مواضيع اليوم

الإجهاض المباح وغيره من منظور إسلامي

A.Fattah Edris

2012-11-24 17:31:16

0

الفرع الأول
تحديد المفاهيـم
أولا: معني الإجهاض في عرف أهل اللغة:
الإجهاض: هو الإسقاط، والجهيض والجهض: هو الولد السقط، أو ما تم خلقه ونفخ فيه الروح من غير أن يعيش، ويقال: أجهض أي أعجل، وأجهضت الناقة: إذا ألقت ولدها وقد نبت وبره .
ثانيا: معني الإجهاض في عرف الفقهاء:
عرف ابن عابدين الإجهاض بأنه: " إنزال الجنين قبل أن يستكمل مدة الحمل "، وقد عبر الفقهاء عن الإجهاض بألفاظ تؤدي نفس المعني، منها: الإنزال، والإملاص، والإخراج، والإسقاط، والإلقاء، والاستجهاض
 الجنين في عرف أهل اللغة:
الجنين: هو الولد ما دام في بطن أمه، لاستتاره فيه، من جنن إذا ستر، يقال: جن الشيء يجنه: إذا ستره، وكل شيء ستر عنك فقد جن عنك، وسمي الجن بهذا، لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار، وسمي الجنين به لاستتاره في بطن أمه، وجن في الرحم يجن جنا : استتر، وجمع الجنين: أجنة وأجنن .
 الجنين في عرف الفقهاء:
عرف بعض الشافعية الجنين بأنه " ما فارق العلقة والمضغة، وبدأت عليه دلائل التخلق، وكذا إذا كانت مضغة، ولم يتبين فيها شيء من خلق، ولكن شهد ثقات بأنه مبدأ خلق آدمي ولو بقي لتصور "، وقال المزني: " أقل ما يكون به جنينا أن يفارق المضغة والعلقة، حتى يتبين منه شيء من خلق آدمي: أصبع أو ظفر أو عين أو ما أشبه ذلك " .

الفرع الثاني
إجهاض الجنين لغير عذر
أبين حكم إجهاض الجنين لغير عذر بعد نفخ فيه الروح أو قبل ذلك، وعما إذا كان الإجهاض بقصد التستر علي فاحشة، أو بقصد تنظيم النسل، يعد إجهاضا بعذر أو بغيره، وفي البداية أشير إلي ما يلي:
 إنه لا خلاف بين الفقهاء علي حرمة التسبب لإسقاط الجنين، الذي يكون في حالة نفخ الروح فما بعدها إلي الوضع ، وهو الذي مضت عليه مائة وعشرون يوما من بدء الحمل، إذا كان التسبب لإسقاطه لغير عذر، وأن إسقاطه والحال هذه يعد قتلا للنفس بالإجماع، وقد حكي هذا الإجماع ابن جزي والدردير وغيرهما، ويدل لحرمة التسبب لإسقاطه في هذه الحالة، النصوص التي ورد فيها النهي عن قتل النفس بغير حق، مثل قول الحق سبحانه: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق "، وما روي عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: " اجتنبوا السبع الموبقات "، قالوا: يا رسول الله وما هن ؟، قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ".
 إن ثمة خلافا بين الفقهاء في حكم التسبب لإسقاط الجنين الذي يكون في أي مرحلة من مراحل التخلق الثلاثة، السابقة علي نفخ الروح .
المقصد الأول
إجهاض الجنين قبل نفخ الروح فيه
اختلف الفقهاء في حكم التسبب لإسقاط الجنين، الذي يكون في أي مرحلة من مراحل التخلق السابقة علي نفخ الروح، إذا كان لغير عذر، وذلك علي خمسة مذاهب:
المذهب الأول:
يري أصحابه أنه لا يجوز التسبب في إخراج النطفة، لأن لها حرمة تقتضي عدم إباحة إفسادها، أو التسبب في إخراجها بعد استقرارها في الرحم, إلي هذا ذهب بعض الحنفية، ويرون أن التسبب لإخراجها النطفة مكروه تحريما، وأن فاعله آثم، إلا أن إثمه دون إثم القاتل، وهو المعتمد من مذهب المالكية، وقول الغزالي من الشافعية، وقال ابن الجوزي: تعمد إسقاط ما كان في أول الحمل فيه إثم كبير، إذا لم ينفخ فيه الروح، وهذا الإثم يقتضي حرمة التسبب إلي ذلك، والذين ذهبوا هذا المذهب يمنعون بالأولي التسبب في إسقاط العلقة والمضغة.
المذهب الثاني:
يري من ذهب إليه من الفقهاء جواز التسبب لإسقاط النطفة، بخلاف العلقة والمضغة فيحرم التسبب لإسقاطهما، إذ قال بعض المالكية بكراهة إخراج المني المتكون في الرحم قبل الأربعين يوما، وهذا يفيد أن هذا البعض يري جواز التسبيب لإسقاط النطفة وإن كان مكروها، وتحديد الجواز بما كان قبل الأربعين، يقتضي أن ما استقر في الرحم إلي الأربعين فأكثر وهما المرحلتان التاليتان لذلك - العلقة والمضغة - يحرم التسبب لإسقاطهما، وإلي هذا المذهب ذهب جمهور الشافعية، إذ يرون أن حرمة الإسقاط تبدأ من وقت بداية التخلق التي تكون بعد الأربعين أو الاثنين وأربعين يوما من بدء الحمل، وقالوا: إن حرمة الإسقاط تكون أشد فيما قرب من زمن النفخ لأنه حريمه، وقال بعض الحنابلة: يجوز شرب الدواء لإسقاط النطفة، فإن تعمدت المرأة الإسقاط بشرب دواء يسقط، ولم يبلغ الحمل المدة التي ينفخ فيها الروح فعليها الإثم فحسب، ولا تجب في إلقائه غرة، وقال بعضهم: إن ألقته مضغة وشهدت القوابل أنه خلق آدمي وجبت فيه الغرة، وهذا يفيد حرمة التسبب لإسقاطه، وإن لم يكن بهذه المثابة - بأن كان علقة أو مضغة ليس فيها خلق آدمي, ومعني هذا أنهم لا يجعلون للنطفة حرمة، فيجوز التسبب لإسقاطها ولا يترتب علي سقوطها أثر، من انقضاء العدة أو وجوب الغرة أو نحوهما، وأما ما كان في مرحلة العلقة أو المضغة فلا يجوز التسبب لإسقاطه، فمن أسقط جنينا في أي من المرحلتين السابقتين وقبل تمام الأربعة أشهر وجبت عليه غرة فقط .
المذهب الثالث:
يري من ذهب إليه أنه يجوز التسبب لإسقاط النطفة والعلقة دون المضغة، التي يحرم التسبب لإسقاطها, حكاه الكرابيسي عن أبي بكر الفراتي من الشافعية .
المذهب الرابع:
يري أصحابه جواز التسبب لإسقاط الحمل ولو كان علقة أو مضغة ما لم يخلق له عضو، أو لم يظهر شيء من خلقه، وذلك لا يكون إلا بعد مضي مائة وعشرين يوما من بدء الحمل، فإن لم يستبن بعض خلقه فلا إثم في إسقاطه، وإن استبان خلقه ومات بالاعتداء عليه أثم الفاعل إثم القتل, إلي هذا ذهب بعض الحنفية، وقد تعقب ابن الهمام وابن عابدين وغيرهما ما ذهبوا إليه، فقالوا: هذا يقتضي أن يكون مرادهم بالتخليق نفخ الروح، وإلا فهو غلط، لأن التخليق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة.
المذهب الخامس:
يري من ذهب إليه جواز التسبب لإسقاط الجنين قبل أن ينفخ فيه الروح قال به ابن عقيل الحنبلي .
أدلة المذاهب :
استدل أصحاب المذهب الأول علي حرمة إخراج النطفة من الرحم بما يلي:
القياس:
1- إن النطفة هي أول مراحل الوجود، من حيث وقوعها في رحم الأم، إذ الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعا، وكما أن النطفة في الفقار لا يتخلق منها الولد، فكذلك بعد الخروج من الإحليل، ما لم يمتزج بماء المرأة ودمها، فهذا هو القياس الجلي .
2- إن المحرم لو كسر بيض الصيد حال إحرامه ضمنه، لأنه أصل الصيد الذي يحرم عليه قتله، فلما كان متلف بيض الصيد يؤاخذ بالجزاء، فلا أقل من أن يلحق من أخرجت الماء بلا عذر بعد وصوله إلي الرحم إثم ، قياسا علي ذلك، لإخراجها سبب تخلق الولد.
استدل أصحاب المذهب الثاني علي جواز التسبب لإسقاط النطفة، دون العلقة والمضغة بما يلي:
المعقول:
1- إن إخراج النطفة من رحم المرأة لا يثبت لها حكم السقط أو الوأد، لأنه لا يصدق عليها ذلك، فلا حرمة في إخراجها.
2- إن المني حال نزوله محض جماد لا يتهيأ للحياة بوجه، بخلافه بعد استقراره في الرحم، وأخذه في مبادئ التخلق، وبداية التخلق - كما أرشد إليها حديث حذيفة الغفاري - تكون بعد اثنتين وأربعين ليلة.
أما من قال بجواز إسقاط الجنين ما لم يصل إلي طور المضغة، فالأشبه أن وجه قوله هذا: أن الجنين في مرحلة المضغة قد بدأت مرحلة تخلقه، وظهور بعض أعضائه، بخلافه في مرحلتي النطفة والعلقة فلا يبدو ذلك من حاله، ولهذا فلا إثم في التسبب إلي إسقاطه وهو في هاتين المرحلتين .
وجه ما ذهب إليه أصحاب المذهب الرابع ما يلي:
المعقول:
إن الجنين ما لم تخلق له أعضاء فإنه لا يكون آدميا، حتى تثبت له أحكام الآدمي، من وجوب صيانته، وحرمة الاعتداء عليه ، ولهذا فلا إثم في إسقاطه حينئذ.
وجه ما قاله ابن عقيل من جواز التسبب لإسقاط الجنين قبل أن ينفخ فيه الروح ما يلي :
المعقول:
إن الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح لا يكون إسقاطه وأدا ، لأن الوأد إنما يكون لبدن حلت فيه الروح، يدل لهذا قول الحق سبحانه: " وإذا الموءودة سئلت. بأي ذنب قتلت "، إذ الموءودة لا تسأل إلا إذا بعثت، ولا يبعث إلا ما حلت فيه الروح، فما لم تحل فيه لا يبعث، ولا يكون الاعتداء عليه وأدا، فلا يحرم إسقاطه .
المناقشة والترجيح:
الذي يبدو لي رجحانه من مذاهب الفقهاء - بعد استعراض ما استدل به لها - هو ما ذهب إليه القائلون بحرمة التسبب في إخراج النطفة وإفسادها لغير عذر، لما وجهوا به مذهبهم، ولأن النطفة في الرحم يصدق عليها أنها جنين، لاستتارها واختفائها عن الأبصار، فما سمي الولد في رحم أمه جنينا إلا لاستتاره فيه، فالاعتداء علي النطفة بإخراجها يصدق عليه أنه اعتداء علي جنين، ولذا فإنا نقول - كما قال جمهور المالكية والغزالي ومن ذهب مذهبهم من الحنفية والحنابلة - إن لهذه النطفة حرمة، فلا يجوز إخراجها أو إفسادها بعد استقرارها في الرحم، ولا يجوز بالأولي التسبب في إسقاط الجنين الذي يكون في مرحلة العلقة أو المضغة وإن لم ينفخ فيه الروح، إذا لم يكن ثمة عذر يقتضي إخراج الجنين الذي يكون في إحدي هذه المراحل، فمن فعل ذلك فهو آثم، سواء كان هو الطبيب المأذون له من قبل الزوج أو الزوجة، أو غير المأذون له، أو كان هو الزوج باعتدائه علي زوجته، أو إكراهها علي تناول دواء أو نحوه، قصد به إسقاط الجنين، أو كانت هي الحامل ، بتناولها عن عمد دواء أو نحوه لإسقاطه، أو بفعل منها كضربها بطنها أو معالجتها فرجها حتى أسقطت، أو حملت حملا ثقيلا قصدت به إسقاط جنينها، أو صعودها إلي شاهق، أو نزولها إلي موضع شديد الانخفاض، أو صيامها إن نصحت بترك الصيام خوفا علي جنينها، أو امتناعها عن الطعام والشراب، إن قصدت بذلك إسقاط جنينها، وكانت الأجنة تسقط به .

المقصد الثاني
إجهاض الجنين للتستر علي فاحشة
دعا الإسلام إلي المحافظة علي الجنين مطلقا, سواء كان من نكاح أو من سفاح, فرخصت الشريعة للحامل الفطر في رمضان إن خافت من الصيام علي جنينها, وأوجبت تأخير إقامة الحد علي من أتت بموجبه إن كانت حاملا حتى تضع حملها ويبلغ أوان فطامه ولو كان من سفاح, ولم تبح إجهاضه بدعوي التستر علي فاحشة اقترفت, يدل لهذا ما رواه بريدة  قال: " جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني, فردها رسول الله , فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني ؟, لعلك أن تردني كما رددت ماعزا, فو الله إني لحبلي, قال: أما لا, فاذهبي حتى تلدي, فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة, قالت: هذا قد ولدته, قال: اذهبي فارضعيه حتى تفطميه, فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة من خبز, فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام, فدفع الصبي إلي رجل من المسلمين, ثم أمر بها فحفر لها إلي صدرها, وأمر الناس فرجموها ", فأرجأ رسول الله  إقامة الحد عليها حتى تضع حملها, ثم حتى ترضعه إلي أن يفطم ويطعم غير لبنها, وهذا دليل علي حرص الإسلام علي حياة الأجنة ولو أتت من سفاح, ولو كان يجوز إجهاض الجنين بقصد التستر علي فاحشة اقترفتها أمه, لأمر رسول الله  هذه المرأة بإجهاض جنينها, ولما أمرها بالاهتمام به إلي أن تتوفر له أسباب الحياة مستقلا عنها, أما وقد أمرها  بهذا الأمر الأخير فإن هذا يدل علي حرمة إجهاض الجنين للتستر علي الفاحشة, لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده, ولا يعد إجهاض الجنين في هذه الحالة من قبيل إجهاضه لعذر, لعدم اعتبار الشارع له عذرا مبيحا للإجهاض.
والحكم عينه يرد في حق من أكرهت علي اقتراف الفاحشة فحملت, حيث لا يباح شرعا إجهاض جنينها في أي مرحلة من مراحل تخلقه, سواء كان ذلك قبل النفخ أو بعده, لأن حكم إجهاض من أتي من سفاح لو كان يختلف باختلاف ظروف ارتكاب الفاحشة, وعما إذا كانت المرأة مطاوعة لمن فحش بها أو مكرهة, أو يختلف باختلاف عمر الجنين الناشئ عن ذلك, لا ستفصل رسول الله  من الغامدية عن ذلك, بعد أن ذكرت له أنها حبلي من الزنا, لأن وقت الحاجة إلي البيان ولا يسوغ تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه, فلما لم يستفصل ولم يبين أن لها إجهاض جنينها قبل النفخ أو في الأشهر الأولي من الحمل به إن أكرهت علي الفاحشة, فإنه يدل علي حرمة إجهاض الجنين ولو كان من سفاح, أيا كانت مرحلة التخلق التي هو فيها, وأيا كانت ظروف ارتكاب أمه الفاحشة, لأن من المقرر فقها أن " ترك الاستفصال من الرسول  في حكايات الأحوال مع قيام الاحتمال, ينزل منزلة العموم في المقال ويحسن بها الاستدلال " كما قال الإمام الشافعي, يضاف إلي هذا أن العلماء متفقون علي حرمة الاعتداء علي الجنين في آي مرحلة من مراحل تخلقه, وأن هذه الحرمة تشتد كلما اقترب الجنين من مرحلة نفخ الروح فيه, فإذا نفخ فيه الروح صار إجهاضه قتلا لنفس حرم الله قتلها إلا بالحق, علي الخلاف بين العلماء هل النفخ يكون بعد مضي ثنتين وأربعين يوما من بدء الحمل به, أو بعد مضي مائة وعشرين يوما.

المقصد الثالث
إجهاض المرضع عند الخوف علي الرضيع
ثبت من البحوث التي أجريت علي حليب الحامل, أن قيمته الغذائية تقل إذا تقاربت فترات حملها, وأن البروتينات والفيتامينات التي يغتذي بها الرضيع تقل نسبتها كلما قلت الفترة بين الحملين, ويترتب علي نقص هذه المواد حدوث سوء تغذية للطفل الرضيع.
وحمل المرأة أثناء إرضاعها مظنة نقص القيمة الغذائية للحليب الذي ترضعه الصغير, ولذا فقد هم رسول الله  أن ينهي عن مواقعة الرجل امرأته وهي مرضع, لما يترتب عليه من الحمل الذي يضر بالرضيع, غذ روت عائشة رضي الله عنها عن جدامة بنت وهب قالت: " حضرت رسول الله  في أناس وهو يقول: لقد هممت أن أنهي عن الغيلة, فنظرت في الروم وفارس, فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئا ", حيث اعتبر رسول الله  مواقعة المرضعة بمثابة اغتيال الرضيع, لما يخشي عليه من الحمل الناشئ عن الوقاع, الذي يكون له أثر في مقدار الحليب الذي يتغذي عليه الرضيع وقيمته الغذائية, وهو وإن لم يمنعه لما رأي أنه لا يضر بأطفال أهل فارس والروم, إلا أن في الحديث تنبيها إلي ترك ما يضعف الولد أو يسبب اغتياله.
وقد ذهب فقهاء الحنفية إلي جواز إجهاض الجنين الذي لم ينفخ فيه الروح, إذا كان ثمة عذر يقتضيه, ومن هذا القبيل: أن ينقطع لبن المرضعة بعد ظهور الحمل, وليس لأبي الطفل الرضيع ما يستأجر به ظئرا ترضعه, وخاف عليه الهلاك.
وقد مال بعض العلماء إلي رأي الحنفية هذا, منهم: فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم وفضيلة الإمام الأكبر الشيخ: جاد الحق, ومن المعلوم أن الذين يبيحون إجهاض الجنين قبل النفخ لغير عذر, يبيحون بالأولي إجهاضه لعذر, سواء كان العذر الخوف علي الرضيع أو كان غير ذلك.
وقد منع فريق من العلماء المحدثين إجهاض الجنين قبل نفخ الروح فيه لعذر يتعلق بطفل رضيع, ولست أري ما يراه الحنفية ومن مال إلي رأيهم, من جواز إجهاض المرضع عند الخوف علي الرضيع من آثار الحمل, إذ ربما كان لمن قال به من سلف الأمة عذر, إذ لم يكن ثمة بدائل عن لبن المرأة, أما وقد عج زماننا بهذه البدائل من لبن محضر في المعامل, إلي أغذية مناسبة للأطفال الرضع, وغير ذلك مما ينفع الرضيع ويوفر له البديل المناسب إذا حملت المرضع وقل لبنها أو قلت قيمته الغذائية, ومن ثم فلا تتوافر مع وجود هذه البدائل حال حاجة أو ضرورة لإجهاض الجنين.

الفرع الثالث
إجهاض الجنين المشوه

المقصد الأول
إجهاض الجنين المشوه بعد نفخ الروح فيه
اتفق العلماء المحدثون علي أن الجنين الذي نفخ فيه الروح إذا كان به تشوه شديد أو يسير، يمكن علاجه أو لا، سواء كان يمكن للمريض أن يعيش به أو لا، فإنه يحرم إجهاضه أو القضاء علي حيويته بسبب هذا التشوه، ويعد الاعتداء عليه بالإجهاض أو نحوه مما ينهي حياته، مقتضيا تأثيم الفاعل والمشارك له، وأنه يعد قتلا موجبا للقصاص، أو موجبا للدية والكفارة، حسب نوع الجناية الواقعة عليه .
وقد استدل العلماء علي حرمة إجهاض الجنين المشوه بعد نفخ الروح فيه بما يلي:
أولا: الكتاب الكريم :
قال تعالي: ) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق (.
وجه الدلالة من الآية:
نهي الحق سبحانه في هذه الآية عن قتل النفس البشرية بغير حق، ومن قبيل قتلها بغير حق إجهاض الجنين المشوه ولما كان النهي يفيد التحريم عند إطلاقه وتجرده عن القرائن، فإن الآية تدل علي حرمة إنهاء حياة الجنين المشوه الذي نفخ فيه الروح، سواء كان إنهاء حياته بالإجهاض أو بغيره.
ثانيا: السنة النبوية المطهرة: أحاديث منها:
روي عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: " اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن ؟، قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ".
وجه الدلالة منه:
أفاد الحديث حرمة قتل النفس البشرية بغير حق، وأن قتلها والحال هذه من المعاصي الكبائر، وإجهاض الجنين المشوه، أو إنهاء حياته بأي وسيلة، هو من قبيل قتل النفس بغير حق، فيكون محرما .
ثالثا: الإجماع:
انعقد إجماع العلماء المعاصرين علي أن الاعتداء علي الجنين المشوه، بإنهاء حياته بعد نفخ الروح فيه معصية، وأنه يجب فيه القصاص أو الدية والكفارة حسب نوع الجناية، وأنه لا يجوز لأولياء أمور هؤلاء المشوهين التخلص منهم، بل ينبغي أن يرعوهم وأن يسعوا في علاجهم، رجاء الشفاء أو تخفيف المرض والآلام، وأن يصبروا علي ما أصابهم رجاء المثوبة والأجر من الله تعالي.

المقصد الثاني
إجهاض الجنين المشوه قبل نفخ الروح فيه
اختلف الفقهاء في حكم إجهاض الجنين الذي به تشوه، قبل نفخ الروح فيه علي مذهبين:
المذهب الأول:
يري أصحابه حرمة إجهاض هذا الجنين مطلقا، إذا كان الإجهاض بسبب ما به من تشوهات، وسواء كان يمكن علاجها أو لا يمكن، وسواء كان التشوه شديدا أو يسيرا، وسواء كان يمكن أن يعيش به أولا يمكنه, وهو قول الدكاترة: محمد سعيد البوطي، وعلي الصوا، ومحمد عثمان شبير، والشيخ عبد الله البسام.
المذهب الثاني:
يري من ذهب إليه جوز إجهاض الجنين الذي به تشوه شديد أو عيوب وراثية خطيرة لا يرجي شفاؤها، إذا كان لا يمكنه العيش بها إذا ولد، وتم التأكد من وجود هذا التشوه أو المرض من تقرير لجنة من الأطباء الثقات، بناء علي الفحوص الفنية بالأجهزة والوسائل المخبرية، وهو الذي قرره المجمع الفقهي الإسلامي للرابطة في دورته الثانية عشرة المنعقدة بمكة في الفترة من 15-22/7/1410هـ.
أدلة المذهبين:
استدل أصحاب المذهب الأول علي حرمة إجهاض الجنين الذي به تشوه مطلقا قبل نفخ الروح فيه بأدلة منها ما يلي:
1- إن حفظ النسل من الضروريات الخمس، التي دلت النصوص علي وجوب المحافظة عليه، وإجهاض الجنين المشوه يتنافي مع مقصود الشارع من هذا الحفظ، فكان هذا الإجهاض غير مشرع .
2- إن من مقاصد الزواج حفظ النوع الإنساني عن طريق التناسل، الذي هو مقصد شرعي، وإجهاض الأجنة ولو كانت مشوهة، فيه منافاة لمقصود الشرع من النسل والاستكثار منه، فكان غير مشروع.
3- إن إجهاض الجنين الذي به تشوه، صورة من صور الوأد الجاهلي، وهو وإن تغيرت وسيلته عن ذي قبل، ووقت ارتكابه، إلا أن نتيجته كالنتيجة التي تترتب علي الوأد، فيحرم ما كان مثله، ويؤدي إلي نفس نتيجته، وهو الإجهاض، أو نحوه من صور التخلص من الجنين المشوه.
4- إن إرادة الله وحكمته اقتضت خلق هذا الجنين الذي به تشوه علي هذا النحو لحكمة يعلمها، فقد يكون هذا للاعتبار للمعافين وغيرهم، فإن المعافي إذا رأي ما بغيره من تشوه أو بلاء أو مرض أو نحو ذلك، حمد الله تعالي علي نعمته عليه وزاده هذا تعلقا به، فالتخلص من هذه الأجنة المشوهة بالإجهاض أو نحوه يضاد إرادة الله تعالي وحكمته في خلقه.
5- إنه لا ضرورة ولا حاجه تدعو إلي هذا الإجهاض، لعدم توافر أركانهما فيه، إذ الطب لم يصل بعد إلي اليقين أو الظن الغالب بأن الجنين الذي يراد إجهاضه مشوه، ولا يعدو الأمر إلا أن يكون احتمالا يحذر الأطباء منه.
استدل أصحاب المذهب الثاني علي إباحة إجهاض الجنين الذي به تشوه قبل نفخ الروح فيه، إذا كان التشوه شديدا، لا يمكن علاجه، ولا يمكن للجنين أن يعيش به إذا ولد، بما يلي:
المعقول:
1- إن إجهاض الجنين الذي به تشوه شديد لا يمكن علاجه، يقتضيه ما قام به من عذر مبيح، وللضرورة المعتبرة الموجودة، المستندة إلي الأدلة العلمية والكشوف والتحاليل الثابتة اليقينية.
2- إن الجنين قبل نفخ الروح فيه ليس آدميا، ولم يأخذ صفة الإنسان، وخاصية النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ولهذا فلا إثم في إجهاضه.
المناقشة والترجيح:
بعد استعراض أدلة المذهبين فإني أري رجحان المذهب الأول، من حرمة إجهاض الجنين الذي به تشوهات أو أمراض قبل نفخ الروح، ولو كان مما يستعصي علاجه، لما وجهوا به مذهبهم، ولما يلي:
1- إن أكثر الأمراض والتشوهات الوراثية ليس بالخطورة التي توصف بأنها شديدة، أو لا يمكن علاجها، أو يصعب علي المريض التعايش معها، أو ممارسة حياته معها بشكل طبيعي أو أقرب إلي ذلك، لأن أكثر هذه الأمراض والتشوهات لا تظهر آثارها إلا مع تقدم عمر من أصيب بها، وقد تمتد الحياة به في كثير من الأحيان إلي سن الشيخوخة، وهذه الأمراض والتشوهات في جملتها لا تسبب الوفاة بمجردها، كما لا تسبب إعاقة من قامت به عن أداء الأعمال المختلفة .
2- لقد ثبت طبيا أن الأجنة التي بها تشوه شديد، تجهض تلقائيا قبل زمن النفخ، وأن 60% من حالات الإجهاض التلقائي، تكون بسبب وجود تشوهات بالأجنة المجهضة، وأنه يتم إجهاضها تلقائيا خلال الأشهر الثلاثة الأولي من الحمل، كما ثبت أن حوالي 70% من حالات التشوه الجنينية المبكرة, تجهضها الأرحام قبل علم المرأة إذا كانت حاملا أم لا، وأن 25% من حالات الوفيات الحادثة عند الولادة أو قريبا منها، تكون بسبب التشوهات الوراثية في الكروموسومات والجينات, ومن ثم فإن الإجهاض التلقائي للأجنة المشوهة، الذي يتم في الأشهر الثلاثة الأولي من الحمل، من غير علم الحامل أو من غير إرادتها، سيغني عن كثير من التدخل لفحص الجنين، أو إجهاضه إذا كانت به تشوهات شديدة تقتضي الإجهاض كما يقول المبيحون .
3- حمل الجنين لجين ممرض من والديه أو أحدهما، لا يقتضي بالضرورة إصابته بالمرض أو التشوه الذي ينقله الجين إليه من الوالدين أو أحدهما، لأن من الجينات الممرضة ما ينتقل من الوالدين إلي ذريتهما كصفة سائدة أو متنحية، مما يعني أن نسبة من الذرية لا ينتقل إليها المرض أو التشوه, كما أن وجود خلل في الكروموسومات لا يمثل حال ضرورة تقتضي إجهاض الجنين الذي حدث بكروموسوماته الخلل لقلة حالات حدوثه .
4- إن الوسائل التي يتم بها فحص الجنين، لمعرفة ما به من أمراض أو تشوهات، لا يمكن إجراؤها إلا بعد مضي ستة عشر أسبوعا من بدء الحمل بالجنين، ولا يمكن الوصول إلي نتائج هذه الفحوص إلا بعد نفخ الروح في الجنين, ومن ثم فإن تشخيص التشوهات الخلقية داخل الرحم بالوسائل المستعملة حاليا، لا يتم إلا بعد أن يكون قد مضي علي حياة الجنين داخل الرحم أكثر من ثمانية عشر أسبوعا، أو أكثر من أربعة أشهر من الحمل " .
5- النتائج التي يتوصل إليها من خلال الفحوص المختلفة، لا تفيد القطع بوجود تشوه أو مرض وراثي بالجنين، فضلا عن كون ذلك شديدا أو يسيرا، ولا يمكن التيقن من نتائجها، كما أنها لا تفيد غلبة الظن بوجود ذلك حتى يقال بجواز إجهاضه تأسيسا عليه .

الفرع الرابع
إجهاض من يضر بها الحمل
اتفق جمهور العلماء المعاصرين علي جواز إجهاض المرأة التي يضر بها الحمل, سواء كان إضراره بها في بقائه في رحمها أو عند ولادته, بل إن منهم من أوجبه ولو كان بعد نفخ الروح في الجنين, دفعا لأشد الضررين بارتكاب أخفهما.
وباستعراض ما ذكره العلماء من شروط لجواز الإجهاض في هذه الحالة, نجد أنهم اعتبروا له ما يلي:
1- قيام الضرورة التي تحتم الإجهاض, بأن كان بقاء الجنين في رحم المرأة يهدد حياتها أو يضر بصحتها.
2- أن يثبت قيام هذه الضرورة من طريق موثوق به, بحيث لا تكون متوهمة أو قائمة علي غير أساس علمي.
3- أن يتيقن أن بقاء الجنين يهدد حياة الحامل أو يضر بصحتها, وأن هذا الخطر لا يزول إلا بإجهاض الجنين.
4- أن يقرر ضرورة الإجهاض لإنقاذ حياة الأم أو المحافظة علي صحتها, أطباء متخصصون, ولما كان التقرير الذي يتوصل إليه هؤلاء بالنسبة لها يتوقف عليه حكم شرعي, فيعتبر فيهم العدالة والحذق وألا يقل عددهم عن اثنين كما قال ابن حجر الهيتمي.
ومن ثم فإن إجهاض الجنين في هذه الحالة تقتضيه ضرورة الحفاظ علي حياة الأم أو صحتها, وقد كانت سببا في وجوده فلا يكون سببا في عدمها, يضاف إلي هذا أن بقاء الجنين في رحم الأم مفسدة إن كان ينهي حياتها أو يضر بصحتها, وفي إجهاض الجنين مفسدة كذلك, ولا يمكن درء المفسدتين معا, إذا تعذر استبقاء الجنين ومعالجة الأم من الأضرار التي يسببها بقاؤه في رحمها, فالواجب في هذه الحالة درء أعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما, ولا شك أن الضرر الذي يحيق بالأم في حال بقاء الجنين مفسدته أعظم من مفسدة إجهاضه, لتعلق حقوق الغير بها, ولتأكد حياتها واستقرارها, بخلافه فليس بهذه المثابة, فضلا عن أنها أصله, ولذا كان القول بإجهاضه في هذه الحالة وإن نفخت فيه الروح, دفعا لأعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما.

أ.د. عبد الفتاح محمود إدريس

أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن

بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر

وعضو مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا
 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !