من السهل جداً أن تضحي من أجل صديقك، ولكن من الصعوبة أن تجد من يستحق هذه التضحية.
سقراط
فاروق حسني، أشهر وزير ثقافة في تاريخ مصر الحديث، أراد أن يختبر قدراته في لعبة " اليونسكو" لكنه خسر. هو و من آمن به من بني عمومته يقولون أن اللوبي الصهيوني هو الذي لعب الدور الحاسم في إسقاطه و حرمانه من شرف قيادة المنظمة الأممية المذكورة.
أين تختبئ حقيقة ما حدث بالضبط ؟ سؤال لا معنى له، الآن و قد اصطدم فاروق حسني و حسني مبارك و كل العرب بحائط من الخرسانة المسلّحة. مرشح العرب حصل على 27 صوتا مقابل 31 صوتا للبلغارية ايرينا بوكوفا ، و عاد حسني خائبا إلى مصر.
معركة اليونسكو الانتخابية، خاضها إضافة إلى المصري الخاسر، عربي آخر، جزائري الجنسية اسمه محمد بجاوي. بجاوي حصل على صفر أصوات. الفارق بين الخاسر المصري فاروق حسني و الفاشل الجزائري محمد بجاوي، يكمن في كون الأول كان مساندا من قبل العرب بفضل دعم رئيس بلده و بفضل الاتصالات و المساعي التي ما انفك حسني مبارك يقوم بها لدى القادة العرب بغرض حشد الكم الضروري من التأييد لابن بلده، بينما كان الثاني (الجزائري محمد بجاوي) يتيما، لأن قادة الززاير بدلا من أن يشجعوه على منافسة الكبار من أجل الظفر بقيادة واحدة من أشهر منظمات الأمم المتحدة إن لم تكن أشهرها على الإطلاق، بدلا من أن يشجعه قادة بلدناإذن، و يؤيدوه و يؤطروه و يسخرون له أرمدتهم الدبلوماسية التي قالوا لنا دائما أنها رهيبة، فإنهم بالعكس طلبوا منه ألا يرشح نفسه ( حتى لا أقول يترشح) و ألا ينافس المصري فاروق حسني.
بجاوي تمرّد، لم يستجب لطلب قادة بلاده، و تقدم للانتخابات تحت راية بلد آخر. و كانت النتيجة كما كانت و كما كان يجب توقعها، و كما توقعها بجاوي نفسه ربما.
هناك شيء ما يحزنني في هذه القضية. فأن تطلب السلطات الجزائرية، لسبب أو لآخر من بجاوي أن يتنازل عن طموحه لصالح وزير الثقافة المصري، أمر قد أقبله من منطلق أن للمسؤولين الجزائريين حسابات و مقايضات دبلوماسية هم أدرى بقيمتها و حتميتها... ربما ؟. و قد أهضم الموقف عندما يقال لي مثلا أن الجزائر لا تريد أن تشذ عن إجماع عربي ( و هو إجماع لا يمكنه أن يكون إلا خرطي كالعادة).
فأن تطلب سلطة الجزائر من بجاوي أن يتنازل. لكن الرجل يرفض الاستجابة، و لا يجد صوتا واحدا يدافع عنه، من وسطنا نحن العامة، نحن الرعية، نحن الشعب، نحن الذين يسموننا مواطنين، فهذا ما يزعجني.. هذا بالضبط ما يحزنني. فلأن السلطة وقفت ضد ترشح بجاوي ، وقفنا نحن أيضا ضده، و لو بسكوتنا و لو بقلوبنا التي بدا لي و كأنها لم تكن تتمنى لذلك الجزائري، و لو الحصول على بضعة أصوات تحفظ له ماء الوجه!
أحد الأصدقاء قال لي أن فاروق حسني بوصفه فنانا قبل أن يكون وزيرا للثقافة في بلد الأهرامات، أقرب إلى الثقافة و الفن من بجاوي الذي عرفناه كما عرفه العالم قاضيا في محكمة لاهاي الدولية.
قلت لصديقي: " و لم لا ؟!".
فرد علي صديقي: " لكن هذا تخلاط ؟".
فقلت له: " عندما قلت لك، و لم لا يكون بجاوي مرشح الجزائر لقيادة اليونسكو، كنت أقصد التخلاط... ألا ينتمي بجاوي إلى بلاد التخلاط ؟!" فقال: " لكن ليس لهذا الحد ؟!".
قلت: " يرحم والديك... في بلد، تحوّل فيه حمراوي من منشط تلفزيوني إلى وزير ثم تدحرج ليصبح مديرا للتلفزيون.. ليتحول إلى رئيس لمهرجان سينمائي !... و من التلفزيون و السينما إلى السلك الدبلوماسي، الذي أصبح يشغل فيه منصب سفير ! أليس هذا بتخلاط ؟!.. و عندما يُحوّل سعيد بركات من وزير البطاطا إلى وزير العمليات الجراحية.. أليس هذا بتخلاط ؟ و عندما تُعيّن خليدة وزيرة للثقافة.. أليس هذا بسيد التخلاط؟ فمن تكون خليدة حتى تتولى شؤون الثقافة؟! هل هي كاتبة، شاعرة، رسّامة، سينمائية، مسرحية، موسيقية، مؤرخة... من تكون خليدة بالضبط كي تُستوزر على قطاع الثقافة ؟! صحيح أنها امرأة، النغمة تهزّ جسدها و تجعلها "تلوي مليح أمام الغاشي"، لكن خليدة و إلى أن يُثبت العكس، ليست حتى راقصة أعراس، كي تصبح وزيرة للثقافة من منطلق أنها "راقصة " ! فلماذا نرى التخلاط إلا في بجاوي عندما يرغب في الترشح لمنظمة اليونسكو؟ بجاوي على الأقل وهبه الله لحية " رهباني" بيضاء و نظيفة، و ثقافة واسعة و ماض مهني دولي مشرّف ".
ما يحزنني أكثر في هذا الموضوع هو أنني متيّقن تمام اليقين من أنه لو كان محمد بجاوي بكل مواصفاته، مصريا، و فاروق حسني بمواصفاته الثقافية و الفنية، جزائريا، لفعل حسني مبارك مع بجاوي نفس ما فعل مع فاروق حسني، و لسانده و دعمه، بينما كان قادتنا سيمنعون فاروق حسني من الترشح !
الذي كان سيحدث هو أن مصر، كعادتها ستقوم بالمستحيل كي تحتل منصبا دوليا نافذا، بينما كنا نحن سنقوم بالمستحيل أيضا، كي يتقدم علينا غيرنا.
صديقي الذي حدثتكم عنه، و الذي كان قد ناقشني في هذا الموضوع، و الذي بيّنت له بالحجة و البرهان أن الجزائر غنية أيضا بالتخلاط إلى جانب البترول و الغاز، لم يجد ما يقول لتأكيد صحة وجهة نظره ( و هي وجهة نظر السلطة و الأغلبية المؤيدة لها) سوى : " ما عليهش.. و لكن أليس من العيب على رجل بمقام محمد بجاوي ألا يستجيب لطلب سلطات بلاده بعدم الترشح، و يتحداها و يتقدم للانتخابات باسم دولة أجنبية ؟... ألا يعكس تصرفه هذا، مستواه الصبياني ؟!" فقلت لصديقي: " أن يكون مستوى بجاوي صبيانيا هذا أمر قد تعرفه أنت و كبار المسؤولين في هذا البلد. لكن بدلا من أن تلوم هذا الصبي ( بجاوي) على تصرفه، ألا يجدر بك أن تلوم أولا، السلطة التي كانت قد كلّفته بتسيير واحدة من أعز الحقائب الوزارية بعد الدفاع و الداخلية (الشؤون الخارجية) ؟! و قبل ذلك كانت نفس السلطة قد وجدت فيه، عام 1999، الشخصية النظيفة الوحيدة التي تستحق أن تُعهد إليها مهمة رئاسة اللجنة المستقلة لمراقبة الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها بوتفليقة بولايته الأولى . فإذا ما سلّمت بصحة كلامك، يا صديقي ، فهذا معناه أن السلطة تعيّن " الذراري" في أكثر مناصب الدولة حساسية، و العيب في هذه الحالة، ما هو إلا عيب السلطة و السلطة وحدها ! ".
السلطة عارضت ترشح محمد بجاوي لليونسكو، لأنها كانت تريد إخلاء السبيل أمام مرشح مصر، فاروق حسني. لكن هذا الأخير لم ينجح و عاد من حيث أتى. ماذا يعني هذا ؟
انه يعني أن القيادة الجزائرية لم تؤيد الجزائري محمد بجاوي لأنها كانت ترى فيه مرشحا فاشلا. فمن أيّدت ؟ لقد أيّدت مرشحا فاشلا اسمه فاروق حسني، و الفارق الوحيد بين المرشحين الفاشلين هو أن الأول (بجاوي) كان يوصف بالمرشح الذي " لا حظ له "، بينما كان الثاني (حسني) يوصف بالمرشح " الأوفر حظا" لكن العبرة بالنتائج ، و النتيجة نفسها في هذه القصة الركيكة، و هي أن أننا نمنع الفاشلين.. لكننا أيضا، لا نؤيد إلا الفاشلين.
عام 1999 ترشح السعودي غازي القصيبي لمنصب المدير العام لمنظمة " اليونسكو"، لكنه هُزم كما هُزم المصري فاروق حسني. فماذا قال القصيبي، بعد هزيمة العرب الثانية ؟ لقد قال:
"كان من المفروض أن يزور الأستاذ فاروق حسني المرشح العربي المملكة العربية السعودية قبل الانتخابات وأن يلتقي بي، إلا أن ظروف العزل في شهر رمضان المبارك وغيابي في إجازتي السنوية خارج المملكة لم تسمح بأن تتم الزيارة. كنت أتطلع إلى لقاء المرشح العربي لأبلغه، وجهًا لوجه، الدرسين الأساسيين اللذين استخلصتهما من تجربتي مع اليونسكو. الدرس الأول هو لا تصدق ما تسمع من وعود، والدرس الثاني هو أن المعركة الحقيقية لا تبدأ مع انطلاق الحملة بل مع ميلاد كل ترشيح بعبارة أقل ديبلوماسية، يعني الدرس الأول أن الدول عادة لا يهمها من هو المرشح ولا ما هي مؤهلاته بقدر ما يهمها أن تحمي مصالحها الوطنية الضيقة وإذا ما ألقت بها هذه المصالح في اتجاه معين فسوف تتبعه وتذهب كل الوعود المعسولة أدراج الرياح.
خلال حملتي الانتخابية تلقينا وعودًا قاطعة من زعماء اشتهروا بالشرف واحترام الكلمة – إلا أن هذه الوعود تبخرت في الهواء. أما الدرس الثاني فيعني، بصراحة أن كل مرشح جديد هو، في الحقيقة، خصم جديد (لا مجرد منافس) بخاصة إذا كان ينتمي إلى قارة المرشح العربي أو يطمع في الحصول على أصوات الدول ذاتها. إن النجاح في وأد ترشيح جديد كثيراً ما يكون أجدى من البحث عن أصوات من هنا أو هناك".
منشور في أسبوعية " أسرار" الجزائرية / العدد 259
التعليقات (0)