بقلم : محمد دبارة
عادت الخارطة السياسية في العالم العربي لتتشكل من جديد ،لكن هذه المرة بتسارع انقطعت معه أنفاس المحللين و المتابعين للشأن السياسي الذين يحاولون اللحاق بركب الشعوب المنتفضة في منطقة ظلت ، ولا زالت ،على مدى عقود منطقة ساخنة بالأحداث و المفاجآت ، وكذلك منطقة يرتع فيها الفساد وتغتال فيها الحقوق الكونية للإنسان ، في دول اعتبرت دوما دولا نامية في الظاهر متخلفة في الواقع المسكوت عنه . على أن هذا التوصيف فيه كثير من التجني ،و ساعدت على ترسيخه الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت هذه الشعوب و التي ارتضت لها الهوان والمذلة في سبيل مطامعها الزائلة في السلطة والجاه ، وصموا آذانهم عن الصيحات المتعالية هنا وهناك بيوم موعود لمن جاوز الحد في الظلم و الضيم.
و الحقيقة أن هذا اليوم الموعود قد جاء بسرعة لم يتوقعها احد، حتى الشعوب المنتفضة نفسها، و بدأت صروح الأنظمة العربية يتهاوى الواحد تلو الآخر، واشتعلت الثورات في أكثر من بلد عربي لتدك معها حصونا ظلت منيعة إلى وقت قريب ، و لئن اختلفت النهايات إلا أنها أعلنت جميعها نهاية أنظمة مستبدة رحلت غير مأسوفة عليها لتمر الشعوب إلى محاولات إعادة ترتيب البيت الداخلي وفق صياغة جديدة، عنوانها الأول حق هذه الشعوب في تقرير مصيرها بكل حرية بعيدا عن الوصاية و التزييف الذين طبعا علاقة الحاكم بالمحكوم في الّأوطان العربية على مدى عقود غابرة .
و لأن منطق الثورات يقول أنه لا بد من شيء من الفوضى الخلاقة التي تؤدي حتما الى تحسس الطريق نحو الوضع المختلف الذي ترتضيه ، وأن التشكل الجديد للخارطة السياسية لا بد أن يكون وفق صيغ مغايرة لما كانت عليه قبل الربيع العربي، فكان لزاما على الدول التي مثلت انطلاقة الربيع العربي، وتحديدا تونس و مصر، أن تمر بنفس السرعة التي أطاحت بدكتاتورياتها إلى تأسيس أنظمة جديدة يكون فيها الشعب هو الفصل والحكم . و حتى بعض الدول التي لم تشهد ثورات فإنها قد استوعبت الدرس ، على ما يبدو ، من الإرهاصات المنذرة ، فسارعت إلى حقن شعوبها ببعض الجرعات المسكنة ارضاءا لمطلبيتها في الحرية والكرامة .مثل الأردن بإقالة الحكومة ،و المغرب التي سارعت إلى تعديل الدستور وإقرار الحياد وضمان الشفافية في الانتخابات البرلمانية التي جرت أواخر شهر نوفمبر الماضي..
على أن القواسم المشتركة التي أفضت إليها هذه "الإرتجاجات" السياسية في العالم العربي و خاصة بعد النتائج المسجلة في الإنتخابات في كل من تونس و مصر و كذلك في المغرب،وربما ، وحسب عديد المراقبين ، في كل بلد عربي يمكن أن تجرى فيه انتخابات حرة ونزيهة، هي صعود التيارات الإسلامية و استلامها زمام الحكم ، وهي التي ظلت إلى زمن غير بعيد مقموعة ومطاردة و عانت من تشتت قياداتها بين المنافي والسجون ،بل وغالبا ما استعملت ، ولازالت، "كبعبع" للتخويف والترهيب بإعتبارها تيارات ظلامية تهدد الحداثة المزعومة ،وكثيرا ما شبهت بالنموذج الطالباني برغم اختلاف التفاصيل عن الواقع العربي..
إلى ذلك فإن الأمر واقع اليوم ، والإسلاميون بصدد اعتلاء الحكم في أكثر من بلد عربي ، والسيناريوهات التي كانت ، قبل عام، من الآن ضرب خيال،ولم تدر بخلد أكبر المحللين والمراقبين و حتى مراكز البحوث والدراسات و علوم الإستراتيجيات في العالم قد أصبحت أمرا مقضيا . و ليعيد الجميع صياغة السؤال: هل ينجح الإسلاميون في الحكم ؟ و هل أن مرورهم من موقع المعارضة إلى موقع السلطة سيكون سلسا خاصة أنهم يفتقرون إلى الخبرة في شؤون القيادة والحكم عكس خبرتهم الطويلة في الممانعة والمعارضة؟ و الأهم من ذلك، و على اعتبار أنهم قد ينجحون في المنظور العاجل في معالجة الملفات العالقة و إدارة الشأن الحياتي اليومي ، فإن التساؤل يبقى عن الآجل من السياسات ، و تحديدا هل ينجحون في إزالة الصورة النمطية التقليدية الساكنة في أذهان العديد سواء في الغرب أو حتى في الأمة عن الإسلاميين الذين يرون الأشياء إما حلالا مشروعا أو حراما ممنوعا ، وأن الجنة موعودة لمن أطاع و النار الموقدة لمن أضاع وهلمَ عليهما قيسا ؟ ..أم أنهم سينجحون في التأسيس لبداية عودة مجد الحضارة الإسلامية "الضائع" و يترجمون مقولة "أن الإسلام هو الحل" ، خاصة بعد تراجع المد "القومي" منذ وفاة جمال عبد الناصر و تصدع نظرية الوطن العربي الواحد بفعل الشرخ الذي أحدثه دخول العراق إلى الكويت أوائل تسعينات القرن الماضي ، وما نتج عن حرب الخليج من انقسام في الجسد العربي ، لتكتمل الصورة بالإجهاز على "حزب البعث" في العراق وتراجع دور جل ، إن لم يكن كل ، الأحزاب القومية . وبعد تجربة اليسار في بعض الدول العربية و إن بتفاوت.و هو يسار"متيتم" منذ السقوط المدوي للإتحاد السوفيتي . و أخيرا بداية النهاية لليبرالية في عقر دارها التي تجسدها التحركات الأخيرة في أكثر من عاصمة أوروبية و أمريكية؟؟.
وكل هذه الأسئلة تظل مشروعة و لا نبالغ إذا قلنا اليوم أن آمال الشعوب العربية كلها ، سواء المنتفضة أو "المترددة"، معلقة على الإسلام ليس فقط باعتباره "حلا" يرتاح إليه الجميع روحيا و ماديا لأنه يجسد العدل و المساواة و فوز في الدنيا و الآخرة ، بل كذلك لأنه يمثل في الأذهان صورة جميلة عن مجد الأمة الذي أضاعته التجارب الغربية المسقطة ، يوم كانت العواصم العربية الإسلامية مركزا للعلوم و المعرفة و كانت "بغداد" و "الكوفة" و"الشام" و "القيروان" و "القاهرة" ..إلخ قبلة العلماء و مهد الصناعة و محجا لكل طالب للعلم في مختلف المجالات و الاختصاصات . و لعل الرأي القائل أن العلوم الحديثة و التطور الذي يشهده عالمنا اليوم إنما يعود الفضل فيه إلى الحضارة الإسلامية التي أنجبت بواكير النظريات العلمية التي طورها الغرب مستفيدا من تراجع الأمة لتصبح على ما هي عليها اليوم و تعود إليها ، أي الأمة ، لكن للاستهلاك و أرقام بيع لا غير.هو رأي صحيح لا محالة .
لذلك و للأسباب التي أسلفناها ، وغيرها كثير لكن يضيق المحال لشرحها ، يمكن القول أن الإسلاميين اليوم أمام فرصة تاريخية للاستفادة من هذا الحراك الثوري الذي أوصلهم إلى الحكم ، ورغم أنهم لم يعدوا له العدة ، إلا أنهم طالما قالوا إنهم دائما جاهزون و أن القمع الذي تعرضوا له ما هو إلا اعتراف ضمني من أعدائهم قبل أصدقائهم بقوتهم كطرف سياسي له وزنه .لكن الفرق بين القول والفعل هو فرق كبير . ولم يعد بالإمكان الحديث عن حسن النوايا أو كلمات تطييب الخاطر، و الكلام الجميل أو الخطب العصماء ذات البعد الروحي و الديني يمكن إن تنجح بعض الوقت مع بعض الناس لكن لا يمكن أن تنجح كل الوقت مع كل الناس .و عليه فلا بد للإسلاميين أن يمروا إلى البرامج الواضحة والتخطيط الجيد المبني على أسس علمية لاستعادة ثقة الشعوب في حكامها و يثبتون فعلا أنهم لا يعتمدون فقط التحليل والتحريم لقياس الأشياء بل إنهم يدعمون أيضا القيم الكونية الحديثة التي تأسس للتقدم والتطور و استعادة مجد الأمة لإنتاج أجيال قادرة فعلا على تغيير مجرى التاريخ ..
و لنا في هذا الأمر حكايتين يمكن الاعتبار بهما والقيس عليهما لفهم رهانات الإسلاميين و مدى استعدادهما للحكم..
تقول الحكاية الأولى أن سيدنا آدم وزوجه قد سكنا الجنة و أسبغ عليهما الله من النعم فكانا يأكلان منها رغدا إلا الشجرة المحرمة فإنه قد نهاهما عنها و هي شجرة التفاح ، و هي حكاية معروفة لدى العموم لأنها تلخص بداية البشرية و أصل الإنسانية على الأرض بإختلاف أعراقها و ألوانها. و ربما ما يدعوا إلى العجب أن سيدنا آدم عليه السلام كان أمامه من النعم ما يغنيه عن أكل ثمرة التفاح المحرمة ، لكن الله أراد أن يعلمه درسا و من بعده ذريته و يثبت له ضعفه و حبه للتملك و الإستئثار بكل شيء حتى من خلال "تفاحة" بسيطة . ثم لا ننسى أن إبليس لما أراد أن يغوي آدم و زوجه بأكلها قد و سوس لهما بأنها الثمرة التي تجعلهما ملكين و خالدين . و الملك و الخلد هما الذين غوا آدم و زوجه وورثهما أبنائهما من بعدهما . و كان الله عليما بأنه قد حرم التفاحة على آدم لكنه سيعصي أمره و يأكلها و ربما لو أراد لجعل له في الجنة كل شيء حلالا ، لكنه أراد أن يمتحنه و يعلمه أن التوبة عن الخطأ تمحوه ، وأراده أن يهتدي بالتي هي أحسن أي أن يجرب و يعرف و يتعلم و بالتالي عندما يصل إلى النتيجة فأنها ستكون يقينا لا محالة . وهو ما وصل إليه آدم عليه السلام عندما علم بعد تجربته و معصيته بأن الملك لا يدوم و أن مصيره إلى فناء و أن الله قد خلق من ذريته الطيب و الشرير خاصة مع تجربة ابنائه "قابيل" و" هابيل".
لذلك فالعبرة المستخلصة من ذلك أن الإنسان محكوم بشهوته و خاصة شهوة السلطة و الخلود والتي تبين زيفها . وكذلك أن الله لو أراد لجعل كل شيء حلالا أو حراما لكنه خلق هذا و ذاك و أراد ان يمتحن البشر في إقبالهم على الحلال و الحرام و مقدار سيطرة الشهوة على كل منهما للإتعاض من التجارب التي تجعل اليقين يحل محل الشك و ذلك لا يكون إلا على خطى جد الإنسانية آدم عليه السلام الذي خبر حياته على الأرض فانبرى يعمل فيها و يشقى ليكسب اكله و رزقه و يعظ أبنائه و أحفاده و يرغبهم إلى الحق و يدعوهم الى أقوم السبل بالهدي و الموعظة الحسنة.
أما الحكاية الثانية وهي ، بالمناسبة ، غير ذات علاقة بالحكاية الأولى ولا يمكن ، نظريا ، أن تقارن بها لا على مستوى الأشخاص و لا على مستوى الأطر الزمانية أو المكانية . لكن يمكن إسقاط الأولى على الثانية من خلال متغيرات مجرى التاريخ أو كذلك من خلال الإشتراك في مردفة " التفاحة" و التي قيل في شئنها أن ثلاث تفاحات غيرت مجرى الإنسانية : الأولى وهي "تفاحة" سيدنا آدم عليه السلام التي أخرجته من الجنة. والثانية هي "تفاحة" اسحاق نيوتن و التي اكتشف من خلالها قانون الجاذبية ، أما "التفاحة" الثالثة و هي موضوع حكايتنا الثانية هذه فهي "تفاحة" ستيف جوبز..
و تقول هذه الحكاية أن "ستيف جوبز" قد ولد من أب سوري الأصل و مسلم الديانة (غير ممارس) يدعى "عبد الفتاح الجندلي " هاجر من مدينته "حمص" لتحصيل الدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية ، و أم أمريكية من أصل سويسري ألماني اسمها "جوان كارول". و قد أنجباه خارج إطار الزواج ، ليعارض ،لاحقا، والد "جوان كارول" المحافظ زواج ابنته من عربي- مسلم مما جعل الوالدان يخيران عرض ابنهما للتبني ، وتبناه الزوجان "بول وكلارا جوبز" من كاليفورنيا ويعطيانه اسمهما . وهناك نشأ "ستيف" ورغم تواضع إمكانيات علئلته الجديدة، وحتى ضعفه في الدراسة و خروجه مبكرا منها ، إلا أن كل ذلك لم يمنعه من تحقيق حلمه وتحويل شغفه وولعه منذ صغره بعالم التكنولوجيا والمعلوماتية من طموح و هواية إلى احتراف في الإلكترونيات و البرمجيات و يبدأ في صناعة حاسوبه الأول الذي أختار له إسم و شعار "آبل" أي "التفاحة".
وقد انشأ "ستيف جوبز" شركة آبل سنة 1976 ليحقق بتفاحته المقضومة ثورة هائلة في عالم المعلوماتية و يفتح الباب على مصراعيه أمام برمجيات غيرت بالفعل حياة الملايين من البشر ، بل و الإنسانية من خلال إسهامه في تطوير العديد من البرمجيات التي اختصرت الزمن و المسافات من خلال ضغظة زر أو لمسة بسيطة. ليرث العالم بعد وفاته جملة من النظريات العلمية الحديثة و التي ستكون ملهمة لعديد المهتمين بالإبداع من بعده.
و ربما ما لا يعلمه الكثيرون أن "ستيف جوبز قد اعتنق البوذية في شبابه و ظل كذلك حتى مماته ، على الأقل ظاهريا، رغم أنه من أصل عربي- مسلم و نشأ في أسرة مسيحية ، إلا أنه في زيارته الأولى إلى الهند في مطلع شبابه عاد من هناك بوذيا .
غلى أن أحدا لم يسأل عن ديانة "جوبز" أو معتقداته و حتى إن فعل فمن باب الفضول لا غير ،وإنما كان الجميع يسأله عن آخر إصداراته و أحدث تطبيقاته ، والمفارقة الغريبة هنا أن كثيرا من التطبيقات التي اخترعها "جوبز" ، و هو البوذي ، قد سهلت على العديد من الناس ، في مختلف الديانات ، تنظيم عباداتهم و تطبيق تعاليمها و لنا كمثال على ذلك في الدين الإسلامي تطبيقات تحديد القبلة من خلال الهاتف أو أوقات الصلاة أو تحميل القرآن الكريم و المساعدة على حفظه ..و غيرها كثير .
و السؤال الذي يطرح هنا ، وهو سيبقى في كل الأحوال معلقا دون إجابة ، هل كان "جوبز" سيصبح على ما كان عليه لو أن أباه العربي-المسلم لم يضعه للتبني . أي أن جوبز لو نشأ مع أبيه و امه الحقيقين أو نشأ في "حمص" في سوريا هل كان سيخرج إلى العالم هذه الثورة التكنولوجية و هل كان سيجد كل الدعم و الرعاية و التشجيع لو حمل إسم "عبد الفتاح الجندلي" أو كانت جنسيته "سورية" ..كذلك هل كان سيجد الحرية في اختراعاته المذهلة لو كان يعيش ، و هو البوذي ، في عالمنا العربي و الإسلامي.أكيد أن الكثير منكم سيمطط شفتيه و يهز أكتافه و يجيب بلهجة الواثق : "طبعا لا"..و ربما يكون البعض الآخر أكثر تفاؤلا وهو يقول بعد أن يرفع عينيه إلى نقطة بعيدة كمن يتأمل شيئا : "و لم لا"..لكن على كل و كما أسلفنا سيبقى سؤالنا معلقا دون إجابة.
لعل البعض منك قد أصابه نوع من الإلتباس عندما قرأ هاتين الحالتين ، ولعله قد تساؤل بينه و بين نفسه عن علاقة تفاحة آدم بتفاحة "جوبز" ، و الأهم عن علاقة التفاحتين بفوز الإسلاميين في الإنتخابات و إستلامهم زمام الحكم بشرعية انتخابية و شعبية جلية للعيان وهو الأمر الذي يمنحهما نوعا من الثقة و هم القادمون من فوز كاسح في أول انتخابات حرة و نزيهة في العالم العربي.
لكن ليس كل ما يلمع ذهبا ، و فوزهم في اكتساب أصوات ملايين الأصوات ، و هو أمر جميل لا محالة ومدعاة لفخرهم ، لكن هذا البريق الجميل لإنتصارهم يمكن أن يكون سببا في إصابتهم في مقتل ، وفي صدمة لمن راهن عليهم ، إذا فشلوا في تقديم اطروحات بديلة لنظم الحكم التي كانت ترتع في الدول التي حولوها إلى مزارع خاصة للأسر الحاكمة فيها . و هو ما يزيد في حجم المسؤولية التي يقدمون عليها دون خبرة لكنهم يتسلحون بمبادئ هي ، ظاهريا ، عين ما تطلبه الشعوب في حكامها و هي الثقة والأمانة و خشية الله في عباده و فوز في الدنيا والآخرة.
و هنا يكون مربط الفرس في حكايتي "تفاحة آدم " و "تفاحة جوبز" ..فالإسلاميون اليوم أمام مفترق طرق ، وهم أصحاب تركة ثقيلة ورثوها عن دكتاتوريات مستبدة ، ولكن أهم من ذلك أنهم قد استلموا حكم شعوب منهكة ، قانطة ،ثارت على الإستبداد و الظلم و الجوع و تنتظر منهم حلولا واقعية في معيشهم اليومي و في حريتهم و كرامتهم ، ثم إنها ، أي الشعوب ، ليست متوحدة في الفكر والإعتقاد بل بينهم الإسلامي والعلماني و حتى الملحد و غير المؤمن، والوسطي والمتطرف و الأشد تطرفا ، كذلك بينهم المسلم و المسيحي و اليهودي ، وبينهم الممارس لدينه و غير الممارس ، و كل هؤولاء و على إختلاف أفكارهم فإنهم يجتمعون في انتظاراتهم من الحكام الجدد ، و هذا الإنتظار هو خليط من التفاؤل و الفرح والتشاؤم والخوف و الثقة والشك .
و لعل ما اتهم به الإسلاميون على مدى عقود من أن كل نظرتهم إلى الأمور إنما هي بنظرة "الحلال" و "الحرام" و"المسموح" و"الممنوع" و جل طروحاتهم تنحصر بين الوعظ و الأرشاد و دعوة إلى الفوز بالجنة و النجاة من النار ، وهذا الإتهام الأخير سيوضع اليوم موضع التجربة الحقيقية و المحك الصادق . فالأمر يختلف هذه المرة وموقع الحكم ليس نفسه موقع الإمامة أو الخطابة .و هم مدعوون اليوم إلى النظر قليلا إلى المستقبل و هو ما لا يكون إلا بالعمل الصادق و الرؤية الواضحة و تقبل جميع الآراء و المواقف مهما كانت درجة الإختلاف معها ، وكذلك تشجيع العلم و المعرفة و توفير الأرضية الممهدة لذلك من خلال إقرار مبدأ الحريات الشخصية و الإعتبار بالنتائج و ليس النوايا أو المعتقدات . فكل الخطر أن يكون حكمهم بالوصاية و الإملاءات ذات المرجعية الروحية التي ، و إن كانت تجد لها صدى عند عموم الشعب ، إلا أنها و حدها لا تكفي للتأسيس لفضاء مشجع للتقدم إن لم تكن مصحوبة ببرامج واضحة و دقيقة و ذات أسس علمية تتجاوز تحديد المحظورات .و لو عدنا إلى حكايتنا الأولى والتي أخذناها كمثال عن "تفاحة" سيدنا آدم و كيف أن الله سبحانه و تعالى كان يعلم أن سيدنا آدم سيخطأ و سيأكل التفاحة المحرمة و سينزل إلى الأرض ليعرف و يتعلم و يصل إلى اليقين ، ولو أراد لأباح له جميع ما في الجنة أو لمنع عنه الشيطان الموسوس لكنه حرم عليه و جعله يقبل على الحرام و هو المحكوم ، أي آدم ، بشهوة السلطة والخلود و الرغبة في الممنوع.
كذلك هم الإسلاميون اليوم يجب عليهم الإعتبار من أن السلطة زائلة و أنها لو دامت لغيرهم لما آلت إليهم ، و أن التحليل و التحريم ،خاصة المبالغ فيهما ، إنما يشتت ذهن الأمة و يضيع جهودها في أمور هي في النهاية بين الخالق وخلقه ، و أن الحكم الرشيد المبني على الإرشاد و التعليم و الدعوة بالحجة و البرهان وخاصة بالتجربة و ترك الحرية للفرد في معرفة الحدود المرسومة له داخل المجتمع الواحد ، والإبتعاد عن الخطب العصماء و الإجبار من خلال عنف غير مبرر بدعوى التكليف و الواجب ، و هي كلها أمور قد تعيد إلى أذهان الشعوب الدكتاتوريات الملبسة في ثوب الدين ، وتجعل من هذه الشعوب ، حقيقة ، في موقع لا تحسد بعد تجارب مريرة مع إيديولوجيات أخرى مختلفة بين القومية و الليبرالية و اليسار..
إذا فملعب السياسة كبير ، و لعنة الحكم عادة ما تلاحق من يتقلده و ليس لأحد العصمة من الشعوب التي تسعى إلى كشف عورة حكامها حتى وإن وضعوا هالات على أنفسهم ليداروا بها سوؤاتهم ، فقدر الشعوب دائما أن تتطلع إلى الأمام و عنوان التقدم هو مقياس الرضا، خاصة أن ما يرضي طرفا ربما لا يعجب طرفا آخر ، ثم إن وقع المفاجاة التي أطاحت بالدكتاتوريات خلال سنة مازال لم يخفت بعد . ووضع الإسلاميون اليوم وهم يستعدون للحكم لا يختلف كثيرا في بلد أو آخر و هم الذين دفعوا إلى الصفوف الأولى و أصبحوا محط أنظار الجميع و بين صيحات تهليل وتكبير فرحا بهم و صيحات فزع تحذر منهم . لكن العبرة لن تكون فعلا إلا بالنتائج المرجوة منهم على مختلف الأصعدة السياسة والإقتصادية و الإجتماعية ،و ربما ما هو ابعد من ذلك من خلال إستعادة امجاد الأمة و استرجاع الصورة الناصعة التي كان عليها العربي- المسلم إلى وقت قريب ، والتي ،وللأسف ، هان على الحكام المستبدين أن يرتضوها له وجعلوا منه عنوانا للتخلف والجهل و الميوعة و الإستقالة عن شؤونه و عزته وكرامته ..فاليوم نريد أن يكون بيننا العديد مثل "ستيف جوبز" و أن نشجع العلم و العلماء ، و أن نجتهد و نكد و نعمل و نشقى من أجل أطفالنا و أحفادنا ، ومن أجل ديننا كما دنيانا ،و أن نأخذ بجوهر ديننا الإسلامي في الحرية و العدالة و التسامح وتقبل الآخر والتعايش في سلم ، و نريد أن نتجاوز أمور ما أنزل الله بها من سلطان من فتاوى غريبة و تحريم للحلال وتحليل للحرام وتخويف وترهيب وتكفير وهي أمور إنما الإسلام منها براء .و ما جعل الإنسان في الأرض إلا ليمتحن فيها ويعمل فمن إجتهد وأصاب فقد فاز وله أجران ، ومن لم يصب فله أجر المحاولة.
محمد دبارة
التعليقات (0)