كلّما شارفت السنة الميلادية على نهايتها إلا ووجدتني-كالكثير من خلق الله-أعيش على وقع استقبال العام الجديد بمشاعر مفعمة بالانشراح والتفاؤل،وهي مشاعر أقدّر أنها لا تعود أساسا إلى طبع متفائل جبلتُ عليه،بقدر ما أجد لها تفسيرا في ذلك التوفّق المنقطع النظير في تسويق الحدث على أنّه موعد سنوي استثنائي لبذر الأمل في النّفوس.إنه عمل فائق البراعة في نشر مظاهر البهجة على نطاق واسع واستنباط فنون جلب الانتباه بوسائل إبهار شتّى نرى مظاهرها في كلّ مكان،إنه الإغراء بالإقبال على الفرحة أستجيب له بعفوية وتلقائية،حتى وأنا مدرك،فيما آتيه،أنّي لست إلا مقلّدا ومتطفّلا على تقاليد لا دخل للتراث الذي أنتمي إليه في تأسيسها وترسيخها...
من أسباب اكتساح حضارة الغرب للعالم تفوّقها المذهل في كلّ شيء-خيره وشرّه-بما في ذلك الواقع المهيمن للتقويم الميلادي على غيره من التقويمات الأخرى،وإن كنتُ لا أروم هنا طحن ما هو مطحون، ولا الخوض في قضايا مستهلكة لا تزال تلقى الاهتمام لحساسيتها وتنوّع أطروحاتها.لست ممن يرون حرجا في الإقرار بالواقع كما هو ولا في مشاركة الآخر المختلف أعياده في الحدود التي لا تؤذي وجداني وقناعاتي ولا تطمس هويّتي ومعتقداتي...يهمّني أن أشدّد على الكفاءة العالية في صنع الفرحة وتعهدها بالتجديد والتطوير وبلوغ غاية تسويقها في تناغم بين الثقافي والاجتماعي والاقتصادي،وهي كفاءة،أحسب أننا،في الوطن العربي إجمالا، نفتقر إليها من جملة ما نفتقر إليه بسبب إعاقاتنا...هكذا يستدرجنا الغرب المتفوّق لنشاركه أعياده دون أن نقدر على فعل نفس الصنيع.
لئن كنت لا أخفي حرصي الشديد على الاحتفال برأس السنة الهجرية،فإني أقرّ بأنّ جهدي في ذات المناسبة العطرة لا يتجاوز الإصرار على أكل "الكسكسى بالقدّيد" مضيفا لذلك طبقا شهيا من "الملوخيّة"،فأسعد بهذه الوليمة الدسمة وتكون سعادتي أكثر حين يمرّ الاختبار لأمعائي ومعدتي بسلام دون مضاعفات سوء هضم.ولا أدري لماذا أجد وجه مقارنة بين دسامة الأكل والقدرة على هضمه وبين التراث والأصالة والعروبة في الجهد غير الموفّق لهضمها في عصر الحداثة . أدّعي،وقد أكون على خطإ،أنّ عملية الهضم اللعينة هذه يمكن أن تكون أكثر يسرا متى توفّقنا إلى تصنيع الفرحة وتسويقها بيننا وفي كلّ أرجاء العالم.
أعود إلى الأجواء "الكريسمسيّة" و"بابا نويل" وذكرى ميلاد المسيح عليه السلام وشجرة "مريم العذراء" و"الرّيفيون" ،لأجد جهودا جبّارة تتضافر لتصنع أفراحها الزاهية ومعالم زينتها المترفة وفرجتها المتألّقة، فلا أستطيع أن أفهم بيسر من يلوم غيره على اجتهاده لصنع الفرحة وإشاعة البهجة في النفوس،هل هناك من يرفض دعوة لوليمة فرح تكتسي بعدا عالميا وإنسانيا؟...إنّ الانخراط في تظاهرة انشراح وتفاؤل تتيح لنا في هذا الزمن الشديد الاحتقان الاستجابة لحاجة ملحّة تفرضها علينا نفوسنا المثقلة بهمومها والمعذّبة بأوجاعها. لقائل أن يقول أننا،في الوطن العربي،شديدو التهافت على مناسبات الأفراح والمسرات نقبل عليها بشهية لافتة ونهم متزايد سواء تعلّقت بأعيادنا أو بأعياد غيرنا،وقول كهذا لا يُجانب الصواب وتبقى الحاجة إلى تبريره مطلوبة،وإني لأدّعي أنّ كمّ أحزاننا الضخم والمتزايد هو السبب،بل هو الذي يدفعنا إلى تسوّل الفرح الدّائم من حزننا الدائم حتى على موائد ذاك الآخر الذي بقدر انزعاجنا منه يزداد إعجابنا به وإقبالنا على التبرّك بتعويذاته وطقوسه...
أليس القول بأنّ :"الرجل الذكي يخرج كل يوم لاصطياد السعادة" هو عين الصواب؟ فما بالك إن بدت السعادة كأنما تطرق بابنا من خلال معالم زاخرة بالفرجة والبهجة إيذانا بتوديع سنة،غالبا ما تعوّدنا ذمّها،وباستقبال القادمة بالأمنيات الجميلة.
لنسعدْ بالأمل وإلا أهلكنا اليأس...نحن إن نسينا أحزان الماضي بالتشبث بالأمل في المستقبل نكون قد غنمنا حاضرا بلا منغّصات.
إلا أنّ وقفة الحصاد لبذر السنة التي نودّعها،غالبا،ما تركّز على ما يُنغّص تطلّعاتنا المتفائلة بسنتنا الجديدة،فهذه الوقفة الماكرة تستدرجنا للتقييم والحساب وما أعسر الحساب لحظة الرغبة في الفرار من العقاب...إنّ وسائل الإعلام بكلّ مشاربها قد ولعت بعادة تقييم حصاد سنة تجرّ أسمالها البالية لتغرب،غير مأسوف عليها،وهي إذ تنبش في ذاكرتنا لتستحضر ما تعتبره شطارة إعلامية،إنما تقوم بعملية انتقائية لا تخلو من تعسف وحيف بتسليطها الضوء على ما اختارت وإهمالها ما لم تختر مما نحتاج التّزوّد به لصنع الأمل...حتى الاستفتاءات وسبر الآراء التي تبرّر الانتقاء،غالبا ما تكون وليدة أحكام انطباعية مهما ادّعت الموضوعية،إذ العبرة من الأحداث والبطولات بخلودها لا بضجيجها ،وقيمتها ليست في إحداثها الجلبة وترويجها للفضائح بقدر ما تكون في مدى إسهامها في التضامن الإنساني وتأمين الفرحة بالحياة للجميع...
مهما كان الحال فأجواء احتفالات رأس السنة الميلادية والإدارية يفوح شذاها وتتلألأ أنوارها فيستمتع بها،على حدّ السواء، الذين شدّوا عصا الترحال إليها في المنتجعات الفاخرة،والذين انخرطوا فيها بصنع أو اقتناء كعكعة مرطّبات،لا غير،واقتطعوا تذاكر فرجتها أمام شاشات تلفزاتهم في أجواء عائلية دافئة،وحتى الذين لم يحفلوا بها فهي تحفل بهم جزءا من ديكورها الذي يصنع حدث عيد الأمل المشترك في أن يكون الآتي أفضل من الماضي ،إنه عيد الرجاء في ألا نستسلم لليأس،ف"اليأس انتحار القلب"،وعليه:" لا تؤمن بكثرة الأرباب،فما عبَدَ الناس في جميع العصور إلاّ ربّا واحدا وإن اختلفت الأسماء،وذلك المعبود هوالأمل."(القولة منسوبة لغوستاف لوبون).
لننشد مع الطغرائي:
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ولنستحضر حكمة فولتير:"سيصبح كلّ شيء على ما يرام ذات يوم.هذا هو أملنا.أما أن نقول أنّ كلّ شيء على ما يرام اليوم،فهذا هو الوهم."...
لنغترف من نبع الأمل ف"نبع الأمل لا ينضب"،ولنا في الإقبال المتفائل على سنة 2011 ما يساعدنا على دحض افتراءات قيام الساعة في 2012 كما يدّعي المنجّمون أو المشعوذون ،وما أكثرهم في عالم اليوم الذي ندّعي أنّ سيّده العقل.
كلّ عام وأنتم بخير.
التعليقات (0)