الإبحار في عيون الوطن
بقلم: أحمد مكاوي
في ديوان قراءة في كف الريح يحدد مصطفى رؤياه للشعر فيقول : «الشعر مغامرة جميلة تتراوح بين الروعة والدهشة يحاول الشاعر من خلالها مد جسر ليعبر منه إلى المتلقي الذي هو بدوره مبدع ثان» (ص ت)
وهنا أصبح لازما علينا أن نتتبع خطوات رؤياه هذه في الديوان بعد أن أصبحنا نعتقد أن الذي يقدم لنا ديوانه يعرف جيدا ما الشعر الذي يريده ، والمغامرة التي هو مقدم عليها يغرينا من خلال حروفه الركوب لها عبر قصائده التي جاوزت العشرين هنا .
عند الوقوف على الشكل الذي اختاره مصطفى نلمح أن الرجل يأبى إلا أن يخوض تجارب الشعر بنوعيه : الخليلي و التفعيلي وهو كما أسر لي منفتح على جميع الأشكال بشرط أن يكون الجمال لباسها والإبداع تاجها ..فقد كان ضمن قصائد الديوان خمس قصائد تفعيلة لعل أبرزها القصيدة التي حمل الديوان عنوانها ..
إن مصطفى في كل ما سوف نجده في الديوان يبحر في عيون الوطن بمفهومه الواسع ، فأغلب القصائد غزلية تحمل المعنى المفتوح للغزل ، غير أنه في بعض القصائد يلجأ إلى البوح بمعشوقته في أخر القصيدة أو يلمح لها تلميحا يخبر عنها فندخل معه حديقة الجمال في عيونها .. ونركب أشرعة المعاني في بحار ها
يقول في قصيدة « في عيون الوطن » :
أرى كل شيء بعينيك ينمو
ربيعا يزاحم هذا التصحر
يداعب فينا جمال الطفوله
فيكبر فينا جمال التصور (ص 9)
إلى أن يقول :
أراك تساميت فوق الجراح
وفي كل قلب .. على كل منبر
فأبيض لامس سر الجلال
ولــون الدمـاء يعانـق أخضـــر
وهذا الصبي الذي تعرفين
بدربــك قـد صار بالحب أجدر (ص 11)
حدد الشاعر الوطن الذي يريده دون تسميته عبر ألوان العلم الذي يرفرف في سمائه ، فالأبيض والأخضر والأحمر هي ألوان الراية الجزائرية التي كبر الصبي على درب حبها يقول :
أراك ومهما دهتنا الليالي
ستبقين رغم المرابين أكبر
تسيلين شوقا بقلبي وعطرا
ونورا تسامى لينمو يكثر
أناجيك دربا وأهواك طيفا
وحلما إلى شاطئ الحب يعبر (ص 12)
إننا هنا أمام عاشق كبير يسمو بعشقه ، ويبحث عن شهادة جدارة من معشوقته التي تسيل شوقا وعطرا ونورا ودربا وطيفا وحلما !
أما موقفه فقد حدده من أول الديوان حيث يقول :
أنا جئت أسأل يا ظنون مواقعي
فلقد ركبتك واحتقرت مشاعري
أنا لا أماطل في الغرام وحيدتي
لكنني أهواك ملء خواطري
......
أنا شاعر أبغي الخلاص صغيرتي
وأحاول الإبحار خلف منابري (ص ث)
والذي يقرأ هذه الأسباب التي تقطر تحديدا لسبيل الخلاص حيث لا خلاص إلا في الإبحار عبر الكلمات التي يبثها الشاعر على منبر القصيدة ، وهو هنا يذكرنا بقول الراحل نزار :
كل المنافذ حولنا مسدودة
وخلاصنا في الرسم بالكلمات
وهو الشعار الذي ارتضاه كل من حمل لواء القصيد وامتحن طعم الإبحار في وهج الشعر ، واكتوى بنار الحرف ، الذي أضحى قدرا محتما لا مفر منه ..
إن الإحساس بقيمته كشاعر جعل مصطفى يلح على ذلك في مواضع كثيرة من الديوان ، بل وفي القصيدة نفسها في بعض الأحيان . يقول في قصيدة « سفر في عيون جميلة » :
دونت اسمك شاعرا بدفاتري
ومداده خضبته بدمائي (ص 18)
وفي نفس القصيدة يقول :
أنا منذ آدم شاعر متعصب
لا يغفل التاريخ عن عصمائي (ص 19)
وفي قصيدة « هيه يا عصماء» يقول :
غنيت دهرا بشعر كان يفهمني
والشعر أروع ما في الكون إن صدقا (ص 13)
وفي « طيفها والقصيدة » :
أوتسألين لم يغرد شاعر
قد ذاب شوقا في هوى مولاتي (ص 33)
وفي « وجه المدينة » :
أنا شاعر وقصائدي أشقى بها
و سفائني قد ملها إبحاري (ص38)
وفيها :
إني أحبك فلأمت إن قلتها
لن أنتفي ...وبصحبتي أشعاري (ص39)
وفيها :
يا كل لحن رائع يجتاحني
صوني الهوى ولتسكني أشعاري (ص41)
وهو الذي سقى شعره من أدمع وخواطره ، بعد أن نسجه لها من دمه ، يقول في قصيدة « بوح القصيد » :
بمن ألوذ وشعري صار ينكرني
بما التعلل غاب الشعر أحلاه
...
الشعر صعب ..آه كم سيتعبني
لمن أغني وقد ضيعت فحواه (ص 57)
أو :
آه فشعري لم يعد سكني
من أين أبدأ في مأساة من تاهوا ( ص 58)وفي قصيدة « أنت أكبر» :
كل شعر ليست فيه ليس شعري
كل فكر لست منه ليس ديني (ص63)
وفيها :
كل ما في الشعر أنت مبتداه
يا عيونا قررت أن تحتويني (ص 64)
وفيها :
كل شعر لا يسميك اجترار
وانتحار خط بالحرف الحزين ( ص 65)
وفي قصيدة « أغنية للحزن » :
وكتبتك شعرا صوفيا
وجعلت عيونك عنواني
يا كل قصيد يكتبني
يتفجر مثل البركان (ص 69)
وفيها يقول :
ها جئت الشعر أسائله
عن حب ألهب وجداني (ص 71)
إن الإلحاح على الشعر والشاعر بهذه الطريقة القوية يجعلنا نقرأ هذا الأمر على وجهين كليهما يرفع مكانة ما يقوم به الشاعر ، أما الأولى فهي أن مصطفى يعتقد اعتقاد جازما أنه لولا الشعر ما كان لهذه الحياة أو لهذا الوطن أو لهذه الحبيبة معنى ، فمعناها من روحه وجمالها من حرفه ، وهي بدونها أشياء وحسب و به أشياء لها كينونة تفوق ما يمكن أن تكون ، وبذلك يخلق الشاعر هذه الأشياء خلقا آخر عبر شعره .
والأخرى إحساس بما بلغه الشعر من هوان على الناس ، فأراد أن يقول للكل : ما الذي يمكن أن يقال بدونه ؟!وهل الناس بلا شعراء أحياء؟! وهل المشاعر بدون حرف يصورها ووزن يدوزنها وإيقاع يطربها ولغة ترسمها إلا مسخ يخيف وهول يزحف على النفوس فيميتها وعلى الوجوه فيشوهها !!
مصطفى استطاع أن يقول للناس ما نحب أن نقوله لهم في أحايين كثيرة ، ولكن بدون رفع شعارات ولا لافتات !!
الإحساس الآخر الذي نراه متحفزا لدى الشاعر هو إحساس الرحيل الدائم ، وقد تعددت أسماؤه وصوره في الديوان من العنوان إلى آخر صفحة فيه ..إنه أحساس القلق الذي قرر السفر عبر الكلمات إلى مجاهل جميلة ، تحمل في طياتها أخيلة وأماني هاربة من واقع يرفضه الشاعر إلى دنيا يريدها ولو في خياله .. فـ «قراءة في كف الريح» عبرة عن رحلة على كف لا يحدها زمان ولا مكان..
و« إلى الشطآن ضميني» سفر من عوالم الروح إلى عيون من يهوى ، إلى شطآن الأحلام ، إلى حكايات بنت العش الأجمل ، إلى العمر الآتي رغم سمة الحزن التي تغرقنا في النهاية في دنيا الأسى !!
و« سفر في عيون جميلة » دنيا من الإبهار الذي ولده هوى السمراء التي أغرت حرف الشاعر ، فاختار السفر هناك حيث الذي يأمل..
و « رحيل » هي دعوة للنفس كي ترحل في وجه تداعبه الدموع ، أو تحمله المساءات التي تغري القلب الظمآن للانتصار على ...؟!
إنها دنيا من الأماني التي اتخذ منها الشاعر بساطا على كف الريح ،
وفي كل قصيدة من قصائد الديوان تيمة الرحيل والسفر تتجلى عبر المعاني والأشياء التي يجري خلفها الشاعر الذي يحاول الإمساك بها فيجد نفسه كالقابض على الماء!!
الإحساس الآخر الذي ينطق بقدرة فذة على التصوير والعمق في التجربة الشعرية هو تشكيل العنوان للديوان ،ككل وللقصائد بصفة خاصة .. فالذي يمر على الفهرس ويقرأ عناوين القصائد ستشده العبارات المكونة للعنوان ، من حيث التركيب الباعث للدهشة ، ومن حيث المفردات التي اتشحت برداء الرومانسية المنفلتة من عقال التقليد والطامحة في تجاوز المعلبات التي ابتلينا بها هذه الأيام !!
أقول هذا الكلام لأن العنونة عتبة النص التي تدفعنا إلى قراءة النصوص بلهفة وتشوق ..
إن«قراءة في كف الريح» و«ربما لن يجيء المساء» و«فسيفساء البحر» و «رحيل» و «طيفها والقصيدة» و«وجه المدينة» و«لن أسلمه للأحزان» و «فلسفة الميلاد» و «الفجر الجديد» و«وشم على زند الحقيقة» هي عتبات تحملنا حملا على الولوج لعمق البحر الذي وراءها حيث المتعة الأكيدة والجمال المجنح على عبير الكلمات .. ولمن أراد التأكد فعليه بالديوان والغوص بحثا عن الدرر التي لن تبخل بها الأصداف هناك
بقي الآن أن نقف قليلا عند معاني أراد المبدع في الديوان أن تمتد فينا .. لقد كان الهم العام طاغيا رغم مسحة الرومانسية البادية هنا وهو بحق استطاع أن يؤلف بين خطين ما كانا ليأتلفا لولا البراعة التي يملكها حسه المبدع . الذاتية التي لا يعد الشعر عندي إلا بطغيانها والموضوعية التي تستلزمها بعض أغراض الشعر
في الديوان نجد مناجاة الذات الإلهية في «فلست أرى سواك» وأجمل ما فيها قوله:
تهفو إليه الخافقات لواعجا
والحب يخطب في الحبيب رضاه
الحق جزء من حقيقة كنهه
وهو المنزه في الوجود إله
إني أراك بقلب صب عاشق
بلغْ بفضلك سؤله ومناه
وارحم شقيا جاء يسألك النجا
يرنو إليك وزاده شكواه (ص 3)
وفيه التحية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في قصيدة « في رحاب المصطفى» حيث يقول فيها :
فهو الخلاص لمن أراد هداية
وهو الدليل لبهجة وجنان
حب النبي محمد أرقى به
في سدرة الأزمان والأكوان (ص49)
وفيه الغناء للوطن في قصيدة «في عيون الوطن » وفيها يقول:
أراك ومهما دهتنا الليالي
ستبقين رغم المرابين أكبر
تسيلين شوقا بقلبي وعطرا
ونورا تسامى لينمو يكثر
أناجيك دربا وأهواك طيفا
وحلما إلى شاطئ الحب يعبر (ص 12)
وفيه لبغداد حيث يقول في «بكائية على جدران بغداد» :
بغداد يا قمرا يظلله دمي
حيي فؤادا بالهوى ناجاك
هذا النشيد تراه يحضن لوعتي
والموت يمخر في عباب حماك
أرض الرشيد جعلت حبك مذهبي
وعقيدتي في الحب أن أحياك
قسما سأهزم يا جراح مواجعي
سأصوغ من عذب الهوى معناك
سيحدث التاريخ أنك كنهه
عنقاء تبعث من رماد لظاك (ص 62)
ولفلسطين في « بوح القصيد» يقول:
فالسلم أكبر كذبة صدقتها
والكذب فصل في كتاب الفاجر
يا قدس مرحى للشهيد طريقه
جنات عدن أزلفت للصابر (ص 45)
وللوطن يقول في « أغنية للحزن»:
يا وطني الرافض للجرح
لا شيء سيهزم إيماني
الجميل في كل هذا أننا نقرأ القصائد فنسبح في بحار الإبداع وننهل من معين الجمال ويزيد الروعة قدرة الشاعر على المزج بين الذات والموضوع في لحمة لا يمكن أن تقرأ الذات بلا موضوعها ولا الموضوع بدون ذاته .
و لقد راقت لي جدا تلك الصور التي ختم بها الديوان في قصيدة «وشم على زند الحقيقة» وهي فلتة من الفلتات الكثيرة التي أبدعها مصطفي في مساره الشعري فليسمح لي قاريي أن أختم هذه القراءة بنص هذه القصيدة :
عانقتها...
وسدت رأسي كفها..
هي لي منذ الأزل
سأظل أهتف باسمها
هي لي ..
صبح تخلل راحتي ...
طير تذلل ..
فوق غصن ذابل ...
هي والمدى ..
صور تعانق رمالها.
فتفتحت ..
حاولت فك قيودها
رغم القيود أظل أهتف باسمها..
هي لي ..
قلب يعانق قلبها
أنكرتها ..؟
عانقتها
حتى استحالت ريشة .. فرسمتها ...
ورميتها حجرا يكسر قيدها
وهتفت حينئذ..
حررتها ..
سأظل عمري غارقا في حبها
عبثا أفتش في دفاترنا القديمه
حين وجدتني
هتف الوجود
وجدتها ..
وجدتها ..
أهديتها من كل روض وردتين ..
وقصيدة أحببتها
ونقشت في أحلامها صوت انتظاري
وصرخت من طول انتظاري
أحبها ..
فوددت لو وضعت أناملها الرقيقة فوق شعري
لأعدت رشدي واصطباري
وهزمت أسباب الحصار
فأنا الذي شكلتها
طيرا يسافر في البراري
وأنا أسجل في دفاترها اعتذاري
ناديتها ..
عانقتها ..
قبلتها في كل خد قبلتين
وقبلة فوق الجبين طبعتها
فسمعت صوتا هاتفا
هل أنت موعودا بها
فأجبت مهلا ..
إنني أحيا لها..
و بها ..
وعند رمالها ..
وتحت ظل نخيلها
عانقتها ...!!!؟؟؟
قراءة في ديوان :قراءة في كف الريح : مصطفى صوالح محمد ط1 بمساهمة دار الثقافة لولاية الوادي ومجموعة من الجمعيات المحلية الوادي 2009
التعليقات (0)