لعل آخر ما كنا ننتظره من ذوي الضمائر المستترة خلف الإعلانات الرسمية اللامعة والمتبجحة بالحفاظ على الهوية والذاكرة الجماعية والتراث هو إقدامهم على وضع "التلفريك" أو ما تبقى منه، إن صح التعبير، في المزاد العلني في غفلة من الرأي العام وفعالياته.
خطوة أخرى لا تقل وقاحة عن سابقاتها ضمن مسلسل طويل استهدف النيل من الذاكرة المحلية وتشويه ملامحها، وتدفعنا اليوم إلى الاقتناع بغياب إدراك عميق لدى المسؤولين بما هو ثقافي وفني وتاريخي، ولهذا تراهم لا يجدون حرجا في مسح ومسخ معالم تاريخية والتخلص من تحفها الفنية والثقافية دون أن تعوزهم المبررات لفعل من هذا القبيل.
وبالطبع فلم تكن سيدي افني استثناء من هذه الحملات الهوجاء، فمنذ استقلالها وعلامات الاعتداء على جماليتها تبدو بادية للعيان، فكم هي البنايات التي قاومت زمن التهميش الطويل إلا ان أيادي العبث نجحت في كثير من الأحيان في كسر شموخها و تشويه ملامحها المتعبة التي تجسد جانبا مهما من جمالية الفن "ديكو" الذي أبدعته المدارس المعمارية في القرن الماضي.
وبعد أن اعتقدنا أن المجتمع المدني نجح في إفهام هؤلاء المسؤولين بأن الذاكرة المحلية خط أحمر و أن ثقافة حماية التراث المحلي والاعتناء بالبنيات التاريخية يجب أن تتصدر أولويات المسؤولين في هذا الإقليم ، نفاجأ اليوم أننا كنا نسبح في الوهم بل وقد نكون أوشكنا على الغرق في أحلام اليقظة لولا أن طفا على السطح خبر بيع "متلاشيات" "التلفريك" و"الباركو" في المزاد العلني.
وهكذا أضحينا نعض أصابعنا حسرة على تلك التحفة الفنية، والتي تحولت بعد عقود من التقصير إلى مجرد شاهد صامت على آثار من الزمن الاستعماري حين كانت الباخرات القادمة من جزر الكاناري و المحملة بالبضائع ترسو قبالة السواحل البرية قبل ان يتكفل "التلفريك" بنقلها عبر أسلاك معلقة في الهواء نحو اليابسة.
وبعد أن كنا نتباكى على الوضع الذي آلت إليه هذه المنشاة الفريدة من نوعها، والتي أُسست عام 1962، لم يعد لنا اليوم من بديل آخر سوى أن ندعو الجميع إلى "السلكة" ونقرأ الفاتحة ترحما على آخر تركة "التلفريك" التي أُريد لها أن تباع كمنقولات وتخضع لدفتر الكلف المضاف إلى المحضر، -الذي نتوفر على نسخة منه-، والذي قُرأ نصه من طرف موظف مندوبية أملاك الدولة بصوت عال.
"زعما مطفرها!"
إن "البيعة" التي يُشتم من رائحتها "الهمزة"، قد أتت على جزء من ذاكرتنا التي لا يجوز لأي كان أن ينتزعها منا ويعرضها للبيع حتى لو وُضعت أمامه كل مبررات العالم بأسره، فالأصل أن يستشار جميع المعنيين بهذا الشأن للبحث عن الحلول الممكنة قبل الإسراع إلى الميناء القديم "على بوصبيح" والتوقيع على محضر البيع المقدر ب 220000 درهم.
إن محضر السمسرة، الذي أشرف على توقيعه كل من المديرة الإقليمية لأملاك الدولة والسلطة المحلية والمديرية الإقليمية لوزارة التجهيز والنقل والقباضة، يعتبر في الحقيقة توقيعا على دفن شاهد حي على ذاكرة سيدي افني والتي كُتب لها أن تظل ضحية لهذا الاستخفاف والإهمال المستمر.
فما كان يُمثل إحدى المعالم التي تفخر بها سيدي افني وأهم مخلفات الحقبة الاستعمارية تحول اليوم وبقدرة قادر إلى جزء غير ذات قيمة يُعرض أمام الناس في سمسرة تحت يافطة بيع المنقولات.
عن أي منقولات يتحدث هؤلاء الذين يجهلون القيمة التاريخية لمنشأة كان يمكن، وبقليل من الحظ فقط، أن يكون مكانها متحف محلي، وأن تحظى بزيارة المهتمين من السياح الذين وكثيرا ما يقودهم فضولهم المعرفي والاستكشافي إلى البحث والنبش في كل ما له علاقة بتاريخ المنطقة؟.
إننا نطالب بفتح تحقيق عاجل لتحديد المسؤوليات حول ملابسات هذا الاستخفاف بذاكرتنا التي لا يجب أن تُخضع لقانون المنقولات ولا المتلاشيات، فالمتلاشيات الحقيقية التي أعرف شخصيا، والتي يجب التخلص منها على وجه السرعة، هي تلك العقليات التي تعشش في أذهان بعض المسؤولين الذين قدموا لهذه المنطقة لا لأنهم يجرون وراءهم تاريخا وذاكرة مُشرفة بقدر ما وجدوا أنفسهم تحت رحمة "البينسيون" بعد إشهار الورقة الحمراء في وجوههم نتيجة "لكوفرات" مرتكبة، وربما متكررة، في مربع عمليات قد لا يستحيل التنبؤ بكل تفاصيلها.
قدرنا اليوم، ونحن نشهد على هذه المرحلة الجديدة، التي يعرفها فيها المغرب تحولات عميقة لازلنا نعلق عليها الأمل في أن تضع حدا لبعض الممارسات اللامسؤولة، أن نتسلم صفعة جديدة توقظنا من أحلام اليقظة و نكتشف في غمرة الدوخة التي أصابتنا، أن المدينة التي عرفت "التلفريك" والرحلات الجوية والبريد المتطور في ستينيات القرن الماضي قد تحولت ذاكرتها الفريدة إلى منقولات تباع في السمسرة بعد أن سبق للمخزن أن حولها طيلة عقود إلى "ديشارج" يرمى فيها ضحايا "تقسيم الهمزات" ومتلاشيات القرارات المخزنية.
نتساءل وبكل حسرة عن دور الدولة، التي تجلس إلى جانب الدول المتحضرة على كراسي اليونسكو، التي سبق لها وان صنفت بنايات "لاغ ديكو" ضمن لائحة التراث الإنساني، التي يبدو وكأنها عاجزة عن سن قوانين تجبر مسؤوليها على التقيد باحترام الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعها المغرب و التي تلزمه بالعمل على احترام تراثه الإنساني.
لقد آن الأوان أن يتوقف هذا الزحف العشوائي من قرارات لا نعلم من أين ولا كيف تأتي حتى نصطدم بمفاجأتها التي تعلن حالة وفاة جديدة لضمير التراث الإنساني.
وهنا لابد وأن نتساءل كذلك عن مصدر هذه "الكوارث" غير الطبيعية، التي تهز من حين لأخر هذه المدينة، والتي تخلف عددا لا يستهان به من الصدمات وخيبات الأمل لدى المواطنين جراء اشتعال الضوء الأخضر داخل مندوبية الأملاك المخزنية بتزنيت، والذي سهل مرور العديد من المسؤولين نحو امتلاك منازل دخلوها وظيفيا ليخرجوا منها بأوراق ثبوت الملكية!
فكم هو مثير للاستهجان أن يصل العبث لهذا المدى البعيد دون أن تنمو الحاجة لدى من يهمهم الأمر للتدخل العاجل قبل أن تفقد سيدي افني كل ما تملكه من إرث ثقافي وتاريخي ويتلاشى ما تبقى لها من "حروف الزين" التي لازالت تُغري بجمالها الأخاذ.
محمد سالم الطالبي
Instance.talbi@gmail.com
التعليقات (0)