الإيمان
قال الله تعالى : ( يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم ، فآمنوا خيراً لكم ، وان تكفروا فان لله ما في السموات والأرض ، وكان الله عليماً حكيماً ).
هذه الآية تتضمن أخطر حكم تكليفي خاطب الله عز وجل به الناس جميعاً في مختلف الأزمنة والأمكنة ، وهو الإيمان بألوهية الله وحده : الإيمان بأنه وحده الخالق ، وهو وحده الضار والنافع ، وهو المسبب لأسباب الكون جميعها ،وهو الذي أودع في الأشياء طبائعها ورتب لها وظائفها ، أي أنه هو الذي " أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " ، وهو الذي يجمع الناس كلهم ليوم الذي لا ريب فيه ، فريق في الجنة وفريق في السعير . ولا يخرج عن عهدة هذا التكليف إلا طفل صغير ، أو فاقد لرشده وعقله ، أو إنسان عاش في بيئة لم يتسامع فيها باسم الدين ، ولم يلقه فيها مرشد أو نذير . فهذا وأمثاله يصدق عليهم قوله عز وجل ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً )
أن الإنسان مفطور على جملة من الصفات والطبائع التي لا بد له منها ، كي يتمكن من عمارة الكون وتسخيره والاستفادة منه ، مثل صفة العقل وما يتفرع عنه من الإدراك والعلم ، والأنانية وما يتفرع عنها ما الأثرة وحب التملك والذات ، والقوة وما يتفرع عنها من الجنوح الى السيطرة وحب العظمة والجاه . وهذه الصفات لا يمكن أن تؤدي عملها الصالح في عمارة الكون على نحو تسعد به الإنسانية إلا اذا كانت هناك رقابة عليا على هذه الصفات وكان صاحبها مستشعراً وجود هذه الرقابة . إذ ان هذه الصفات والطبائع اذا تركت وشأنها كانت متبعاً للشرور، وأسباب الشقاء ، أكثر من أن تكون سبيلاً للخير والسعادة .
وليس الطغيان البشري في حقيقته إلا نتيجة طبيعية لتحرر هذه الصفات من الانضباط بأي قيد . حيث يذهل صاحبها عن وجود رقيب يلاحظ كل تصرفاته ويدخر له العقوبة الصارمة على كل ما لا يرضى عنه من أنواع السلوك الصفات ، فينطلق على سجيته يفعل كل ما تشاء له نفسه وتهواه . قال الله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم . . ) . هذه الآية العظيمة من كتاب الله تعالى تقرر أهم حكم من أحكام المجتمع الإسلامي . وهو وجوب كونه متحداً متضافراً وتضه للناس أقوم السبل الى ذلك، وهو الاعتصام بحبل الله أي التمسك بنظامه وشريعته ولكن ما هي الحكمة من أن يكون الاعتصام بحبل الله هو السبيل الى الوحدة ، حتى كانت ضرورة الاعتصام به هي الأمر الأول منهما في ترتيب الآية وحكمها ؟ الحكمة من ذلك أن الأمم لا تتحد فلا على مبدأ سبق أن آمنت به ، ولا تلتقي إلا على محور يجذبها ويجمعها من شتات. فان لم يتحقق الإيمان يالمبدأ الواحد أولاً ، فلا سبيل الى قيام الوحدة ثانياً . وإذا لم تتركز نقطة المحور في القلب ، فهيهات أن يحيط بها طوق الدائرة من الأطراف .
ولكن التدبر في آيات القرآن الكريم يكشف حقيقة أُخرى للإيمان بعيدة عن كلِّ ما تقدم ، وهي أنّ الإيمان ليس مجرد العلم بالشيء والجزم بكونه حقاً ، لاَنَّ الذين تبين لهم الهدى لم يردعهم ذلك عن الارتداد على أدبارهم ولم يمنعهم من الكفر والصد عن سبيل الله ومشاققة الرسول كما في قوله تعالى : ( إنَّ الَّذين ارتَدُّوا على أدبارهم مِنْ بَعدِ ما تَبينَ لهَمُ الهُدى... إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وصَدَّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وشَاقُّوا الرسُولَ مِن بَعدِ ما تَبيَنَ لهُم الهُدى) .
وفي هذا الخصوص ، وردت أحاديث كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام تعكس التصور الإيماني الصحيح وفق نظرة شمولية ترى أنّ الإيمان هو عقد بالقلب وقول باللِّسان وعمل بالأركان . سُئل أمير المؤمنين عليه السلام عن الإيمان ، فقال : « الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان ». وقال الإمام الباقر عليه السلام في معرض تفريقه بين الإسلام والإيمان : «الإيمان إقرار وعمل والإسلام إقرار بلا عمل » ويتضح من خلال تلك الأحاديث ونظائرها أنّ أهل البيت عليهم السلام قد رفضوا كون الإيمان مجرد إقرار باللسان ، أو اعتقاد بالقلب ، أو بهما معاً ؛ قاصر ، إيمان لا روح فيه ولا حياة , ما لم يقترن بالطاعة المطلقة لله وتنفيذ ما أمر والنهي عما نهى كل ذلك في دائرة الوعي والسلوك والعمل .
ومن هنا يؤكد الأئمة عليهم السلام على أنّ الإيمان كل لا يتجزأ ، ويرتكز على ثلاث مقومات : الاعتقاد والإقرار والعمل , ثم أنّ هذه النظرة الشمولية للإيمان ـ بمقوماتها الثلاثة ـ تستقي من منابع قرآنية صافية ، يقول العلاّمة الراغب الأصفهاني : «والإيمان يُستعمل تارة اسماً للشريعة التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام وعلى ذلك : ( إنَّ الَّذينَ آمنُوا والَّذين هادُوا والصّابئينَ ) (3) ويُوصف به كلُّ من دخل في شريعته مُقراً بالله وبنبوَّته ، قيل وعلى هذا قال تعالى : ( وما يؤمِنُ أكثرهُمُ باللهِ إلاّ وهُم مُشرِكُونَ ) (4) وتارةً يستعمل على سبيل المدح ويراد به إذعانُ النَّفس للحقِّ على سبيل التصديق وذلك باجتماع ثلاثة أشياء : تحقيقٌ بالقلب ، وإقرار باللِّسان ، وعمل بحسب ذلك بالجوارح ، وعلى هذا قوله : (والَّذينَ آمنُوا باللهِ ورُسُلهِ أولئكَ هُمُ الصِدِّيقُونَ )
التعليقات (0)