الإصلاح التربوي وتيه المرحلة المستمر :
معرفتنا بالواقع التعليمي المتخبط في التيه في المغرب نابع من مصادر شتى واضحة للعيان، أولها : استمرارية العقلية الإدارية البيروقراطية في مختلف الإدارات التربوية والتعليمية وممارساتها غير الشفافة تجاه قضايا هامة. وثانيا: يمكننا أن نوجز المشاكل التي يعانيها القطاع والفاعلين التربويين فيه على جميع الأصعدة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وماديا، وثالثا: التباطؤ الواضح في تفعيل مشاريع القوانين والمساطر المتخذة والمصادق عليها من الجميع، وتطبيق المذكرات الواردة والتي امتلأت بها الساحة دون تفعيل فملأت رفوف الأرشيفات داخل الإدارات، ووقفت سدا منيعا أمام اتخاذ قرارات مستجدة تهم الفئة التعليمية وتحرير المؤسسة المدرسية من التحرك نحو التغيير والانطلاق إلى الأمام.
استمرار البيروقراطية داخل الإدارة :
من الواضح، وانطلاقا من مشاكل يقع فيها رجال التعليم يوميا، ومن ظهور أشكال جديدة للتظاهر والاعتصام ضد الإدارة التعليمية والتربوية في الآونة الأخيرة، يظهر أن البيروقراطية مازالت متفشية في مجتمعنا، تتوغل بطريقة جديدة حداثية وديمقراطية. وهذا أمر قد أدى إلى بروز العديد من الاحتجاجات من طرف فئات مظلومة لم تستفد أبدا من أبسط حقوقها، ألا وهو الاستقرار وجمع الشمل الأسري. فالحركة الانتقالية التي تعلن عنها الإدارة التربوية والتعليمية بين سنة وأخرى، لا تذهب بعيدا إلى حل مشاكل فئات قد أجحف القانون بتعقيداته وتفرعاته في حقها، فجعلها في آخر الصف من حيث الاستفادة من حق الانتقال وتغيير الأمكنة ومقرات العمل، ولم تنظر بعين الرحمة تجاه أسر مازالت مشتتة، ونحو أطفال أبرياء بعيدين عن جو الأسرة. وهذا الإجحاف كان وبالا على العملية التعليمية التعلمية مما يجره عليها من ضعف في المردودية ووقوفا مانعا في طريق تقدم المسيرة التعليمية المنشودة، ومن هنا، ألا يمكن للإدارة التربوية وبشيء من المرونة أن تحل مثل هذه المشاكل حتى لا تزيد الطين بلة، وتقضي على البقية الباقية من الأمل في شق طريق الإصلاح من جديد؟ .
فالإصلاح الذي يتظاهر الآن بالمرونة في بنوده، وجعل الأولوية للموارد البشرية، كما توضح ذلك ديباجته، يواصل في الوقت نفسه، العمل على وتيرة ضعيفة وبطيئة في حل مشاكل الفئات التعليمية، بل يتماطل في الحوار مع المتضررين، ويتبرع باقديم الحلول الجاهزة لفئات مقربة من الإدارة إما بشراء الذمم أو تفاديا للوقوع في مجابهات واصطدامات مع النقابات والجمعيات الموازية لها .
فهل تساعد هذه الاستراتيجية الإصلاحية وتوجهاتها المعلنة على إضفاء سمة المرونة والحوار على التسوية النهائية لمشاكل الفئات التعليمية المتضررة التي أصبحت مستعجلة بحكم مرور زمن ليس بالقصير على محنتهم؟ وهل تتوافر فرص حقيقية أمام تواصل ومحاولة فتح نقاش بين جميع الأفكار والتوجهات المتواجدة بالساحة مع الإصرار على بقاء التراتبية والبيروقراطية لدى الإدارة التعليمية؟ .
إن التاريخ يوضح لنا أن هناك اياد خفية تفرض نفسها وشروطها على وضع خريطة جديدة للقطاع التعليمي ببلادنا، وقد بينت هذه الأيادي بشيء من الوضوح قوتها في وضع السيطرة على الإصلاح وتنفيذه على أرض الواقع بما يساير مصالحها وشروط بقائها، ورغم وجود الاعتراضات حينا والإضرابات حينا آخر، إلا أنها كانت غالبا ما تواجهه بسن قوانين جديدة وإصدار مذكرات فاصلة تضع حدا لكل هذه الاعتراضات أن تستمر في الساحة لوقوعها في فخ الانتهازية والمصلحية عند بعض المسؤولين الذين كانوا يضعون قناع الاعتراض من أجل الوصول إلى هدف معين .
وضع الفئات المتضررة :
إن التفاؤل الذي يبديه البعض، والاستعجال المفرط الذي جعل النقابات التعليمية تقع في فخ توقيع السلم الاجتماعي يوضحان بجلاء، التباطؤ الذي تتعامل به الإدارة التعليمية مع الفئات المتضررة من حقوقها، كالترقية والحركة الانتقالية، والترسيم، والإدماج،….. وكأنها بذلك قد حلت نفسها من هذه الأمور وخلدت إلى الراحة والسبات العميق، وبعد هذا أصبح كل واحد من هذه الفئات المتضررة لكي يطالب بحقه، إما أن يرضخ للحلول الترقيعية والهجينة التي تقدمها له الإدارة، وإما أن يركب أعلى ما في خيله حتى ولو مات جوعا من جراء إضرابه عن الطعام، وفي الأخير تكون الإدارة هي الرابحة الأكبر من هذه الصفقة المجحفة في حق رجال التعليم الذين لا يعلمون عنها شيئا، فاستمرت أسهم الزبونية والمحسوبية والرشوة تكبر وتتسع رقعتها داخل الإدارات التربوية، حتى وصل الأمر إلى ارتشاء المدرس ببضعة دراهم من أجل قبول تسجيل طفل في قسمه .
ومما يعزز من إمكانات توتر مسيرة التعليم في بلادنا إلى مستوى الخطورة على فلذة أكبادنا الذين يغادرون بلا رجعة وبلا حس وطني، واقع المردودية المزرية التي يظهر عليهم في نهاية كل موسم دراسي، وأصبحت المعادلة متساوية بين المدخلات والمخرجات في ظرف سنة من اللاعطاء والفشل الدراسي، فكيف يمكن لمدرس يعاني من مشكل الانتقال والاستقرار الأسري أن يمنح المعرفة لطفل بدوره يعاني من مشاكل الفقر والبعد عن المدرسة وغلاء الكتب وتعددها؟ .
هذا السؤال لايزال عالقا، وقد يبقى كذلك إلى وجود نية صادقة للالتفات إليه، ومستعدة للتنازل عن المصالح الشخصية والأطماع الذاتية، كما هو الحال عند العديد من البلدان الرائدة في مجال التعليم .
مشاريع وقوانين بدون جدوى :
تعيش الساحة التعليمية ببلادنا على حمى إصدار مشاريع القوانين والمذكرات بين الحين والآخر دون إعطاء الفرصة لتفعيلها على أرض الواقع، حتى أصبح معدلها مذكرة لكل يوم دراسي. فالتراكم لم يبق له وجود في ظل المتغيرات التي تقع على هرم الإدارات التعليمية، وصار لكل مسؤول قراراته ومذكراته واقتناعاته الإصلاحية، فهو مجدد لكل قديم، انطلاقا من البينة التربوية ونظامها ومصالحها الإدارية ومراقبتها. وأصبحنا نعيش على موال إصدار المذكرات مثل متتبعين لمسلسل تركي طويل يحكي قصة تافهة .
وهكذا يتبين من خلال هذه النظرة السريعة لواقعنا التعليمي التائه في غيوم الإصلاح الملبدة والمانعة للرؤية والوضوح، أن حالة عدم الاستقرار التربوي والتخبط الفكري والنظري الذي يلفه من كل جانب وما ينجم عن كل هذا من ضعف في النتائج والمردودية، يشكل على الدوام فرصة سانحة لانتشار العصبية والتطرف الفكري والجهل بالحقوق والواجبات والوطنية الحقة …..
عزيز العرباوي
كاتب
التعليقات (0)