سنوات قليلة تلك التي تفصلنا عن نهايات الإنتفاضة الفلسطينية الثانية، سبقتها سنوات عجاف من العنف المتراكم الذي خلّف جرحاً نازفأً في كل حيّ وبيت فلسطيني. كفلسطينية جامعية في تلك الأيام، شهدت الانتفاضة بأدق تفاصيلها، أقل مايمكن أن توصف به تلك المرحلة أنّها سطرت وجودها في كتب التاريخ بمدادٍ من الدماء. ومع كل فجر جديد كان على الفلسطيني ان يتجرّع الظلم، بل كان عليه –مجبراً- أن ينسى معنى الإنسانية ويمتطي صهوة العنف في ظل موجة من الحقد المرتد على قهر المعتدي.
كمعظم الفلسطينيين لم أكن استثناءً من الحالة السابقة، فمرارة ما شهدته من أيام كانت كفيلة بأن لا أرى الإسرائيلي إلا بصورة شيطان. وهكذا دام الحال بي حتى سنوات متأخرة من عمر الانتفاضة الثانية فقد وجدت عقلي ووجداني على باب لم أطرقه يوماً هو باب الإنسانية، كنت أدرك إنسانيتي ولا أسائلها، أعترف بها ولا أتلمس شموليتها، فحتى تلك اللحظة كنت أختزل للإنسانية معنىً يقتصر على فلسطينيتي وما يتفق معها من الشعوب حولي.
ما دفعني لأن أقف على باب الإنسانية ذاك مراجعةً موقعي في الوجود، مرضٌ نادر أقعد أحد أقاربي، لم تنجح مستشفيات فلسطين بحكم تواضع إمكانيتها نسبياً في ألّا تبقيه طريح الفراش. كان خبر مرضه صاعقاً لي، لكن علاجه كان الأكثر صدمة! كيف؟ لأن وضعه الصحي قد تطّلب نقله للعلاج في إحدى المستشفيات الإسرائيلية. هنا كانت بداية صراع الأضداد بداخلي، أويستطيع المدجج بالسلاح والمثقل بجرائم القتل أن يحمل مشرط جرّاح فيشفي عليل؟ كانت صورة الإسرائيلي التي أستحضرها من تاريخ دموي تقف سدّا منيعاً أمام تفهمي لأن يكون الإسرائيلي إنساناً مثلنا.
ثلاثة أشهر قضاها قريبي في المشفى الإسرائيلي عاد بعدها لحياته بشكل شبه طبيعي، عن تجربته كان يحدثنا ويقول بأنها كانت فرصة لرؤية الجانب الإنساني للطرف الآخر بالصراع حيث لاقى العناية الفائقة والإنسانية بعيدا عن الخلافات السياسية، وتمكن من كسب بعض الأصدقاء. في كل يوم من تلك التسعين، كانت لبنات ذلك الجدار الفاصل بيني وبين إنسانيتي تتهاوى، فقد بدأت مرحلة جديدة جّلها التساؤل، من أنا وما هي هويتي وما هو موقعي في الوجود، هل تتعارض فلسطينيتي مع إنسانيتي؟ لا أخفيكم أنها أسئلة كانت ثقيلة الوطأ على قلبي، فمع كل تساؤل كنت أشعر بأنّي أجرح فلسطينيتي، لكن هذا الشعور بدأ بالتلاشي مع أول درس في الأنسنة، حين علمت أنها سلاح من يجعلها هوية له، عشقتها حين علمت أنها حصن من الظلم والقهر، ودافعت عنها حين أدركت أنها جوادٌ لا يحمل فارسه إلا للنصر.
لم أغفر لإسرائيل احتلالها وجورها بنا، لكني بدأت مرحلة جديدة وددت مشاركتكم فيها، مرحلة فيها التسامح أهم اسلحتي لمواجهة الظلم. ومنذ ذلك الحين وحتى اللحظة وأنا اعتبر نفسي تلميذة في مدرسة الأنسنة. وقد كانت البداية مع قوله عز وجل "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" وآيات كثيرة كلها رحمة وتسامح، وسيرة النبي العطرة تحمل معاني التسامح والرحمة التي تجاهلها المعظم ووضعوا الدين في قوالب السياسة فأسقطوا منه قيم الإنسانية التي معها يسمو الفرد فوق ملّته وقوميته وعرقه.
وفي العصر الحديث لا يمكن تجاهل إسهامات إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني حين طالبنا أن نقاوم الظلم بإنسانيتنا، فلا يمكن لأي دولة أن تنهض وتصبح علماً بين الكبار إن نسيت إنسانيتها، ومفتاح الإنسانية سيادة الأخلاق، وقد قال الشاعر في هذا المقام: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. إسهامات سعيد تبعتها جهود حثيثة من المفكر محمد أركون الذي سخر مساحة واسعة من إبداعه الفكري ليوضح أهمية الأنسنة من منظور إسلامي.
بقيت الأنسنة وما زالت في جزء واسع منها أسيرة الكتب، فساسة معظم الدول قد ابتعدوا عنها، إلا أن الأنسانية ستبقى أقوى من برامج الساسة مهما تعالوا، وهنا فإني أوجه دعوة لكل من يقرأ هذه السطور أن يجعل من الإنسانية هوية له قبل أي هوية أضيق. كلٌّ منّا قد يكون إنساناً إيجابيا وفاعلاً في مجاله. عملت لسنوات طويلة في المجال الطبي، وكنت أجهل ان لهذا المجال دوراً قد يكون أقوى من كل مؤسسات السياسة في تقريب وجهات النظر، وما مثالي السابق إلا خير دليل على أن الطب من الممكن أن يكون جسراً لحل الصراعات. الأمثلة من الواقع الفلسطيني الإسرائيلي كثيرة متعددة، فكم من طبيب فلسطيني داوى إسرائيليين في حوادث الطرق، وكم من فلسطيني تبرع بأعضائه لمرضى إسرائيليين.
المجال الطبي قد يكون الأبرز في تحويل الانسنة من نظرية إلى تطبيق، لكنه ليس الوحيد، فالمجالات كلّها قد تؤدي نفس الدور إن فقِه القائمون عليها إنسانيتهم. من المهم أن تعتز بهويتك الوطنية وأن تخدم بلدك لكن هويتك التي اختارها لك الله أن تكون إنساناً قبل كل شيء. أختم سطوري هنا بما قاله درويش: إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها في النهاية إبداعُ صاحبها، لا وراثة ماضٍ.
نُشر على موقع ميدل إيست اونلاين
التعليقات (0)