مواضيع اليوم

الأنا الخبيثة و الـ (نحن ) الأخبث

نزار يوسف

2010-11-09 19:42:31

0

الأنا الخبيثة و الـ ( نحن ) الأخبث

 

 

الأنا .. كلمة ذات مدلول و معنى لغوي لحب الذات و النفس البشرية ، و هي في طياتها أيضاً ، تُعَد التعريف الأصلي للأنانية أو الوجه الآخر الحقيقي لها ، فالأنانية جاءت من الأنا و هي مشتقة منها .


الأنا هي حب الذات و حب التملك .. هي حب التفرد و حب التمييز و التميّز عن الآخرين .. حب التفوق عليهم .. حب النفس و الافتتان بها . و هي ملازمة لصفة الغرور و الكِبَر و العجَبْ ( أي عجب المرء بنفسه ) .


الأنا موجودة عند كل الكائنات الحية ، فكل الكائنات لديها غريزة الأنا . و ذلك لحماية نفسها ، بدءاً بالحيوانات ، مروراً بالحشرات و انتهاء بالنبات الذي بدوره يمتلك هذه الغريزة أيضاً. ألا ترى إلى الحيوانات كيف تتقارع و تتصارع على الطعام و القوت و الغذاء . و يسعى كل منها للفوز بأكبر حصة ممكنة على حساب أقرانه . و إذا ما اصطاد فريسة ما ، تراه يلتقمها بفيه و يهرب بها مبتعداً ليخبئها بعيداً عن الأنظار و العيون ، فتراه يطمرها في التراب أو يعلقها على شجرة أو يضعها في مكان آمن . كذا الأمر تراه بالنسبة للنبات فالنباتات و الأشجار الأقوى في أرض ما ، تتقاتل و تتسابق على الماء و المكان و تتصارع جذورها في الأرض لتفني الأضعف منها و تصيبها باليباس و الجفاف أو تترك لها النذر اليسير بعد أخذ كفايتها أولاً .


على إن مفهوم الأنا الاعتبارية ( و نحن هنا نتكلم عن الأنا البشرية الإنسية ) في حالاتها الطبعية و حدودها المسموح بها عرفياً و ديناً و حتى قانونياً ، هي ( أنا ) موضوعة لمصلحة الإنسان و لسد احتياجاته المادية و الفيزيولوجية و النفسية و المعنوية . و إشباع شهواته و رغباته ضمن الحدود الإنسانية الأخلاقية المتعارف عليها .. هي في وجهها الإيجابي الفطري هذا ، لها وظيفة إضافية تتمثل بحماية الإنسان من الغير و صيانة نفسه و أمواله و أسرته و عدم إلقاءه بنفسه إلى التهلكة أياً كانت وجوهها و مواضعها ، كإهلاك النفس عمداً و عن سابق إصرار و تقَصّد أو بذلها في غير مواضعها المناسبة . أو الكَرَم و إهدار المال في غير مواضعه ، ما يؤدي إلى الفقر .. الخ .


و الأنا بمعناها و مدلولاتها السابقة ، تتعلق عادة بشخص الفرد العاقل الواحد ، و لا تتخطى ذلك كمياً . و إذا تخطت هذا الكم المحصور بالعدد واحد ، فإننا و الحالة هذه ، سوف نطلق عليها - اصطلاحاً - الـ ( نحن ) و هي هنا بنظرنا تشمل الجماعة في المجتمع أو العشيرة أو الطائفة أو المذهب أو الحزب السياسي أو كل ما من شأنه أن يوصّف لحالة اجتماعية أو سياسية أو دينية ، على أن الدينية برأينا هي الأقوى ، تليها و تتلازم معها أحياناً الحالة السياسة . و الـ ( نحن ) التي نتحدث عنها هنا ، تستبعد الأمر و العامل الاقتصادي المرتبط بحالة خاصة لا تتعلق بحيثيات و سياق مقالنا هذا .


الـ ( نحن ) هذه ، هي كمصطلح من حيث التعريف ، شبيهة إلى حد بعيد جداً بتعريف الـ ( أنا ) مع فارق بسيط ، و هو أنها تقع على الجماعة أو المجموعة لا على الفرد .


الـ ( نحن ) موجودة أيضاً كما الـ ( الأنا ) ، لدى جماعات الحيوانات و الحشرات و النباتات . فأنت ترى إلى القطعان البرية و الماشية و السباع ، كيف تتعايش مع بعضها في جماعات منظمة لها سائس من بني جنسها يقودها و ينظم أمورها بما يضمن حمايتها و مصالح بقاؤها و وجودها ، لا تسمح لغريب عنها بالولوج إلى داخل تنظيمها أو التعايش معها ، و إذا تعرض أحد افرادها أو صغارها لخطر ما ، هب القطيع كله لنجدته . حتى تلك التي لا قائد لها ، ترى أن حس الجماعة و القطيع ، هو المهيمن و المُسيّر لأمورها . كذا الأمر بالنسبة للحشرات ، فلعلك رأيت إلى النمل و النحل كيف يعيش في مجتمع منظم تنظيماً عجائبياً ، بالغ الدقة و محكوم بقوانين شديدة صارمة راقية ، ناظمة له و لأفراده . إذا تعرض نظامه هذا ، إلى خطر محتم أو رامه دخيل ما ، هب أفراده كلهم للدفاع عنه و التصدي للغازي أو المتطفل الدخيل .


هذا الكلام ، يمكن سحبه و إسقاطه على الـ ( نحن ) الإنسانية فهو في حدودها الدنيا الطبعية ، ظهرت منذ قدم البشرية ، منذ تشكل نظام الجماعة الأولى بشكلها البسيط المتمثل بنظام الأسرة ، حيث كان يعيش الإنسان في الكهوف . كانت الـ ( نحن ) آنذاك لحماية الإنسان من الوحوش الضارية ، و عامل من عوامل بقاؤه على قيد الحياة في صراعه مع الطبيعة . و من ثم تطورت الـ ( نحن ) فيما بعد مع الإنسان العاقل لتصبح نواة تشكيل المجتمع و من ثم الدولة .


تلكم هما الأنا و الـ ِنحن الطبعيتان ، لدى الإنسان الفرد و الجماعة . و لكن ماذا لو تجاوز هذان المصطلحان حدودهما الطبعية التي وُضِعت لهما ، لحماية الإنسان الفرد و صيانة المجتمع ، كل حسب وجوده ؟؟ .


إن الأنا الإنسانية البشرية ، إذا تجاوزت حدودها ، تتحول إلى مظهر من مظاهر الأنانية و الغرور و حب الذات و إيثار النفس و لو على حساب الغير و إلحاق الأذى بالغير مهما كبر ، لمجرد المنفعة الشخصية مهما صغرت . و تصبح المصالح الشخصية الفردية هي المعيار الذي تقاس و تُسقَط عليه أعمال الإنسان الفرد و تصرفاته ، بغض النظر عن تبعاتها و عواقبها تجاه الغير . و بنظري أن هذا المستوى من الأنا ، يبقى غالباً ضمن نطاق الجهل و الحمق الفطري و لا يتعدى ذلك إلى المرض . الذي هو المستوى الثالث من الأنا ، و هو المستوى الأعلى الذي يأتي كنتيجة متطورة عن المستوى الثاني على مبدأ الآية القرآنية ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرض ... ) ( البقرة – 10 ) .

في هذا المستوى المتقدم ، تتحول الأنا إلى ( أنا ) خبيثة متضخمة .. أنا قبيحة متقيحة لا تعرف منطقاً و لا عقل و ليس لها إلا العلاج و الدواء الذي يكون في آخر مراحله ، الكي . حيث يصبح الإفراط هو السمة الغالبة عليها .. الإفراط في الغرور .. الإفراط في التبجح و الثناء على النفس حتى بما هو ليس فيها .. عدم القبول بالخطأ و الاعتراف به مهما كانت الأسباب ، لدرجة تحميل الغير أي خطأ وهمي مختلق لإيجاد عذر واه أقبح من ذنب .. الأنا الخبيثة تصل لدرجة القتل أحياناً .. و أنا أشبّه هذا النوع من الأشخاص بالمجرم أو اللص الملثم الذي يدخل دارك ليسرق ، فإذا كشفته أو أمطت اللثام عن وجهه و تعرفت عليه ، قَتَلكَ في الحال كي لا تخبر عنه و يبقى جرمه مخفياً .. ما أشبه هذا بذاك !!.. الصورة نفسها و العقلية ذاتها .. إن الشخص الذي لا يقبل الاعتراف بالخطأ ، هو اللص السارق الذي يرتكب القتل إذا تم كشفه .

هذه الأنا تصل بصاحبها إلى الحسد و النفاق و الرذيلة و ارتكاب كافة الموبقات و العيوب ، فقط لأجل إرضاءها ، و ليتها ترضى أو تتوقف بل هي خبيثة كالورم الذي لا ينتهي إلا باستئصاله أو يقتل صاحبه . صاحب الأنا الخبيثة لا يرضى إلا أن يكون هو صاحب الوجاهة و الصدارة في أي مجلس كان ، حتى و إن كان لا يستحقها و لو كان يعرف ذلك في قرارة نفسه .. و إذا صودف من كان في المجلس من هو أفهم منه و أقدر و أبلغ و أكثر علماً و أغزر دراية و جذب حديثه الحاضرين ، انبرى هو لفعل أي شيء كي يأخذ الأضواء حتى و لو فعل أي شيء فقط ليبين للحاضرين أنه فقيه متحدث و بليغ متكلم ، و لو كان كلامه خطأ . تماماً كما حصل مع تلك الأعرابية أيام الجاهلية ، التي اشتكى لها ابنها أنهم لا يعيرونه انتباه في مجلس القبيلة فنصحته تلك النصيحة الشهيرة التي هي خير تعبير و توصيف للأنا الخبيثة ، قائلة له : يا بني ..إذا كنت في مجلس و أحسن غيرك الكلام ، فافعل أي شيء يلفت إليك الأنظار ، و لو علقت في عنقك ( ..... ) حمار . هذه هي الأنا الخبيثة ، فهل عرفتموها ؟؟ .


الـ ( نحن ) الأخبث ، هي أخبث من الأنا الخبيثة كونها تمثل حالة مرضية تصيب أفراد و قطعان بأكملهم و كونها تتعدى بآثارها ، مفاعيل الأنا و نتائجها . فهي أشد خطورة منها و أعم.. الـ ( نحن الأخبث ) تسببت عبر التاريخ بحروب أهلية و مجازر راح ضحيتها الآلاف ، بل الملايين .. الـ ( نحن الأخبث ) معيارها التعصب الأعمى .. الـ ( نحن الأخبث ) قد تقتلك في الحال إذا اختلفت معها مذهبياً أو طائفياً أو عشائرياً أو سياسياً .. الأنا الخبيثة قد ترضى عليك إذا سايرت غرورها و مرضها وصفقت و أطريت لها . بينما الـ ( نحن الأخبث ) أحياناً قد لا ترضى عليك حتى و أن سايرتها و صفقت لها و لا تقبل بك حتى مجرد مجند في صفوفها .. الأنا الخبيثة في أقصى حالاتها محصورة في الشخص نفسه و تزول بزواله أو بقناعته و تكون محكومة بمكانته و قوته و صحته و موقعه فقط و يمكن له إذا أراد ، أن يغيرها . بينما الـ ( نحن الأخبث ) تكون محمية بقوانين سياسية أو دينية أو اجتماعية و مستندة إلى أعراف قوية متجذرة لا يمكن المساس بها و لا مناقشتها و لا مجادلتها ، لا بالمنطق و لا بغيره .. الأنا الخبيثة ربما يمكن استئصالها أو التعامل معها أو تحجيمها أو ترويضها بما قد يقع على صاحبها من أهوال الدهر و نوائبه و صروفه التي تتسبب في مهانة نفسه، و كلالة سيفه ، و نضيض بأسه نتيجة لقارعة تحل به فتراه قد انكسر خاطره و تقصصت جارحاته ، فيروض و ينخ عناده و يُذَل خِطامه و يسلس قياده . لكن الـ ( نحن ) الأخبث من الصعب المستصعب إزالتها أو تحجيمها أو ترويضها حتى من قبل بعض نخبها و قياداتها ، كونها لم تعد متعلقة بشخص تؤثر به عاديات الزمن . بل هي كمثل عاديات أثرية و أوابد تاريخية .


أذكر عندما كنت أدرس في الخارج ، أنه كان لدينا بعض الطلبة من الهند وحصل تعارف بيننا و تبودلت الزيارات .. أحياناً كان يتواجد عندهم زميل لهم من بني جلدتهم و اسمه بهرام في السنة الأخيرة لأطروحة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية . كنت كثيراً ما أتناقش معه في أمور عدة و يعجبني نقاشه و أفكاره النيرة و العقلانية و دائماً ما كنت أقول له أننا نلتقي في أمور كثيرة فيهز الرجل رأسه موافقاً بابتسامة . هذا يا صاحبي و في ليلة ليلاء كنا في سهرة امتدت إلى الليل و كان بهرام موجوداً و دار بيننا نقاش فكري حول الدين و الوجود و الإنسان و المعتقدات ، فقلت له ممازحاً إننا نلتقي مع بعضنا البعض ، فنظر إلي الرجل متمعناً ( و لا أدري إن كان سكران أو أنطقه الله أو .. لا أدري ) و قال بجدية : مستر نازار ( سيد نزار ) إننا أنا و أنت نلتقي في حالة واحدة فقط . قلت له : و ما هي ؟؟!! . أجابني مشيراً إلى مجلة هندية أمامه : هل ترى هذه البقرة في المجلة .. إننا نلتقي فقط عندما أنت تعبدها .

لا أدري يومها ما الذي أصابني و ما نوع القشعريرة التي سرت في بدني ، نهضت بهدوء و خرجت من الغرفة عائداً إلى غرفتي . بعد يومين ُطرِق باب غرفتي و كان السيد الدكتور بهرام و معه اثنين من أصدقائه أحدهم كبير في السن نوعاً ما . طلبوا الدخول فأدخلتهم ، و قام بهرام بتعرفي على مرافقيه .. أحدهم كان معه في الدكتوراه و الآخر أستاذ هندي مقيم في موسكو . قدم بهرام اعتذاره عما حصل قبل يومين و قال أنه لم يكن يقصد العبادة بل الاحترام و التقدير و أنه حصل التباس بين كلمة العبادة و كلمة الاحترام من باب الرفق بالحيوان . الرجل الكبير اعتذر أيضاً و قال أن الإسلام دين عريق و أبدى احترامه و إعجابه بالإسلام و بالقرآن و أنه قرأه أكثر من مرة و تحدث عن بعض الآيات فيه ( و الله أعلم بالنوايا ، ربما كانوا صادقين .. لا أعلم ) . تقبلت اعتذارهم و اعتذار بهرام الذي قال أننا نلتقي مع بعض ، و ودعتهم و أنا أعرف في قرارة نفسي أننا لن نلتقي وتلك كانت فلتة من فلتات اللسان و زلة من زلاته تتكشف بها البواطن و النفوس .


مرت الأيام و عدت إلى وطني و تسارعت سني الحياة و همومها و مشاكلها ، و اكتشفت فيما بعد أن بهرام هذا موجود بيننا وبين ظهرانينا .. موجود عند صديقك الذي تختلف معه بالمذهب .. موجود عند صديقك الذي تختلف معه بالطائفة .. موجود عند صديقك الذي من نفس مذهبك أنت و لكن لمجرد إبداء رأي ما بقضية ما ، يتحول إلى عدو .. موجود و يا للأسف عند صديقك الذي تختلف بالعشيرة أو الفرقة أو الحزب السياسي أو .. أو .. الخ .


بهرام الغريب عنك في الدين و اللغة و العرق .. على الأقل اعتذر و احضر معه وجاهة كما يقال ( ربما يكون صادقاً في كلامه و ربما لا ) المهم أنه اعتذر و أدرك خطأه و استدركه . بينما أخوك في الدين أو المذهب أو الطائفة و المتحصل على الدكتوراه و الهندسة و التعليم و الثقافة ، تتفق معه على تسع و تسعون نقطة و عندما تختلف معه في النقطة المائة ، ينسف التسع و التسعون و يقاطعك و يهجرك و يحاربك و يعتبرك في سريرته عدواً .. هذه هي الـ ( نحن الأخبث ) فهل عرفتموها ؟؟ .

قيل أنه عندما خلق الله ( تعالى ) النفس البشرية ، تجلى لها بصورة من الصور و سألها : من أنا فأجابت بتحدٍ : أنا من أنا .. فأرسلها في مسالك التعب و القهر سنين و دهور ، ثم تجلى لها مرة أخرى و سألها : من أنا ؟ فأجابت بخضوع : أنت الواحد الأحد القهار لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك .

هذا ما حصل مع الأنا .. فمتى يحصل مع الـ ( نحن ) ؟؟ عسى موعده قريب .


نزار يوسف







التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !