من اجمل ما قرات عن الربيع العربي مقال الدكتور امين حسن عمر وزير الدولة السوداني ومسؤؤل ملف دارفور و رايت من الفائدة نقله للقراء
التحوّلات الحضارية الكبرى لا تصنعها إلا الشعوب المستبصرة
فقه الأولويات وتعزيز الحرية هما واجب الوقت الذي يجب ألا يُؤخر
فليكن الإسلاميون أولى الناس بحراسة مكتسبات الثورة
الديمقراطية وحدها القادرة على تعبئة الشعب وحشده إزاء التحديات الكبرى
لابدّ للحركة الإسلامية أن تكون المبادرة بالحوار مع الآخرين
مسايرة التطرّف والتشدد هما أشد المهددات خطراً في هذه المرحلة الحرجة
أولوية المرحلة كسب ثقة الجماهير للاستظهار بها في معركة تقرير المصير الحضاري للأمة
الحركة الإسلامية هي الرابحة إن بسطت يدها للتعاون والتحالف مع التيارات الأخرى
الإسلاميون هم الرقم الصعب في الثورات العربية التي اجتاحت المنطقة في النصف الأول من العام الجاري، وهذه حقيقة لا يسعد بها كثيرون، ولكن لا يسعهم إنكارها، فالربيع العربي كان ربيعاً إسلامياً بشعاراته وصلواته وجمعاته وبقيادته ومنظريه ومحرضيه. ولئن كرهت هذه الحقائق دوائر محلية ودولية كثيرة إلا أنها لا تملك تغيير الوقائع على الأرض أو احتواء مدها الثوري المستعصي على السدود والحدود.
أما وقد تهاوت أنظمة وتزلزلت أخرى فقد نشطت التحركات لتحجيم الدور الإسلامي وتقزيمه ورغم ما يبدو من تحالف قوى داخلية وخارجية لتحقيق هذا الهدف فإن التيار الإسلامي يبقى سيد مصيره والقوة الأساس التي ستُحدد حجم دور الحركات الإسلامية في رسم الخارطة الوطنية والخارطة السياسية على المستوى الإقليمي.
الديمقراطية أولاً
أول ما يجب أن تتقنه الحركات الإسلامية في بلدان الربيع العربي هو فقه الأولويات، ذلك أن أي عمل في أوانه هو العبادة الفاضلة. وهو واجب الوقت الذي يجب ألا يُؤخر، وواجب الوقت في تلك البلدان هو تحقيق أعجل مطلوبات الشعب وهي الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والكرامة الوطنية. ولئن كان مقصد الحركات الإسلامية هو إحياء الهوية الإسلامية واستعادة الدور القيادي للأمة فإن ذلك لن يتحقق إلا بإرادة السواد الأعظم من الشعب.
فأولوية المرحلة هي كسب ثقة الجماهير للاستظهار بها في معركة تقرير المصير الحضاري للأمة. ولن تكتسب ثقة الشعب بمحاولة قطع المراحل وفرض رؤية أيديولوجية صفوية على من رضي ومن أبى قبل تبسيطها وتسهيل إدراكها على الإفهام، ومن ثم تمليكها للسواد الأعظم من الشعب.
فالتحوّلات الحضارية الكبرى لا تصنعها إلا الشعوب المستبصرة المالكة لأمرها المتحلية بالعزائم التي تقهر كل التحديات. والديمقراطية وحدها هي القادرة على تعبئة الشعب وحشده بإزاء التحديات الكبرى، الديمقراطية وتعزيز الحرية هما واجب الوقت. ورد الأمر إلى الشعب ليكون أمرهم شورى بينهم هو واجب الوقت. فالجماهير ظمئة للحرية متلهفة لامتلاك قرارها، وهي لن تخذل التيار الإسلامي ما استطاع قراءة الوقائع على الأرض جيّداً وأدرك ما يريده الشعب وسعى بالإخلاص والعمل الدؤوب لتحقيقه.
ولقد تفاءلت بالاسم الذي اختارته حركة الإخوان في مصر لحزبها. وأرجو أن تكون سياسة الحزب مصداقاً لاسمه، فالحرية والعدالة هما ما يطلبه الشعب المصري. والحرية هي إطلاق الإرادة بغير قيود إلا التمثل بالأخلاق والالتزام بالقانون. وهي تحرير المشيئة الإنسانية فلا تعلو عليها إلا مشيئة الله أو ما اختارته لانتظامها الجماعي لترتيب الشأن العام.
والعدالة هي تحقيق مبدأ السواسية في الحقوق والوجبات في الشأن السياسي وتحقيق التساوي في الفرص والتوازن في الشأن الاجتماعي والاقتصادي، وإذا تحقق ذلك فقد تحقق المراد من إرسال الرسل وإنزال الكتب، ولكن ذلك لن يكتمل قط إلا بالاستهداء بالكتاب والاستبصار بالسنة، والتحرّك لترسيخ الحرية وتحقيق العدالة هو السبيل إلى قلوب الجمهور من الناس، ولذلك فليكن الإسلاميون أولى الناس بحراسة مكتسبات الثورة من تحقيق الحريات) و ترسيخ النظام الديمقراطي.
وقد كان أول مسير التيار الإسلامي في تركيا بقيادة نجم الدين اربكان هو الدعوة للنظام العادل، عندما أنشأ أول أحزابه الإسلامية وأطلق عليه حزب النظام العادل. ونظامه العادل كان يتمثل في استعادة الديمقراطية الحقة للشعب ورفع الوصاية باسم العلمانية عن الشعب، ونظامه العادل كان يتمثل في رفض الوصاية الاقتصادية وتحرير المعاملات وتطهيرها من الفساد ومن الاحتكار وجعل المال دولة بين أيادي من يملكون المال والسلطان، ولا يزال حزب العدالة والتنمية في سبيل تحقيق ذلك النظام العادل بسياسة الخطوة خطوة، فإذا تحقق القدر الأكبر من ذلك ولو بعد حين لن يبقى إلا أن تُرفع عليه اللافتة الإسلامية. وأنا لا أقترح على الحركة الإسلامية في مصر أو ليبيا أو تونس أن تتبع سبيل حزب العدالة والتنمية حذو القذة بالقذة فلكل بلاد وضعها وظرفها. وتركيا كانت قد أبعدت النجعة عن الإسلام وأوغلت في طريق العلمنة والتغريب وليس شأن مصر بذلك ولا تونس ولا بالأحرى ليبيا، فإستراتيجية الخطوة بعد الخطوة مطلوبة ومحمودة، ولكن المضي بها لا يعني التحرّك بذات السرعة التي فرضتها ظروف مخصوصة في تركيا. بيد أن التعجل في فرض الرؤية الإسلامية في كمالها الذي يتصوره الإسلاميون قد يضيع سوانح ماثلة ويهدر فرصاً نادرة لبناء الأنموذج الإسلامي وتمليكه للشعب وحراسته به.
الوئام الوطني مطلوب الساعة
يواجه الإسلاميون في البلاد التي قادوا الثورة فيها محاولات لا تنتهي لإقصائهم وتقزيم أدوارهم، وعليهم ألا يستكينوا لتلك المدافعات بل يتوجب عليهم الصدع بمبادئهم دون ايتما روح اعتذارية أو تقهقر عن مراكزهم القيادية، ولكن أيضاً دون مبادلة الإقصاء بالإقصاء ولا النزوع لاحتكار الساحة السياسة، فإن الاحتكار لن يُؤدي إلا إلى سحب الحيوية من الحياة السياسية وإماتتها وحينئذ فالجميع يخسرون، واجب الحركة الإسلامية أن تغتنم دورها القيادي لبناء حالة من الوئام الوطني والتواثق على مبادئ الثورة مع الجميع إلا من أبى، فالمرحلة التي تعبرها الأوطان العربية بعد الثورة مرحلة هي أشبه بمرحلة الإبلال من المرض، ولابدّ من تجنيبها إخطار الانقسامات الحادة التي توسّع الخروق للاختراقات من الخارج، وبناء الوئام يقتضي نفي الأثرة والتحلي بالإيثار، ويقتضي الصبر على مكاره كثيرة، ولكن عاقبة ذلك هو صيانة مكاسب الثورة، وتعزيز الدور الإسلامي القيادي وعدم استعجال العداء والكيد من الداخل والخارج، ولتحقيق هذا المراد فلابدّ للحركة أن تكون المبادرة بالحوار مع الآخرين مهما بدأ منهم من تجافٍ أو بدر منهم من عداء.
والحركة الإسلامية هي الرابحة إن بسطت يدها للتعاون والتحالف مع التيارات الأخرى لمواجهة تحديات المرحلة أو لتحقيق ما يُتعارف عليه من أهدافها، ولتكن العلاقة والتحالف قبل المعترك الانتخابي وأثنائه وبعده فليس هناك مرحلة يُستغنى فيها عن التفاهمات والتحالفات. ولقد جرّب نجم الدين اربكان التحالف مع أوغل الأحزاب التركية في اليسار وأستطاع أن ينجز مهمات سياسية ووطنية مهمة ما كان لها أن تنجز دون ذلك الاصطفاف الوطني الذي ضمن للأتراك في قبرص مصيراً مخالفاً لمصير المسلمين في البوسنة والهرسك.
مناهضة التطرّف تأمين للأمة
وأشد المهددات خطراً في هذه المرحلة الحرجة هي مسايرة التطرّف والتشدد أو الإغضاء عنه. لأن أولئكم أشبه بجماعة في قاع المركب تبغى أن تُحدث خرقاً فيما يليها فإن سايرهم إخوانهم أو تساهلوا معهم توشك السفينة أن تغرق بمن فيها. وعندما نتحدّث عن مناهضة التطرّف والتشدد فإن أولى الوسائل لذلك هي المناهضة الفكرية والتصدي بالفكرة النيرة للفكرة الهدامة، ونشر اتجاهات الفكر الإسلامي الصميمة والصحيحة. فالتشدد لا ينتشر ولا يتكاثر في بيئة علمية مزدهرة بل في مناخات جيشان المشاعر والعواطف وبيئات الإحباط والتيئيس.
ومناخ الثورات بما فيه من مشاعر ثائرة وعواطف ملتهبة مناخ مواتٍ للتشدد والتطرّف، ولذلك وجب الاحتراز الزائد من نمو اتجاهات التطهير والتكفير لأنها أقصر الطرق لتمزيق وحدة الأمة وتضييع مكاسبها الثورية. ولا يجب أن يحملنا الاندفاع لنصرة الحق المهضوم لحرق المراحل، لأن ابتدار المعارك قبل ميقاتها مضيعة للفرص وتبديد للطاقات والموارد وداعية لليأس من تحقيق المقاصد. ولقد صبر الرسول صلى الله عليه وسلم على أذى قريش وعلى طغيانها حتى قويت الشوكة لمنازلتها وإنزال الهزيمة الساحقة بها. ولا شك أنه في مصر وليبيا وتونس اتجاهات إسلامية استعلائية ومتشددة، ولابد من احتواء أخطارها بتكثيف الحوار الفكري ونشر الفقه الصحيح بالدين، وتقوية ذراع القانون ليدفع عن الناس غائلة من يريد أن يفرض رؤيته بالقوة الغاشمة على الراضي والكاره. فلئن استنكر القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم إرادة الإكراه على الإيمان فكيف بهؤلاء.
التعليقات (0)