الإسلام البشري ..
بقلم: سلمان عبد الأعلى
يُقال عادةً الأديان السماوية أو الإلهية إذا أراد المتحدث الإشارة للأديان الإلهية الثلاث: (اليهودية والنصرانية والإسلام)، وهي الأديان التي نزل بها الوحي الإلهي المقدس، وارتبطت ارتباطاً مباشراً ووثيقاً بدعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام.
وفي مقابل ذلك يُطلق مسمى الأديان الوضعية على الأديان التي هي من صنع الإنسان ووضعه، إذ أن هذه الأديان لا ترتبط في نزولها ولا في تعاليمها بالوحي الإلهي، كما أنها لا ترتبط بدعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام، ولهذا يمكننا أن نطلق عليها أيضاً اسم الأديان البشرية، وذلك لأنها أديان من صنيعة البشر ومن ابتكاراتهم.
ولكننا أيضاً لا نستطيع أن نقصر هذا المسمى ((الأديان البشرية)) فقط على الأديان الوضعية، فحتى الأديان السماوية التي نزل بها الوحي المقدس حرفت فيما بعد ونسب لها ما ليس فيها، بل نسب لها حتى ما يخالف مبادئها وتعاليمها الأساسية.
ولهذا قد لا نكون مخطئين لو قلنا بأن الكثير منا يتعبد بأديان بشرية وليست إلهية، وحتى وإن قال أو ادعى بأنه ينتسب أو يتعبد بإحدى الديانات السماوية، فإن هذا لن يغير من الواقع شيئاً، وذلك لأن الكثير من المبادئ والتعاليم التي يلتزم بها هي تعاليم بشرية وليست إلهية، ولا يمكن أن تكون إلهية بحال من الأحوال، ولا داعي للاستغراب والتعجب إذا ما عرفنا بأن الكثير من المبادئ والتعاليم الإلهية تلاعبت بها أيدي البشر وحرفتها عن موضعها.
فالديانة اليهودية اليوم ليست كالديانة اليهودية حين نزولها على نبي الله موسى عليه السلام، وكذلك الديانة المسيحية أو النصرانية، فهي تختلف اختلافاً كبيراً عن النصرانية التي كانت في زمن نبي الله عيسى عليه السلام، لأن الكثير من تعاليمها ومبادئها طمست وتبدلت أو بُدلت عما كانت عليه آنذاك. وحتى الكتب السماوية التي جاء بها نبي الله موسى وعيسى عليهما السلام (التوراة والإنجيل)، فإنها أيضاً حرفت ولم تعد بمجملها نفس تلك الكتب التي نزلت عليهما أو كانت موجودة في زمانهما عليهما السلام.
أما في الديانة الإسلامية فالأمر قد يختلف نوعاً ما، وإن كنا في بعض جزئياته نعيش في نفس الحالة أو في حالة مشابهه، فعلى الرغم من أن الكتاب السماوي الذي أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وآله (القرآن الكريم) لم تطله يد التحريف، إلا أننا لا نستطيع أن نقول بأن الإسلام الحالي (المعروض والمتداول) بكل تفاصيله وجزئياته هو نفس الإسلام الذي جاء به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
لذا إننا وبصراحة تامة نرى أن بعض المفاهيم والتعاليم الإسلامية التي جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد حرفت عن موضعها أيضاً، أو أنه تم إلغائها أو تجاهلها بقصد أو دون قصد، فمن يتأمل في الإسلام المعاصر الذي يلتزم به بعض الفئات في مجتمعاتنا، لا يراه إسلاماً إلهياً خالصاً وإنما يراه إسلام بشري متهالك لم يسلم من التطاول والتلاعب والاستغلال، فأيادي البشر عبثت به وحرفته عن مواضعه الذي كان عليها.
وإن من يركز في بعض التصرفات والسلوكيات الشائعة التي يمارسها بعض المحسوبين على المسلمين يراها تختلف وربما تتناقض كلياً مع بعض المفاهيم والمبادئ الإسلامية الأساسية، فبعضهم مثلاً يمارس العنف والإقصاء والإساءة بحق الآخرين باسم الإسلام أو باسم الدفاع عن الدين والعقيدة، وهذا يذكرنا بعبارة أحد المفكرين وهو يصف بعض التصرفات الخاطئة التي يمارسها البعض باسم الدين إذ يقول في ذلك: ((دين ضد الدين)).
بعض ملامح الإسلام البشري
ففي إسلام بعضنا في عصرنا الحاضر نجد التباين والتناقض الكبير بينه وبين الإسلام في زمن الرسالة المحمدية، مما يدلل على أن إسلام هؤلاء هو إسلام بشري وليس إسلام إلهي أو محمدي، وحتى وإن أمتزج في بعض ملامحه وأشكاله بالإسلام المحمدي الأصيل، إلا أنه بكامله وبتفاصيله لا يمكننا أن ننسبه إلى السماء.
ومن الأمثلة على ذلك ما نراه من بعضهم، حيث أنه لا يطيق أن يرى من يخالفه في الدين أو المذهب أو العقيدة أو حتى في الرأي دون أن يفعل شيئاً ضده، ولهذا نراه ينتفض في وجهه بشدة، ويحاربه أشد المحاربة، ولا يتورع في استخدام أعنف الأساليب والوسائل الإقصائية معه، وكل ذلك تحت شعار الدين والدفاع عن العقيدة أو ما شابه، وكأنه نسي قوله تعالى: ((لا إكراه في الدين)) و قوله تعالى: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)).
فهو يرى نفسه أو يريد أن يكون المسيطر والمتحكم بالخلائق، وكأنه نسي بأن هذا ليس له، وكأنه لم يقرأ قوله تعالى مخاطباً نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وهو المبعوث بالرسالة: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)).
ولكن بعضهم لا يفكر في هذا، ولهذا نجده يحارب كل من يخالفه بكل شدة وغلظة وجلافة، وكأن الإسلام أمر بهذا أو حث عليه، وكأن القرآن لم يقل: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))، وكأن الرسول الأكرم لم يبين أهداف رسالته ولم يقل: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
أجل، بعضهم يتجاهل كل هذا ونراه يشنع على مخالفيه ويشهر بهم على الملأ بلا هوادة، ويستخدم في ذلك المنابر وغيرها من الوسائل الإعلامية، وحتى وإن كان المخالفين له متفقين معه في أساسيات الدين والمذهب، فإن هذا لا يشفع لهم عنده، فهو لا يهتم لذلك ما دام هناك اختلاف ولو بسيط في بعض المسائل الجزئية، ولهذا نراه يشهر بهم ويفضحهم ويكشف حقيقتهم -كما يعتقد طبعاً- وكأن الدين هو الفضيحة وليس النصيحة !
وبعضهم لا يكتف بما سبق فقط، وإنما نراه بالإضافة إلى اعتداءاته بلسانه يعتدي بيده، وكأن الإسلام لم يقل: ((بأن المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه)).
وربما يكون السبب الأبرز من وراء استخدامه لهذه الأساليب المذمومة والدخيلة على الإسلام الأصيل، هي أنه لم يحسن الظن بالآخرين (المخالفين له)، وكأن الإسلام لم يحث على إحسان الظن ولم يدعوا له، وكأنه لم ينبه ولم يحذر من خطورة هتك حرمة المؤمن.
ويا ليته يتحاور مع الآخر (المخالف له) قبل أن يحكم عليه وينتهك حرمته، ولكن ما نراه هو أنه يسد جميع النوافذ المفضية للحوار معه، بحجة أنه يمتلك الحقيقة المطلقة التي لا يشوبها الباطل، ولهذا نجده يقطع ويجزم بصحة آراءه ومواقفه، وبالتالي هو ليس على استعداد للحوار مع المخالفين له، لأنه مع الحق والحق معه، وكأن لم يقرأ قوله تعالى: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)).
على كل حال، كل هذه المظاهر التي ذكرناها آنفاً هي مظاهر للإسلام البشري، وليس للإسلام الإلهي المحمدي، ويوجد بالتأكيد العديد من المظاهر الأخرى التي يتجلى فيها الإسلام البشري بكل وضوح، ولكننا لم نذكر هنا إلا ما أسعفتنا به الذاكرة.
ما هي الجدوى من وراء هذا الكلام ؟
قد يقول قائل: إن هذا الكلام قد يؤدي للتشكيك في الدين الإسلامي مما يجعل الناس تهجره وتبتعد عنه وتنفر منه تحت ذريعة أنه ليس ديناً إلهياً خالصاً، وإنما هو إسلام بشري صنعته خمائر بعض العقول البشرية، ولهذا ما هي الفائدة المرجوة من ذكر هذا الكلام ؟
وفي مقام الإجابة على هذا التساؤل نقول:
أولاً: إن كلامنا السابق ليس تشكيكاً في الدين الإسلامي ومبادئه وتشريعاته، وإنما هو تشكيك في بعض العقول البشرية التي تفسر الإسلام وتوظفه بشكل خاطئ من حيث تشعر أو لا تشعر، فصحيح أن الدين الإسلامي المنزل على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مقدس ومعصوم عن الخطأ لأنه شريعة إلهية، ولكن هذا لا يمنع من كون فهمنا له قد يقع فيه الخطأ، لأن عقولنا محدودة وليست معصومة، ومن الممكن أن تخطأ في فهم الدين وتفسيره وتطبيقه.
ثانياً: إن كلامي لا يهدف إلى ترك التعلق بالدين ولا يؤدي بطبيعته للانفصال عنه والنفور منه، وإنما يهدف إلى إصلاح الوضع الديني وتبيان موارد الخلل فيه، (فهو من أجل إصلاحه وليس من أجل تركه وهجره).
ثالثاً: إن من أهداف كلامنا هو ضرورة التركيز على المبادئ الإسلامية الأساسية المتفق حولها، وعدم شغل الساحة في قضايا وأمور يُختلف في تقييمها باختلاف العقول والإفهام، إذ علينا أن نلتزم بالمبادئ التي يتفق عليها وحولها الكل، كضرورة إحسان الظن بالمؤمنين، وضرورة الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وضرورة الالتزام بأنه لا إكراه في الدين فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وغيرها من الأمور والمبادئ الدينية الأساسية المتفق حولها بين المسلمين، وهذا بدوره يجعلنا نرفع القداسة عن الأمور الجزئية التي من الممكن أن تتعدد فيها وجهات النظر ويقع حولها الاختلاف.
وباختصار شديد نقول: إن هدفنا من كلامنا هذا ليس من أجل الابتعاد عن الدين وهجره، وإنما من أجل إصلاحه وتصحيح فهمه، لكي نتمكن من فك حالة التعصب الأعمى ضد المخالفين لنا، ولنتخلص من التشنجات التي تشهدها ساحتنا الدينية، والتي نجد من آثارها البارزة استفزاز عواطفنا ضد الآخرين المخالفين لنا والاصطفاف لمحاربتهم، لأن هذه الحالة لو استمرت لن تزيد مجتمعاتنا إلا المزيد من التفرق والتشرذم، وهذا لا يمكن أن يكون من الدين في شيء.
التعليقات (0)