الشعب الليبي لم يمارس الأنتخابات لفترة تزيد عن 47 عاما أي أن الذين صوتوا في أخر إنتخابات سنة 1965 لم يبق منهم على قيد الحياة إلا نفر قليل أطال الله في أعمارهم . لقد تغير في هذه الفترة التركيب السكاني بين الشباب والكهول وتضاعف عدد السكان أكثر من ثلات مرات و ازداد عدد المتعلمين وخاصة من النساء وعدد خريجي الجامعات بعشرات الأضعاف بشكل لا يقارن بما كان عليه في العهد الملكي. ولا اعرف ما إذا كانت الأمية قد أنتهت أيضا أو لا زالت في جميع انحاء البلاد . و مع هذا لاحظت أن كثيرا من مكونات الشعب الليبي لم تتغير فلا زالت الأفكار لم تتغير ولا زال الأبناء يعتنقون ويعبرون عن أراء أبائهم وأجدادهم ، ولا زالت الأقليمية والقبلية تسري في دمائهم على الأقل فيما نقرأه ونراه ونسمعه في وسائل الأعلام . ولكن الحماس الوطني الذي كان على أشده في الأربعينات وأزداد ضراوة بقيام ثورة 23 لوليو وزعامة الرئيس عبد الناصرفي الخمسيات قد خمد أخيرا وأصبحت المادة الفلوس والمناصب مسيطرة على النفوس . ولهذا فالشعب الليبي يقدم في الشهر القادم على تجرية جديدة بالأشتراك في الإنتخابات لإول مرة في حياة الليبيين المعاصرين ونامل أن تكون نتائجها تفوق في نزاهتها جميع نتائج الأنتخابات السابقة . وعلينا اليوم الأستفادة من خبرتنا السابقة فالأنتخابات التي جرت في العهد الملكي لم تتطور بل أزادت سوءا بتوالي الدورات البرلمانية . فالأنتخابات الأولى سنة 1952 كانت هي الأنتخابات الوحيدة التي جرت على أساس حزبي وبرامج سياسية ، فقد تنافس فيها حزب المؤتمر بزعامة الزعيم بشير السعداوي في طرابلس وجمعية عمر المختار في برقة المناديان بالوحدة والحرية والتحررمن الأحتلال الأجنبي ، ومجموعة المنشقين عن المؤتمر الوطني والزعيم السعداوي برئاسة مفتي ليبيا محمد أبو الأسعاد العالم وحزب الأستقلال برئاسة السيد سالم المنتصر في اقليم طرابلس والمؤتمر البرقاوي في برقة الذين ساروا جميعا مع التيار المعتدل حفظا على وحدة ليبيا وإعلان الأستقلال في الوقت الذي حددته الأمم المتحدة وهوقبل أول يناير 1952 ، وتجنبا لأعادة قضية ليبيا إلى الامم المتحدة التي قد تضطر إلى وضعها تحت الوصاية من جديد حسب مشروع بيفن سفورزا ، وساندت هذا الأتحاه المعتدل الأدارات العسكرية المسيطرة على البلاد وممثل الأمم المتحدة في ليبيا المستر إدريان بلت وقبلوا مشروع التقسيم الذي أرساه مشروع بيفن سفورزا والذي سمي بالنظام الفدرالي رغم معارضة أغلبية الشعب الليبي له في شرق البلاد وعرضها وكذلك معارضة الجامعة العربية ودول الكتلة الشيوعية وعدم الأنحياز . وأدت هذه الأنتخابات في النهاية إلى تصادمات بين حكومة والمؤتمر الوطني برئاسة الزعيم بشير السعداوي كان من نتيجتها إلغاء الأحزاب السياسية ، مما جعل الأنتخابات للدورات البرلمانية التالية تجري على أساس فردي . والأنتخابات الفردية التي لا تمثل الأحزاب في نظري لا تعكس أختلاف الرأي العام ورغباته ومطالب الشعب الشرعية ، بل تمثل مصالح إقليمية ومصالح خاصة مادية وسلطاوية . وقد أتهمت المعارضة الحكومة في إنتخابات سنة 1952 بتزوير الأنتخابات بينما نفت هذه الأخيرة التهمة . والحقيقة إن الذي حصل ليس تزويرا مباشرا ولكنه كان تدخلا من الحكومة في مجرى الأنتخابات في مناطق الدواخل بتوجيه الفلاحين ورجال القبائل إلى أنتخاب المرشحين المؤيدين لها مما نزع النزاهة عن هذه الأنتخابات وهذا يحدث كثيرا في دول العالم الثالت . وأستمر هذا النهج في الأنتخابات التالية . وبعدالتجربة القاسية في الأنتخابات الأولى وإلغاء الأحزاب فقد الشعب الليبي الثقة في الأنتخابات التي أصبحت تجري على أساس فردي إقليمي وقبلي ومصلحي . وبعد إنتفاضة الشعب في سنة 1963 في عهد حكومة السيد محي الدين فكيني وتجاوبا مع حركة الرئيس عبد النتصر الوحدوية والتحرش بأسرائيل ثم دعوته إلى جلاء القوات الأجنبية من ليبيا عاد الشعور الوطني في ليبيا إلى قوته المعهودة في أيام قبل الأستقلال وبعده . وجرت إنتخابات سنة 1964 و1965 في جو جديد من الحماس والتجاوب الشعبي وشابتها تدخلات حكومية وصراعات ومنافسات حامية بين شرائح الطبقة الحاكمة . والظاهرة العامة في الإنتخابات الأولى في الفترة الملكية هو تدخل الحكومة في نتائج الأنتخابات لأنتخاب العناصر الموالية لها بالتركيز على مناطق الدواخل حيت ينعدم الوعي الشعبي إلى حد ما والتعليم وحيت يستطيع موظفوا الحكومة الموالين للحكومة تشجيع الناخبين ودفعهم مخيرين أو مجبرين إلى اختيارمرشحي الحكومة باساليب مختلفة متاحة للحكومة عن طريق موظفي الحكومة والزعامات التقليدية الأقليمية والقبلية وضباط الأمن ورجال الأعمال وأصحاب المصالح باموالهم ولهذا نجد فوز أنصار الحكومة كان دائما في مدن وقرى الدواخل بينما تحاشت الحكومة التدخل في مدينة طرابلس وبعض المدن الكبيرة الأخرى نظرا لأتساع رقعة الواعين بواجبهم الأنتخابي وحملة التوعية الأعلامية التي قام بها المرشحون والمؤتمر الوطني ومن الصعب إقناع المواطن الواعي بالتصويت لمن لا يريده بالطرق السلمية ولهذا فاز فيها أعضاء المعارضة بأستمرار. وقد تجلت هذه الظاهرة وهذه الطريقة في كل الأنتخابات التي جرت خلال الفترة الملكية في سنوات 1956 و1960 . و عمدت الحكومة في إنتخابات سنة 1964 الى التدخل المباشر بمنع المعارضين المعروفين السابقين من الترشيح بوضعهم تحت الحبس الأجباري طوال فترة الترشيح المسموح بها قانونا ويقول المسئولون عنها إن ذلك تم بتوجيهات عليا لمنعهم من إثارة موضوع المعاهدات والأتفاقيات العسكرية الأجنبية من جديد بعد أن أسدل الستار عنها بحلول عملية ، وقبلت كل الأطراف مبدأ جلاء القوات العسكرية . وقد لاقى هذا التدخل السافر الذي حدت إتناء غياب رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر أنذاك في العلاج في الخارج إحتجاجات شعبية صاخبة مما أجبر رئيس الوزراء بعد عودته من العلاج إلى تعديل حكومته وإخراج الوزراء المسئولين عن هذه الأنتخابات ، وحل مجلس النواب المنتخب وإجراء إنتخابات جديدة سنة 1965 بنفس الأسلوب الذي إستخدم في الانتخابات السابقة لأنتخابات سنة 1964 .
من هذه الخبرة المتراكمة على المفوضية العليا للأنتخابات في إنتخابات الشهر القادم الحياد الكامل ودعم المفوضية بقضاة معروفين بالعدل وعدم إعطاء الفرصة لأعضاء المجلس الأنتقالي والحكومة المؤقتة تسخير الموظفين ورجال الأمن والتجار وأصحاب المصالح السياسية والمالية وحتى للثوار الموالين لهم لتأييد المرشحين المسندين من اعضاء المجلسين المذكورينوأزلامهم ، أو من جهات مشبوهة من أنصار النظام السابق وخاصة في الدواخل في المدن الصغيرة والقبائل الموزعة على مسافات متباعدة حيث الوعي الوطني لا زال ضعيفا إلى حد ما وتفشي العصبية القبلية والعائلية . كما يجب على المرشحين الأفراد التركيز على مناطقهم والقيام بحملات إنتخابية وحتى زيارتهم في منازلهم أحيائهم وتوعية مواطنيهم في الدائرة التي يرشحون فيها لبرامجهم وما يريدون القيام به في البلاد وفي دوائرهم بالخصوص ، وتوعيتهم بدورهم الهام في تحقيق ذلك وتحذريهم من تدخل الموظفين ورجال الأمن والتجار المشبوهين ورجال العهد السابق ، وتعيين ممتلين لهم في مراكز الأنتخاب للمشاركة مع الهيئات الدولية والأهلية التي ستتولى مراقبة الأنتخابات ، ولفت نظر القضاة المشرفين إلى أي مخالفة قد تقع من أي طرف . وكذلك على الأحزاب والهيئات الأعتبارية المرشحة في الأنتخابا ت الزام أفرادها المرشحين عنها بما تقدم من إرشادات والقيام بحملة إعلامية فعالة عامة في وسائل الأعلام تشمل كل البلاد وعقدالأجتماعات الأنتخابية وأن يعم نشاطهم الأنتخابي كل انحاء ليبيا مدنها وقراها وقبائلها وأن لا يقتصر على إقليم معين أو مدينة معينة. كما يجب على المفوضية العليا للأنتخابات تمكين كل المراقبين الدوليين والهيئئات الأهلية وممثلي المرشحين الأطلاع الكامل والمتابعة لسير الأنتخابا حتى تعلن النتائج .
التعليقات (0)