عندما حلت الأنظمة العربية "المستبدة" محل الاستعمار الغربي "المستبد" و بصفتها السلطة التنفيذية فقد أزالت على مدى سنوات عمرها في الحكم المطلق جميع خطوط جرينتش الحمراء الفاصلة بينها وبين باقي السلطات "القضائية والتشريعية".. ثم طوتها في سرية مفضوحة تحت لوائها وإن أبقت على اللافتات النحاسية الصدئة التي تزعم باستقلالية تلك السلطات ..
ومنذ ذلك الحين والمجالس النيابية قد سيقت إلى مخادع الأنظمة العربية سوق الإماء والسراري .. فلا قول إلا قول الرئيس .. ولا قالة إلا قالة الأمير .. ولا رأي إلا رأي الملك .. ولا رؤية إلا " رؤيا" السلطان .. ولا مشورة إلا مشورة الزعيم .. .
ثم تبعتها مراحل بين شد وجذب من الترويض والتدجين للسلطات القضائية التي عانت تحت وطأة انتهاك الأنظمة لغلالة الحصانة القضاء واستقلاليته ..
بل افتتحت الأنظمة لأنفسها في عقر دور عدالتها فروعاً لانتهاك آدمية وحرية مواطنيها المدنيين تحت مسميات مختلفة للقضاء الاستثنائي الذي يخضع مباشرة لتوجيه الأنظمة المستبدة بقصد التخلص من معارضيها ..
وهذا القضاء الاستثنائي هو علامة سوداء واضحة ناضحة على جبين الأنظمة المستبدة التي بررت له كونه آلية سريعة لتفادي بطء إجراءات القضاء العادي وكذا لمواجهة الجرائم الخطرة المرتبطة بأمن الدولة والأمن القومي كالإرهاب والجاسوسية وانتهاك السيادة العسكرية للدولة ..
وفي ظل هذا المناخ فقد رانت على القضاء خيوط عنكبوتية من التبعية المباشرة وغير المباشرة للأنظمة المستبدة تسيدتها معادلة تقرأ بطريقة غير مباشرة ولكنها محسوسة مضمونها ألا يتعرض القضاء للأنظمة في مقابل أن تطلق الأنظمة يد السخاء على القضاء ..
طغت هذه المعادلة على العلاقة بين الأنظمة المستبدة وبين القضاء المتراخي ولم يتفلت منها سوى الأحرار من القضاة على امتداد الوطن العربي الذين يئنون تحت وطأة التضييق وإحكام الخناق عليهم.. إلا أن سلطان ضميرهم دائما ما يكون أقوى من أن تؤثر فيه تلك الضغوط أو ذلك الخناق ..
ونتيجة لممارسات الأنظمة المستبدة فقد علقت كثير من الشوائب بذيل سلطاتها النيابية والقضائية حتى صارت مثاراً لاستهجان الدول الديمقراطية والمنظمات المجتمعية والحقوقية التي يئست من التنديد بتلك الممارسات وتلك الهيمنة على المؤسسات التشريعية والقضائية في الدول العربية .. وإن في تزايد وتواتر الأخبار عن انحراف قضاة في كثير من الدول العربية عن الجادة وفساد ذممهم وقبولهم الرشوة وضعف كفاءتهم نظراً لتسيد الواسطات والمحسوبيات والعلاقات النفعية في تعيين أبناء هذا السلك الحيوي في حياة الشعوب ..
و لا أعتقد أن كأس العلقم التي تجرعها شعوبنا على يد الأنظمة تضاهي في مرارتها نظرة الحسرة التي تنظرها تلك الشعوب إلى حال ومآل العدالة في بلادنا العربية ..
إن الخروقات والانتهاكات والثقوب التي أحدثتها وتحدثها الأنظمة المستبدة في ثوب العدالة في بلادها إنما ينذر بكوارث فادحة وعواقب وخيمة أقلها شيوع الاعتقاد لدى الناس بسيادة قوانين الغاب .. و الشعور القوي بعدم جدوى القوانين في اقتضاء حقوقهم وفي حمايتهم وفي صون ممتلكاتهم.. وأن العقوبات معطلة في مواجهة القوي.. ومفعلة في مواجهة الضعيف ..
وهو بالضبط ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله .. إنما أهلك الذين قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ..
ولا جدوى من أي محاولة لتفادي الكارثة سوى بإعادة جميع خطوط جرينتش الحمراء الفاصلة بين الأنظمة بسلطتها التنفيذية وبين باقي السلطات "القضائية والتشريعية" وتفعيل حق الرقابة للسلطة القضائية على أعمال هاتين السلطتين لتقويم وردع ما يشذ منها أو ينحرف ...
مع تفعيل مواد الدساتير المطلقة لحرية وحقوق الشعوب لا المقيدة والمنتقصة لها ...
التعليقات (0)