الإسلام السياسي في العراق : النهضة والسقوط في ظل الاحتلال
د . خالد المعيني مدير مركز دراسات الاستقلال
- الإسلام السياسي المتطرف
- الإسلام السياسي المنبطح
- الإسلام السياسي الوطني
لم تحظى الأحزاب الدينية في العراق طيلة تاريخها السياسي بفرصة ذهبية للظهور على السطح بقوة كما أتيح لها في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي, فقد طغى الإسلام السياسي على ملامح المشهد السياسي من خلال بروز وحضور وتحكم المؤسسات أو الأحزاب أو المرجعيات الدينية في السلطة والثروة ، ساعد على ذلك عدة عوامل لعل أهمها التنسيق المبكر وتحالف الكثير من هذه القوى مع إدارة الاحتلال في محطات ما قبل الاحتلال من جهة ، وكذلك تراجع وانحسار وشيخوخة معظم الأحزاب الإيديولوجية التقليدية القومية أو اليسارية و عجزها عن تقديم حلول عملية وواقعية لتناقضات المجتمع العراقي من جهة أخرى . وفي سياق الرغبة العارمة لدى الفرد العراقي وحاجته للتغيير نتيجة وطأة الحروب المتكررة والحصار الخانق والكبت السياسي من جهة والشعور المتراكم لدى بعض الشرائح لعقود طويلة بالمظلومية وهيمنة التخلف كنتيجة مباشرة لليأس والإحباط من جهة أخرى ، فان ملايين من العراقيين وجدت نفسها مباشرة بعد الاحتلال أمام مشهدا جديدا في الساحة السياسية وهو مشهد الإسلام السياسي الذي تولى الحكم مما دفع الكثير في بداية الأمر للتعامل والتعاطف مع هذه الظاهرة كل حسب جذوره والتفاعل معها على أمل إنها نمط جديد قد يجلب لهم العدالة والازدهار والاستقرار الذي طالما افتقدوه .
ومع أن التنوع الطائفي والمذهبي والديني في العراق أمر في غاية التعقيد مقارنة بالمجتمعات الأخرى , فان هذا التعقيد انسجم تماما مع الفلسفة السياسية الجديدة لنظام الحكم والقائمة على أساس المحاصصة الطائفية والعنصرية .
لقد أدى التدمير المبرمج لمؤسسات الدولة العراقية على يد قوات الاحتلال الأمريكي وحل كافة صمامات الضبط الاجتماعي المتمثلة بالجيش والشرطة ومؤسساتها إضافة إلى الوهن في عناصر الوحدة الوطنية وعدم تبلور هوية وطنية موحدة إلى تداعيات كان أول نتائجها ذلك البركان الهائل الذي أعقب الاحتلال والذي اتخذ من العباءة الدينية غطاءا له وفرخ مئات الأحزاب والمنظمات والميليشيات الدينية معززا بعشرات الفضائيات ذات التمويل الخارجي لترسيخ صورة عهد جديد أرخى ظلاله على العراق فأنتج مزيجا وخليطا عجيبا بين أحزاب دينية موغلة في القدم والغيبية مؤطرة مبرقعة بادعاءات وشعارات غربية ليبرالية.
وغالبا ما تتيح الظاهرة السياسية الدينية هامشا كبيرا من السماحات والذرائعيات غير المحدودة (Tolerance) تندرج مابين حدود الترويج والتعامل والتعاون مع المحتل الكافر إلى حدود التطرف في كل شيء ليس فقط ضد المحتل وإنما تمتد إلى تكفير واستهداف أبناء الوطن وتوغل أحيانا إلى داخل الطائفة أو المذهب ذاته .
لذا فإن هذه الظاهرة قد حملت منذ البداية جذور تدميرها الذاتي من خلال تناقضاتها سواء من خلال اعتماد معظم برامجها السياسية على أساس الطائفة والمذهب ، أو من خلال اعتمادها وسيلتي التعاون مع المحتل أو التطرف المذهبي طريقا لها في تكريس حقبتها السياسية الجديدة في العراق ، أضف إلى ذلك امتداد جذور معظم خيوط هذه القوى خارج حدود العراق وأخيرا فشلها في تقديم أية رؤى سياسية واقعية لشكل الدولة وذلك لتناقض خلفياتها الإيديولوجية والعقائدية الغيبية التي تصل في بعض الأحيان إلى حدود الأساطير والخرافات البعيدة كل البعد عن الإسلام الحقيقي وجوهره السامي .
الإسلام السياسي المتطرف
أدى فتح حدود العراق على مصراعيها عقب احتلال العراق وحل قوات حماية الحدود إلى تحويل العراق لساحة مفتوحة ومستباحة لكل من هب ودب, ووفرت مساحة وضعية انتشار جنود الاحتلال مناخا مثاليا لاستقطاب الكثير من المنظمات والخلايا والتنظيمات الدينية المتطرفة والتي وجدت في العراق ساحة نموذجية لاستهداف و اصطياد هذه القوات وتصفية الحساب معها كامتداد للحرب في أفغانستان وساحات أخرى من العالم .
جسدت أفكار هذه التنظيمات المتطرفة تفكيرا وافدا على طبيعة الشخصية العراقية ففي الوقت الذي انبثقت في العراق مقاومة إسلامية ووطنية فإن العراق لم يكن بالنسبة لهذه التنظيمات بسبب من عقيدتها الأممية أكثر من ساحة حرب ، ولاشك إن آلاف العمليات التي نفذها إنتحاريو هذه التنظيمات قد بثت الرعب في صفوف قوات الاحتلال والعراقيين على حد سواء ، وعلى الرغم من قلة عدد هذه التنظيمات مقارنة بفصائل المقاومة العراقية إلا أن استخدام أساليب التخويف والتصفيات ووفرة الإمكانات المادية غير المحدودة قد جعل من عملياتهم أكثر فتكا وأشد تأثيرا وشكلت في نفس الوقت كارثة ومصيبة عندما تحولت بوصلة عمليات هذه التنظيمات باتجاه الشعب العراقي بصورة رئيسية إلى حد تشكيلها عبئا ثقيلا على مشروع المقاومة وصل إلى حد التصادم والتصفيات .
لقد ساهمت طروحات وسلوكيات الإسلام السياسي المتطرف في العراق إلى ردود أفعال سلبية و كارثية دفعت بالعراق إلى شفير الحرب الأهلية فقد حفزت بالمقابل على الطائفية والتشجيع على تقسيم العراق لاسيما بعد إعلان هذه التنظيمات في 15 تشرين الأول 2006 " الدولة الإسلامية في العراق " كما شكل التطرف والممارسات الغريبة عن منظومة قيم المجتمع العراقي إلى رد فعل معاكس من خلال بروز ظاهرة الصحوات كرد فعل اجتماعي أضر كثيرا بمشروع المقاومة الوطنية وقلص من مساحة عملها وأضعف حاضنتها الشعبية ، كما استفاد الاحتلال كثيرا من حدة هذا التطرف لتشويه صورة المقاومة وخلطها بالإرهاب ونجح من خلال ذلك من التقاط أنفاسه وتحقيق هدف " فتنمة الحرب" وتحويلها من حرب عراقية – أمريكية إلى حرب عراقية - عراقية .
من جهتها تمكنت إيران بدورها أسوة بإدارة الاحتلال من اختراق وتوظيف الكثير من هذه التنظيمات ، فإيران من جهتها و بتواطؤ من مرجعيات داخل وخارج العراق هيأت شريحة كاملة من الرأي العام تمهيدا لاستقطاب وتمويل وتسليح وتدريب ميليشيات طائفية ومجاميع خاصة بها لتستخدمها كورقة تحسن من خلالها شروط تفاوضها مع الولايات المتحدة .
الإسلام السياسي المنبطح ( المتواطئ)
يشمل هذا الصنف جميع الأحزاب والمرجعيات والشخصيات الدينية التي تعاونت و انخرطت مباشرة في مشروع الاحتلال وعمليته السياسية اعتبارا من تشكيل مجلس الحكم الانتقالي في تموز 2003 الذي ترأسه حاكم الاحتلال المدني بول بريمر والذي أسس لمبدأ المحاصصة الطائفية والعنصرية كأساس لنظام الحكم في العراق ما بعد الاحتلال الأمريكي وكذلك اعتبارها ليوم احتلال بغداد عيدا وطنيا, ومن الجدير بالذكر إن معظم هذه القوى قد تفاهمت مع الولايات المتحدة قبل الاحتلال وهذا ما تشير له وثائق ما يسمى بالمعارضة العراقية والتي كان يشرف على مؤتمراتها رسميا سفيرا خاصا يسمى سفير الولايات المتحدة لدى المعارضة العراقية والذي أصبح فيما بعد سفيرا لها في العراق حيث بلغت نسبة ممثلي قوى الإسلام السياسي في مؤتمر لندن الذي عقد في كانون الأول عام 2002 أكثر من ضعفي القوى غير الدينية إذا ما تم استثناء الأحزاب ذات النزعة العنصرية, وهي نفس القوى والأحزاب التي تتقاسم السلطة والثروة حاليا في العراق وتتناوب على حكمه مما يدل على عمق ارتباط هذه الشريحة بالمخططات الخارجية وتعاونها المبكر مع هذه المخططات وإعطائها الشرعية لإدارة الاحتلال من خلال تعاونها وتعاملها الفوري والمباشر معه .
لقد تمخض تعاون هذه الأحزاب والشخصيات مع مشروع الاحتلال عن دستور مشوه ومفخخ يستند على تقاسم السلطة كغنائم بين الطوائف والمذاهب والقوميات وغابت هوية العراق لتجعل من شرائح الشعب العراقي وجها لوجه سائرين بالبلاد من خلال هذا الدستور ونظام المحاصصة إلى تقسيم العراق وتفتيته إلى كيانات هزيلة متناحرة فيما بينها ويستند كل منها على دولة أجنبية بحجة حماية المذهب أو الطائفة.
الإسلام السياسي الوطني
يقصد بقوى الإسلام السياسي الوطني تلك الهيئات والشخصيات والمرجعيات التي وقفت ضد الاحتلال الأمريكي ومشروعه التقسيمي وأدركت منذ البداية بأن الصراع معه لا ينحصر بطائفة أو مذهب أو قومية بعينها ، وإن حشد الطاقات ينبغي أن يتم على أساس وطني وليس من خلال الثقافات الفرعية الضيقة والحقيقة إن هذا الصنف من الإسلام السياسي رغم ندرته في العراق يمكن أن يوصف بأنه قدم الصورة المنشودة للإسلام السياسي كذلك تميز هذا الصنف بثباته على الموقف وتطابقه مع إرادة الشعب العراقي المتمثلة بالمقاومة العراقية إضافة إلى أنه لم يكن من لون واحد وإنما من كافة الألوان وتجسد خطاب هذا النمط فعليا وعمليا من خلال معارك الفلوجة عام 2004 التي أعطت صورة رائعة عن جوهر ونسيج الوحدة الوطنية للشعب العراقي واثبت من خلالها بأن التقسيمات والتنويعات السياسية الطائفية لا تمثل إلا أصحابها ومحصورة في الطبقة والقشرة السياسية الوافدة مع الاحتلال والمتعاونة معه ولم تمس معدن الشخصية العراقية البسيطة .
مما تقدم يتضح بأن تجربة ثمانية سنين من تصدر قوى الإسلام السياسي للمشهد السياسي في العراق قد أفضت إلى نتائج عكسية وإن الاحتلال قد نجح في أن يحشرها في مأزق السلطة رغم عدم استعدادها وأهليتها له ويعود السبب في اعتقادنا إلى إن معظم خلفيات هذه القوى محكومة بالبعد الطائفي والمذهبي بل إن بعضها لا يمكنه بسبب هذه الخلفيات من الاتفاق مع أقرانه داخل المذهب الواحد مما يجعلها تعيش حالة من التخبط في مواقفها بسبب شدة التناقض والازدواجية ما بين عقيدتها من جهة وسلوكها من جهة أخرى، كما يعود فشلها إلى براغماتيتها ونفعيتها العالية التي جعلتها تتلون وتتقلب بطريقة أفقدتها مصداقيتها ليأتي السبب الرئيسي في هبوطها وكونها الآن في العراق قد أصبحت جزءا من المشكلة وليس الحل هو عجزها التام عن طرح مشروع ورؤية وطنية يمكن أن توحد العراقيين لبناء دولة المستقبل والانتقال بها من الدولة الثيوقراطية الدينية التي يرزح تحت حكمها العراق حاليا إلى الدولة المدنية المعاصرة التي تعيش بقيم المستقبل
التعليقات (0)