-1-
الإسلام رسالة عقائدية والنفط ثروة مادية،فما العلاقة الوظيفية الحياتية التي تجمع بينهما ؟
هل الهجمة الشرسة الحديثة التي يشنها العالم الغربي على الإسلام تستهدف هذا الأخير من حيث هو عقيدة/إيديولوجيا أم من أجل مآرب أخرى يتصدّرها الاهتمام بإحكام السيطرة على ثروات المسلمين الطبيعية وفي مقدّمتها النفط والغاز الطبيعي ؟..هل الهجمة تستهدف الطاقة الروحية لدى المسلمين أم الطاقة المادية الغنية بها مناطق كثيرة من جغرافيتهم ؟
قبل البحث في علاقة الآخر بالإسلام ونفط المسلمين ألا يجدر التساؤل:كيف يوظف العرب-تحديدا-والمسلمون–عموما- رسالة الإسلام التي يرفعون لواءها وكيف يستثمرون ثروة الطاقة التي هي هبة طبيعة سخيّة في العديد من بلدانهم؟
في مسعى لملامسة ثنائية الإسلام والنفط نقرر البدء بالثاني،ربما لأنّ "البترودولار" يلوح أكثر إغراء لإسالة لعاب المتهافتين على متع الحياة وكذلك لافتراض ما يُمكن أن يقدمه من خدمة للإسلام،متى خلص الإيمان بالرسالة لدى القائمين على مضخّات تدفّق النفط عصبا حيويا قام عليه،ولا يزال،الاقتصاد العالمي.
نوجز تشخيص إشكاليات استثمار المسلمين للطاقة التي بحوزتهم(النفط والغاز خاصة) فيما يلي:
- لئن كانت الدول ذات الأغلبية المسلمة ليست كلّها حائزة على ثروة النفط، فإنّ بعضها يمتلك نصيبا وافرا من هذه الثروة، مقابل بعض آخر متواضع الثروات،وثالث يصنّف ضمن أفقر دول العالم. قد تبدو المفارقة عجيبة ومدهشة بالنظر إلى الوحدة في العقيدة التي تفرض التضامن والتآزر في السرّاء والضرّاء (إلا أنّ التضامن مفقود أو لعلّه "تضامن نقيّ" أي روحي لا مادّي ولا جسدي...هو بتعبير آخر "حبّ عذري".ا..)
- أدرك المهيمنون على المدنية الحديثة القائمة على المادة،مبكّرا،أنّ النّفط "وقودها"،فخططوا إلى ادّخار مخزون احتياطي هائل،منه ما هو في بلدانهم ومنه ما استوردوه،وسعوا إلى السيطرة على التكنولوجيات المتطوّرة لاكتشافه واستغلاله وتثمينه ،وشدّدوا على تأمين تدفّقه إليهم من الدول المنتجة النامية بكلّ الوسائل التي تعتمد الإغراء والإرغام.أما الثمن فنصيبه الأوفر منه يعود لشركاتهم المستغلّة.
- في موقف تضامني نادر استفاق العرب، سنة 1973، على أهمية النفط سلاحا وورقة ضغط في وجه العالم الغربي المنحاز لإسرائيل.ولئن بدا قرار استعمال ذات السلاح وحظره على الغرب متسرّعا وانفعاليا وغير محسوب العواقب،فإنّه أثبت أثره البالغ في حياة الإنسان الغربي وخطورته على حيوية اقتصاده،مقابل استفادة الدول المصدّرة للنفط من التهاب أسعاره نتيجة هذا الحظر ثم،لاحقا،نتيجة عدم استقرار الأوضاع في الخليج العربي.لكنّ الغرب تقوده أمريكا خطط لإحكام قبضته على منابع النفط في الشرق الأوسط وأماكن أخرى من العالم بما في ذلك استعمال قوته العسكرية الرهيبة...لعلنا نستحضر المشهد،من خلال هذا المقتطف من بيان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية "ريغن" سنة 1987 :
"إني مصمم على ألا يقع اقتصادنا الوطني مرّة أخرى-أبدا- أسيرا،وعلى ألا نعود إلى أيام طوابير البنزين،وأزمة الوقود،والاختلال الاقتصادي،والامتهان على الساحة الدولية.سجّلوا هذه النقطة جيّدا:إنّ استخدام الممرّات البحرية للخليج العربي لن يتحدّد بقرار من الإيرانيين،ولن يسمح بأن تكون هذه الممرات تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي،وسيبقى الخليج العربي مفتوحا للملاحة أمام دول العالم."
لقد كانت مرافقة سفن نقل نفط دول الخليج (الكويت مثلا) وهي حاملة العلم الأمريكي "عملا عسكريا حقيقيا" لمواجهة "تهديد عسكري حقيقي" ،على حدّ تعبير كاسبر واينبرجر-وزير الدفاع الأمريكي آنذاك.ثم أصبح الحضور العسكري الأمريكي والغربي علنيا ودائما في منطقة الشرق الأوسط وغيرها من مناطق الثرة البترولية.
- لم تمكن ثروة النفط مالكيها العرب والمسلمين،من الانخراط في الفعل الحضاري والتأثير فيه،بل إنّ قرارهم السيادي أصبح مضغوطا عليه ومحكوما بالمصالح الغربية.وكنتيجة لغياب تضامن جدي بين الدول العربية والإسلامية انقسمت هذه الأخيرة إلى أغنياء يشغلهم ثراؤهم عن تمثّل التهديدات الصارخة التي تستهدف وجودهم ،وإلى فقراء تُفقدهم بطونهم الخاوية أيّ معنى للحياة وتشبع أنفسهم بالحقد والكراهية على أغنيائهم وعلى طغاة العالم...
- لمّا كسدت سوق النفط فتدنّت أسعاره،بعد التهابها في السبعينات وبداية الثمانينات،لم تجد العديد من الدول النفطية مدّخرات مالية كافية لمعالجة أزمتها الاقتصادية الطارئة الناتجة عن تقلّص عائداتها،فكابدت شعوبها صعوبات جمّة وانقطع دعمها،على تواضعه،للدول الشقيقة،بل إنّ من هذه الدول النفطية من تفجّرت فيها ثورات خصاصة مروّعة...ويكفي في هذا المجال أن نستحضر مثال الجزائر التي تزامن انهيار تجربتها الاشتراكية مع انحسار عائدات نفطها فاشتعلت نيران حرب أهلية لئن فُسّرت بالتشدّد الديني والإرهاب فهي،في عمقها،انعكاس لأزمة اقتصادية خانقة-وما استرجاع الجزائر لعافيتها تدريجيا وتقلص الأنشطة الإرهابية على أراضيها إلا نتيجة إصلاح حالفه عودة ارتفاع أسعار النفط من جديد- في حين أنّ العراق،مثلا،ما كان ليُغامر باحتلال الكويت لولا ضائقته المالية،ثم هو،منذ أن احتلّ سنة 2003 وتدمير مقومات تنميته إلى اليوم،في حال من تستنزف ثروته ولا يستفيد شعبه،وهو حال نجد ما يُشبهه،وإن اختلفت الأسباب،في نيجيريا "النفطية" ذات الأغلبية المسلمة (أكثر من 50 في المائة مسلمون).
- أينما كان النفط ثروة مستغلة أو مكتشفة خططت للسيطرة عليه الدول العظمى تتصدرها أميركا.ولنا اليوم أمثلة حيّة في السودان حيث مدّخرات نفط جنوبه الوفيرة حفّزت على تقسيمه، أما في بحر قزوين ،فإنّ الصراع العلنيّ منه والخفي الذي يشتعل أوّاره على ضفاف حوضه لا يُفسّر،في جوهره،إلا بذات الأسباب النّفطيّة.
لئن كان الذّهب الأسود هبة الطبيعة،فإنّ على الدول التي تمتلكه،غير المنتسبة للقوى العظمى،أن تناضل من أجل دور أفضل من تأمين تدفّقه إلى الدول المصنّعة،عليها المطالبة بصيغة الشريك في الفعل الحضاري العالمي،وهذه الصيغة ينطلق البحث عنها في تصرّف رشيد في عائداتها المالية من الطاقة،تستثمرها،كأولوية مطلقة،في تنمية ثرواتها البشرية،وفي تحفيز الانخراط في مضمون رسالة تنسجم وهويتها،وتصون هذه الأخيرة من التشويه وتثريها ،وإلا فما النفط سوى بخار خانق وبرك آسنة ونقمة لا نعمة...
ليس التقييم الذي مصدره الذات هو-وحده- يخلص لنتائج محبطة ومريرة لدى المسلمين،بل إن نظرة الآخر لهم تتجلّى مؤذية لكرامتهم ومشوّهة لصورتهم التي تلوح منفّرة.ولمن يعوزه استحضار المشهد يكفيه أن يُلقي نظرة على فضائح البترودولار المخجلة،أو على تكديس ترسانة أسلحة لا نفع منها ،أو على مظاهر الاستهلاك الفاحش لتقليعات الغرب التي حوّلت مجتمعات البذخ النفطي من تلك التي كانت تقوم على الصيد والرعي إلى مجتمعات مدن ناطحات السحاب والسيارات الفاخرة والطرقات السريعة والوسائط الرقمية ومرافق الترفيه والاسترخاء،دون أخذها بأسباب السيطرة عليها تقنيا وأخلاقيا،ودون تطويعها لخدمة فكر إسلامي مستنير منخرط في عصره ومؤثّر في حضارته.
(يتبع)
التعليقات (0)