ربما لا يعلم كثيرون أن كلمتي "أسطى" و"أستاذ" ترجعان إلى أصل واحد، نقلتهما اللغة العربية عن الكلمة الفارسية "اُستا" التي تعني الماهر، فالكلمة تدل على الشخص الذي وصل إلى قدر كبير من المهارة يجعله قادرا على تعليم غيره ونقل الخبرة إليه. لا فرق في أصل المعنى بين "الأستاذ" و"الأسطى" فكلاهما معلم ومُربٍ وله تلاميذ يستقون منه المعرفة، لكن أفلامنا السينمائية في وقت سابق كانت تقدم الأستاذ والأسطى أو "الحرفي" في صورة يغلب عليها التناقض، فيظهر الأول ذا احترام في المجتمع وأنه عنوان الفضيلة، أما الثاني فإنه الجاهل الذي لا يبحث إلا عن المزيد من المال. وبمرور الأيام تبدلت الأوضاع، صار صاحب المال –أيا كانت مهنته- هو المحترم، وتحولت الفضيلة بغير مال إلى مثير للاستهجان والتحقير.
لو عدنا بالزمن إلى أكثر من مائتي عام مضت لوجدنا أن "الأستاذ" و"الأسطى" كانت لهما في المجتمع مكانة كبيرة، وحال الأستاذ معروف، فهو المعلم وهو الفقيه حامل العلم. أما عالم "الأسطوات" فقد كان ذا شأن عظيم، إذ كان لمجتمعهم نظام دقيق يحافظ على مكانة المهنة وجودة السلعة ويضبط الأسعار ويمنع الغش والاحتكار. كان لكل أرباب حرفة طائفة، منها طائفة الجواهرجية، وطائفة النحاسين، وطائفة العطارين. والانتقال من مرحلة إلى مرحلة في المهنة له معايير تحددها الطائفة، فمن غير المسموح الانتقال إلى وضع أعلى إلا بعد قضاء فترة كافية في المرحلة السابقة مع الوصول إلى درجة عالية من المهارة. نشر الدكتور مجدي سعيد مقالا بعنوان "إحياء طوائف الحرف.. واجب بلا صاحب" في موقع "مجانين" ذكر فيه أن أهم دور قام به نظام "طوائف الحرف" هو تنظيم ممارسة الحرفة والترقي بضبط مراحل تدرج الحرفيين، بداية من الصبي وصولا إلى الشيخ، من أجل الوصول إلى مستوى عالي الجودة في إعداد الكادر البشري المهني. يقضي الصبي نحو سبع سنوات إلى أن ينتقل إلى درجة العرِّيف، وهو العامل الذي يقضي لدى المعلم ما بين ثلاث وخمس سنوات، ولا يتجاوز ما لدى المعلم عريفا أو عريفين يتكفل بإيوائهما وإطعامهما، ويتولى المعلم نقل خبرته إلى العريف إلى أن يصير ماهرا في مهنته فيتحول إلى مرتبة المعلم في حفل يشهده أبناء الطائفة، ويمثل المعلمون العدد الأكبر من أبناء الطائفة. ويتدرج المعلمون المتميزون في المناصب وصولا إلى منصب شيخ الطائفة الذي يعد الوسيط بين أبناء الطائفة والحكومة.
سارت الأمور في أرض مصر المحروسة على طبيعتها، كل طائفة تفرز المتميزين منها، يصلون إلى المواقع التي يستحقونها دون واسطة أو تقديم المال للحصول على المزايا، إضافة إلى أن الطائفة كانت حريصة على المستوى الجيد من الإنتاج بمراقبته وعدم السماح بالأخطاء فيه، ليصل المنتج إلى المستهلك بشكل يرضيه. وعندما جاء القرن التاسع عشر كان محمد علي باشا قد وصل إلى سدة الحكم، فربط جميع الصناعات بالحاكم لتكون الحكومة "بابا وماما وضامنة لقمة العيش"، فتدهورت الحرف لأن الأمور صارت بيد الإقطاعيين، إلى أن جاء يوم أصبح فيه أهل الخبرة غير مرغوب فيهم. تدهور حال الأسطى وضعف مستواه المهني، وندر في زماننا من ينقل الخبرة إلى غيره أو يتلقاها عن معلم له. وحال الأستاذ كحال الأسطى، تشابها في البدايات وما اختلفا في النهايات. لكن المؤلم أن العالم يأخذ بأسباب التقدم، ونحن نلهث وراء ما يشدنا إلى الانحطاط، يبحثون عن الإتقان، ونمسك بتلابيب الفهلوة دون أن ندري أننا خارجون عن التاريخ، وأن الجغرافيا في طريقها إلى محونا.
التعليقات (0)