يجري كثيراً على ألسنة السياسيين والمسؤولين والعلماء والمفكرين والباحثين والمغردين والناشطين، في مختلف وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي أن "الإرهاب لا دين له"، وأدلتهم أنه يستهدف الجميع بلا استثناء بغضّ النظر عن هويتهم وعرقهم وديانتهم وجنسياتهم.
في المقابل، كثيرون يريدون إلصاقه بدين معيّن يعادونه أو بمذهب لهم توجهات مناوئة له، ولديهم حسابات معينة مع أتباع هذا الدين أو ذاك المذهب أو تلك الطائفة. ولم تسلم حتى الأحزاب السياسية أو الجمعيات بمختلف أنواعها ومرجعياتها.
الشرق المسلم يرفض أن تلصق تهمة الإرهاب بالإسلام، والغرب بمختلف دياناته نجد شريحة واسعة منه تعمل على أن تجعل الإرهاب حصرياً بالإسلام، رغم أن جرائم إرهابية اقترفها غير المسلمين تشكل أضعافاً مضاعفة لتلك التي اقترفها المسلمون؛ سواء في الغرب أو العالم الإسلامي.
جدليات حول الإرهاب
هل الإرهاب حقاً لا دين ولا وطن له؟
قبل الجواب عن هذا السؤال المهم، نجد أن أول إشكالية تواجهنا، هي غياب تعريف دولي متفق عليه لظاهرة الإرهاب، فكل طرف يلحق التهمة الارهابية بخصومه حسب مزاجه وما يخدم مصالحه مهما كان نوعها ولونها.
غياب كامل لتعريف وتكييف دولي أو أممي لمصطلح الارهاب، جعل هذا الوباء يطال الجميع، مما زاد في نشر الكراهية والعنف والعنف المضاد، ولو فتّشنا جيداً لوجدنا كل البشر صارت تلاحقهم تهمة الإرهاب بنسب متفاوتة بين هذا وذاك.
أولاً:
إن كان الإرهاب يعني قتل البشر وإبادة الإنسانية، فإن هذا اقترفته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان واليابان والفيتنام، وعبر التاريخ الأمريكي الحافل بمجازر ضد البشرية بحق السود والأفارقة والزنوج وغيرهم.
وهو أيضاً ما فعلته فرنسا على مدار 132 سنة من احتلالها للجزائر، وقد قتلت الكثيرين واقترفت المجازر الجماعية بينها التي سقط فيها نحو 45 ألف مواطن جزائري في يوم واحد في 08 مايو/أيار 1945. وآخر ما قامت به هو غزوها لمالي الذي أدى إلى سقوط الكثير من المدنيين، ووجودها العسكري في دول أفريقية من أجل الحفاظ على مصالحها وحمايتها ولو كان ذلك على حساب الإنسان والإنسانية.
"إسرائيل" أيضاً هي كيان مختلق تعاونت قوى كبرى على صناعته في عمق المنطقة العربية، وصارت تحتل فلسطين وتشن حروبها على الفلسطينيين ووصلت حد استعمال الفسفور الأبيض في غزة.
الكثير من الدول الغربية مارست إرهاب الدولة بحق شعوب أخرى، ولا تزال على النسق نفسه منذ حروبها الصليبية التي كانت وحشية لمنتهى الوحشية، رغم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي ترفعها، ولقد قتلت الملايين من أجل مصالحها الاستعمارية سواء في الحاضر أو الماضي، وسيتكرر في المستقبل ما دامت تفلت من العقاب، وبهذا فإن من يقترف جريمة إرهابية ولم يعاقب عليها في القضاء الدولي، ستبقى تلاحقه؛ لأن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم ولو مرت عليها آلاف السنين.
أما الحكام العرب فنجد أنظمتهم أيضاً مارست شتى أنواع الإرهاب الذي أدى لسقوط مئات الآلاف من الضحايا المدنيين؛ ففي الجزائر خلال التسعينيات سقط ربع مليون جزائري في حرب قذرة أشعلها جنرالات الجيش بعد انقلاب عسكري وقع في 1992/01/11. وليومنا هذا لم ينل الضحايا حقهم من العدالة كما تقتضي القوانين والمواثيق التي صادقت عليها الدولة الجزائرية.
أما سوريا فلا يزال نظام الأسد يشنّ حرباً شرسة ونجسة على الشعب السوري، وبدأ عدد الضحايا يقترب من مليون مواطن، فضلاً عن ملايين الجرحى والمفقودين والمهجّرين والمنفيين والمعذّبين. وارتكب النظام السوري مجازر جماعية أدت إلى إبادة المدنيين بمختلف الأسلحة، وصلت حد استعمال ما هو محرم دولياً مثل السلاح الكيماوي الذي استعمله بشار الأسد عدة مرات.
نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي بدوره جاء عبر انقلاب عسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي وبتواطؤ إقليمي ودولي، وقد اقترف المجزرة تلو الأخرى في رابعة العدوية وميدان النهضة، وعبر مختلف المظاهرات السلمية المؤيدة للشرعية والمدافعة عنها. بل وصل به الحال إلى عدوان عسكري على دولة ليبيا مبرّراً ذلك بنحر 21 قبطياً مصرياً، لم يقدم شيئاً من أجل إنقاذ حياتهم، بل حتى فيديو النحر المنسوب لتنظيم "داعش" تحوم حوله شبهات كثيرة وعليه علامات استفهام أكثر.
أما ما فعله نظام بن علي في تونس، ونظام القذافي في ليبيا، ونظام حسني مبارك في مصر، وغيرهم من الأنظمة العربية المستبدّة التي تصل للحكم على جثث الشعوب، فهي لا تحصى ولا تعد. وبذلك فإن الأنظمة التي تحكم الكثير من الأقطار العربية هي أنظمة إرهابية ما دامت تقتل وتعذّب وتطحن عظام البشر لأجل البقاء في السلطة والحفاظ على كيانها.
ثانياً:
إن كان الإرهاب يعني الاحتلال للدول، فإن الكيان العبري الجاثم على صدور الفلسطينيين منذ أكثر من ستين عاماً، هو إرهاب يجب محاربته واستئصاله من جذوره بكل الوسائل. وللأسف بدل أن تدرج "إسرائيل" ضمن قائمة الإرهاب، صرنا نرى حركات المقاومة هي التي يطاردها العالم بتهمة الإرهاب، وصل حد دول الجوار الفلسطيني مثل مصر، التي بدل أن تبقى كبيرة لديها أدوارها الكبرى في القضايا المصيرية يجري تقزيمها لغايات ستظهر لاحقاً.
إيران تحتل سوريا واليمن والعراق ولبنان والأحواز وجزر الإمارات الثلاث، وتنشر الرعب وتقتل المواطنين، وتغتصب وتنتهك الأعراض، تصادر الممتلكات وتعتدي على حياة الآخرين، وهو إرهاب دولة متكامل الأركان.
أمريكا احتلت كلاً من العراق وأفغانستان وتتدخل في شؤون الكثير من الدول بل تحمي أنظمة تقتل شعوبها خاصة في العالم العربي والإسلامي، وهو إرهاب دولة بمعنى الكلمة ويكفي أن الضحايا يعدون بملايين البشر.
روسيا تحتل الشيشان وتريد أن تمتدّ نحو دول أخرى؛ كي تمارس إرهابها بعيداً عن الرقابة الدولية. بل إن بوتين يحمي أنظمة شمولية تخرجت من المدرسة السوفياتية وعلى رأسها نظام بشار الأسد الذي صنع محرقة العصر بامتياز.
ثالثاً:
إن كان الإرهاب يتعلق فقط بالمليشيات والتنظيمات المسلحة التي تتمرّد على سلطة الدولة المركزية، أو تهدّد جهات دولية كالغرب، فنجد أكثر من 300 مليشيا في أمريكا وحدها تدعو إلى محاربة الحكومة الفيدرالية، ولم يتم إدراجها في قوائم الإرهاب الدولي.
أيضاً نجد تنظيمات طائفية مثل "حزب الله" في لبنان الذي يهدد بمحو الكيان العبري، و"أنصار الله" في اليمن الذين يرفعون شعارات "الموت لأمريكا"، وعشرات المليشيات في العراق مثل "أبو الفضل العباس"، و"جيش المهدي" وغيرهما.
هذه التنظيمات هي منظمات إرهابية تمارس الإرهاب بعينه؛ فتنظيم "حزب الله" قتل اللبنانيين والسوريين، أما الحوثية فيقتلون اليمنيين وحتى السوريين، ومليشيات العراق تقتل العراقيين والسوريين أيضاً على الهوية في أشرس وأقذر حملة طائفية تشهدها المنطقة العربية.
كما أن الحرس الثوري الإيراني بدوره يقتل في السوريين والعراقيين والأحوازيين وغيرهم، ويعتدي على دول الجوار حيث يوجد في العراق وسوريا والأحواز وغيرها.
تناقضات ومفارقات
المشكلة أن الإرهاب يمارس من طرف دول وأنظمة وحكومات وجيوش ومليشيات، ولكن الأخطر مما في ذلك، هو طريقة التعامل مع هذه الظواهر الإرهابية من قبل المجتمع الدولي الذي صارت مقارباته الأمنية تتنافى مع السلم العالمي الذي يجب أن تحميه الأمم المتحدة حسب ميثاقها المعروف.
الإرهاب الذي تمارسه القوى العظمى مثل أمريكا وروسيا وفرنسا تجري شرعنته بإرهاب مضاد، أو من خلال القوة العسكرية وحق النقض "الفيتو" داخل مجلس الأمن والأمم المتحدة. والإرهاب الذي تمارسه أنظمة عربية أيضاً تمّت شرعنته؛ سواء بالحماية كما يجري مع نظام بشار الأسد، أو بالتواطؤ كما يحدث مع نظام السيسي في مصر.
أما إرهاب المليشيات الشيعية الإيرانية فهي تعيث قتلاً وتدميراً للمسلمين والعرب في عدة دول عربية وعلى رأسها سوريا، إلا أن هذا الإرهاب يقابل بالصمت أو التواطؤ أو الدعم المباشر، والسبب الأساسي أن المصالح القائمة مع إيران أولى من الإنسان، وخاصة عندما يكون هذا الإنسان مسلماً وبالتحديد من أهل السنّة.
رغم أن العالم يدّعي محاربة المليشيات الإرهابية التي تتمرّد على سلطة الدولة وتهدّد الآخرين، إلا أنه يكيل بمكيالين؛ فهو يحارب كل تنظيم سنّي أو محسوب على السنّة في حين يتجاهل التنظيمات الشيعية ويتركها تعيث قتلاً وتدميراً، وفي كثير من الأحيان يعطيها الشرعية من خلال التحاور معها وجعلها شريكاً في الحكم، كما يجري مع تنظيم الحوثيين الإرهابي، وتنظيم "حزب الله" الإرهابي أيضاً.
بل أن مليشيات الشيعة الإرهابية شكّلتها إيران في العراق، وحدث ذلك في ظل الاحتلال الأمريكي وتحت رعاية المارينز والمخابرات الأمريكية والصهيونية والبريطانية وغيرها.
إن كان المجتمع الدولي جرّم الفدية، وجعل دعم الجماعات الإرهابية بالمال أو السلاح أو التحريض الفكري هو من أنواع الإرهاب الذي وجب التصدي له عسكرياً وقانونياً، فإن ما يجري الآن في العالم يجعل جميع الدول متهمة بالإرهاب؛ فبينها من تواطأت مع تنظيمات متشدّدة، وأخرى دعّمتها وصنعتها بمخابراتها، وبينها من تسكت عن إرهاب أنظمة وحكومات لم تصنع إلا الإرهاب المضاد، وأخرى تدعم جرائم الغزاة والمحتلين الذين يمارسون شتى أنواع الأعمال الإرهابية في دول يحتلّونها.
حقيقة أن الإرهاب تمارسه الأغلبية الساحقة، ولا يمكن أن يستثنى إلا القلة القليلة التي تعدّ على أصابع اليد الواحدة، ما دامت القاعدة تتعلق بجرائم ضد الإنسان، ولذلك فإن الإرهاب بالفعل لا دين له، ليس تصدياً للذين يريدون أن يلصقوه بالإسلام، فقد مارسته أطراف دولية من مختلف الديانات.
أمريكا ديانتها نصرانية ومارست الإرهاب، فرنسا ديانتها نصرانية ومارست الإرهاب، روسيا نصرانية مارست الإرهاب، إيران ديانتها مجوسية تمارس الإرهاب، "إسرائيل" ديانتها يهودية وتمارس الإرهاب، نظام الأسد ديانته نصيرية ويمارس الإرهاب، وأنظمة كل من الجزائر ومصر ديانتها إسلامية وتمارس الإرهاب... إلخ. وهذا يعني أن الدين يستعمل فقط في الإرهاب كما يستعمل في أمور أخرى، وأن أصل المشكلة هي صراعات بشرية تحرّكها المصالح وليس الديانات.
حتى الدول التي تدّعي أنها علمانية هي التي تمارس الإرهاب، وللتاريخ فإن أشهر جرائم الإبادة كانت بسبب إرهاب علماني أو ماركسي أو حتى كنسي، ونذكر في هذا السياق الثورة الفرنسية، والنازية الألمانية، وفاشية موسيليني الإيطالية، والحركة الصهيونية في فلسطين، ومليشيات الخمير الحمر في كمبوديا وغيرهم.
الإرهاب بالفعل ظاهرة معادية للإنسانية يمارسها الجميع من مختلف الديانات والأوطان والأعراق، وكل طرف يحاول فقط تبرير إرهابه على طريقته الخاصة، فإن كانت دولة مثل أمريكا فهي تبرر بنشر الديمقراطية والأمن الأمريكي، رغم أن ما تفعله أكبر من مصطلح الإرهاب في حدّ ذاته. وإن كان نظاماً حاكماً فهو يحمي نفسه ويبرّر إرهابه بالأمن القومي أو غيره، وإن كانت مليشيات أو تنظيمات فهي تبرّر ما تقترفه بالمقاومة أو بأشياء أخرى.
يجب أن ننبّه لأمر هام، إن مقاومة الاحتلال ليست إرهاباً من حيث المبدأ، ولكن قد تتحوّل الممارسات إلى إرهاب مضاد إن تجاوزت الحدود الأخلاقية والقيم الإنسانية، فلا يعقل أن الاحتلال يغتصب نساء من يحتلّهم، والمقاومون يردّون بالجريمة نفسها! ولا يعقل أن المحتل يذبح الأسرى وينكّل بهم، ويقابله المقاومون للاحتلال بالجرائم نفسها!
القضية قضية ممارسات وليست فوبيا دين أو سياسة أو سلطة أو مال أو عرق أو قومية، فمن يقترف جرائم حرب أو ضد الإنسانية أو إبادة جماعية فهو إرهابي لا يهم الأسباب التي دفعته لذلك؛ سواء كانت دينية أو سياسية أو عسكرية، فكل القيم التي تستعمل في هذه الحالة هي ضحية هذا الإرهاب العابر للحدود والقارات.
الإرهاب ليس له دين ولا وطن ولا جنسية ولا عرق ولا طائفة، بل هي ممارسات ضد الإنسانية تمارسها جهات تحاول أن تضع مبررات لجرائمها حتى تضفي عليها القداسة؛ سواء باستغلال الدين أو الوطن أو كل القيم الأخلاقية الأخرى.
للأسف الشديد الذين يعادون الإسلام يريدون أن يظل الإرهاب حكراً عليه، ومن يعادون الغرب يريدون الأمر نفسه، وهكذا تحول الإرهاب إلى مجرد كرة مضرب تتبارى بها أطراف متصارعة فكرية وسياسياً وقومياً، ولهذا نراه يتمدّد ويتكاثر والضحية دائماً هو الإنسان.
التعليقات (0)