- 2-
رغم تجزئة العالم الإسلامي وهزيمته المدوّيّة بسقوط الإمبراطورية العثمانية،فإنّ ثروته النفطية أسهمت،إلى حدّ كبير،في صعوبة إلغاء دوره في العصر الحديث الذي تعتمد ثورته الصناعية على الطاقة...بدا الوطن العربي،تحديدا،والعالم الإسلامي،عموما،على ما هو عليه من ضعف وتشتت،رقما صعبا في المعادلة التي قامت عليها المدنية الحديثة،إذ لم يكن ممكنا للغرب أن يطمئنّ على استمراره في قطفه لثمار ثورته الصناعية التي ابتدعها وعلى تأمين تفوّقه المستحقّ دون السيطرة على منابع النفط. وذاك ما حققه،بالأمس،اعتمادا على حضوره الاستعماري السافر،تماما،كما يحققه،حاضرا،بذات الوجه الذي أخضعه لعملية تجميلية غالبا ما كانت منفّرة...ليس من المبالغة في شيء الادّعاء بأنّ النفط ،أساسا، هو الذي أوقع الغرب في غرام الشرق العربي والإسلامي،وهو الذي أوقع الأخير غنيمة حرب ظفر بها المنتصر. ولئن كان،حتى في هذه الحالة،ثمة فرص متاحة يمكن أن يستفيد منها التابع من المهيمن المتبوع،فإنّ هذه الاستفادة لا يمكن أن يُنظر إليها بمعزل عن تخلّف العالم الإسلامي وإنهاكه حضاريا وبالتالي تواضع جهده في تمثّل مشاريعه النهضوية التي صاغها تحت وطأة فجيعة هزيمته بوجدان مهزوز وفكر متأرجح بين الانبهار بالمدنية الغربية والريبة منها والتأميل في قدر منقذ...
في المرحلة التاريخية التي تميّزت بصراع القطبين السوفياتي والأمريكي بدا الفكر الإسلامي السياسي غير متحسّب من خطر الاندفاع إلى التشيّع لهذا الطرف أو ذاك،إذ انحاز منقسما بين أدلجة لإسلام اشتراكي تقيّ ولآخر رأسمالي ليبرالي مؤمن،والنتيجة أن تحوّل إلى متسوّل يتسكّع على هامش حركة التاريخ وصياغة فعله الحضاري...إنّ مشاريع نهضته،سواء رامت المراهنة على تكتّلات إقليمية ذات سند إيديولوجي تعبوي أعطت أولوية للقومية العربية أو لمفاهيم مستحدثة دخيلة كالاشتراكية والرأسمالية والليبرالية،فإنّ جميعها انتهت-تقريبا-إلى إخفاقات محبطة،من بين تداعياتها ظاهرة احتجاج عنيفة اعتنقت فكرا راديكاليا متشدّدا وثائرا،وإن كان دون حجم التهويل الذي يُروّج لها.
بالمقابل فإنّ الفكر الإسلامي التنويري "اللبيرالي" الذي ناضل ولا يزال من أجل الحداثة والانصهار في الحضارة الغربية أو التوافق معها لا يلقى العنت والرفض من الفكر السلفي المتشدد الإسلامي،فحسب،بل من الفكر الغربي الليبرالي ذاته ،ولعلّنا نجد ما يشير لهذا الادّعاء فيما أعرب عنه بمرارة المفكر الكبير محمد أركون بقوله :"لقد علّمتني التجربة واحترقت أصابعي بها ودفعت ثمنها.أقصد تجربة المثقف الفرنسي الذي يظلّ متضامنا مع أصوله أو جذوره الإسلامية.فهو لا يستطيع أن يتحدث عن العلمانية إلا إذا حلف على رؤوس الإشهاد بأنه يحترم العلمانية الجمهورية ويتقيّد بها تقيّدا حرفيا.فإذا ما حصل له أن وضع المكانة الفلسفية لعقل التنوير داخل منظور تاريخي نقدي،إذا ما قال بأن التعليم العام في فرنسا يُهمل الأبعاد الفكرية والروحية والثقافية للأديان بحجة الحياد "العلماني"،فإنّ العلمانيين الحقيقيين يُكفّرونه أو يفصلونه من صفوفهم...هناك فكرة شائعة في فرنسا والغرب بشكل عام،وهي: أنّ المسلم لا يُمكنه إلا أن يكون مضادا للعلمانية.لماذا؟ لأنّ الإسلام والعلمانية،بحسب رأيهم،شيئان لا يجتمعان.وهذه الفكرة الخاطئة تحوّلت إلى عقيدة راسخة في أذهان الخبراء الاستشراقيين..كما أنها راسخة في أذهان العديد من المسؤولين السياسيين الباحثين عن المستشارين الجيّدين.." ص289/290-(من كتاب:معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية-محمد أركون-ترجمة وتعليق هاشم صالح-دار الساقي-بيروت الطبعة الأولى 2001).
لكن في المشهد الراهن ثمّة تركيز لتفسير الأحداث وتبريرها على التأريخ ب11 سبتمبر 2001 ،وقد نجد حوصلة كافية لما نروم التنبيه إليه فيما ذهب إليه عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية حين قال:
"..منذ سنة 2001 تمت إدارة الأمور في شكل معارك أو حروب،سمّيت أحيانا بصراع الحضارات،وأحيانا أخرى بالحرب ضدّ الإرهاب،وثالثا بالصراع بين المعتدلين والمتطرّفين..وقد يكون هناك شيء من كلّ ذلك موجود بسبب السياسات المتبعة وتطوراتها،ولكن أن تكون هذه الحروب شعارا لعصر وأساسا لنظام دولي فهذا هو ما يجب تحليله،وفي رأيي وباختصار،إنّ الانتقال من مرحلة الحرب الباردة وكان طرفها الآخر الاتحاد السوفيتي إلى مرحلة صراع الحضارات ليكون طرفها الآخر هو العالم الإسلامي،أمر يؤدّي إلى الشكّ في أنّ هناك من المفكرين المحافظين جمهرة ترى أنّ العصر الأمريكي يحتاج إلى حروب ومعارك مستمرّة وبالتالي يحتاج إلى "الآخر" الذي يُصوّر على أنه العدوّ حتى تكون الأمور أمام المزاج المحافظ واضحة:عدوّ،فتعبئة،فمعركة،فانتصار،وهنا يتحقق الحلم-حلم نهاية التاريخ..."ص 5 مجلة "شؤون عربية"-عدد129-ربيع 2007.
إلا أنّ هجمة الغرب الشرسة على الإسلام تبدو محيّرة وغير مبررة بالنظر إلى أنّ العالم الإسلامي-رغم أهمية ثرواته-لا نراه يُشكّل تهديدا للتفوق الغربي راهنا أو في المستقبل المنظور،هو لا يشكّل هذه الخطورة،على الأقلّ،من منطلق أنّه لا يمثل هذه القوّة الصاعدة التي يُتحسّب من تهديدها ومنافستها الجدية للغرب-بكلّ مقاييس قوّة حضارة العصر...هذه القوّة الزاحفة،كما يدرك الغرب ذاته،تعلنها بوضوح الصين،بل إنّ هذه الأخيرة قد فرضت بعد حضورها الفعلي والمؤثر على غرب بدا كمن أنهكه ترفه الحضاري واسترخاؤه حيثما تعوّد أن ينهب،والقضية أنّ الصين هي التي تنافسه اليوم على أسواقه التقليدية وغير التقليدية،وهي التي تزاحمه على التحكّم في مصادر الطاقة في الدول الإسلامية وغير الإسلامية.
لنتابع مقتطفات من دراسة أعدّها الدكتور ونيس المشري عثمان تركّز،بالخصوص،على أهمية ثروات الطاقة بالقارة الإفريقية:
-"الدول المتواجد بها احتياطات كبيرة وإنتاج عالي..ليبيا ونيجيريا والجزائر وأنغولا والسودان حيث تمتلك 112.3 بليون برميل نفط أي ما يُمثّل 89.4 بالمائة من إجمالي احتياطي القارة الإفريقية.تنتج هذه الدول مجتمعة ما نسبته 81.3 بالمائة من إجمالي إنتاج القارة الذي يقدّر ب10.235 مليون برميل يوميا."(1)
+ لاحظ هنا أنّ جميع الدول المذكورة،تقريبا،ذات أغلبية مسلمة (باستثناء أنغولا)
" نستنتج من التحليلات والرّؤى الاستراتيجية إنّ للتواجد الأمريكي بالقارة الإفريقية يرجع إلى سببين رئيسيين:أولا في تأمين تزويدات الطاقة حيث ازدادت أهمية القارة الإفريقية كمزود رئيسي للنفط والغاز للولايات المتحدة وثانيا تحجيم النفوذ الآسوي وبالتحديد النفوذ الصيني المتنامي والمتضارب مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية بالقارة."(2)
+لاحظ أنّ انزعاجا أمريكيا من الصين يبدو واضحا.
"إن الدور الآسيوي وعلى رأسه الصين أصبح يقلق الولايات المتحدة الأمريكية كثيرا فقد أخذت الصين في استيراد البترول من الدول المنتجة منذ عام 1993 وذلك لتغطية العجز الحاصل لديها.مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الصين منافسا رئيسيا لليابان للحصول على إمدادات النفط من منطقة شرق بحر الصين ووسط وجنوب شرق آسيا في بدايات الألفية،حيث تشير بعض الإحصائيات أنّ الصين تجاوزت اليابان في المرتبة الثانية لسنة 2008 كأكبر مستورد للنفط من قارة إفريقيا بعد الولايات المتحدة..."(3)
(1) (2) (3) نفس المصدر ص 6-جريدة العرب العالمية.
لماذا،إذن،يركز الغرب،تتزعمه أميركا هجومه على الإسلام والحال أنّ "المارد الأصفر"-الصين-هي التي تؤرّقه وتنافسه على ثروات الدول الإسلامية؟..ألا يكون ثمة اقتناع أمريكي صيني بأنّ حسم الصراع بينهما يمرّ عبر بوابة تطويع هويّة الدول المنتجة للطاقة،وأشدّ هذه الهويات استعصاء على الاستهداف والتطويع هي تلك التي تحكمها عقيدة الإسلام؟..وعليه فإنّ الحرب الاستباقية التي تشنّها أميركا على الصين بدأت بما تقدّر،تخيّلا،أنها تبدأ بالخاصرة الرخوة التي تتوهم أنها في متناولها،أي العالم الإسلامي...
وإذا كان مطلوبا التعامل مع الأحداث على أنها تاريخ يتشكّل،فإنّ الحاضر الإسلامي بثرواته النفطية والبشرية وبفكره المعتدل منه والمتشدد،بقدر ما يتحوّل إلى جزء من الماضي الذي يفسّره،فإنّ الجزء الأهم منه هو ذاك الذي يبوح بسرّه المستقبل...إنّ المشهد الإسلامي ،اليوم، على ما يلفّه من ضباب الحروب والنزاعات وما يحجب أفقه من غموض،فإنه لا يُعدم الأمل في مستقبل واعد تلوح ملامحه فيما نفترض أنه بلورة لمنعرج تاريخي حاسم،أهم إرهاصاته تجارب لدول إسلامية ذات ثقل سكاني وجيواستراتيجي وأثر تنموي مثل تركيا وأندونيسيا.ولعلّ ذات التوصيفات تحتّم علينا تعداد دول أخرى مثل باكستان وإيران ومصر...
مما يجدر التأكيد عليه أنّ :
- أندونيسيا التي يمكن إدراجها ضمن الدول النفطية لكنها تتميّز باستثمار نفطها لفائدة اقتصادها المحلّي المتطوّر الذي ما فتئت تتزايد حاجته لمصادر طاقة لا تمتلك فائضا منها.هي تمثّل نموذجا تنمويا إسلاميا ناجحا رغم تعقيدات تركيبتها البشرية والجغرافية التي تنام على الزلازل والبراكين في أرخبيل يتكون من أكثر من 17500جزيرة،وهي التي تعادل-تقريبا- في عدد سكانها ثلثا سكان دول العالم العربي مجتمعة بما فيها مصر التي تستأثر وحدها بأكثر من 80 مليون نسمة.
-تركيا (وريثة الإرث العثماني) هي الأخرى جديرة بتأكيد أهميتها ،وهي إذ قطعت مع إرثها الإسلامي زمن تأسيسها لنهضتها العلمانية الراديكالية "الأتاتوركية" المحصّنة بالمؤسسة العسكرية،تعود اليوم بوجه جديد يُشدّد على تصالحها مع ذات الإرث الذي هجرته،بقدر حرصها على تنمية رصيد حداثتها الذي اكتسبته،لكن،بعلمانية "مؤمنة"...وللتذكير فإنّ تركيا التي يسجّل اقتصادها معدّل نموّ مرتفع هي ليست بالدولة النفطية.
- باكستان (170 مليون نسمة) دولة غير نفطية لئن كانت تعاني من انعدام الاستقرار السياسي والأمني وصراع مزمن مع جارتها الهند حول كشمير،فهي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك السلاح النووي...
- إيران الثروة النفطية والثورة الخمينية التي تبنّت فكرها الإسلامي والشيعي وطبقته بصفة راديكالية منذ أن أطاحت بحكم الشاه (الموالي للغرب) سنة 1979 إلى اليوم،هي ذات الدولة التي خاضت، حربا مدمّرة مع نظام صدام حسين العراقي دامت لأكثر من ثماني سنوات،كما أنها ذات الثورة التي تعيش عداء وحصارا أمريكيا وغربيا معلنا يُبرّر باتهامها بالسعي لامتلاك السلاح النووي.
-أما مصر العربية (غير نفطية) فإنه يتعذر تلمّس مسارها اليوم وهي في حال من يبدو قد أرهقه ولعه بلعب دور النجم العربي فخيّر الانكفاء على نفسه مرتهنا لسلامه المنفرد مع إسرائيل ولوضع من الضغوطات الداخلية الضاغطة التي يتوقّف على طريقة حسمها معاودة ظهوره الفاعل.لكن،أقرب الظنّ،بوجه جديد مغاير لذلك الذي كان يظهر به نجما على طريقة نجوم أبطال الكوميديا المصرية...
هل يجوز،إذن، التنبؤ بأنّ العالم الإسلامي أضحى يمثّل رقما صعبا في معادلة السيطرة على حضارة المستقبل التي بدأت ملامحها تتشكّل ؟..هو كذلك،ليس بفضل ثروة نفطه وغازه وسائر ثرواته الطبيعية الأخرى الظاهر منها والخفيّ،فحسب،إنما بفضل امتلاكه للتكنولوجيا النويية بما فيها السلاح النووي،وكذلك بفضل توفّق دول منه ذات أهمية إستراتيجية في نجاح منوال تنميتها الصاعد ونظامها السياسي الحديث،وبفضل ثبات الفكر الإسلامي لا،فقط، على تعميق العقيدة الدينية ،بل،خصوصا،لإصراره على طرح إيديولوجيا إسلامية،لئن بدت اليوم مشوّشة وشديدة التعقيد،فذلك شأن المشاريع التي تتشكّل لتصوغ نموذجا صالحا للإسهام في معالجة التحديات المطروحة على العالم،وهي تحديات تبدو بحاجة ملحة إلى بعد أخلاقي وروحي يقيها من انحرافات فرعونية أمريكية جديدة متألّهة تهدّد بتشويه ثراء التراث الحضاري الإنساني الضخم وتعلن جواز "شيطنة" العالم-الإسلامي منه بالدرجة الأولى-بعد أن كانت،سابقا،قد شيطنت إيديولوجيا الاتحاد السوفياتي قبل انهيارها.
وسواء كان التخويف بالإسلام ناتجا عن سوء فهم ،أو هو عملية انتقاء ماكرة لافتراض عدو يمكن إيقاظه في الذاكرة الجماعية الغربية لغاية التعبئة والاستنفار لشعوب أنهكها الترف الحضاري،أو هو إحكام لقبضة التحالف الأمريكي على "الشرق الأوسط الكبير"من أجل الاستعداد للتفرّغ إلى مواجهة منافس آخر جدي وشرس،فإنّ على "الغرب الجديد"أن يدرك،جيدا،أنّ الشعوب الإسلامية إذ تخطت مراهقتها الفكرية،بكلّ الأوجاع التي عانتها،تبدو على استعداد،أكثر من أيّ وقت مضى، للتواصل الايجابي مع الآخر متى قطع هذا الأخير مع سلوك الاستخفاف والابتزاز واستبلاه الآخر.ترى هل وعى الغرب أنّ العالم يمكن أن يتغيّر بسرعة لغير صالحه ؟..
التعليقات (0)