشة الإلكترونية في التعلم عن بعد في دول الخليج العربي خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي أحسن مثال على ذلك .
من الملاحظ أن طائفة كبيرة من الناس، وخاصة الفاعلين في الحقل التعليمي يتفقون معنا في هذا الإطار، وخاصة أننا ندعو إلى تغيير أفضل يحمل رياح المردودية والمعرفة الحقيقية
للطفل بصفة خاصة، وعدد غير قليل من الآباء يتفقون معنا حول هذه المفاهيم التي تحمل في جوهرها الكثير من التقدم والرفاه المعرفي لو فُعِلَت أكثر، وتمكن كل زاحد من موقعه من أجرأتها بأسلوب يرضي حاجيات طفلنا، رجل المستقبل الذي نحمل تقدمنا ورفاهيتنا على عاتقه .
وعلى الرغم من شح الموارد والبنيات التحتية التعليمية والتربوية التي تليق بالطفل المغربي، وعلى الرغم من وجود أطراف تقف حاجزا أمام التطور التعليمي الذي ننشده، فإننا ندعو الجميع وأنفسنا أولا إلى العمل على تقديم الأحسن والأفضل لطفلنا وطالبنا، في ظل كل هذه الظروف والإكراهات ندعو الجميع إلى القيام بدور مهم في الإرشاد والتوجيه التعليمي والتربوي والمعرفي من اجل غد أفضل وطفل أرشد .
عزيز العرباوي
كاتب
التعليقات (0)