مواضيع اليوم

الإصلاحات السياسية الدستورية لتركيا تطليق للعهد الكمالي

شريف هزاع

2010-05-12 04:57:40

0

 

تُـواجِـه تركيا في الأسابيع القليلة المُقبلة، تحدِّيات مُـهمّـة يتوقّـف على نتائِـجها الكثير من الملامِـح، التي ستكون عليها صُـورة البلد في المُـستقبل. فقبل أيام، انتهت الدّورة الثانية من التصويت على رُزمة إصلاح جديدة تقدّمت بها حكومة حزب العدالة والتنمية إلى البرلمان التركي. وكان البرلمان قد وافق على رزمة التّـعديلات الدستورية في دورة التصويت الأولى وكذلك في الدورة الثانية، كما تقتضي إجراءات تعديل الدستور.

ماذا يُوجد في التعديلات الدستورية؟ قدّمت الحكومة رزمة من مقترحات التعديل لـ 28 مادة وارِدة في الدستور، ثلاث منها مؤقَّـتة والأخرى دائمة. وتتوزّع التعديلات على مِـروحة واسعة من القضايا السياسية والقضائية والاجتماعية، غير أن هناك خمس موادّ أساسية على الأقل، تُـعتبر جوهَـرَ هذه الرّزمة.

 

 

خمس مواد أساسية في التعديلات الأولى، تصعيب شروط إغلاق الأحزاب، بحيث تنتقِـل المبادرة لحظْـر الحزب من يَـد المدّعي العام، كما هو الآن، الذي يحِـق له فتْـح دعوى الحظْـر ورفعها إلى المحكمة الدستورية ثم إلى البرلمان، الذي يؤلّـف لجنة برلمانية، هي التي تجيز أو لا تجيز للمُـدّعي العام فتح الدّعوى من عدمها. المقصود من هذا التّـعديل منع تحكّـم المزاجية والعوامل الأيديولوجية في قرار المدّعي العام، التي أدّت في الماضي إلى تخريب الحياة السياسية وحل العديد من الأحزاب لأسباب واهية.

والتعديل الثاني، متّـصل بتغيير بِـنية المحكمة الدستورية، وهذا يُـعتبر من أهَـمّ تعديلات الرزمة إن لم يكن أهمّـها. فالمحكمة الدستورية، هي الموئِـل الأخير لكلّ الطّـعون الدستورية والقانونية وأحكامها مُـبرمة. وغالبا ما نجح أعضاء المحكمة الأحد عشر في تنصيب أنفسهم أوصِـياء على الطبقة السياسية في قراراتهم، وغالبا ما تجاوَزت المحكمة صلاحياتها، عندما نظرت في مضمون القوانين والتّـعديلات، وليس فقط في أصول التعديلات الدستورية، ما أفضى لتكون المحكمة، المـقصَـلة التي تتوقّـف عندها كل عمليات الإصلاح الجِـذرية في البرلمان، كما المكان القاطِـع لدفْـن الأحزاب غير المرضيّ عنها لدى النُّـخب المتشدِّدة من العِـلمانيين.

وقد ازدادت أهمية المحكمة الدستورية، كونها الحِـصن الأخير الذي بقِـي لمواجهة إصلاحات حزب العدالة والتنمية، بعدما بات خِـيار العسكر في القيام بانقِـلابات عسكرية أضعَـف من قبل. ويقتضي التّـعديل الدستوري الجديد برفْـع عدد أعضاء المحكمة من 11 كما هو الآن، إلى 17 عضوا ما يعني تعيِـين ستّـة أعضاء جُـدد، بعضهم من جانب رئيس الجمهورية، ما يُـضعِـف سلطة المتشدِّدين داخل المحكمة، التي تأخذ قراراتها بأكثرية الثُّـلثيْـن.

التعديل الثالث، يتعلّـق ببنية المجلس الأعلى للقُـضاة والمُـدّعين العامِّـين برفْـع عدد أعضائه من 13 إلى 21 وتعيين أعضاء جُـدد من جانب رئيس الجمهورية، ما يُـضعف أيضا قَـبْـضة المتشدِّدين المُـسيْـطرين حاليا عليه، وهذا المجلس له أهميّـة كُـبرى، لأنه هو الذي يعيِّـن القُـضاة والمُـدّعين، هنا وهناك، وغالبا ما اتّـسمت قراراته في الآونة الأخيرة، بالمَـزاجية ومحاولة منْـع استِـمرار أو عرْقَـلة المحاكمات المتعلِّـقة بمنظمة أرغينيكون الإرهابية مثلا. وكان قراره بكفّ يَـد أحد القُـضاة، الذي أمَـر بمحاكمة مُـدّعٍ عام آخر مُـتورِّط في قضية أرغينيكون قبل ثلاثة أشهر، الشَّـرارة التي أطلقت رزمة الإصلاح الجديدة.

والمادّة الرابعة في التعديلات الجديدة، هي جواز محاكمة عسكريِّـين أمام محاكِـم مدنية، وهو ما كان يُـعارضه الجيْـش، الذي كانت له مَـحاكِـمه العسكرية الخاصة والتي غالِـبا ما كانت تُصدر أحكاما لصالِـح النُّـخبة العسكرية المتشدِّدة.

والبند الخامس، هو المتعلِّـق بمحاكمة العسكريين الذين نفذوا انقِـلاب 12 سبتمبر 1980، والذين أدرَجوا في دستور عام 1982 الذي وضعوه، مادّة مؤقَّـتة في الدستور تمنَـع إحالة أي جنرال أو عسكري شارك في الانقِـلاب على أي محكمة من أي نوع كانت. ومع أن مُـعظم قادة الانقِـلاب قد توفّـوا ما عدا زعيمهم كنعان إيفرين، فإن إلغاء هذه المادّة من الدستور، يـفتح الباب أمام تنظيم محاكمة للجنرال إيفرين. ومهما يكُـن، فإن إلغاء هذه المادّة، يكتسِـب رمْـزية مَـعنوِيَـة مهمّـة، وهي أن أي انقِـلاب عسكرية جديد، لن يفلِـت صانِـعوه من المُـحاسبة. كما أن إلغاءها يأتي في سِـياق الحمْـلة المُـنظمة، لإضْـعاف موقِـع العسكر وصورتهم، مادِّيا ومعنَـويا، أمام الرأي العام التركي.

من جُـملة هذه التحويرات المقترحة، يتّـضح أنها أكثر من تعديلات وأقرب لتكون دستورا جديدا مُـصغَّـرا. واذا كانت إحدى المآخذ سابِـقا على حزب العدالة والتنمية أنه كان يذهَـب إلى الإصلاح بالمفرّق (أو بالتفصيل)، فإن الرزمة الجديدة تُـعوّض إلى حدٍّ كبير مسألة إعداد دستور جديد شامل يحُـلّ محَـلّ الدستور المعمول به حتى الآن منذ عام 1982.

 

تُـمثِّـل الإصلاحات الجديدة محطّـة متقدِّمة جدّا في عملية الإصلاح، وهي ترمي مثلما يؤكد أنصار الحكومة إلى تعطيل دوْر القِـوى التي دأَبَـت على تعطيل مسار إصلاح الدولة وتحويل تركيا إلى بلد ديمقراطي إلى حدٍّ كبير، تسود فيه الحريات وتتعزّز حُـقوق الانسان طبقا لشروط ومقاييس الإتحاد الأوروبي. ولعلّ أهم ما في هذه الرّزمة أنها مُـحاولة جدية للقضاء على إحدى الرّكائِـز الصّـلبة لمـا يُـسمّـى في تركيا بـ "الدولة العميقة" أو "الدولة المُـتجذِّرة"، وهي المؤسسة القضائية بفرعيْـها: المحكمة الدستورية ومجلس القُـضاة والمُـدّعين الأعلى.

وفي غِـياب الظروف التي كانت تتوفّـر للعسكر للقيام بانقِـلابات عسكرية مباشِـرة، لجأت مراكز قوى الدولة العميقة إلى سِـلاح القضاء، وسيلة بديلة لتعطيل عملية الإصلاح، التي بدأها حزب العدالة والتنمية منذ عام 2003 ووِفقا للشروط الأوروبية. ولم تكتَـفِ هذه المؤسّـسات بتعطيل التعديلات الدستورية، مثل حرية ارتِـداء الحِـجاب داخل الجامعات أو مُـحاكمة العسكر أمام المحاكِـم المدنية، بل مارست صلاحيات في اتِّـخاذ القرار هي مِـن صلاحيات السلطة التشريعية.

واستمرّت المؤسسة القضائية في أن تكون حالة تهْـدِيدِية للأحزاب التي تتَـعارض مع توجُّـهات المتشدِّدين من العِـلمانيين، فلجأت إلى حظْـرها واحِـدا تِـلو الآخر ومنعَـت قادتها من العمل السياسي، وكادت تغلِـق حزب العدالة والتنمية نفسه قبل سنتيْـن، فيما أغلقت حزب المجتمع الديمقراطي الكُـردي قبل أشهر معدودة.

أما مُـحاكمة العسكريين أمام محاكِـم مدنية، فاكتسَـبت أهمية كبيرة في أعقاب الخِـداع الذي مارسه المُـدّعي العام العسكري مع ضابِـط سام يعمَـل في رئاسة الأرْكان، مُـتّـهم بتوقيع وثيقة الإطاحة بحكومة حزب العدالة والتنمية، وهو دورسون تشيتشيك، عندما بَـرّأ القاضي العسكري تشيتشيك، بل إن رئيس الأركان إيلكير باشبوغ، دخل على الخط واعتبَـر القضية كلّـها افتِـراء، لكن تبيَّـن لاحقا أن المُـؤامرة كانت حقيقية وأن تشيتشيك ضالِـع فيها، ما أدّى إلى تراجُـع الجيْـش عن نفْـيِـه السابق، الأمْـر الذي يطعن بصِـدقية "دولة" القضاء العسكري ويؤكِّـد الحاجة إلى إمكانية محاكمة عسكريين أمام القضاء المدني.

ويذهب حزب العدالة والتنمية وحْـده إلى تحدّي الإصلاح، على الرّغم من إقرار قطاع واسع من الرأي العام بأنه أكثر من ضرورة لتكون تركيا دولة ديمقراطية بالفِـعل ومكانا لحُـريات واسعة. وإذا كان حزب الشعب الجمهوري المُـعارض، الذراع السياسي للمؤسسة العسكرية مبدَئِـيا، في معارضة الإصلاح لأنه يرى فيه خطَـرا على مصالح الطّـبقة الكمالية التي يمثلها منذ ثمانين عاما، فإن مواقِـف الأحزاب الأخرى أضحت مـدعاة للتساؤل والاستِـهْـجان.

الحزب الثالث الكبير في البرلمان، أي حزب الحركة القومية، ينطلق من حسابات سياسية، هدَفُـها الأول والأخير، إضعاف حزب العدالة والتنمية. أما حزب السلام والديمقراطية الكُـردي، الذي يمتلِـك عشرين نائبا في البرلمان، فقد رفَـض الإصلاحات لأنّ رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان لم يُـضمّـن رزمة الإصلاحات بعض المطالِـب الكُـردية، ومنها تخفيض النِّـسبة المِـائوية التي تُـتيح دخول الأحزاب إلى البرلمان، من عشرة في المائة حاليا إلى خمسة في المائة، خصوصا أن الحزب الكُـردي ينال عادةً بحدود الخمسة أو الستة في المائة وأعضاؤه لم يدْخلوا إلى البرلمان إلا بعد ترشُّـحهم بصِـفة مُـستقلِّـين.

 

لكن مع ذلك، فإن رزمة الإصلاح الجديدة التي تَـقَـدّم بها حزب العدالة والتنمية، تتضمّـن الكثير من النِّـقاط التي تُـتيح إضعاف قَـبْـضة القِـوى العِـلمانية والعسكرية، التي مارسَـت نوعا من التّـدمير المُـمنْـهج للقضية الكُـردية على كافة الأصعدة. وإضعاف هذه القِـوى وإقامة دولة حديثة وِفْـقا للمعايِـير الأوروبية، التي تفضي في النهاية إلى إقرار الحقوق الثقافية وغير الثقافية للأكراد، يصُـبّ حتْـما في مصلحة كلّ الأكراد.

وكَـم كان نوعاً من "التّـراجيديا" أو "المأساة المُـثيرة للتعجب"، أن يُـعارِض نُـواب الحزب الكردي التّـصويت لصالح المادة المتعلِّـقة بتصعيب شروط حظْـر الأحزاب، ولاسيما أنهم الأكثر تضَـرُّرا من استِـمرار المادّة الحالية، إذ أن المحكمة الدستورية أغلقت جميع الأحزاب الكُـردية التي تأسّـست منذ عشرين عاما، وكما لو أن الضحية تقول للجلاّد بأن لا يكُـفّ عن جلدِها وقتْـلها.

ترى أوساط حزب العدالة والتنمية أن موقِـف حزب السلام والديمقراطية الكُـردي ينسجِـم تماما مع مواقِـف حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، في أن الجميع لا يريدون الإصلاح: لا القِـوى العِـلمانية والعسكرية والقومية المتشدِّدة، ولا القِـوى الكُـردية، التي اتّـهمها أردوغان بأنها تعمَـل لهدَف زرْع عدَم الإستِـقرار والفَـوْضى وبتَـوْجِـيهات مِـن زعيم حزب العمّـال الكُـردستاني المُـعتقل عبد الله أوجالان. بل إن موقِـف الحركة الكُـردية من الإصلاح الحالي، "يتعارَض مع الشِّـعار المُـعلَـن من جانب أوجالان بإقامة تركيا ديمقراطية"، وليس بالانفصال أو الفدرالية.

لا شكّ أن حزب العدالة والتنمية كان بحاجة لجُـرْأة أكبَـر في مُـقاربة المسألة الكُـردية في الإصلاحات الدستورية التي اقترحها، لكن التّـغيير في قضية حسّـاسة وصَـعْـبة، مثل القضية الكردية، لا يتِـمّ دُفْـعة واحدة، كما أن الإصلاحات المُـقترحة لا تتَـعارَض أبدا، بل تتقاطَـع مع المطالِـب الأكراد في إقامة نظام ديمقراطي يُؤمن الحقوق للجميع على قدم المساواة.

نجحت رُزمة الإصلاحات بكامِـلها، ما عدا البند المتعلّـق بحظْـر الأحزاب، الذي سيخرُج من الرّزمة بعدما امتَـنع بعض نُـواب العدالة والتنمية مِـن تأييده، ما شكَّـل مُـفاجأة لأردوغان، وربّـما حدث ذلك تحت ضُـغوط مُـعيَّـنة خفِـية، لكن ذلك لن يُـقلِّـل أبدا من أهمية البنود الـ 27 المُـتبقِـية، وإذا كان سيْـف فتْـح دعوى حظْـر الأحزاب لا يزال بِـيَـد المُـدّعي العام للجمهورية، فإن القرار النهائي يبقى في المحكمة الدستورية التي ستتعدّل بنيتها إذا ما أقرت الإصلاحات نهائيا.

 

في انتظار قرار الرئيس! الجميع الآن ينتظِـر قرار الرئيس التركي عبدالله غُـل في الموافقة على التّـعديلات خلال 15 يوما. وبما أن التعديلات لم تنَـلْ في البرلمان أكثرية الثُّـلثيْـن، فلن تصبح نافِـذة إثر توقيع الرئيس عليها، لكن بِـما أنها نالت أصواتا تتراوَح بين 330 و366 من أعضاء البرلمان الـ 550، فإنها ستذهب، كما ينُـص الدّستور، لتطرح على استفتاءٍ شعبي.

لكن دون ذلك، يمكن أن يظهر الطّـعن الذي سيُـقدِّمه حزب الشعب الجمهوري منذ لحظة، توقيع غُـل على التّـعديلات إلى المحكمة الدستورية، باعتبار التعديلات تتعارَض مع موادَّ في الدستور تتعلّـق بالعِـلمانية. وفي حال موافقة المحكمة الدستورية على ذلك، تسقط التّـعديلات برمّـتها ولا تعرض أصلا على الناخبين الأتراك.

أما إذا سارت الأمور من دون عراقيل، فإن استطلاعات الرأي تُـشير إلى أن التعديلات ستنال في الاستِـفتاء الشعبي، المُـحتمل اجراؤه في نهاية شهر يوليو المُـقبل، موافقة لا تقِـلّ عن ستين في المائة من أصوات الجمهور، وحينها، سيكون ذلك انتِـصارا كبيرا لدُعاة تعزيز الديمقراطية والحريات في تركيا، لكن الطريق من بعدِها إلى استكمال الإصلاح، لن يكون مع ذلك سهلا أو قصيرا.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات