مواضيع اليوم

الإسلام و تحديات الألفية الثالثة!؟

mohamed benamor

2010-09-15 21:06:00

0


مشروع بناء حضارة بديلة

 


الإسلام و تحديات الألفية الثالثة!؟

في أواخر القرن التّاسع عشر الميلادي كانت حركات الإستعمار الكبرى للعالم الإسلامي تركز قواعدها في الهند ومصر والجزائر وتونس والسودان... كحلقة أخيرة من حلقات تطويق العالم الإسلامي والإنقضاض على ثرواته و أراضيه و كل خيراته.. ونهبها..! وكان قد مهّد لإستعمار بلاد الإسلام بغزو حضاري و ثقافي نشيط، ابتدأه وألهب شرارته الأولى في ديار الإسلام ما يسمون عندنا « بزعماء الإصلاح العرب»!؟ وهكذا تراجعت الرّابطة الإسلامية كشكل من أشكال البناء السّياسي القائم .. أمام ضربات الإستعمار الموجعة .. وقد توّج ذلك بسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1924م على يد كمال أتاتورك..
لقد تمزقت الرابطة الإسلامية - التي وحدت المسلمين سياسيا و جغرافيا لقرون عديدة- خلال القرن العشرين وتنازعت الدّول الإستعمارية الكبرى ميراث الإسلام وثرواته و أراضيه ... وسيطرت على أضخم قواعده وقدراته .. واندفعت الحركة الصّهيونية العالميّة بدعم مباشر من الإستعمار الغربي ..!! تسيطر على فلسطين وتجعل من احتلال بريطانيا للقدس مقدمة لسيطرتها عليها بعد خمسين عاما...!!
ولقد قاوم "ورثة الإسلام" في معارك حاسمة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي في أفغانستان والقرم ومصر وسورية والجزائر والعراق وباكستان .. وحققوا بعض الإنتصارات.. وتحرّرت ديار الإسلام من نفوذ الإستعمار العسكري الغربي المباشر وانبعثت من قلبه « حركة تحرّرية و تنويرية » بعد طول سبات.
غير أن حركة التـّنوير والتـّحرر الفكري / الحضاري لم تلبث أن واجهت عقبات كأداء في العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية هذا القرن الجديد، فقد تحالف الإستعمار الغربي و الإستكبار العالمي والصّهيونية و أزلامهم.. من أجل ضرب حركة التـّنوير والتـّحرّر الإسلامية ودفعها دفعا للإنحراف عن ثوابتها الإسلامية و بصائرها القرآنيّة الأزلية المنزلة على محمد صلى الله عليه و سلم.." لتحرير البشرية من عبادة العباد لعبادة رب العباد و فك أسرها من الظلم و الطواغيت و الأغلال المختلفة...!؟.." ومن ثم فانّ أخطر التحدّيات التي تواجه "ورثة الأنبياء " - عليهم السلام - في السّنوات الأخيرة تتمثل أساسا في الحفاظ و الإستمساك الواعي بالهوية الإسلاميّة والثوابت القرآنية وحماية الهوية الثقافية والحضارية للشعوب الإسلامية، وتطوير هياكلها وتحرير الفكر الإسلامي من الجمود و التقليد والعمى الفكري/الحضاري و فكر الدروشة..! ومن الأخطار الفكرية الشاذة والمفاهيم الثقافية المغلوطة و المنحرفة عن هداية الله و بصائره الأزلية و قوانينه الأبدية المنظمة للأسرة و المجتمع و الحياة عامة.. ورعاية شؤون المسلمين في العصر الحديث طبقا للثوابت الإسلامية.. داخل أرض الإسلام و خارجها ..! و تحصين﴿ أمة الإسلام ﴾ ضد المخاطر الثقافية والحضارية التي تلقى إليها عن طريق وسائل الإعلام والإتصال المختلفة.. وعبر التبشير.. والإستشراق المنحاز لضلالات رجال الدين اليهودي و المسيحي .. و ضد الشعوبية المتطرفة.. والقوميات المتعصبة.. وهي آليات و مفاهيم منحرفة تلتقي جميعا على هدف : إذابة الهوية الحضارية و التشكيك في الثوابت الإلاهية لأمتنا الإسلامية.. بدعوى "الحداثة" و"العولمة" و"العلمانية" و" اللائكية " و الإجتهاد و مواكبة العصر..! و غيرها من بدع جاهلية الإنسان الغربي الحديث و حيوانيته و تخلف الإنسان العربي / المسلم و تبعيته و انهزامه الحضاري و انبتاته عن ثوابته القيمية الإسلامية و هجره للقرآن منذ أمد بعيد!!؟... وهي دعاوي وإن اختلفت مسمياتها وتنوعت مصادرها و اختلفت.. إلا أنّها تتّـفق على أن يترك المسلمون ثوابت دينهم الإسلامي ومفاهيم قرآنهم وقوانينه الأزلية المطابقة لحقائق الكون والحياة والإنسان و فطرته التي فطره الله عليها منذ خلقه للكون .. واستبدالها بفلسفات مريضة وتيّارات جانحة منحرفة من الفكر والثقافة والإعتقاد ونظرة خاطئة لحقيقة الألوهية والقدر و تأويل خاطئ للنصوص المقدسة ﴿ التوراة والإنجيل والقرآن ﴾ حتى يسهل للغرب الإستعماري و الإستكبار العالمي وأزلامهما من الأقوام التبع و ورثته من بني جلدتنا بعد ذلك السّيطرة على شعوبنا الإسلامية و استغلالها و إذلالها فكريا و حضاريا و سياسيا .. ونهب ثرواتنا .. واستغلال شعوبنا وتركيعها لسيادة الغرب الموهومة و ربوبيته المزعومة للعالم وإخضاعها لأطروحاته المعادية لكل مصالحنا و كل مصالح الشعوب المستضعفة..!!؟ هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهه المسلمون/ "ورثة القرآن" في بداية هذا القرن 21 !؟ فالقضاء على أصالة هذه الأمة وكيانها الفكري والروحي و الحضاري .. هو مقدمة الغرب ألإستكباري/ الإستعماري لتحقيق مآربه ومآرب الصهيونية اللقيطة في الإستيلاء على ما تبقى من أرض الإسلام وخيرات أراضيه الممتدة شرقا وغربا !!؟

إنّ كلّ هؤلاء "الأعداء" لا يخفون عداءهم لحملة﴿ الرّاية الإسلامية﴾: الذين اختاروا طريق الأنبياء والصّالحين للسير على منهجهم و الإنتصار للحق وإعلاء كلمة الله والتّمكين لشريعته الأزلية التي فطر الناس عليها في الأرض..ومن ثََََم: تحقيق الأمن و الإستقرار لشعوبنا الإسلامية و لكافة شعوب الأرض.. و تحقيق وحدة المسلمين و عزتهم تحت راية القرآن و كلماته الأزلية المعجزة لأنها كلمات﴿ الله العزيز الخبير﴾.. وهذا العداء للإسلام و أهله تتفق عليه مختلف مؤسسات هؤلاء الأعداء : الثقافية والسّياسيّة والعسكريّة وغيرها ‘وورثتهم و أتباعهم في ديارنا الإسلامية، وخلاصة ما يسعى إليه الغرب الإستعماري/ ألإستكباري بمعية الصّهيونية العالميّــة اللقيطة و أزلامهما من بني جلدتنا ..: هو التدجين ومن ثم الإحتواء و الهيمنة..! ولعل أبرز التّحديات التي واجهت الشعوب الإسلامية لتدجينهم و من ثم احتوائهم والهيمنة عليهم عن طريق العملاء و التبع تتمثل في تحريف مفاهيم الإسلام وتشويهها أو تأويلها وإخراجها عن طابعها المتكامل الجامع بين الدنيا والآخرة : متّهمين شريعته بأنها سبب تخلف المسلمين و تقهقرهم الحضاري..!؟؟ و قد نادى هؤلاء الأعداء جميعا باستبعاد مبادئه الأزلية الحقة وعزلها عن الحياة..!!؟؟ ودعوا إلى "اللائكية" و"العلمانية" بديلا عنه!؟ كما استغلوا جهل العامة والخاصة في ديارنا و غفلتهم عن أهمية الشريعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية في الحفاظ على مكتسبات الأمة المسلمة وحماية النفس البشرية والكيان الاجتماعي من السقوط والإنهيار‘ ونادوا بالتحلل منها واستبدالها بقوانين الغرب وشريعته - والتي حولت العالم كما حولت مجتمعاته الغربية نفسها .. إلى غابة وحوش ضارية يأكل القوي فيه الضعيف كما هو مشاهد اليوم!؟- رغم عدم انسجام هذه القوانين و التشريعات الوضعية مع خصوصيتنا الحضارية وقيمنا الثقافية ومفاهيمنا الإسلامية و قناعات شعوبنا الإسلامية ومعاييرها الإلاهية ..!؟
ثم امتدت دعوة التغريب و الإنبتات .. فزيفت المفاهيم وحرفت الكلم عن مواضعه وشوهت المبادئ التي أقامت الحضارة الإسلامية وأوصلتها إلى أقاصي الأرض واستمد منها المسلمون القوة على الصمود والقدرة على الفعل وبناء القوة والعزة والحضارة ووراثة الأرض وامتلاك ناصية الأمم و الشعوب لردح طويل من الزمن.. وأهلتهم لأن يكونوا :﴿ خير امة أخرجت للناس﴾..!

ويمكن حوصلة الهجمة الغربية – الصهيونية و أتباعهما على الإسلام في النقاط التالية:

محاربة الإسلام عن طريق نخبه المتغربة/المنبتة عن هوية أمتنا الإسلامية..: بنظريات زائفة كالتي تزعم "أن الدين ليس سوى الإنعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي": ( نظرية كارل ماركس/ ماركس محق إذا كان يقصد الدين اليهودي و الدين المسيحي المحرف و ليس دين التوحيد لموسى و عيسى و محمد عليهم السلام المفصل في التوراة و الإنجيل و القرآن) المنزل﴿ من لدن عزيز حكيم﴾..!
كما شكلت مصنفات ما يسمون "بفلاسفة الأنوار" في القرن الثامن عشر ميلادي أرضية خصبة لمحاربة الدين عامة والفكر الإسلامي خاصة، من بعد ما تبنته نخبة هامة من "زعماء الإصلاح" في البلاد الإسلامية !!!؟- كما سبق و بينا خلال دراستنا لفكر عبد الرحمان الكواكبي - ، ولم يع هؤلاء –"الزعماء"- أنهم كانوا يحفرون مقابرهم و مقابر حضارتهم الإسلامية بأيديهم!؟.

محاربة القيم والمبادئ والثوابت الإسلامية و اليهودية و المسيحية المشتركة وكل القيم الإنسانية النبيلة التي تنسجم مع فطرة الإنسان السوي، بدعوى أنها قيم نسبية ومتغيرة، ومرتبطة بالبيئات والعصور وتختلف باختلاف الحضارات!!؟ (التطبيقات البشرية للقيم الإلهية هي عملية نسبية لكن القيم و المعايير الإلاهية مطلقة و أزلية و صالحة لكل زمان و مكان ).

الدعوة إلى هدم الأسرة باعتبارها من مخلفات المجتمعات الإقطاعية وعصور الإنحطاط !!؟ والتشجيع على العلاقات المنحرفة و الشاذة كاللواط والسحاق-العلاقات المثلية- والإجهاض ... كحل للمشكلات الأسرية و الإجتماعية وهي دعوة شيطانية لتغيير خلق الله و فطرته التي فطر الناس عليها.. و بسبب ذلك تحولت حياة الناس شرقا و غربا إلى جحيم لا يطاق و فقد الرجل و المرأة دورهما الطبيعي المحدد لهما في الحياة.. فاستشرت الأمراض المزمنة نتيجة لذلك وانتشرت السيدا و العجز الجنسي و الأمراض العصبية والذهانية و غيرها انتشارا مرعبا بين الناس كما نلاحظ اليوم بل طالت الأمراض المرعبة حتى الحيوانات بسبب فساد الإنسان و سوء تقديره لعواقب تغيير خلق الله :(جنون البقر و أنفلونزا الطيور )...!!؟

الدعوة إلى قيام العلاقات البشرية على أساس المصالح المادية والعرقية والإثنية وإثارة العصبيات الطائفية والعرقية كما يروج الأمريكان و أزلامهم في العراق منذ احتلاله عام 2003..!!؟ ﴿هذه الدعوة تتناقض حتى مع دعوتهم للديمقراطية و دولة القانون ! لان القانون لا يفرق بين الناس عند تطبيقه : إنهم عميان البصيرة كالأنعام لا يعقلون بل هم أضل !؟

إيجاد الأحزاب السياسية – علمانية و إسلامية - التي تتبنى مفاهيم الغرب و معاييره المزدوجة في ديارنا و رعايتها ماديا و لوجستيا..!!

محاربة اللغة العربية الفصحى، لغة الإسلام الأولى ولغة القرآن الكريم/ الكتاب الذي تحدى الجن و الإنس على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.. لإدراكهم الإرتباط الوثيق بين اللغة العربية والدين الإسلامي ومجد ووحدة المسلمين، وقد عملوا جاهدين على ترويج الدعاوى التي تتهم اللغة العربية الفصحى بالعقم والبداوة وألقوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين ورفعوا شعار: « من أراد التقدم والرقي فلا يتكلم اللغة العربية »! زاعمين بعدم استجابة اللغة العربية الفصحى للحضارة الحديثة وأنها لا تستوعبها وهي عسيرة على من يتعلمها ؟! متعامين بذلك عن أن توقف اللغة العربية الفصحى عن الإشعاع الحضاري الذي بلغته من قبل مرده تخلفنا الحضاري و ليس عجز اللغة أو تخلفها..!؟

اعتماد مناهج تربوية من قبل الحكومات "العربية و الإسلامية" بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي في تربية الإنسان المسلم المثبت من الله ﴿ بالقول الثابت﴾ و القوانين الأزلية و التنويرية في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والمستضيء بنور الله و بصائره التي لا تخبو أبدا﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ﴾.

خلق مفهوم صراع الأجيال حتى يسهل بعد ذلك دفع الشباب إلى الإنهيار والتمزق في ظل فراغ نفسي وفكري وثقافي وعطش روحي و دفعه للإنحراف و الشذوذ و تقديس الجنس و المخدرات و الإعتقاد الخاطئ في عبثية الحياة..!!؟
وقد تخفى هؤلاء المستكبرون عميان البصيرة !!؟.. وراء مذاهب ونظريات منحرفة مغرضة أثبت العلماء المحايدون جهالتها و تفاهتها و تضاربها مع حقائق الوجود وعدم ارتكازها على حقائق علمية ثابتة وانبناؤها على الظن والتخمين .. وليس لها أية صلة بالواقع البشري و حقائق العلم و المعرفة، بل وقدرة هذه النظريات الفائقة على تخريب عقول الناشئة وصنع "الرجال الجوف " حسب تعبير أحد شعرائهم!!؟
كل هذه الوقائع قد ساهمت بدورها في تبعية مجتمعاتنا الإسلامية و تأبيد تخلفها حتى بدا للعيان أن شفاءها قد صار متعذرا..؟!
إن مجابهة كل هذه التحديات الخطيرة وغيرها على مستقبل أمتنا الإسلامية: تبدأ بتجديد الثقافة الإسلامية التصحيحية المبنية على الثوابت الإلهية الحقة... مستمسكين بثوابتنا القيمية والحضارية ومفاهيمنا الإسلامية المبثوثة في ثنايا "الذكر الحكيم" و الذي اتخذه المسلمون﴿مهجورا﴾ منذ أمد بعيد..! إنطلاقا من إدراكنا ووعينا بنسبية الحضارة البشرية و نسبية فهم الأجداد و الآباء للثوابت القرآنية و المعايير الإلاهية و الموازين الربانية كل حسب أزمنتهم و أمكنتهم و أطرهم التاريخية و الحضارية، إذ لا يعقل بداهة أن نجابه مفاهيم الزيف الحداثي والعولمة و هذا الضياع لكل شعوب العالم بسبب القوانين الوضعية التي أهوت بنا جميعا في مكان سحيق من الفقر و البطالة و الأمراض المزمنة .. وكل منجزات الحضارة المعاصرة و ما بلغته من تقنيات غاية في التطور و التقدم .. لا يعقل أن ننظر إليها بأعين أموات منذ قرون خلت أو بمفاهيم عصور الإنحطاط في تاريخنا الإسلامي أو بمفاهيم حضارتنا الإسلامية القديمة..أو بمفاهيم الغزالي وابن تيمية وابن رشد و غيرهم!؟ و الذين عاشوا في زمن غير زمننا و في واقع حضاري و اجتماعي معيش غير واقعنا في العصر الحديث .. ودون أن نطور مفاهيمنا – مرتكزين على بصائرنا القرآنية ومعطياتنا الحضارية الراهنة – ونصحح ما تآكل منها بمفعول الزمن و تقدم الحضارة البشرية .. ونجعلها تأخذ بالألباب كما أخذت بألباب رجال الجاهلية الأولى.. لارتكازها على الحق والنور الإلهي و ثوابته الأزلية و قوانينه السرمدية التي كلّفنا – نحن أمة الإسلام وورثة الأنبياء - بالإستمساك بها و تبشير العالم برحمتها... حتى نكون شهداء على الناس كافة و نقود مسيرتهم و مسيرة شعوبنا الإسلامية نحو التقدم و النما و الخير و الرحمة و الجمال.. في الحياة الدنيا و في الآخرة... فنغنم و يغنموا.. و نسعد و يسعدوا.. بعدما أرهقتهم و أرهقتنا القوانين الوضعية الظالمة و الحضارة الغربية المتداعية للسقوط!!!؟

 

 

 

 

في مفهوم الثقافة الإسلامية

اشتقت كلمة الثقافة من ثقف يثقف، وثقف العود بمعنى سواه وهذبه وبذلك يصبح معنى كلمة ثقافة كل ما من شانه تهذيب سلوك البشر والرقي به من حالة الحيوانية إلى مدارج الإنسانية الفاضلة.. إن الثقافة لها أهمية قصوى لدى الكائن البشري‘ فهي لا تخرج عن كونها تهذيب لخصائص الإنسان الطبيعية، وتشذيب لخصاله المتوحشة، وتغيير لما جبلته عليه فطرته الحيوانية تغييرا يستوي بالتدريج هوية ثقافية.. وإذ تعلو الثقافة بالكائن البشري عن منازل التوحش، فإنها تكسبه خصائص جديدة يؤصلها فيه تراكمها وتصاعدها، فتغير لديه جوهره الطبيعي الغريزي المتوحش، ويكون التغيير تهذيبا وتشذيبا من جهة وتعديلا وتبديلا من جهة أخرى. فالثقافة تهذب، على سبيل الذكر، غريزة التناسل وحب البقاء، فتنقلها بالتشذيب والتثقيف من طور التوحش الغريزي إلى طور الثقافة المكتسبة التي تقيدها بمؤسسة الزواج مثلا و قوانينه المعلومة، وتحسنها باختلاجات الوجدان وصنائع العقل...

كما تعكس الثقافة ـ بمفهومها الأنتروبولوجي ـ خصوصية المجتمع والقيم التي يتبناها والمفاهيم التي ينظر من خلالها إلى الحياة والكيفية التي يتعامل بها الفرد مع نفسه ومع بقية الأطراف الإجتماعية.. كما تعكس مواقف تلك المجموعة البشرية من الكون والحياة والعالم وما بلغوه من ارتفاع فكري ورقي حضاري ونماء ذوقي.. وازدهار الثقافة أو تطورها متوقف إلي حد كبير علي ما يسود بين أفراد المجتمع وجماعاته من حوار بناء وتنافس نزيه في مختلف ميادين الحياة ودروبها ومشكلاتها، بما يعنيه من تنوع في وجهات النظر وترك الفرصة أمام جميع الفرقاء ليدلي كل واحد بدلوه دون إقصاء. وهذا لن يحدث ما لم يلتزم كل صاحب رأي بأدب النقاش والإختلاف، جاعلا نصب عينيه أن غايته من بذل الجهد الفكري هو تقدم بلاد الإسلام وعزتها وتحصينها ضد كل الأدواء التي يمكن أن تعرضها للخطر، عندها، يصبح اختلافنا رحمة تنشر ظلالها الوارفة وثمارها اليانعة علي الجميع فنختار الرأي الأصوب والأقرب لمصلحتنا حاضرا ومستقبلا، مـتـعـاونين ومتحفزين دوما إلي ما هو خير وأحسن، ونرتقي في جو من التسامح والتعاون والتكامل.

لقد احتاجت الأمم الناهضة دائما إلى بلورة فكرية- ثقافية في شخصيتها وقيمها ومعاييرها.. اذ لكل شعب من شعوب الدنيا معاييره المميزة و سماته وشخصيته المتفردة. ومهمة المفكر أو المصلح في أية امة من الأمم هي البحث عن هذه السمات والخصائص بغية اكتشاف ما فيها من عناصر أصيلة لتقريبها واخذ الصالح منها. وما يمكن أن يكون فيها من شوائب دخيلة ومن ثم يعمل عل حذفها واستبعادها. وهي مهمة صعبة وعسيرة وتحتاج إلى كثير من الإرادة والمسؤولية.. وإذا ما أردنا النهوض من كبوتنا الحضارية فلا بد لنا أن نجعل من الثقافة الإسلامية والثوابت الإلاهية ركيزة أساسية من ركائز التغيير ودعامة صلبة للمجتمع المدني الذي ننشده وحافزا لكل نهضة وإبداع حضاري.. فلا تقدم ولا تطور لمجتمع بشري بدون ثقافة ناضجة ومتحفزة لاختراق الآفاق واعتلاء أعلى القمم.. تستنفر كافة قوى الإنسان وطاقاته وقدراته على البذل والعطاء والمشاركة الفعالة في تحريك هياكل المجتمع والمساهمة في بناء لبناته وتأسيس كيانه ونحت ملامحه..
إن كل مجتمع ينشد الرقي والإزدهار لا بد له من ثقافة مميزة يتخذها ركيزة ودعامة صلبة للإنطلاق والإقلاع الحضاري وإلا فانه سيضيع في متاهات الطريق. ويفقد توازنه على الفعل وتحبط أعماله ومجهودا ته وينتكس إلى الوراء.

فما هي أبرز الخصائص التي نريدها لثقافتنا...؟ وما هي حدودها...؟

إن الثقافة التي نريد، لها مواصفات وقرائن وهي تلك التي لها القدرة الكاملة علي تلبية حاجياتنا العضوية والغرائزية، وتتوفر علي قدر من الإنسجام مع شخصيتنا الحضارية والعقائدية والمفاهيم القرآنية ومعاييرنا الإسلامية وتستجيب لطموحاتنا الفكرية والروحية بحيث تصل بالفرد والمجموعة إلى الإنسجام والتوازن المادي والمعنوي، وتحفزهم لبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا ومواجهة تحديات:« الأخر/ العدو» على كافة الأصعدة: الثقافية والسياسية والإقتصادية والعسكرية.. ولا قيمة لثقافة تطلب من الإنسان أن يعيش مسكينا ومحروما من ملذات الدنيا وطيباتها التي أحلها الله لعباده:« قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ».. ولا قيمة لثقافة تكبت غرائز الإنسان الطبيعية أو تطلب منه تأجيل تلبيتها إلى وقت يصل فيه إلى حافة القبر.. أو تعطل طاقاته ومواهبه أو تحد من طموحه ورنوه إلى أعلى القمم.. كما نرفض ثقافة تطمس شخصيتنا وتميزنا، وتسعى إلي دمجنا وصهرنا إلي حد الذوبان في «الأخر/ العدو» لتحيلنا في النهاية إلي إذناب ليس لهم حول ولا قوة.

ويمكننا أن نجمل مرتكزات الثقافة الإسلامية التي نريد في النقاط التالية:

الإيمان بالله خالق و رب وحيد للكون والإنسان والحياة ‘ الجدير بالطاعة والخضوع وإتباع أوامره..(اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق.) (سورة العلق الآية 1و2).

القرآن الكريم الكتاب الوحيد الذي يحتوي على الحقائق الأزلية و القوانين السرمدية المتطابقة مع الواقع في الكون والإنسان والحياة والمجتمع والمتماهية مع فطرة الخلق الصحيحة التي فطر الله الكون عليها منذ الخلق الأول للحياة.. كما أنه من خلق الله الذي خلق كل شيء.. لذلك فهو معجز عن الإتيان بمثله: إذ الخلق كلهم﴿ الإنس و الجن و الملائكة..﴾ عاجزون عن الخلق بداهة .. وهو الكتاب الوحيد الذي يستمد منه المسلم في أي زمان و أي مكان كافة معاييره وموازينه لجميع سلوكيات البشر و كافة مفاهيمه لمختلف ميادين الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، داخليا وخارجيا.. لأنه من عند الله العزيز الحكيم : « ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ».

لا بد من العودة إلى التأسي والإقتباس من المرحلة التاريخية التي تم فيها ميلاد المجتمع الإسلامي الأول، فلهذه الفترة قدسيتها وعصمتها لأن رعاية الله كانت مستمرة، وتسديد الوحي كان مرافقا لكل خطوة وخلجة نفس، وهذا لن يتأتى لأية مرحلة تاريخية أخرى من حياة الأمة المسلمة. فالسيرة النبوية تشكل بالنسبة لنا أنموذج الإقتداء الوحيد الذي يجب أن يحتذى والمعالم ووسائل الإيضاح العملي لآيات القرآن المجيد للإهتداء على ضوئها والسير طبقا لتعاليمها، إن تلك القدسية لا يمكن أن تكون لأية فترة ماضية أو حاضرة أو مستقبلة..

بناء الإنسان المؤمن بالله الذي يستلهم في علاقاته بالكون والإنسان والحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية الثوابت القرآنية ويستمد منها مفاهيمه وإن تلك الثوابت هي حقائق أزلية قد سارت على هداها كل المجتمعاتالقدوة في الصلاح والتطور وقيادة الشعوب من لدن نوح عليه السلام.. إلى محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم قدوة جميع المؤمنين في العالم. فالسيرة النبوية تشكل لنا أنموذج الإقتداء الوحيد الذي يجب أن يحتذى والمعالم ووسائل الإيضاح لآيات القرآن المجيد-المكي والمدني- للإهتداء على ضوئها والسير طبقا لتعاليمها.فهي المعين الذي يمد المسلمين في العصر الحديث بدروس العبر وضوابط النصر والظفر. يقول الله عز وجل: « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...» (سورة الشورى الآية 13).

هناك صنفان من البشر لا ثالث لهما في الثقافة الإسلامية والمفهوم القرآني:مؤمن وكافر. مؤمن متبع لهدى الله قد اختار أن يتخذ من الله ربا ومن الإسلام دينا يخضع لشريعته و لكل معايير القرآن بملء إرادته. وكافر معرض عن ذكر الله وآياته قد اتخذ أربابا أخرى من دون الله. فمنذ هبوط آدم إلى الأرض خاطبه ربه قائلا: « فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا...» (سورة طه الآيات 123- 124).

هذه حدود ومرتكزات للثقافة التي ننشدها لا بد من استحضارها دائما ونحن نرنو إلى مستقبل أفضل، جاعلين نصب أعيننا انتمائنا الحضاري إلى" خير امة أخرجت للناس" وقد أنزل الله عليها القرآن لتكون رحمة للعالمين. وشاهدة عليهم و قائدة لمسيرتهم دنيا وآخرة.
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !