مواضيع اليوم

الأعمال الكاملة للمفكر الإسلامي محمد بن عمر ؟

محمد بن عمر

2010-09-10 00:45:45

0

محتوى الأعمال الكاملة
طبائع الكواكبي في" طبائع الإستبداد و مصارع الإستعباد"
كتاب :مشروع بناء حضارة بديلة
الإسلام و تحديات الألفية الثالثة!؟
في مفهوم الثقافة الإسلامية
نحو بناء حضارة إسلامية بديلة!
جدلية الحداثة التغريبية والتخلف الحضاري
في مفهوم الحداثة الإسلامية ؟
الرحمة المهداة للعالمين
اللغة العربية والإبداع الحضاري
الهجرة في سبيل الله
الحضارة الغربية وتفريخ الإرهاب!
الإسلام يكره الإرهاب ويجرم الإرهابيين
توزيع الثروة في البلاد الإسلامية
قائمة المصادر والمراجع:
كتاب : الفن الإسلامي و شروط الإبداع
الـمقـــــــــدمــــــــة
الفصـل الأول
المنابع الفكرية للفن الهائم
الفصل الثاني
خصائص الفن الهائم
الفصل الثالث
الفن الإسلامي وشروط الإبداع
نماذج شعرية و قصصية من الفن الإسلامي المنشود
النهار بأحشاء الدجى يثب
(شعر)
فلسطين(شعر)
حديث البحر
قصة قصيرة
صديق العمر
قصة قصيرة
حديث العشق
خــــــاطـــــرة
حديث الجنون
قصة قصيرة
ذكريات زمن مضى ..!!
أقصوصة
كتاب : نـــــــــداءات حارة
نداء إلى خطباء المساجد في العالم الإسلامي
نداء إلى المرأة المسلمة في العالم الإسلامي
نداء إلى الشعوب الإسلامية
الشعوب الإسلامية تنحاز إلى تطبيق سنن و قوانين القرآن؟
ارفعوا الظلم عن أمتي
أيها الناس في الشرق و في الغرب
أيها الأحبة ،أيها المسلمون ، أيتها المسلمات
نداء إلى قادة حركة حماس
كتاب :اللغة العربية و الإبداع الحضاري
المقدمة
قبل أن تصبح اللغة العربية غريبة بيننا!
الباب الأول
الظروف التاريخية لتطور اللغة العربية و انتشارها
الباب الثاني
خصائص اللغة العربية و مميزاتها
الباب الثالث
المخاطر المحدقة باللغة العربية في العصر الحديث ؟
الخاتمة
اقتراحات للنهوض باللغة العربية
ملحق
لغتنا الفصحى... واقع و آفاق !
رفقا بلغتنا أيها المهاجرون !!
كتاب : الأحزاب الدينية والمشهد السياسي في تونس ؟
1الأحزاب الدينية والمشهد السياسي في تونس ؟
-2الإعلام العربي و تكريس واقع التخلف
مفارقات عجيبة-3
-4حياة أنعام!؟
-5أمة الإسلام... أمة الشهادة على الناس ؟
-6بقايا الإستعمار في ديار الإسلام
-7أنظمة حكم فاسدة ؟
-8مصطلحات مضللة
-9ردا على الدكتور محمد عمارة :
إِنَهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارَ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوب !
حصوننا تتهاوى من الداخل !؟-10
وعــي زائــف !؟-11
دعوة الحق العالمية -12
-13خطاب إلى الهاربين من ديارهم ؟!
-14الأدب إبداع و ليس إتباع
-15النقد الأدبي ضرورة حضارية
16- كلنا خائنون
17 – مفارقات عجيبة ص 288
الماء أصل الحياة !
الإسلام و تحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي!؟

طبائع الكواكبي في" طبائع الإستبداد و مصارع الإستعباد"
الإهداء

إلى التي أحيى من أجلها..
إلى أمتي الإسلامية..

التصدير

"ما ينبغي أن يكون الفيلسوف مخترعا للمذاهب بل رسولا للحقيقة، وما دامت الشرور التي ابتليت بها البشرية قائمة بغير شفاء. وما دام مسموحا للخطأ والتحيز و الجهل و الإستبداد بأن تخلد هذه الشرور. وما دامت الحقيقة مقصورة على القلة وعلى المميزين، محجوبة عن معظم النوع الإنساني فسيظل واجب الفيلسوف المؤمن أن يبشر، بالحقيقة، وأن يحافظ عليها ويشجعها، وينيرها. وحتى إذا كانت الأضواء التي ينشرها لا تفيد في جيله وقومه، فإنها لا شك ستفيد في بلد وجيل آخرين. فالفيلسوف ذلك المواطن في كل مكان وزمان أمامه الدنيا كلها وطنا، والأرض مدرسة، والأجيال القادمة تلاميذ".

المقدمــــة
كان الإستبداد السياسي، وسيبقى داءا معطلا لحركة التقدم في المجتمعات البشرية. وقد اكتوى عبد الرحمان الكواكبي (1854/1902) وكل أمته العربية الإسلامية بمثل هذا النمط السيئ من الحكم، ولا تزال شعوب كثيرة تكتوي بهذا الداء اللعين إلى يوم الناس هذا، بل لعل فشل العرب و المسلمين في تجربة النهضة يعود أساسا إلى أنهم أهملوا القضية الأم في نهضة الشعوب والأمم وهي قضية تحرير الإنسان والرقي به بصفته شخصا ليس عليه واجبات فقط، وإنما له حقوق واعتباره الغاية والمبتغى و منطلق التغيير.
وقد رأينا أن نتوجه بالدراسة إلى فكر عبد الرحمان الكواكبي باعتبار ريادته في هذا المجال وتكريسه لجل فترات حياته مناضلا في سبيل تحرير العرب و المسلمين من إستبداد الأتراك، داعيا في حماس فياض إلى إقرار نظام "شوري ديمقراطي" للقضاء على أسباب الإنحطاط و التخلف الحضاري.
لقد شدنا إلى هذا "العالم المصلح" تركيزه الشديد في جل ما كتب على نقد الإستبداد وتبيان مساوئه على حياة الفرد والمجتمع، بل لعله الوحيد من بين رواد النهضة العربية الذي قضى جل حياته النضالية في سبيل مقاومة ظاهرة الإستبداد والتحذير من مخاطره. ولعل جل الدراسات التي تناولت فكر الكواكبي جاءت في شكل سرد تقريري لمجمل آرائه السياسية والاقتصادية والتربوية… مفتقدة في الغالب إلى التحليل المعمق، وتعقب المرامي التي هدف إليها الكواكـبي..!؟
فالفكرة المترسمة لدى جل الدارسين تقدمه في صورة المصلح الذي نقد الإستبداد التركي ونادى بخلافة عربية تحل محل الخلافة العثمانية اعتمادا على كتابين تركهما المؤلف وهما "أم القرى" و"طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد" فلم تصل إلى اعتباره ظاهرة فكرية متميزة وأغفلت الكثير من مظاهر الإبداع والطرافة وبعد النظر التي تميز بها الكواكبي... ولا ينازع احد في قيمة هذين الكتابين الذين ضمنهما الكواكبي لمجملي آرائه النقدية والإصلاحية.
وأزعم أن كتاب "الطبائع" يعد حجر الزاوية في معرفة أفكار الكواكبي التي استقر عليها رأيه بعد حياة مليئة بالنشاط والحركية في الميدان الصحفي..‘ داعيا إلى مقاومة كل مظاهر التخلف والإنحطاط الحضاري التي انتكس فيها المجتمع العربي الإسلامي آنذاك.
كما أن هذا الكتاب قد اشتمل على بعض أفكار رواد النهضة العربية أمثال الطهطاوي(1801/1873) وخير الدين التونسي (1810/1890) والأفغاني (1837/1897) وعبده (1849/1905) ورشيد رضا(1865/1935)‘بل إنه يصعب على أيّ باحث جاد عدم الوقوف عنده للتزود بما يساعده على معرفة فكر النهضة والوعي العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
غير أن قلة الدراسات الجادة التي محصت آثار الكواكبي بدأت تنحصر في السنوات الأخيرة ولاسيما بعدما أصدر محمد عمارة "الأعمال الكاملة لعبد الرحمان الكواكبي" مرفوقة بتحليل عن مجمل ما خطته يد هذا "الزعيم المصلح" في الحقل السياسي والاجتماعي والتربوي وبعض مواقفه النظرية عامة.
وهذه الدراسات على علميتها وأهميتها طغى عليها الطابع الانتقائي وغياب الروح النقدية الصارمة..! فجاء جلها يكيل المديح للكواكبي ولم تر فيه إلاّ الجوانب الإيجابية من تفكيره.
لقد بحث الكواكبي في كتابه الأول "أم القرى" في أسباب الخلل والضعف في وضع المسلمين وسبل إحيائهم، وضمن كتابه الثاني "طبائع الإستبداد" حملته القوية على الحكم المطلق. والكتابان متكاملان في أنهما يشخصان أدواء المجتمع العربي الإسلامي ويتلمسان السبيل للنهضة.
كما ترك الكواكبي مجموع أشعار، فقد قال ابنه محمد أسعد الكواكبي: إن أباه "كان يسجل ما يروقه من الشعر ويصنفه على عشرين صنفا واضعا في نهاية كل بيت شعر رقما خاصا يدل على غزل أو نسيب أو مدح أو هجاء أو رثاء الخ.."
وقال :"ولا أزال أحتفظ بكناش فيه مجموع أشعار تنوف على الثلاثة آلاف بيت مصنفة على الطراز المذكور، ومحررة بخطه المشهور الذي لا يقلد، إلاّ أنه في حياته لم يكن مكترثا لقول الشعر الذاتي حيث لم أعثر له على شيء من ذلك سوى بعض أبيات حماسية قالها عفوا حين تحريره "أم القرى" في حلب وقصيدة حررها وأرسلها من مصر إلى أخيه السيد مسعود وهي بائية صورتها محفوظة عندي .
وقد ترك الكواكبي بالإضافة إلى هذه المؤلفات كتاب :"صحائف قريش" وكتاب "العظمة لله" وقد صودرت هذه الكتب من قبل السلطات العثمانية آنذاك بعد وفاة الكواكبي مسموما بالقاهرة ولم يعثر لها على أثر حتى الآن.
ولقد تميز الكواكبي في كل ما خلف من كتب ومقالات بالتزامه الواضح بمعاداة الإستبداد على اختلاف ألوانه و تشكلاته والتشوف إلى الحرية و الإنعتاق .. مرتكزا على تأصله ورسوخه في التراث العربي الإسلامي واطلاعه الواسع على جل المدارس الفكرية الغربية وخاصة تلك التي هيأت للثورة الفرنسية عام 1789.
يستفاد من الإشارات الواردة في مؤلفات الكواكبي أنه كان مطلعا إطلاعا واسعا على التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه متأثرا خاصة بالعلامة ابن خلدون في بعض أفكاره، وهو كثير الإستشهاد بالقرآن والأحاديث النبوية وآراء أيمة المذاهب الفقهية، بالإضافة إلى بعض معاصريه أمثال الطهطاوي وخير الدين ومراش الحلبي ومن يقرأ بعض مواقفه يلمس استفادة مؤلفنا من الترجمات الصادرة بمصر في عهد محمد علي. كما أن تأثير فلاسفة الأنوار ولاسيما "روسو" و"منتسكيو" لا يحتاج إلاّ لمجرد الإطلاع على كتابه "طبائع الإستبداد" فلقد أكثر الكواكبي من استعمال مصطلحات فلسفة القرن الثامن عشر التنويرية كمفهوم "الحق الطبيعي" و"الحرية" و"الديمقراطية" و"الإشتراكية" وغيرها وهو ما يعكس صلته الوثيقة بالفكر الغربي التنويري وعميق تأثره بالثورة الفرنسية على الرغم من أنه لم يكن يتقن لغة أجنبية ما عدى إتقانه للغة التركية واللغة العربية. ويظهر تأثره واضحا بما ورد في كتاب الأديب الإيطالي "فكتور الفياري" (1749/1803)الموسوم بعنوان "الإستبداد" : " " Dela tyrannie والذي يظهر أن الكواكبي قد اطلع عليه خلال ترجمته إلى اللغة التركية من قبل شاب تركي عام 1867. وقد استمد منه الكواكبي بعض أفكاره في نقد الإستبداد واستخرج منه إطار كتابه "طبائع الإستبداد ". كما يغلب على الظن أن كتاب "بلنط":"مستقبل الإسلام" كان له تأثير على ميولات الكواكبي القومية …!
إن القراءة التي أردنا القيام بها لفكر الكواكبي تهدف أساسا للإجابة عن سؤالين هامين هما جوهر إشكالية هذا البحث:
1. هل نجح الكواكبي - كنموذج لزعماء الإصلاح – من خلال أفكاره وآرائه النقدية والإصلاحية في صنع "نسق سياسي- فكري حضاري" صالح لتغيير المجتمع الإسلامي في العصر الحديث و النهوض به وتجديد مختلف هياكله..؟
2. وعلى افتراض استكمال الكواكبي شروط بناء هذا النسق الفكري/الحضاري، فما هو حظ هذا النسق الفكري"البديل" من النجاعة الحضارية و إحداث النهضة؟ و ما قيمته الذاتية باعتبار أن للكواكبي فكرا نقديا إصلاحيا للواقع العثماني المتدهور في عصره وتصورا لمجتمع إسلامي في الوقت نفسه؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تسهل علينا كشف النقاب عن الدور الذي اضطلع به مؤلفنا بوصفه من النخبة المفكرة في العصر الحديث التي مارست الزعامة الفكرية وادعت لنفسها القدرة العقلية والفكرية التامة على حسم المشكل الفكري والحضاري المتمثل في طريقة التوفيق بين مقومات الثقافة العربية الإسلامية القديمة.. وركائز الثقافة التنويرية الأوروبية الغازية ..‘ التي فرضت على المسلمين منذ أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. وهذا العمل سيسمح لنا بإدراك ما إذا توصل الكواكبي إلى حسم هذا المشكل بفضل ابتكاره لنسق سياسي فكري إصلاحي أم لا؟
ولقد حاولنا في دراستنا أن نقيم حوارا مباشرا بين الأثر والدارس بغية وصف وفهم المحتوى الظاهري والمتخفي، الصريح والكامن للمادة المكتوبة محاولين في ذلك إرجاع الأثر المكتوب إلى الخلفية الفكرية أو الثقافية أو السياسية التي ينبع منها هذا الأثر. وقد عمدنا قدر الطاقة إلى جمع المادة التي تخص موضوع بحثنا من كتابي "أم القرى" و"طبائع الإستبداد" وبوبناها ثم قمنا بتحليلها بصورة حرصنا أن تكون متكاملة.
الباب الأول
تمهيد تاريخي:
1- النهضة العربية والوعي السياسي- الحضاري:
يظهر أن حملة بونابرت على مصر عام 1798م مثلت نقطة البداية لمحاولة النهوض في البلاد العربية الإسلامية، فقد مثلت الحملة شجة قوية في الوعي السكوني العربي، وبالتالي لم تأت اليقظة العربية إستجابة لحاجات أو تفاعلات داخلية وإنما كانت استجابة "للتحدي الذي فرضه الغرب على كل مستويات الإجتماعي، السياسي الإقتصادي والنفسي"
ولقد جاءت صيحة الشيخ حسن العطار تعبيرا صادقا عن ذلك، فقد قال بعدما اقترب من علماء الحملة الفرنسية وأبصر ما لديهم من علوم:"إن بلادنا لا بد أن تتغير ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها" . ومنذ ذلك الحين بدأ العرب يتحسسون مكمن الداء ويشعرون بالهوة الحضارية التي أضحت تفصل بين ديار الإسلام والغرب.. فنشأ التفكير في هذا الإقليم أو ذاك بضرورة إصلاح ما فسد.. وترتيب ما تبعثر.. وبحث ما اندثر حتى تستعيد ديار الإسلام قوتها ونهضتها و استقلالها، وغدا البحث متركزًا في إشكالية التغيير الواجب إدخاله على نمط الحياة السياسية والفكرية والإجتماعية.
إن هذه المفارقة كانت قد تأسست على منهج مقارن يستحضر ثلاث أقطاب رئيسية وهي: "آن الأنا" الذي أصبح يعيش في ظلمات الجهل والإنحطاط.! ومقارنته "بماضي الأنا" المجيد..!؟ ثم "آن الأنا "و"آن الآخر" المتمثل أساسا في الغرب المتقدم.
ولقد تجسدت فكرة الإصلاح في جيل أول، كان أبرز من مثله رفاعة رافع بدوي الطهطاوي (1801-1873) وخير الدين التونسي (1810-1890).
كانت لرحلة زعماء هذا الجيل إلى الغرب واطلاعه المباشر على ثقافته وحضارته دور كبير في تحديد الحلول التي تقدم بها هذا الجيل للخروج من وهدة الإنحطاط و التخلف الحضاري.
أ- نقد حكم الإطلاق لدى رواد "النهضة العربية":
ولقد انصب اهتمام هذا الجيل على نقل واقتباس ما تفتقت عنه الذهنية الأوروبية في أصول الحكم والسياسية والعلوم والتقنيات الحديثة، فترجموا بعض الدساتير الغربية وخاصة دستور الثورة الفرنسية وما تنص عليه من حرية ومساواة مثلما فعل الطهطاوي في "تخليص الإبريز" وخير الدين التونسي في "أقوام المسالك" انطلاقا من إيمان هذا الجيل بضرورة إجراء تنظيمات سياسية واجتماعية تناسب التنظيمات التي نهض على أساسها الغرب، وأولى هذه التنظيمات القضاء على حكم الإطلاق وتغييره بنظام دستوري. ونشر العلم والحرية، ووجد هذا الجيل نفسه مجبرا على إعادة تأويل التراث الإسلامي بما يتيح إفساح المجال أمام دخول هذه التجديدات الحضارية المادية والعقلية.
إن هذا الجيل كان قد نقد الإستبداد السياسي بسبب طغيان "الجانب القمعي والإستبدادي في سياسة عبد الحميد" ولكن وحدة الخلافة ووقوفها في وجه الإستعمار الغربي شكل هاجسا أكثر أهمية في برامجهم، كما أن فكرة "حاكم غشوم خير من فتنة تدوم" كانت لا تزال تسيطر على الأذهان.! وهذا ما جعلهم لا يحملون حملة قوية على الإستبداد العثماني ما دامت جل الولايات العربية لا تزال بمنأى عن الإستعمار الغربي..بالإضافة إلى أن فكرة "الجامعة الإسلامية" و"الوحدة الإسلامية" كان لها تأثيرها القوي في الأذهان..! فالخلافة "تجسد السلطة الزمانية كلها وهي مصدر الشرعية في المجتمع والدولة".
ب- النهضة وبروز التيار السلفي:
تتراجع الرابطة الإسلامية كشكل من أشكال ضمانات البناء السياسي القائم وتحصينه، أمام ضربات الإستعمار الغربي الموجعة وتقطيعه لأجزاء عديدة من الخلافة العثمانية وسقوط البلاد العربية الواحدة تلو الأخرى في براثن الإستعمار الغربي المباشر بدءا بالجزائر عام 1830 وتونس عام 1881 ومصر1882.. بالإضافة إلى اشتداد السياسة الإستبدادية التي سلكها السلاطين العثمانيون المتأخرون، كل هذه العوامل بدأت توقظ شعور العرب التدريجي بكيانهم الذاتي. وتبدأ الدعوات القومية في السفور بعد أن ظلت لمدة طويلة مختفية تحت لبوس العالمية الإسلامية أحيانا أو العروبة الخجلة أطوارا أخرى.إن معالجة البناء السياسي داخل فكر النهضة إن بدت في أول الأمر متجانسة فإنها ومع دخول أوروبا الإستعمارية وبداية تدميرها للخلافة العثمانية وتقطيعها للولايات العربية.. هذه المعالجة سترى العديد من التوجهات والرؤى تبشر بنهضة المجتمع و"عصر تنوير" يقتبس الضوء من الغرب تمد الجسور مع منبع "التقدم والعقل والحرية". ويبدو أن تيارا فكريا بدأ يظهر على السطح حينئذ كان قد بثه جمال الدين الأفغاني (1839-1879) وجمع من تلاميذه في الشرق الإسلامي في العصر الحديث وقد مثل حركة إسلامية هامة.ولعلّ أبرز من مثل هذا التيار محمد عبده (1849-1905) والكواكبي 1854-1902) موضوع دراستنا، ورشيد رضا اللبناني الأصل (1865-1935).. كانت هذه الحركة سلفية لأنها قامت على إعادة تأكيد حقائق الإسلام الجوهرية، وكانت إصلاحية لأنها استهدفت إحياء ما كانت تعتبره العناصر المهملة في التراث الإسلامي، غير أن عملية هذا الإحياء قد تمت – وهذا مهم جدا– تحت تأثير الفكر الليبرالي الأوروبي..! فأدت تدريجيا إلى تأويل جديد للإسلام والمفاهيم الإسلامية بغية جعلها معادلة للمبادئ الموجهة للفكر الأوروبي في ذلك الحين.!

الباب الثاني
I -النزعة النقدية لدى الكواكبي:
1-الكواكبي ونقد الإستبداد:
أ- مفهوم الإستبداد:
يستعمل الكواكبي مصطلح " الإستبداد " مرادفا لعبارة الحكم المطلق الجائر، مقابلا إياه ب"الحكم العادل" و"الحكومة الحرة المنتظمة"، مع العلم أن الإستبداد لا يطابق في اللغة معنى الظلم، فالإستبداد في اللغة هو " الإبتعاد والإنفراد" وهو هنا الإنفراد بالرأي والحكم.
يدلل الكواكبي عن مرجعيته الإسلامية في تعريف الإستبداد ، فهو حين يقرر أن المستبد يحيد عن الفطرة التي خلق عليها "فيرى نفسه كان إنسانا فصار إلاها". لا شك انه كان يستحضر قصة فرعون الواردة في القرآن والتي ادعى فيها الربوبية قائلا لبني إسرائيل : ﴿ ما علمت لكم من إله غيري﴾.
إن فكرة ادعاء الألوهية من قبل المستبد كفيلة _ حسب الكواكبي _ بأن ترشحه إلى الظلم والجبروت وإتباع هوى النفس في إدارة شؤون المجتمع حتى يغدو هواه قانون المجتمع وشريعته، ويهيمن على جميع السلطات في إدارة الحكم، وبالمقابل تعيش الأمة الواقعة تحت الإستبداد مستعبدة ذليلة ليس لها في شؤونها حل ولا عقد، وإنما هي خاضعة لحاكم مطلق، إرادته قانون، ومشيئته نظام يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.!
كما يلفت انتباهنا في هذا التعريف لمفهوم الإستبداد طغيان بعض المصطلحات الواردة في كتاب "الفياري" الذي كنا قد أشرنا إليه سابقا.. فقد عرّف هذا الكاتب الطغاة قائلا:"كل الذين توسلوا بالقوة أو الحيلة..إلى القبض التام على أطراف الحكم ويعتقدون أنهم فوق القانون، أو هم كذلك.."
لا يتكلم الكواكبي عن أمور خيالية بل ينطلق في وصفه للحكم الإستبدادي المطلق من معاينته الشخصية لحكومة عبد الحميد ذلك الطاغية الجبار، فقد "فرض على رعيته حكما فرديا قاسيا ازدادت حدته يوما بعد يوم واستهدف كافة طوائفها من عرب ويونان وأرمن وغيرهم".
كما يدلل الكواكبي في "طبائع الإستبداد" على تمكنه واستيعابه للفكر السياسي الذي مهد للثورة الفرنسية عام (1789) كنظرية التعاقد الاجتماعي لدى "لوك" وروسو" وأصناف الأنظمة السياسية وخصائصها كما جاء في كتاب "روح الشرائع" "لمنتسكيو"... فهو قد شدد على ضرورة تقيد الحكومة العادلة بالقوانين التي يشترك الشعب في وضعها عن طريق ممثليه، وتبعا لذلك يرى أن " الإستبداد" هو صفة للحكومة التي يرأسها مستبد ولا توجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم". فلم يعد هناك مجال لأن يدعي إنسان أنه يحكم باسم الله فلا حاجة له بقوانين يتواطأ عليها البشر، بل أصبح إيجاد قانون يرضى عنه الجميع لتسيير دواليب الدولة أمرا مفروغا منه كي لا تسقط الحكومة في مستنقع الإستبداد الآسن؛ و بناء على ذلك تصبح اشد أنواع الحكومات إستبدادا واستهتارا بحق الفرد و المجموعة هي "حكومة الفرد المطلق ‘الوارث للعرش؛القائد للجيش؛الحائز على سلطة دينية "كما هو شأن الأتراك العثمانيين و على رأسهم السلطان عبد الحميد.
ثم يبحث الكواكبي عن فلسفة يقوم عليها الحكم الإستبدادي الجائر.. فيجد أن هذه الفلسفة ترتكز بالأساس على نظرية احتقارية للإنسان وتقييم سلبي له واتخاذه وسيلة لا غاية في حدّ ذاته. بالإضافة إلى اعتباره قاصرا و عاجزا عن المساهمة في إدارة شؤونه بنفسه..! لقد عبر عن ذلك تعبيرا صريحا توفيق باشا خديوي مصر في حواره مع الأفغاني ؛ فقد قال ما معناه :"إنني أحب كل خير للمصريين؛ و يسرني أن أرى بلادي في أعلى درجات الرقي و الفلاح ؛ و لكن مع الأسف إن أكثر الشعب خامل لا يصلح أن يلقى عليه ما تلقونه من الدروس المهيجة...
إن كل من يقرأ "طبائع الإستبداد" يلفت انتباهه منذ أول وهلة نقمة الكواكبي الشديدة على الإستبداد ومحاربته لجميع مظاهره في أيّ موقف كان، واعتباره مصدر كافة الشرور والأوبئة التي تصيب المجتمعات البشرية، مفسرا لثنائية التقدم /التأخر طبقا لطبيعة المؤسسة السياسية، لأن الجهاز السياسي في اعتباره هو التشخيص المؤسسي لحالة المجتمع وبالتالي فهو التعبيرة الصادقة للواقع وتشكل من تشكلاته، فإذا ما كان المجتمع يشكو من الضعف والإنحطاط و التخلف..‘ فلا شك أن هناك خللا في الجهاز السياسي، وهذا الخلل يتمثل في الإستبداد والإنفراد بالحكم..! لقد تميز أسلوب الكواكبي بالحماس الفياض والصدق والوضوح والدّقة المتناهية رغم صعوبة الظرف الذي كتب فيه مؤلف "الطبائع" وقد قلب موضوعه عن ظهر بطن رغم وعورته، ولا يدانيه في عداء الإستبداد، أحد سوى الكاتب الإيطالي "فكتور الفياري" الذي كان يمجد الحرية باعتبارها أشرف من الحياة واعدا بأن روحه الحرة "لن تجد سلاما أو راحة" حتى يكتب صفحات "قاسية لهدم الطغاة" وقد قال في معرض حديثه عن الإستبداد:"لا، ولن يكون نصيب كلامي أن تبدده الرياح إذا ولد رجال صادقون بعدنا يؤمنون بأن الحرية لا غنى عنها للحياة". وعلى غراره كتب الكواكبي يقول في بداية كتابه "الطبائع" :"كلمات حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح قد تذهب غدا بالأوتاد".. صحيح أن جلّ المصلحين من جيل الكواكبي كانوا قد انتقدوا الطغيان و الإستبداد ولكنهم لم يكونوا بمثل وضوح الكواكبي في حملته العنيفة ضدّ كل مظهر يشتم منه رائحة الإستبداد ، بالإضافة إلى أنه لم يهادن الإستبداد يوما واحدا كما فعل الأفغاني أو رشيد رضا. فالأفغاني مثلا لا ينكر أن الحاكم المستبد، يستطيع إذا حسنت نواياه، أن يحقق الكثير من الخير بسرعة، لكن خطر الحكم الإستبدادي في رأيه يتوقف على أخلاق الحاكم، يقول الأفغاني في هذا الصدد:"إن كان حاكم الأمة عالما حازما أصيل الرأي... ساس الأمة بسياسة العدل، ورفع فيها منار العلم.. وإن كان حاكمها جاهلا سيء الطبع.. أسقط الأمة بتصرفه إلى مهاوي الخسران" . أما رشيد رضا تلميذ الأفغاني فقد بقي مهادنا لحكم عبد الحميد بل ومدافعا عن سياسته، داعيا أن يكون الإصلاح من قبل "السلطان كخليفة وفق مشورة مجلس علماء" . ولم ينقلب رشيد رضا على سياسة عبد الحميد الظالمة إلاّ بعد خلعه عام 1908 من قبل "جمعية الاتحاد والترقي" _ يقول رشيد رضا :" فهذا عبد الحميد قد خان، وأعوانه قد بغوا في الأرض وتركوا السنة والفرض وعطلوا الشريعة والقوانين واستبدوا لجميع العثمانيين وجمعوا القناطير المقنطرة من المال.. فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب" وقال محمد عبده- لرشيد رضا في عام 1897 مبرزا موقفه من الأتراك:"إن العرب إذا حاولوا الإنفصال عن السلطنة، فمن الممكن أن تتدخل أوروبا وتخضعهم وتخضع الأتراك معهم، فالسلطة العثمانية كانت، مع كل نقائصها الشيء الوحيد الباقي من استقلال الأمة السياسي، فإذا اضمحلت، خسر المسلمون كل شيء وغدوا بلا قوة كاليهود". .. أردنا من عرض هذه الآراء لبعض معاصري الكواكبي أن نثبت حقيقة: وهي أن الكواكبي لم يكن ينقد الإستبداد التركي قصد إصلاح السلاطين العثمانيين وإرجاعهم إلى جادة الصواب، ولم تكن تهمه وحدة الخلافة العثمانية بقدر ما كان يهمه خير العرب ودفعهم نحو التقدم الحضاري وتجنيبهم ويلات الإستعمار الغربي الذي أخذ يبسط كلاكله على البلاد العربية ويمهد لاستغلالها سياسيا واقتصاديا، فهو لا يكل عن تبيان أن الأتراك هم بناة مملكة سياسية على أنقاض سلطة العرب باسم الدين..! فقد سبق لبعض سلاطينهم مثل السلطان سليم الفاتح (1512-1520) قتل آلاف العرب في المشرق بينما كان الأسبان يذبحونهم في المغرب ليخلص الملك إليه وإلى ذريته دونهم..! لقد كان الشغل الشاغل لدعاة الحركة السلفية الحفاظ على وحدة الخلافة حتى تستطيع مواجهة الإستعمار الغربي، ففكرة الوحدة الإسلامية أو "الجامعة الإسلامية" كانت طموح البناء السياسي، ومن بداية اليقظة العربية، أما الكواكبي فقد أدرك منذ البداية طوباوية هذه الفكرة في زمن أصبح فيه الغرب يملك كافة وسائل القوة والسيطرة، كما أدرك أن حالة التشتت التي صارت إليها ديار الإسلام لا يمكن تجاوزها بخطاب حالـم ينظر للعالمـية الإسلامية كما كان يفعل الأفغاني وعبده..! فأراد انطلاقا من هذه القناعة أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، والإنقاذ لا يتأتى إلا بانفصال العرب عن الأتراك، وسحب الشرعية الإسلامية عنهم في امتلاك أمور المسلمين، فالعرب أصبحوا يمثلون القوة "البديلة الوحيدة" القادرة على تعويض القوة العثمانية التي هي في طريق الأفول والإضمحلال. فعن طريقهم يأتي الإحياء ووحدة الدين. ويعتقد الكواكبي أن العرب من طبيعتهم التأقلم مع المدنية الجديدة، والتاريخ يشهد_ حسب رأيه _ على كفاءة العرب إذا ما هم أمسكوا بدواليب الحكم وكونوا لهم خلافة على طراز حكومة النبي العربي وخلفائه الراشدين. إن هذه الفكرة القائلة بأن آل عثمان ليسوا خلفاء شرعيين وأن الخلافة من حق العرب، فيجب أن تعود إليهم كانت تمثل أولى مظاهر الفكرة القومية عند العرب المسلمين. ولعل هذه الرغبة في الإنفصال عن الأتراك كانت تلتقي مع رغبة الإستعمار الغربي في القضاء على الخلافة الإسلامية التي كانت تمثل لهم عقبة أمام ابتلاع كافة البلاد العربية. وهو ما تم لهم فعلا ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين.
ب) أسباب الإستبداد:
-1الخوف:
سبق وبينا كيف أن الكواكبي يرى في الإستبداد انحرافًا بالطبيعة البشرية و الفطرة الإنسانية عن مسارها الصحيح، لأن فيه ادعاء للربوبية من قبل الإنسان واستعلاء في الأرض بغير حق، يقابله خضوع الرعية واستسلامها للظلم والتعسف الواقع عليها من قبل المستبد، فهو يعني في نهاية المطاف سلب الذات لدى العبد/ الرعية، وسلب الغير لدى المستبد، فما سبب كل ذلك؟ يجيب الكواكبي: إنه الخوف فهو السبب المباشر والركيزة التي يعتمدها الإستبداد في أي مجتمع من المجتمعات البشرية التي ترتكس تبعا لذلك في مستنقع التخلف الحضاري والإنحطاط المدني. لعل الكواكبي قد استلهم كتابات بعض المتنورين الغربيين في هذا المجال أيضا: فقد سبق "لمنتسكيو" (1748-1803) وهو بصدد استعراض أنواع الحكومات أن قال : إن الفضيلة روح الديمقراطية والأنفة روح الملكية والخوف روح الإستبداد. أما "الفياري" فكان أكثر وضوحا حين قال بعد تحليل معمق لظاهرة الإستبداد:"...من هنا، يتبين لنا أن الخوف حقيقة هو ، الركيزة، والسبب والوسيلة لكل أنواع الإستبداد..: « De la, il prouve que la peur est véritablement, la base, la cause et le moyen de toute tyrannie ».."
إن الخوف في حقيقته مظهر من مظاهر غريزة حب البقاء لدى الإنسان، فكلما تعرض هذا الأخير إلى خطر من شأنه أن يهدد حياته أو يعرضها لسوء أو مضرة إلاّ وغشيه الخوف وانتابته وساوس الرهبة، فالخوف في أصله شيء فطري، إلاّ أنه يتحول في ظل الإستبداد السياسي إلى عقدة ومرض لا ينجو منه إلا القليلون.. لقد عبر الكواكبي بذلك عن الجو الإرهابي الذي كان يحياه المسلمون تحت سلطة آل عثمان، بل لعله كان يصف في حقيقة الأمر تجربته الشخصية وهو الذي قضى معظم حياته مطاردا من قبل السلطات العثمانية.
يحرص المستبد وأعوانه على نشر الرعب والخوف بين أفراد الرعية لأنّهم يعلمون يقينا أن الخوف إذا ما استبد بالنفوس يجعل قابليتها للاستسلام مؤكدة، وسيرها في ركب الإستبداد محتمة.
لقد أبدع الكواكبي إبداعا ظاهرا في وصف الإستبداد ونفسية المستبدين ممهدا بذلك للمدارس السيكولوجية الحديثة.. فهو يرى أن الخوف إذا انتشر بين الناس يولد فيهم الغباوة التي "تملأ القلوب رعبا من لاشيء و تفعم الرؤوس تشويشا وسخافة وفساد الرأي وضياع الحزم وفقد الثقة بالنفس وترك الإرادة للغير".
وهكذا تصبح نفسية المستبد نفسية محطمة، فيسهل انقياده وينحط إدراكه، تعوزه الفكرة وينقصه الحزم والإقدام، ويعيش مرتبكا مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، تضيق عليه الدنيا على سعتها، فيصبح كأنما يصعد في السماء، فيتشبث بكل عتيق، ويقلد في كل فكر وعمل، ويفقد المقدرة على التفاعل البناء مع المجتمع الذي يعيش فيه، فيتقوقع على ذاته، ويصبح إنسانا هروبيا من واقعه الحياتي، مستكينا.. فيعجز ضرورة عن مواجهة مشكلات الحياة ومتطلباتها المختلفة، ويتيه في طريق جارفة من الأوهام والسخافات التي تحد من حيويته وتقف في طريق نشاطه كالصخرة الصلدة التي تعطل أهدافه في الحياة، وتختلط عليه السبل وتدلهم الخطوب، فلا يعرف ماذا يريد، أو لماذا يحيى. وإذا عمل فيكون عمله بدون نشاط ولا اتفاق "فيفشل حتما" فيغضب على ما يسميه حظا أو طالعا أو قدرا "ويصبح يسلي نفسه بالسعادة الأخروية" بعدما فشل في نيل حظه من الدنيا ولعل هذا ما ذهب إليه ماركس حين قال " الدين أفيون الشعوب"(أكيد أن ماركس يقصد مفاهيم الدين التي يكرسها رجال السلاطين المستبدين ) وهو ما يدل على أن الكواكبي كان مطلعا على المدرسة الماركسية التي كانت تشن آنذاك حربا ضروسا على كل ما من شأنه أن يصرف الإنسان عن نيل حقه المغتصب من قبل الرأسماليين و المستكبرين في الأرض ولو كان ذلك باسم الدين أو صكوك الغفران الكنسية..! فماذا يحدث لنا أو بماذا نصاب لو فحصنا واقعنا الحضاري/ السياسي اليوم على ضوء هذا التحليل المعمق لنفسية الواقعين تحت هيمنة الإستبداد السياسي !!؟
ثم يضيف كاتبنا عنصرا آخر هاما ورئيسيا قلما ينتبه إليه الدارس للإستبداد والمتمثل في كون المستبد وأعوانه يعانون هم بدورهم من عقدة الخوف التي تبسط نفوذها على كافة أفراد المجتمع..! فتصبح العلاقة التي تربط الحاكم بالمحكوم علاقة حذر وخشية، علاقة توتر وقلق، لكن تختلف أسباب الخوف لدى الطرفين، إذ تخشى الرعية.. المستبد خوفا من مكره وجبروته وظلمه، أما المستبد فيخشى الرعية لأنه يعلم أنه خائن مغتصب، وأنه لم يحفظ الأمانة التي أوكلت إليه أو اغتصبها غصبا، ولم يقم بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم – مطمح كل النفوس السوية -... بل احتكر السلطة واستولى على خيرات البلاد، وأطلق أيدي أعوانه في النهب والسرقة وترويع الناس وتكميم الأفواه، وإذلال الضعفاء وتعذيبهم وتقتيلهم بغير حساب، وإهلاك الحرث والنسل...! وهكذا يتميز خوف المستبد عن خوف الرعية في أسبابه وجذوره لأن خوفه ينشأ عن علم "من انتقام بحق" أما خوفهم فهو نتيجة الجهل و"توهم التخاذل".
فهل كان الكواكبي يلمح بذلك إلى المجازر الرهيبة التي أقامها السلطان عبد الحميد لأعداء إستبداده؟؟!
لا شك أن للواقع التاريخي دخل كبير في الصور التي قدمها الكواكبي لكنه يبقى مفتقدا للدلالة الملموسة المقنعة، وهو أسلوب عودنا عليه الكواكبي على أية حال.
وهكذا لو بحثنا عن عقيدة لمجتمع الإستبداد لقلنا دون تردد إنه الخوف، فعم ينشأ الخوف؟
2- الجهـل:
لم يتوقف تساؤل الكواكبي عن السبب المباشر للإستبداد فقط، بل أراد أن يغوص أكثر في الموضوع ويعرف سببا مقنعا للخوف الناشئ عنه الإستبداد، لأنه يؤمن أن لكل علة معلولا وأن الكون يخضع لقوانين ونواميس محددة و ثابتة، فلكل العوالم قوانينها المخصوصة" فكما للعالم المادي قوانينه فإن للإنسان و الحيوان قوانينهما أيضا فليس " في الكون شيء غير تابع للنظام حتى فلتات الطبيعة والصدف..: هي مسببات لأسباب نادرة".
يجيب الكواكبي إجابة قاطعة حاسمة شان المعلم في دغمائيته أن الخوف "ناشئ عن الجهل" دون شك، فلولا الجهل لما استبد بالإنسان الخوف وبالتالي لما كان هناك إستبداد مطلقا.
إن الجهل بحقائق الموجودات يجعلها تتضخم في ذهن الإنسان فتبسط سلطانها عليه و تكتسب حجما اكبر بكثير من حجمها الحقيقي..! : لم يعبد الإنسان البدائي الشمس والقمر و النجوم.. وبعض أنواع الحيوانات.. إلا لأنه يجهل تركيبة هذه العوالم والكائنات وحقيقتها، فلو عرفها حق المعرفة فهل كان سيعبدها أو يقدسها أو يقدم لها القرابين؟!
وكذلك الإنسان الذي يعيش في ظل الإستبداد، لو كان متنورا بالعلم والمعرفة، لما خاف المستبد وأعوانه فالخوف الناشئ عن الجهل هو الذي مكن الإستبداد من رقاب الناس وحمى دولة الظالمين من الإنقراض.
لا يشك أحد في كون الكواكبي كان مستحضرا فلسفة الأنوار وهو يقرر هذه الآراء، فلقد حاصر الفرنسيون الذين فعلت المعرفة التنويرية فعلها فيهم وغيرت فكرهم ونظرتهم للكون والإنسان والمجتمع- حاصروا- في 14 جويلية1788 حصن "الباستيل" رمز الطغيان والجبروت، وتسلقوا أسواره العالية وسط دوي المدافع وفي جو حماسي فياض، وقتلوا من كانوا يحرسونه، وبفضل هذه الثورة تحولت فرنسا من عهد الإقطاع والإستبداد واستفراد أقلية بالثروة الوطنية إلى عهد الحرية والمدنية الحديثة، فانتصارات أوروبا إنما تحققت بفضل المعرفة وتطبيقها الصحيح وأن ضعف الدولة الإسلامية سببه راجع إلى الجهل والإستبداد.."رأس كل شرّ" حسب تعبير الكواكبي.
إن نشر العلم والتحرر العقلي و الفكري من شانه أن يقضي على الإنحطاط واحتقار رجال العلم وتسليم أمور الدين إلى الجهلة والمنافقين و المتاجرين بالدين!؟.
لقد أدرك الكواكبي كما أدرك معاصروه من"الرواد المصلحين" كيف أصبح العقل و التحرر الفكري هو جوهر الحضارة الإنسانية وأن عليه يتوقف" تجديد الدين" والسير قدما بالمعرفة الإنسانية لتحقيق النهضة والرقي.
ألم يقل جمال الدين الأفغاني :"إن جهل الشرقيين أدى إلى انحطاطهم بقدر ما أن العلم ساعد الغربيين على السيطرة عليهم، وما كان بقدرة الغرب أن يقوم بالفتوحات التي قام بها بدون معارفه.."
ومن قبله أشاد فرنسيس بن فتح الله مراش (1836-1873) - وهو من مدينة حلب التي ولد بها الكواكبي- بدور العلم في توعية الشعوب ورفضها الظلم والإستبداد، فبفضل طلاب العلم ضاء عالم العقل وتمزقت سجون الظلام وانقلبت ممالك الأباطيل وتشيدت عروش الحقائق والهدى وانحطت العبودية في حضيض العدم وارتفعت الحرية على أوج الوجود...
لقد طبعت المبالغة في تقدير دور العلم و دوره الحاسم في القضاء على الإستبداد والإنحطاط وتحقيق التقدم، فكر تلك الحقبة كله بطابعها. حتى كتب صلاح الدين ألقاسمي قائلا:" إن زعماء الإصلاح اليوم احد رجلين، رجل لا يألو جهدا في الدعوة إلى العلم لاعتقاده أن الأمم لا تستتب لها عوامل النهوض ولا يمكن أن تقوى في معترك الحياة بإزاء الأمم المتقدمة وقوى مدنيتها الحاضرة، إلا إذا عم بين طبقاتها العلم... ورجل لا يفتر عن جذب أفئدة الأمم إلى الميل إلى العلوم الإجتماعية وأخذ النفوس البشرية بأهدابها".
على ضوء فكر النهضة يقرر الكواكبي أن الرعية التي تتخبط في ظلام الجهل هي التي يقع عليها الضغط والإعتساف والإستعمار، فتستعبد وينكل بأفرادها. وتنتهب خيراتها، ويخرب حرثها ونسلها، لأنها وهي تعيش في كلاكل الجهل والعمى تفتقد أية حصانة ضد الإستعباد والإستغلال، فتتحمل الإساءات من المستبد وزبانيته بذلة واستسلام.! لهذا تخيف فكرة تنور الرعية بالعلم.. المستبد وتملأ كيانه فرقا وخشية : " فليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم" "بل يسعى جهده في إضعاف نور العلم ومحاربة رجالاته "لأنه سلطان" أقوى من سلطانه.
وهكذا يصبح كتاب "الطبائع" في قسم كبير منه بمثابة "السيرة الذاتية" لحياة الكواكبي المليئة بالصراع ضد الإستبداد العثماني، بالإضافة إلى كونه صدى لجل المدارس الفكرية التي عاصرته، وقد اضطر فيه الكواكبي _ في غالب الأحيان _ إلى أن يسلك نهج الإطلاق والغموض تحسبا من اضطهاد العثمانيين، فكان يطيل الإستشهاد من التاريخ الأوروبي وهو يقصد تسليط الأضواء على مظالم عاصرها بل وكان من ضحاياها.!
ثم يحدد الكواكبي مفهوم العلم مبرزا دوره في محاصرة الظلم بكلمات بليغة فيقول: العلم قبسة من نور الله، وقد خلق الله النور كشافا مبصرا، ولادا للحرارة والقوة، وجعل العلم مثله وضاحا للخير فاضحا للشر، يولد في النفوس حرارة، وفي الرؤوس شهامة."
إن العلماء بما وهبهم الله من حكمة وسداد في الرأي وسلطة على قلوب الناس وعقولهم، يصبحون أقدر الناس على إرهاب المستبد وتنغيص حياته.. لذلك فهو يكرههم.. ويكيد لهم‘ و يسعى جاهدا لأن يشوه سمعتهم حتى يجد مبررا للرمي بهم في غياهب السجون..! و إن كان لا يعدم وسيلة لنفيهم و التنكيل بهم..! ولقد جاء في الأثر:"إن العلماء ورثة الأنبياء".. فحيازة الفضل والتكرمة في هذا الإرث النبوي، إنما هو منوط بتقفي سيرة الأنبياء في الجهاد الدائب لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، والتأسي بهم في العمل على إشاعة العدل ومطاردة الظلم، والجري على سننهم القويم في تحقيق الكرامة الإنسانية، رفعا للجهل، وتحريرا من العبودية لغير الله، وهذا ما يخيف المستبدين من العلماء ويجعل أفئدتهم هواء ترتجف من صولة العلم، "كأن أجسامهم من بارود والعلم نار".
قد يسمح المستبد بوجود بعض أنواع العلوم التي لا تهدد إستبداده في شيء، بل هناك علوم يسعى المستبد نفسه إلى نشرها وتشجيع أهلها وتقريبهم وحتى مكافأتهم مثل "علوم اللغة والعلوم الدينية المتعلقة بالمعاد"..، فمثل هذه العلوم إذا أولت وحرفت وهو ما يقوم به عادة "العلماء المتعممون"(علماء السوء)، من رجال المستبد، فإنها لا تقرب من الواقع شيئا، وتقدم المفاهيم المغلوطة التي تكرس واقع الإستبداد وتديمه وتصوره على أنه " قضاء من السماء فلا مرد له بغير الصبر والرضا "!؟. أما العلوم التي تساعد على النهضة والتحرر، وتنير العقول، وتجعل الفرد محيطا إحاطة شاملة، بمشكلات واقعه، وتساعده على تفهم قواعد الإصلاح وأسسه، وتعرفه بحقوقه وبكيفية المطالبة بها، وتملأ النفس عزة وشموخا وبعبارة الكواكبي تلك العلوم التي "تمزق غيوم الأوهام التي تمطر المخاوف" فترتعد فرائص المستبد منها ويجند لها كل الوسائل كي لا ترى النور ولا تسمع بها رعيته أبدا إلا بصورة مشوهة أو منقوصة.
فإدارة المستبد "تسعى جهدها في إطفاء نور العلم" وتفريغه من محتواه والتنكيل برجالاته، وإلهاء الناس بتوافه الأمور.
لقد نجحت الإدارة التركية التي يحاربها الكواكبي آنذاك في تحقيق هذا الغرض، وهو ما أقلق الكواكبي وأقض مضجعه، فقد أجمعت جل المصادر التاريخية التي وصفت تلك الحقبة الزمنية التي عاش فيها الكواكبي على أن درجة التخلف والإنحطاط والجهل قد بلغت النهايات القصوى، ولم يعد هناك علماء ومفكرون إلاّ قليلون، وقلّت الرغبة في البحث والتنقيب عن الحقائق، لأن الدولة لا تشجعها، فليس إلاّ ترديد لبعض الكتب الفقهية والنحوية والصرفية ونحوها، وقد زار السائح الفرنسي "ميسيو فولني": « Volney » مصر وبلاد المشرق العربي، وخاصة الشام .. ثم كتب رحلته وضمنها وصفا للحالة الفكرية والعلمية في هذه البلاد فقال:"إن الجهل في هذه البلاد عام.. شامل، مثلها في ذلك مثل سائر البلاد التركية، يشمل الجهل كل طبقاتها، ويتجلى في كل جوانبها الثقافية، من أدب وعلم وفن..."
كما سادت الخرافات، وانتشرت الأوهام وأصبح التصوف ألعابا بهلوانية.. بسبب استعلاء الدراويش وسيطرتهم على حياة الناس، مما أضعف من قوة الجوانب العقلية في عالم الفكر، ذلك لأن الفلسفة التي غرستها الفرق الصوفية في أعماق القلوب والعقل كانت سلبية جبرية تدفع إلى الزهد والإنقطاع، والإنصراف عن العمل والبناء وقوامها الترغيب في الفقر والمسكنة..!!
والحاصل أن السر كل السر في بقاء الإستبداد وتمكنه من النفوس، هو الخوف نتيجة الجهل، وبمجرد انتشار المعرفة الصحيحة بين الأفراد والجماعات.. تتمزق غيوم الخوف وتنقرض دولة الإستبداد بانقراضه.
II – أثر الإستبداد على الفرد والمجتمع:
1-إنحراف الغرائز:
أكد لنا الكواكبي إلى حدّ الآن أن الإستبداد يبسط نفوذه المقيت على النفوس فيملؤها خوفا ورهبة، ويهيمن على العقول فتغشيها الضلالات والجهالات حتى تمسي في ظلمة حالكة مدلهمة..‘وسنحاول فيما يلي ترصد أثر كل ذلك على الفرد و المجتمع.
تتولد عن ظاهرة الإستبداد أمراض عديدة و مدمرة، وهي على كثرتها شديدة الفتك بالفرد و بالمجتمع عميقة الأثر في انحطاطه، والسير به نحو الضعف والتهلهل، مما يجعله في نهاية المطاف مرشحا للوقوع في براثن الإستعمار الخارجي خضوعا لسنن الكون و الإنسان والحياة.
فعندما تنتشر العلاقات الإستبدادية الظالمة في المجتمع وتمنع الذات من تفجير فعاليتها الإجتماعية وصناعة الواقع التاريخي، فإنها تنفجر غرائزها وتتفتح الشهوة بدون أن تعرف حدودا أو إمكانية للإشباع أو الإرتواء، فالإنسان الذي يعيش وسط جحيم الخوف و الإرهاب والجهل وانتشار العلاقات الإنتهازية الظالمة ينكفئ على ذاته، ويضيع حزمه ويفقد مقدرته وثقته بنفسه، فتتقلص تبعا لذلك اهتماماته العلمية والروحية، وتتعطل طاقاته الإبداعية، وتقتل حوافزه وطموحاته، وتطغى على نفسه اللامبالاة، ومن ثم يتسع اغترابه _ كل يوم _ عن ذاته و مجتمعه .. وهذا ما يجعل أسير الإستبداد يعيش "خاملا خامدا ضائع القصد، حائرا لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته، ويدرج أيامه وأعوامه كأنه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب".
إن تقلص اهتمامات الإنسان وفعاليته الإجتماعية يقابلها اهتمام متزايد بشهوات البطن والجنس، وبذلك يصبح المأكل والمشرب والزينة المبالغة فيها والجنس المحموم وتزجية الوقت في اللهو والعبث.. شغل الإنسان الشاغل. وتتولد لديه رغبة شهوانية جامحة لا تعرف الشبع أو الإرتواء .. بل إن الحياة الجنسية ذاتها تصبح "تعاش كأحد مجالات التسلط وساحة من ساحات القهر و الإستبداد.. فيحاول الرجل أن يؤكد فحولته بكثرة اتصالاته الجنسية وتكرار الجماع في اليوم الواحد" وكأن ليس له وظيفة في الحياة سوى " مشاركة الوحوش الضارية في جعلها بطونها مقابر للحيوانات ومزابل للنباتات، واستفراغ الشهوة حتى لكأن جسمه خلق دملا على أديم الأرض وظيفته توليد الصديد ودفعه".
وهكذا تغيب الفكرة، ويعلو الصنم، صنم البطن والجنس وعبادة الذات..!. إنه تصوير رائع وجميل، لأنه يكشف لنا سبب العطالة التي يعيشها أبناء الدول المتخلفة اليوم/ دول العالم الثالث وكل دول العالم الإسلامي .!! ويبرز لنا سببا هاما من أسباب عدم قدرة هذه الدول على تحقيق اكتفائها الذاتي حتى في الحاجات الضرورية كالمواد الغذائية وهو ما ينطبق على المجتمع العربي الذي لا يزال يعتمد على الغرب من الإبرة إلى الصاروخ...‘ فيذهب محمد الغزالي إلى القول بأننا لو قلنا لكل شيء ارجع مكانك لبقينا حفاة عراة...!؟ إن العرب لا يزالون يستهلكون أكثر مما ينتجون رغم امتلاكهم لأحسن الأراضي الفلاحية في العالم..! بالإضافة إلى مواردهم المتنوعة الهائلة كالنفط و الغاز والحديد والمناجم الكثيرة التي تنتج مختلف المواد الأولية وطاقاتهم البشرية المتعددة... ولا خير في مجتمع يموت من الفقر أفراده ويعتمد في بقائه على ما يأتيه من وراء البحار..!!؟
إن غياب الفكرة عن أمة ما، يسهل استبلاهها، وتوجيه اهتمامات أفرادها إلى توافه الأمور: كمواكبة أحدث أنواع التقليعات في المأكل والملبس والزينة وتسقط أخبار الفنانين ولاعبي كرة القدم..!، لأن انغلاق السبل أمام إفراغ طاقات الإنسان فيما يفيد، تجعله يفرغ هذه الطاقات فيما لا يفيد، ولهذا السبب تكثر بين أفراد المجتمعات المتعطلة والمتخلفة الأحقاد التي يحملون، والمكائد التي يضمرون والقيل والقال، التي يتقنون.. و الأمراض المزمنة التي يعانون.. فأينما تولى وجهك، تجد حقدا دفينا توشك أن تتقد ناره، ومكائد تحاك ضد هذا وذاك..وإذا نشط أحد ليعبر عن ذاته ويبدع في ميدانه.. لاحقته الإشاعات وهدته الإنتقادات، وفي مثل هذا المجتمع يسهل تمرير سياسة الإستبداد والفقر والظلم و حكم الطواغيت المتألهين.!!؟ فإذا ما أراد المستبد خوض حرب اقتضاها عناده واستكباره ومصالحه وغروره يغرر بالأمة تحت اسم منفعتها، ويوهمها انه يريد نصرة الدين وصيانة شوكة الشعب وقوته..! ويسرف بالملايين في ملذاته وملذات صنائعه باسم حفظ شرف الأمة وأبهة حاكمها. فالحاكم المستبد تسره غفلة الشعب لأنه يتمكن بغفلتهم من الصولة عليهم و استغلالهم والتنكيل بأعداء إستبداده وظلمه..!
2-الإستبداد الإجتماعي:
إن غياب الفكرة عن الإنسان وخضوعه لهيمنة رغبات البطن والجنس والعادات الفاسدة تخلق منه إنسانا شريرا، يجنح إلى الجريمة والنهب وينتهج كافة السبل ويستعمل كل الوسائل الممكنة لإشباع حاجياته العضوية ورغبته الجنسية الضاغطة عليه والتي لا تعرف الشبع أو الإرتواء أبدا. وتنقلب مفاهيم العدالة في ذهنه رأسا على عقب، فالمجتمع الذي يحكمه الإستبداد السياسي ينتهي به الأمر إلى تطبع غالبية العلاقات التي تتم داخله بطابع التسلط والقهر وإن الإنسان المقهور الذي يشعر بالعجز إزاء قاهره لا يمكن له أن يحس إلا بتبخيس الذات وتحقيرها، ولن يسترجع بعضا من توازنه النفسي إلا بالثأر لذاته المهانة بالإستعلاء على طرف آخر اضعف منه لأن الإنسان المقهور ينتهي باستبطان صورة قاهره وهو ما يجعل "الحكومة المستبدة مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع".!؟
يسعى الإستبداد السياسي إلى تقسيم الأمة شيعا.. متبعا ديدن الطغاة والمستكبرين على مرّ التاريخ وهو سياسة "فرق تسد".
كما يعمد المستبد إلى تقسيم ثروات البلاد بطريقة جائرة، لينقسم المجتمع بدوره إلى "طبقتين" متناقضتين في مصالحهما، متحاربتين، طبقة تعاني ويلات الفقر والحرمان، تنتج ولا تستثمر وهي عادة تتكون من أولئك الكادحين في ميادين الصناعة والزراعة، فهذه الطبقة هي التي يسلط عليها ظلم الإستبداد واستغلاله .. وهي رغم قيامها بالعمل الشاق والمنتج في المجتمع إلا أنها لا تتمتع بثمار سواعدها.
وتقابل هذه الطبقة المكدودة المستغلة طبقة المستكرشين و المستكبرين وهي تمثل "القسم المضر" حسب تعبير الكواكبي.. وتظم هذه الطبقة رجال السياسة والأديان ونساء المدن... وهؤلاء هم المستمتعون الحقيقيون بثروات الأمة وخيراتها، وينفردون بحظ عظيم من مال الدولة و عطاياها.. رغم أن عددهم لا يتجاوز الواحد في المائة (1%). أنه لعجب كبير أن يستوعب الكواكبي بهذا الشكل المعمق النظرية الماركسية رغم ثقافته التقليدية وعدم تمكنه من لغة أجنبية تتيح له إطلاعا مباشرا على ما كتب حول هذا الموضوع.. بالإضافة إلى انتمائه الطبقي إلى عائلة الأشراف، الذي كان من المفترض أن يحجب عنه مثل هذه الحقائق حتى لو اطلع فعلا على المؤلفات الماركسية مترجمة ومعلقا عليها. لقد لفت ماركس انتباه الناس إلى كون العامل رغم قيامه بالعمل والإنتاج إلا أنه لا يتمتع بنتاج سواعده، حيث أصبحت الطبقة البرجوازية الرأسمالية (يعبر الكواكبي عن ذلك بلفظ الإستبداد المالي) هي المالكة بل المغتصبة لما ينبغي أن يكون ملكا للعمال من مصادر الإنتاج. ثم لا يتردد الكواكبي في الكشف عن سيرة آل عثمان مع بعض الوصوليين من أتباعهم، فقد أطلق السلطان العثماني ويقصد عبد الحميد أيدي هؤلاء الإنتهازيين المتقربين من بابه في تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال "وبالتعدي على الحقوق العامة وبغصب ما في أيدي الضعفاء" كما سهل لهم "الإتجار بالدين" والتعامل بالرّبا وبناء الملاهي والحانات، واستغلال أفراد الأمة... كما خصص المال الكثير لترف المستبد نفسه وسرفه. وتغدق الدولة المال والجاه على صنائعها من الجواسيس والمتمجدين وكل الذين يستخدمون في تحصيل شهواتها، ومن يعينها على طغيانها من المتملقين و"رجال الدين" أمثال أبي الهدى الصيادي عدو الكواكبي اللدود..! ويعيش سائر أفراد الشعب في بؤس وشقاء و فقر مدقع.!!؟
إن هذه التفرقة بين أفراد المجتمع والقسمة الضيزى لثروة الأمة بين مختلف فئاته تولد في النفوس الإحن والعداوات فيكثر المكر والكيد بين الناس ويسود جو من الصراع والتقاتل – وهو ما يسعى المستبدون دوما لتكريسه لتفريق الأمة إلى فرق و شيع متناحرة- ، وما كان ليحدث هذا التطاحن والصراع إلا بسبب من اجتماع الثروة لهذه القلة المستغلة المسرفة والتي قسمت الناس إلى عبيد وسادة. فهذه القلة المالكة المتحكمة التي تسمي نفسها "الأصلاء" تعتبر "جرثومة البلاء" في مجتمع الإستبداد لأنها رباط من ربائط القهر والطغيان، وهي تمثل عونا للمستبد على البقاء والإستمرار والهيمنة و الإجرام.
فالإستبداد الإجتماعي محمي بقلاع الإستبداد السياسي، لأن انقسام المجتمع على نفسه وتشرذمه وانتشار الأحقاد بين أفراده هو ما يسعى الظالمون إلى تكريسه وحمايته وتوفير كافة الأسباب لتواصله واستمراره واتساع أفقه، لأن ذلك هو الضامن الوحيد لبقاء المستبد و أعوانه في سدة الحكم وخنوع الرعية للظلم والإستغلال و الإستغفال.
وهذا الواقع المرير الذي يعيش في ظله الناس ويتنسمون روائحه الكريهة،يولد في النفوس:الإحن والقلق والنقمة على كل شيء ويساعد على التظالم بين الوالد وولده والجار وجاره، والمرأة وزوجها حتى يعم البغي الإجتماعي والتظالم كافة أفراد المجتمع.
إن الحكومة المستبدة تقتل في النفوس العزة الحقيقية بالمفاخرة بالأعمال النافعة، وتخلق نوعا من السيادة الكاذبة و كثرة المتملقين، لأن هذه النفوس لم يعد يهمها المجد الحقيقي باستجلاب محبة الناس، وإنما يهمها التمجد والقربى من ذوي السلطان.. وفي مثل هذا المجتمع تفتقد علاقة المحبة والمودة بين الناس و تكثر ضغائنهم، وتنحرف ميولاتهم الطبيعية، حتى يغدو الواحد لا يحب قومه لأنهم عون الإستبداد عليه، ولا يحب وطنه لأنه يشقى فيه ويود لو هاجر منه.. إذ على رأي فولتير:" في ظل ملك صالح يكون للإنسان وطن. ولكنه في ظل ملك شرير لا وطن له" كما تضعف محبة الإنسان لأسرته لأنه ليس سعيدا فيها. ولا يركن إلى صديقه لأنه قد يأتي يوم يكون عونا للظلم والباطل ومصدر شر له. و لا تحب المرأة زوجها لأنه متطبع بالإستبداد و الإجرام مثله مثل رئيسه المستبد إلاهه المعبود ..؟!!
وهكذا يصل المجتمع إلى حالة من التنافر والإضطراب، فتمرض العقول ويختل الشعور، ويفتقد الناس إلى معايير التمييز بين الخير والشر في كل ما ليس من ضروريات حياتهم الحيوانية والبيولوجية. ويصبح باسهم بينهم شديد ، ويعيشون بالتغالب والتحايل لا بالتعاون و التبادل ويسقطون بالتالي في مستنقع التخلف والإنحطاط.
3- الفوضى وانحطاط الأخلاق:
تنقسم الخصال حسب الكواكبي إلى "الحسنة الطبيعية، والشرعية و الإعتيادية" لكن كل هذه الأقسام تشتبك وتشترك ويؤثر بعضها في بعض ويكون مجموعها تحت تأثير الألفة.
ومادامت العلاقات التي تحكم المجتمع فاسدة فلا يمكن للإنسان الذي يعيش في ظلها إلا أن يتطبع بأخلاق رديئة انبثقت مباشرة عن علاقات الظلم والقهر والفساد التي يرزح تحتها المجتمع ويعيش تحت كلاكلها ومن ثم تصبح خُلة فيه.
لا تكون الأخلاق أخلاقا ما لم تكن مبنية على قانون ونظام، والمستبد يقلقه أن تنتظم حياة الأفراد ويسير الناس وفق نظام ضابط واضح وجلي و معايير معلومة و بينة، لأن انتظام الحياة يسهل على الناس التمييز بين الغث والسمين، وبين الخبيث والطيب. لذلك فالمستبد في حرص شديد أن تكون المعيشة في إدارته ويكون النماء فيها يشبه نماء الأشجار الطبيعية في الغابات وأن يترك الأمر للصدفة تعوج أو تستقيم تثمر أو تعقم.
إن مصلحة المستبد والكيفية التي ينظر بها إلى الأشياء تقتضي أن يكون كالحطاب الذي إن وجد أشجارا رائعة وثمارا يانعة وأزهارا ناعمة مغروسة في انتظام وروعة، أفسدها بالقطف وخربها بغية إرضاء شهوته وتحقيق ما يراه نافعا له وحده. ألم يقل "منتسكيو" : أن طبيعة الحكومة الإستبدادية تشبه متوحشي "لويزيانا". فعندما يريدون قطف الثمار يقطعون الشجرة من أصلها..! وبالتالي فإن مقام المستبد بإزاء الأخلاق كمقام الحطاب الجاهل الذي لا يرجى منه خير مطلقا، فهو مخرب مفسد.. ويزداد شرّه قسوة إذا كان غريبا (تركيا في مقام الحال) عن ديار العرب ولم يخلق من تربتهم.!؟
وهذه الفوضى السياسية تجعل الفرد لا نظام في حياته ما دامت كل القوى التي لها تأثير وسلطان على المجتمع تدفعه بطريقة أو بأخرى أن يعيش في فوضى، مشوش البال بحيث تنحصر كل اهتماماته في حفظ حياته الحيوانية حياة "الدناءة" – حسب تعبير الكواكبي- ويعيش محروما من الملذات الروحية والفكرية التي ترتقي به إلى مصاف الإنسانية الحقة..! قد يوجد في هذا المجتمع بعض الأخيار الذين استطاعوا تزكية نفوسهم من وباء المجتمع ومقاومة التيار الجارف للفساد، لكن الإدارة المتعسفة ترغمهم على إلفة الرياء والنفاق بصورة ظاهرة أو خفية لأنها تعين الأشرار على باطلهم آمنين حتى من الإنتقاد والفضيحة ‘ فلا يجرؤ أحد على التشهير بهم أو تقديمهم إلى "العدالة" وهل هناك عدالة في ظل حكومة المستبدين!؟ بالإضافة إلى خوف الناس من تبعة قول الحق وما يجره عليهم من ويلات..!!؟؟
فالأمة الواقعة تحت حكم الإطلاق تفتقد في الغالب الأعم إلى المربين الصادقين ذوي الخبرة والمعرفة الصحيحة فقلّ أن يوجد بها "من يعلم التربية أو يعلمها".. فالقلة التي تتصدر "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" هم على الأكثر من رجال السلطان أو من أولئك المتملقين المرائين الذين لا خلاق لهم.! وهؤلاء ينحصر موضوع نهيهم في الرذائل النفسية فقط دون غيرها من الرذائل السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية.. مما لا يفيد الأمة في شيء. لأن المجتمع في واقعه ليس مجرد مجموع أفراده فهو حقيقة قائمة بذاتها، وله قوانينه الصارمة ومطالبه ومقتضياته الخاصة التي تزيد عن كونها حاصل جمع آلي لاتجاهات الأفراد المكونين له.
لقد فطن الكواكبي إلى هذه الحقيقة الإجتماعية و العلمية الهامة. وكان فيها سابقا لعصره، وهذا ما دفعه إلى خوض حرب لا هوادة فيها ضد أولئك الذين كانوا يعتقدون أن المجتمع ليس إلا مجموع أفراده، وإن إصلاح الأفراد معناه إصلاح المجتمع. إن إمكانية تغيير المجتمع بالتركيز على إصلاح أخلاق الفرد وهو لا يزال يعيش في ظل علاقات الإستبداد مستحيلة وغير عملية، لأن المجتمع تحكمه علاقات سياسية واجتماعية، وتربط بين أفراده أفكار ومشاعر وأنظمة وقوانين موحدة، فإذا ما أريد تغيير أي مجتمع فلا بد من تغيير هذه العلاقات الفاسدة التي تحكمه وعلى رأسها النظام السياسي وطرق توزيع الثروة أي تغيير كل القوانين التي تسير دواليب الدولة : وهو ما يجعل من الإعتناء بالتربية زمن الإستبداد حمق وبلاهة وجهل لطبيعة الإصلاح والتغيير و حقيقته.!
فالأجدى بالإنسان الساعي بصدق إلى تغيير حقيقي وانقلابي/ثوري أن يجتهد أولا في إزالة الإستبداد وتغيير العلاقات والأفكار التي تحكم المجتمع الذي يعيش طور الإنحطاط بأفكار أخرى تقدمية.. تحمل بذور النهضة والرقي و التغيير الحقيقي، عندها فقط يصبح الإعتناء بالتربية مثمرا، لأن التربة حينئذ تصبح مهيأة لتقبل الغرس الطيب..أنه لمن العبث أن يفكر إنسان في تربية الناس وهم يعيشون وسط انخرام علاقات المجتمع السياسية والإجتماعية و الإقتصادية لأن كل ما يمكن أن تبنيه التربية في أعوام يهدمه الإستبداد في ساعات. إذ بمجرد أن يختلط المرء ببني جنسه ويشارك المجتمع الحياة العامة يصطدم بفساد علاقاته وانخرامها كاستشراء الرشوة والوصولية والتمجد والإستغلال و الفساد، فإذا صمد قليلا فإنه لا يمكنه أن يصمد طويلا، فينخرط بدوره في حركة المجتمع ويخضع لقوانينه وأخلاقه الفاسدة وينسى تلك الأخلاق السامية التي نُشئ عليها منذ كان طفلا، وهكذا يضيع مجهود سنوات بمجرد اختلاط الإنسان بمحيطه و بمجتمعه.
III- شروط بقاء الإستبداد و ركائزه:
1- الإرهاب:
جاء في تمفصلات تحليلنا السابقة أن سبب الإستبداد المباشر: الخوف الذي يهيمن على نفوس أفراد الشعب. فالخوف بمثابة الوحش الكاسر الذي يخضع الرعية لسلطان المستبد وزبانيته ويجعلهم قاصرين و عاجزين عن الحركة والوقوف في وجه الظلم المسلط عليهم وتخليص ذواتهم من الإستبداد. فهو روح المستبد وعدته والأرض الصلبة التي يقف عليها، يعرف المستبد أنه لولا استشراء الخوف بين الناس ما دام له سلطان، ولا امتد له نفوذ، لذا فهو في سعي دائب لتربية هذا الوحش الكاسر وإطالة أظافره ورعايته بكل الوسائل المستحدثة حتى يتمكن من بسط هيمنته على كافة أفراد المجتمع.
لا يعدم الطغاة وسيلة يرونها تكرس الخوف منهم وهيبتهم وتنشر الرعب إلا ويستعملونها للضغط على النفوس والأرواح والأجساد. فهم ما فتئوا منذ أقدم العصور يبتكرون الحيل ويطورون وسائل الإرهاب للضغط على العقول حتى يكمموا الأفواه عن الشكاية والضجيج، ويحكموا من قبضتهم على رقاب الناس حتى تضمن لهم القوة والإستمرار في الحكم.
فالإستبداد ليس مجرد رغبة وشهوة شخصية، ولا حتى غفلة جماهيرية فحسب وإنما هناك شروط وركائز يعتمدها الظالمون للحفاظ على عروشهم وحماية مصالحهم من كل ما من شانه أن يهدد سلطانهم بالزوال، ويمكن حصرها في ست(6) ركائز أساسية تتصدرها عملية الإرهاب نفسها، فالمستبد يعتمد عادة على أجهزة مختصة لإرهاب الناس وتخويفهم وقهرهم وإذلالهم، مثل أجهزة البوليس والجواسيس والعملاء وغيرهم... فكلما كان الطاغية حريصا على العسف والخسف والتنكيل بالأحرار احتاج إلى زيادة جيش هؤلاء ممن لا خلاق لهم ولا ذمة، فهذه الشرذمة التي يعتمدها المستبد للإرهاب والتنكيل هي من أقسى الناس قلوبا وأحطهم أخلاقا وأقلهم مروءة، فالأسافل لا يميلون لغير اللأسافل من المتملقين و المنافقين مثل صاحبهم المستبد الأكبر، ومهمة هؤلاء الأوغاد: إخضاع الناس بالقوة وتذليلهم حتى يصبحوا منهم ومن السائرين في ركبهم، ومراقبة كل معارض لحكم القهر والجبروت..! والتجسس على الناس في ديارهم وإثارة القلاقل والفتن ونشر الفساد، وتكميم الأفواه حتى لا تنبس ببنت شفة، وتحطيم أصحاب الأقلام الحرة، ودفع الناس إلى أن يعيشوا عيشة البهائم..!!؟
إن الغاية من تكثيف أجهزة الإرهاب هي إذلال الناس وتحطيم حياتهم و معنوياتهم.. وجعلهم طائعين مستسلمين لا يرجى منهم خير أو صلاح، وكيف يرجى الصلاح من أناس يعيشون تحت الإرهاب ليل نهار فتكثر هواجسهم حتى يعتقدوا أن داخل رؤوسهم جواسيس عليهم، وبذلك يصبح أسراء الإستبداد يعيشون داخل سجون وهمية صورتها لهم نفوسهم المريضة وهواجسهم الكثيرة.
2-القوة المسلحة:
إن القوة المسلحة والجيش الذي أنيط بعهدته – في الأصل- مهمة حماية ثغور الأمة من الأعداء المتربصين، ينقلب في عهد الإستبداد إلى قوة معادية لمصالح الأمة، تخدم المستبد وتكرس الإرهاب وتوجه طاقاتها لإثارة الفتن والقلاقل الداخلية وتصبح درعا تحمي المستبد وأعوانه وقت الشدة وتحول بين الأمة واقتصاصها من الطغاة.
فعهد الظلم يقلب حقائق الأشياء ومهماتها البديهية وينحرف بأدوارها في سبيل حماية المصالح المعادية لمصالح الأمة.إن الجهاز العسكري الذي كونته الأمة وصرفت عليه الأموال الطائلة لنشر الأمن والإستقرار بين الناس وحمايتها من تسلط الأعداء.. يصبح وقت الإستبداد جهازا مختصا في نشر الرعب وترويع الآمنين ومن ثم يسير بالأمة نحو التآكل الداخلي والإندحار.!؟
3- القوة المالية:
كما تعتمد إدارة الطغيان على الرجعية الداخلية التي تحتكر الثروات، فهؤلاء بفضل الثروة الطائلة التي اغتصبوها من عرق جبين الأمة ظلما واعتسافا يكثرون من إظهار الأبهة والعظمة وإنشاء الأماكن الخاصة بهم وحدهم لمتعتهم وسمرهم ويستكبرون على الناس بأموالهم وسلطانهم. ويطلق المستبد أيدي هؤلاء في ظلم الناس وإذلالهم وغصب حقوقهم وأكل أرزاقهم حتى تنكسر شوكتهم ويكثر أنينهم وتستفحل أسقامهم، فيعجزون ضرورة عن مقاومة الإستغلال والظلم المسلط عليهم... يدرك المستبد أهمية أهل الثروات في مساعدته على إذلال الرعية وإخضاعها واسترهاب أعين الناس وسحر عقولهم بما يصبغونه على أنفسهم من مظاهر الأبهة والإستغلال فيعطيهم الألقاب والرتب وشيئا من النفوذ والتسلط على الناس. ويذللهم بالترف حتى يجعلهم يترامون بين رجليه ثم يتخذهم لجاما لتذليل الرعية لأنّ الكل يجب أن يكون في خدمة السلطان، فهو "الرب" وهم "العبيد" ولا يمكن أن يترك أحدا يعلو على مقامه ولذلك يعمد في كثير من الأحيان إلى نشر الفساد بينهم وإلهائهم بملذات الحياة ونعيمها لإبعادهم بذلك عن أي انخراط مع أحرار الأمة في مقاومة الظلم أو الإتفاق عليه أو الإنقلاب ضدّه.
4- العادة والألفة:
تقتل العادة والألفة التفكير وتحيل ذهن المرء على التقاعد المبكر، لأن العادة – وهي أخطر فتكا من كل داء- تجعل الناس يستنيمون للظلم ويستكينون له ويألفون القسوة والركود لا يحركهم ظلم أو طغيان ولا يغضبون لانتهاك الحرمات ولا يحرجهم التعدي على الأعراض، قد فقدوا الرجولة والشهامة وأصبح الألف منهم كأف مما يحولهم في ذهن المستبد وزبانيته إلى مجرد "أشباح فيها أرواح" فيصبح ما لهم فيئا ينتهب وشرفهم – إن كان لهم شرف أصلا- مهانا وكرامتهم في التراب، فالمستعبد الذي يعيش في ظل الإستبداد السياسي لا يملك مالا غير معرض للسلب ولا شرفا غير معرض للإهانة ولا يملك آمالا مستقبلية وتقتصر حياته على الملذات الحيوانية لأنه لا يعرف غيرها.
تنحط الألفة بالإدراك وتسهل انخداع الناس بالمظاهر الكاذبة التي يتفنن المستبد وأعوانه في إبرازها للإرهاب والتخويف، فتسيطر الأوهام على الأذهان ويسهل انصياع الناس للأكاذيب والأراجيف "انصياع الغنم بين أيدي الذئاب" فيصيرون إلى حتفهم ويهلكون أنفسهم بأيديهم وأيدي الطغاة و زبانيتهم..!!؟
5- القوة الخارجية " الإستعمار":
الإستعمار هو العمل، أو مجموعة الأعمال التي من شأنها السيطرة أو بسط النفوذ بواسطة الدولة، أو جماعة من الناس، على مساحة من الأرض لم تكن تابعة لهم، أو على سكان تلك الأرض أو على الأرض والسكان في آن واحد. هذا هو المفهوم الظاهر الذي اصطلح عليه الناس للإستعمار، أما ما نقصده هنا فيتمثل في مناصرة المستبد ومد يد العون له من قبل الدول الخارجية، فلقد كان الإنفراد بالسلطة والإستبداد بأمر الأمة ثغرة حرص الغرب الإستعماري على بقائها حتى تظل فرصته سانحة لإغتصاب استقلال البلاد. لأن الإستعمار يتفق مع إستبداد الأتراك بالعرب بكونه يمثل أسوأ مظاهر الإستغلال والإستعباد والتخريب والتدمير، فالشعب المالك يتمتع بحريته ويسير وفق إرادته، والمملوك مسير لا مخير، وليس له من الإرادة في تصريف أمره وتكييف مجرى حياته إلا بمقدار ما يسمح به سيده المالك المهيمن.
وهكذا تلتقي دائما مصالح الإستعمار والمستبدين و تتحد.. وعوا بذلك أو لم يعوا..! إذ يكفي الحاكم المستبد جرما في حق أمته أن يهيئ النفوس للظلم ويفقدها الحصانة على المقاومة. والثابت أن الإستعمار الغربي ما دخل ديار العرب والمسلمين إلا لما فقدت هذه الأخيرة حصانتها الداخلية و صارت لها قابلية الإستعمار بفضل عصور الإستبداد والإنحطاط وانفراد المستبدين /المتألهين في ديارنا بالحكم و النفوذ و ثروة البلاد.. !!؟
لكل هذه الأسباب اعتبر الكواكبي أنه من العدل الإلهي وقوانينه الأزلية في الكون أن الشعب الذي رضي باستبداد حكامه ولم يعمل على مقاومته أن يتسلط عليه شعب آخر يستعبده ويستعمره وينتهب خيراته... وهو بذلك يحذر الشعوب الإسلامية من مفاجآت المستقبل ما دامت قد رضيت باستبداد الأتراك العثمانيين، والكواكبي يعرفنا أن أي شعب لا يتعرض إلى الإستعمار الخارجي إلا بعد أن يفقد حصانته الداخلية التي ضمنتها له "الإسلامية" وهو البديل الذي طرحه الكواكبي للتخلص من الإستبداد وتحقيق النهضة كما سنرى لاحقا.
6- رجال الدين:
وهم الذين ربطوا أنفسهم بنظام المستبد وباعوا ضمائرهم للشيطان.. ! فعادة ما يعمد هؤلاء إلى تأويل الدين تأويلا يجانب الصواب عن عمد، ويقلبون الحقائق ويزيفونها، فيوهمون الناس بأن الإستبداد وكل ما يتسلط عليهم من قبل زبانية السلطان / المستبد من ظلم واعتساف قضاء وقدر "جاء من السماء فلا مرد له بغير الصبر والرضا" ويطلقون على أي ثورة ضد السلطان الجائر "فتنة" والفتنة أشد من القتل!؟ وقولهم "حاكم غشوم خير من فتنة تدوم"؟ ويلزمونهم بطاعة "أولي الأمر". وإن كان لا يربط هؤلاء المستبدين بالإسلام إلا انتسابهم إليه انتسابا شكليا و وراثيا، كما يشيعون بين أفراد الأمة أن التخلف جاء"بسبب التهاون في الدين" فما عليها (الأمة) إلا أن تكثر من العبادة والنسك وإقامة الطقوس الدينية فينصلح الحال، في حين أن هذا الجانب من جوانب الدين لن يزعج أهل الباطل والإستبداد في شيء، ولن يقض مضاجعهم بل من المؤكد أن مثل هذه الآراء تساعدهم على إحكام قبضتهم على رقاب المسلمين وإبقائهم في درك الإنحطاط. فزيادة العبادة والنسك عن حدها المشروع "أضر على الأمة من نقصها، كما هو مشاهد في المتنسكين" وبالتالي تصبح نية هؤلاء "المتفقهجين و المتاجرين بالدين" الكذب على الأمة وخداعها رغم علمهم أن حكم الإطلاق رأس كل شر ووراء كل مصيبة.!
حرص الكواكبي لما كان بصدد البحث في علاقة الإستبداد بالدين أن يهدم الآراء الخاطئة عن الإسلام التي تبناها المسلمون.!؟ ودحض الإنتقادات التي يوجهها إليه الأوروبيون في آن واحد‘ مثل نسبتهم الإستبداد إلى الإسلام ومبادئه نفسها.!!!؟
فلقد شاع لدى بعض المفكرين الغربيين الرأي القائل بانبثاق الإستبداد السياسي عن الإستبداد الديني لاعتماد كليهما على ركيزة أساسية وهي الخوف. فتاريخ الأديان يعلمنا أن المعتقدات القديمة وخاصة المعتقدات الطوطمية قد ظهرت بسبب ما كان يستشعره الإنسان البدائي من خوف تجاه قوى طبيعية متعددة تتحكم بقسط كبير في حياته. ولقد جاء قول ماركس ملخصا لهذه الآراء حينما قرر: "أن كل دين ليس سوى الإنعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي". ولا شك أن النظرة العادية لمنشأ كل من الإستبداد والدين يخرج بنتيجة مؤداها وجود اتفاق كلي بين الركيزة التي يعتمدها الإستبداد لبسط نفوذه على أرواح البشر وأجسادهم، والركيزة التي يعتمدها الدين للتحكم في عالم القلوب .. فهما: "أخوان أو صنوان بينهما رابطة الحاجة على التعاون بتذليل الإنسان" وهذا ما يجعل الإصلاح السياسي مشروطا بإزالة الدين أو عزله عن الحياة- حسب تأكيدات رجال الأنوار-، فها هو أحد المتنورين الغربيين يحدثنا بحماس فياض عن فكرة التحرر والإنعتاق من ربقة الكنيسة التي كانت تضطهد الناس وتستبد بهم باسم الدين. يقول كوندرسي كاريتا Condorcet Caritat (1743-1794): "إيه أية صورة رائعة للجنس البشري إذ يتحرر من قيوده وينعتق من عبودية الصدفة، وكأنه ينعتق من أعداء التقدم، ثم يسير بخطى ثابتة أكيدة على طريق الحقيقة والفضيلة والسعادة تعنّ للفيلسوف فتعزيه عن الأخطاء والجرائم والمظالم التي ما زالت الأرض تعج بها والتي كثيرا ما يقع هو ضحيتها، وهو يجد مكافأة لجهوده من أجل تقدم العقل والدفاع عن الحرية في تأمل هذه الرؤيا، عند ذلك يجرؤ على ربط جهوده بالتسلسل الأزلي للقدر الإنساني وهو يجد هناك المكافأة الصحيحة للفضيلة. وتلك هي اللذة في أنه خلق خيرا، ثابتا لا يستطيع القدر أن يهدمه مهما وعد من ثواب في مقابل إعادة الأفكار الموروثة والعبودية".
إن الكواكبي وهو العالم المتبحر في معرفة التاريخ قديمه وحديثه، يقر بصحة هذه الآراء التي تقف ضد موروث الدين، ويتعاطف معها.. غير أنه يقرر أن هذه الأفكار وهذه الآراء لا تنسحب على الإسلام، بل تنسحب فقط على المسيحية واليهودية بسبب ما قام به أتباع هذه الديانات من تحريف لكتبها المقدسة، وهو ما لم يقع للقرآن الذي حفظه الله من التحريف وحماه من التبديل بسبب اختلافه عن قول البشر و إعجازه و تجاوزه لقدرات الجن و الإنس و لو اجتمعوا.. وهو ما يجعل مقولة أن القرآن جاء باستبداد مؤيد للإستبداد السياسي لا أساس لها من الصحة، خاصة وان القرآن لا يزال بيننا ويمكننا التثبت من بطلان مثل هذه المقولات والإدعاءات. لقد انفرد الإسلام من دون كل الأديان بإماتة الإستبداد ومحاربته بفضل ما حوته تعاليمه من دعوة للشورى وعدم الإنفراد بالرأي وإحياء العدل والتساوي.
إن جعل كلمة لا إله إلا الله محور الدين في الإسلام كفيلا بأن يذكر النفوس أن العزة لله وحده، وأن النفوس لا يصح أن تذل لأحد سواه أو ترهب غيره،أو تتبع قانونا غير قانونه.. فهذه الكلمة توحي بالضعف أمام الله والقوة وعزة النفس، فثمرة الإيمان بوحدانية الله "عتق العقول من الإسارة" على حد تعبير الكواكبي.
فإذا ما كان الدين الإسلامي خاليا من السلبيات المقيتة التي من شأنها أن تعطل الإنسان أو تخدره أو تصرفه عن مقاومة الإستبداد، وهو صالح لكل زمان ومكان، فإن الخطر كل الخطر يكمن " في العلماء المتعممين" من رجال السلطان الذين يقلبون الحقائق ويزيفونها و يشرعون للظلم و الإستبداد في سبيل خدمة الطغاة وإرضاء شهواتهم، وبذلك يصبح هؤلاء "أضر على الدين من الشياطين" لأن هذه الفئة الضالة تستخدم رسالات السماء لخدمة المستبد لنيل فتات موائده.
إن حملة الكواكبي على رجال الدين لها ما يبررها تاريخيا، فقد كثر في زمنه المتملقون من العلماء ورجال الدين والمتصوفة، ولعل أبا الهدى الصيادي كان يمثل رمزا لكل هؤلاء، فقد قال عنه محمد عمارة: "كبير مشعوذي الدولة العثمانية في ذلك الحين وهو الذي ساهم في اضطهاد العديد من الأحرار. وفي مقدمتهم جمال الدين الأفغاني، وعبد الله نديم، ومحمد عبده" وكان عدوا للإصلاح، ملأ من ضحاياه السجون والمعتقلات وأعماق البحار، ونفى وأذل وأفقر من البشر ما لا حصر له، واستطاع أن يلعب بعقل السلطان عبد الحميد ويستبلهه بحيل روحية حتى انقاد له ومكن له في الأرض ليعبث فيها ويهلك الحرث والنسل. وكان لجمال الدين الأفغاني رأي فيه، وهو مناجزته، وللشيخ عبده رأي آخر فيه هو مسايرته، ويظهر أن الكواكبي قد أخذ برأي جمال الدين فأقام عليه حربا ضروسا لا هوادة فيها ناهيك بما كان بينهما من خصام عائلي.
الباب الثالث:
النزعة النقدية و الإصلاحية لدى الكواكبي:
1- نقد الإستبداد بين الكواكبي و" الفياري":
كنا قد بينا في تمفصلات تحليلنا السابقة اقتناع الكواكبي بضرورة الإستفادة من الفكر الغربي الحديث، وحضارته بل والإقتباس من تعاليمه إن كان ذلك يساعد العرب على الخروج من مستنقع التخلف والإنحطاط الذي هوَوْا فيه. وأتينا على ذكر بعض مؤثرات فلاسفة الأنوار على فكر الكواكبي. كما ألمحنا إلى أن أبرز الذين كان لهم تأثير عميق في فكر الكواكبي عند نقد الإستبداد، الأديب الإيطالي "فكتور الفياري"، حتى أنه بلغ من شدّة تأثر مؤلفنا بهذا الأديب أن امتدحه في كتاب "الطبائع" واقتبس الكثير من أفكاره، واستمد منه إطار كتابه... وسنحاول في هذا الفصل أن نلقي مزيدا من الأضواء على علاقة الكواكبي الفكرية بهذا الأديب بإقامة مقارنة نموذجية بين بعض ما ورد في كتاب "طبائع الإستبداد" للكواكبي، وكتاب "الإستبداد" للفياري في الجدول التالي:
الكواكبي الفياري المفهوم
الإستبداد: صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين... كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة.. تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيد الوارث، أو المنتخب. ص31و32. الطغاة: كل الذين توسلوا بالقوة أو حتى بإرادة الشعب أو النبلاء إلى القبض
التام على أطراف الحكم ويعتقدون أنهم فوق القانون أو هم كذلك... والطغيان الصفة التي يجب أن تنعت بها.. أي حكومة يستطيع فيها الشخص المنوط بتنفيذ القوانين أن
يضعها أو يقضي عليها أو ينتهكها أو يفسرها أو يعرقل سيرها أو يوقفها وهو في مأمن من العقاب ص12و15.

مفهوم الإستبداد
المستبد على الدوام محاطا بالأعداء ملحوظا بالبغضاء، غير أمين على حياته طرفة عين. وكلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته ومن حاشيته. وحتى من هواجسه... ص 53.
لا استعباد ولا اعتساف ما لم تكن الرعية حمقاء تتخبط في ظلامة جهل وتيه عماء. ص 50.
كلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى الدقة في اتخاذ أعوانه من أسفل السافلين... فالتمجيد خاص بالإدارات المستبدة. وهو القربى من المستبد بالفعل. ص83

المستبد.. يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه عل ظلم الناس... ويذللهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلهم خاضعين له... ص36. الخوف والشك، رفيقان لا ينفصلان عن كل قوة غير شرعية.. ص24.
الجهل، والتملق والخوف أعطت ولا تزال تعطي الحكم الملكي المستبد شرعية وجوده. ص 18.
لا يشعر (المستبد) بالأمن إذا لم يعط المناصب الأكثر أهمية في الدولة إلى أناس لا أخلاق لهم... وقد باعوا أنفسهم له، يشبهونه ويفكرون بعماء بعده، وهذا يعني أنهم أكثر الناس ظلما وعسفا... ص28.
المستبدون:الخوف ركيزتهم والمليشيا والدين وسيلتهم ص 102.
ركائز الإستبداد ووسائله
إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه فالملك الجبار هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة، ومكتبته هي المذبح المقدس، والأقلام هي السكاكين وعبارات التعظيم هي الصلوات والناس هم الأسرى الذين يقدمون قرابين. ص 54. قصر الملوك هو هيكل الخوف، والمستبد هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة (أما) الحرية... وحب العدل والفضيلة والسعادة الحقيقية، ونحن أنفسنا فضحايا ندفع الثمن كل يوم...ص 22.
صفات الإستبداد
الإستبداد السياسي متولد من الإستبداد الديني. ص 35. الإستبداد الديني ولـّد الإستبداد المدني. ص 64. الإستبداد والدين
وأما أسراء الإستبداد...فملذاتهم مقصورة على مشاركة الوحوش الضارية في جعلها بطونها مقابر للحيوانات ومزابل للنباتات، وعلى استفراغهم الشهوة كأن أجسامهم خلقت دملا على أديم الأرض وظيفتها توليد الصديد ودفعه. ص131
..المعيشة البشرية، في الإدارات المستبدة (هي) محض نماء يشبه نماء الأشجار الطبيعية في الغابات والإحراج...ص102
... ولهذا فإن الفلاسفة المفكرين لدى الشعوب الحرة، لا يجدون أي فرق بين الحياة الحيوانية وتلك التي يحياها الإنسان الذي لا يتمتع بحريته، وبإرادته وأمنه، ولا يتحكم في نفسه... ولا يتمتع بسعادة حقيقية. ص 123.

إسراء الإستبداد لا أسمي حياتهم حياة إنسانية بل هي حياة النبات. ص 138
حياة الواقعين تحت الإستبداد
المستبد في لحظة جلوسه على عرشه... يرى نفسه كان إنسانا فصار إلاها. ص 65 المستبد لا يمكن أن يحب رعيّته ويرى أنهم تحته. ص 131. علاقة المستبد برعيته
حرص التمول يخف كثيرا عند أهالي الحكومات العادلة. ص 79. ...ويحسن بنا أن نلاحظ أيضا أن الفرق بين الإستبداد وبين حكومة عادلة... ص 16 نقيض الإستبداد
الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها، بآلام الإستبداد لا تستحق الحرية.ص140. الشعب الذي لا يشعر بوطأة العبودية قد وصل إلى درجة كبيرة من البلاهة، وهو لا يستحق الحرية السياسية. ص150
شروط الإنعتاق من الإستبداد
الإستبداد لا يقاوم بالشدّة، إنما يقاوم باللين والتدرج. ص 140. في الدول التي يوجد بها الإستبداد متجذرا منذ أجيال عديدة يصبح من الضروري توفير وقت كاف كي يستطيع الوعي المتأخر تحطيمه. ص 155.
كيفية التخلص من الإستبداد
يكشف لنا هذا الجدول المفاهيم الكثيرة التي استقاها الكواكبي من مؤلف "الإستبداد للفياري"، لكن ذلك لا ينقص من قيمة ما كتب الكواكبي في نفس هذا الموضوع (الإستبداد) ولا يقلل من طرافة ما حبّر. فلقد تميّز مؤلفنا بوضوح وإحاطة شاملة بموضوع بحثه – كما سبق وبينا - بالإضافة إلى محاولته الطريفة في التوفيق بين بعض منتجات الفكر الغربي الحديث وبين التراث العربي الإسلامي. لكنه لم ينج من انحيازات طبقية عندما قرر أن إدارة شؤون المجتمع يجب أن تبقى حكرا على فئة من أشراف الأمة، متناسيا أن الفرد الذي لا يشارك في إدارة شؤون مجتمعه هو إنسان ميت، وبالتالي فهو قد حكم بالموت على الملايين من أفراد المجتمع الذي يسعى لتغييره!؟
2- التقاطع بين الشرع والغرب في فكر الكواكبي:
كنا قد مهدنا إلى هذا العنصر بما ورد في تمفصلات تحليلنا من ذكر لبعض مؤثرات الفكر الغربي الحديث على أراء الكواكبي النقدية وأفكاره الإصلاحية واستقائه للكثير من المفاهيم والأفكار من الكاتب الإيطالي "الفياري" . فنلاحظ أن الكواكبي قد أقام منهجه الإصلاحي على ركيزتين أساسيتين:
الوعي بالوضع القائم.. ثم العمل على تغييره.. والوعي في رأيه مزدوج: وعي الذات ووعي الآخر...: أما وعي الذات فيتمثل في نفي ما يطمسها أو يشوشها من المفاهيم الخاطئة، خاصة تلك التي علقت بالدين الإسلامي، وفضح الممارسات الخاطئة التي ترتكب باسم الدين أيضا. وهذا لا يأتي إلا بتقديم المفاهيم الصحيحة، والحرص على إقامة كيان تنفيذي وهو الحكومة التي ترعى الممارسات الصحيحة وتمهد لها.
أما وعي الآخر (الغرب أساسا)، فالقصد منه الإستقلالية عنه: يقول الكواكبي في "أم القرى": "وأما الناشئة والمتفرنجة فلا خير فيهم لأنفسهم فضلا عن أن ينفعوا أقوامهم وأوطانهم شيئا". وقد قبل الكواكبي الإنفتاح على حضارة الغرب، سواء كانت مادية أو معنوية للإستفادة من علومه الصحيحة والصناعات المفيدة واقتباس أنظمة الحكم العادلة التي لا تخرج عن روح الإسلام كالديمقراطية والحرية والاشتراكية، دون مجاوزة ذلك التأثر بثقافته وفلسفاته المادية الملحدة..!؟: يقول الكواكبي كاستنتاج بعد مقارنة طويلة: "فهذه أمم أستراليا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للإتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والإرتباط السياسي دون الإداري. فما بالنا لا نفكر في أن نتبع إحدى تلك الطرق أو شبهها".
وهو إذ يدعو إلى الإقتداء بالغرب حتى في أنظمة الحكم يعتقد اعتقادا راسخا أن الغرب قد " قرّر قواعد أساسية في هذا الباب تضافر عليها العقل والتجريب، وحصحص فيها الحق اليقين، فصارت تعد من المقررات الإجتماعية عند الأمم المترقية " مقتديا في ذلك بسلفه خير الدين التونسي الذي كان قد قرر هو بدوره أن أساس قوة أوروبا وازدهارها "المؤسسات السياسية القائمة على العدل والحرية"، ولا يمكن للأمة أن تستعيد قوتها ومجدها إلا إذا عرفت مكامن هذه القوة وتبنتها..!!؟؟
فالأصالة عند الكواكبي لا تعني رفض الآخر، أو عدم التفاعل معه أو الإنفتاح عليه .. وهي لا تعني كذلك عدم الإفادة منه أو محاكاته، فالأصالة في نهاية المطاف لا توّرث وإنما تبتدع بهدي من "الإسلامية" وهي ليست ماهية ثابتة وإنما هي قوة متحركة، فما يصلح لمجتمع معين في مرحلة معينة من تاريخه قد تنعدم فائدته تماما بالنسبة له في مرحلة أخرى، وبالتالي فإن معايير الأصالة في الماضي غيرها في الحاضر، وستكون في المستقبل غيرها الآن..
لم يكن هاجس الكواكبي إذن تحطيم الآخر أو نبذه، وإنما كان هاجسه بناء الذات، ومنذ أن تبنى الذات، تقوى وتستقل وتثبت هويتها إزاء الآخر، إن ضعف هذا البناء هو الذي يتيح للآخر الهيمنة والإستعمار، ويجعل الذات في تبعية دائمة له. ولا يجوز أن نغفل أن بناء الذات لا يجوز الإقتصار فيه على استخدام المادة التي ترثها عن الأجداد أو تملكها راهنا. وإنما يحسن بل يجب استخدام المادة المفيدة عند الآخر، تلك التي هيأ له استخدامها أن يتفوق وينتصر ويبني الحضارة. لكن شريطة أن تظل مادة الآخر خاضعة لخصوصية الذات.. والخصوصية هنا قرينة الأصالة، فهي تتمثل من ناحية في العودة إلى الأصل أي الدين والقضاء على جميع ما يتعارض مع وحدة الأصل و حقائقه الأزلية، ويتمثل من ناحية ثانية في تحطيم السلطوية الإستبدادية وإقامة الحرية والعدالة والمساواة... وهكذا تبدو النهضة عنده ليست عملية اقتباس، وليست عملية تحرر، إنها استمرار تفتح ضمن التاريخ العربي الإسلامي بهدي من مبادئ "الإسلامية" واستمرار في تعميق الوعي أي وصل ما انقطع في ممارسة "الإسلامية" وسيرتها وليس الآخر إلا نموذجا تحريضيا. فماذا يعني الكواكبي ب"الإسلامية"؟
3-الكواكبي والتجديد:
أ‌- مفهوم "الإسلامية":
انطلاقا من نظرة الكواكبي إلى "الذات" و"الآخر" التي حاولنا تحليلها في الفصل السابق، سعى في ثنايا نقده للإستبداد وتحديد مكامن الداء في المجتمع العربي الإسلامي،إلى تقديم البديل الفكري والسياسي والاجتماعي بهدف القضاء على الإنحطاط من جهة، وتحقيق النهوض والقوة من جهة أخرى. وغاية ما كان يسعى إليه من وراء ذلك، إحياء عظمة الماضي بحيث ينسجم مع متطلبات العصور الحديثة. وهو إذ ينظر إلى عصر الإسلام الأوّل "المجيد" كأنه صورة لما ينبغي للعالم أن يكون عليه في الحاضر، فهو قد شارك- في هذه النظرة- رواد النهضة العربية نظرة التقديس للماضي والإستلهام من ينابيعه التي لا تجف أبدا..! مقتنعا بأن "التاريخ يعيد نفسه".
إن النظرية التي يصدر عنها الكواكبي لتحقيق الأهداف والغايات التي رسمها للمستقبل هي ما يسميها ب"الإسلامية" وهي: الإختيارات التي يتبناها المسلمون في مختلف شؤونهم الحيوية، والحلول التي يستنبطونها لمشكلاتهم الحياتية مع اعتبار مقتضيات الزمان، دون الإخلال بالقواعد العمومية التي شرعها أو ندب إليها الرسول(ص) لأن الكواكبي يفرق بين "الإسلام" و"الإسلامية" فالأول هو الدين والثانية هي نظام الحكم الذي يطبقه المسلمون في حياتهم.
وبناء على ذلك ينادي الكواكبي بفتح باب الإجتهاد من جديد الذي كان إغلاقه أكبر مصيبة حلت بالمسلمين، ويرى أن الإجتهاد يجب أن يختص به العلماء المقتدرون ولا يجوز بذله في غير باب "المعاملات" أما "العقائد"فيكفي أن تطهر مما علق بها من شوائب فقط. ويبقى باب الإجتهاد وبذل الجهد الفكري فيما يتعلق بمشكلات الحياة المتجددة مفتوحا أبدا بل واجبا تحتمه الحياة ومصلحة المسلمين لمجاراة روح العصر انطلاقا من قاعدة "تغير الأحكام بتغير الظروف"!؟ فرؤية الكواكبي هذه تنبثق من الأصل/القرآن وتنظر على أنه يبقى مفتوحا قابلا للتلاؤم مع واقع الحياة المستجدة.
ب‌- تجديد الكواكبي في الجانب السياسي:
أولى ملامح "الإسلامية" هي الجانب السياسي والإداري. ويعرف الكواكبي السياسة فيرى "أنها إدارة شؤون الأمة المشتركة ورعايتها بمقتضى التقيد بقانون موافق لرغائب أفراد المجتمع وتكون هذه الإدارة بالتعاون والرضا من الجميع حاكمين ومحكومين"، وقد قدم مفهوما للمساواة كما أقرتها الثورة الفرنسية..: أي مساواة أمام قانون واحد يسري على جميع المواطنين حكاما ومحكومين في "نعيم الحياة وشظفها" لا فرق بين غني وفقير، وضعيف وقوي، وأبناء مذهب ومذهب، وبالتالي تنحصر وظائف السلطة التنفيذية أي الحكومة في إدارة شؤون الأمة بمقتضى التقيد بهذا القانون الصادر "عن جمع منتخب من قبل الأمة". ويظهر على ما يبدو أن موقع الكواكبي الطبقي والإجتماعي بوصفه ينتمي إلى عائلة الأشراف بحلب قد ساهم إلى حد بعيد في تحديد رؤيته السياسية عندما قرر أن "الإسلامية""مؤسسة"على أصول الإدارة الديمقراطية"،أي العمومية والشورى الأرستقراطية، "شورى الأشراف" وهو ما يكرس النخبوية في المجتمع الذي يدعو إلى إقامته الكواكبي، مع العلم أن نصوص الإسلام الداعية إلى الشورى جاءت عامة إلى كافة أفراد الأمة الإسلامية بدون استثناء دون أن تحدد أي صنف من الناس يختص بإدارة شؤون المجتمع دون بقية الناس، بل إن النصوص المشهورة في هذا المجال تخالف تماما رؤية الكواكبي السياسية النخبوية كقوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" أو قول الرسول﴿ صلى الله عليه و سلم﴾: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
ثم يضيف الكواكبي أن لا إمكانية لنشوء الدولة المستقرة التي ترقى بأفرادها ما لم يتحول الحاكم إلى خادم مطيع يخضع للقانون بملء إرادته وتكون الرعية على وعي تام بسيرة حاكمها فتراقبه رقابة مشددة حتى لا يحيد عن الطريق السوي. ويمكننا أن نسأل الكواكبي هنا من أين لنا مثل هذه الرعية الواعية بدورها السياسي والفاعلة في مجريات الواقع ما دمت قد أحلت معظم أفراد هذه الرعية على التقاعد ليتركوا الأمر لأهل الحل والعقد المسمون عندك بالأشراف!؟
ويبدو أن الكواكبي كان مستلهما لرأي "منتسكيو" عندما ينبه إلى ضرورة فصل القضاء عن الحكومة والتفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم مؤكدا على أن مثل هذه المبادئ السامية قد جسدت في حكومة الرسول صلى الله عليه و سلم والخلفاء الراشدين وبعض السلف كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العباسي ونور الدين الشهيد...
وهكذا حاول الكواكبي "بمفاهيم إسلامية" تبرير تبني المؤسسات الغربية معتبرا ذلك التبني عودة إلى روح الإسلام لا إدخال شيء جديد عليه!؟، وقد جعلته ميولاته "الديمقراطية" يعتقد أن النظام البرلماني ليس سوى بعث لنظام الشورى الإسلامية على ما بينهما من فرق!!؟
ولم تتجاوز نظرته إلى الحكم الصالح الرشيد النظرة الدينية التقليدية التي تدعو الحاكم أن لا يحكم الهوى في حكم الناس وإنما عليه أن يحكم بالعدل.
فلم يحاول مثلا البحث في الطرق المناسبة والأجهزة المختصة القادرة على إجبار أي حاكم على الخضوع للقانون، كما لم يبحث في مصدر القوانين العادلة..!؟ بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين يقرر في آخر كتابه "الطبائع" أن الإستبداد السياسي "لا ينبغي أن يقاوم بالعنف" وهو الذي كرس كل حياته في مقاومة الإستبداد!؟ محتفظا بتسمية الثورة "فتنة"!!؟؟
ج- تجديد الكواكبي في الجانب الإقتصادي والإجتماعي:
تقوم "الإسلامية" في وجهها الإقتصادي والإجتماعي على ما يسميه الكواكبي "بمعيشة الاشتراك العمومي" ومعناه: التعاون والإتحاد والتحابب والإتفاق.
"فالإسلامية" كما أسست حكومة ديمقراطية تقوم على الشورى والحرية، أسست أيضا أصول هذه المعيشة التي تهدف إلى تحقيق التساوي والتقارب في الحقوق والحالة المعيشية بين البشر، و تعمل ضد "الإستبداد المالي"بمعنى رأس المال.. حتى لا يصبح المال دولة بين الأغنياء فقط وحتى يستطيع فقراء الأمة اللحاق بأغنيائها.إن منع تراكم الثروات بأيدي أقلية يصبح ضرورة حضارية وأخلاقية، لأن تراكم الثروة يولد الإستبداد الداخلي و الإستعمار الخارجي.. كما أن تراكم الثروات بأيدي أقلية يضر بأخلاق الأفراد ذلك أنه توجد علاقة جدلية بين الغنى المفرط أو الفقر المدقع وانحطاط الأخلاق.
وبهذه النظرة العميقة يتجاوز الكواكبي ذلك النقد ذو المنزع الليبرالي الداعي للمساواة الحقوقية. والذي يأخذ على حكم الإستبداد تجاوزاته ومناقضاته للتشريعات والقوانين المرعية، منطلقة من احترام مجرد لهذه القوانين والتي لا تمثل في الواقع إلا مصالح تلك الفئة التي تسن تلك القوانين وتكرس الأعراف المناسبة لمصالحها الإجتماعية والإقتصادية، داعيا إلى ضمان فعلي لمصالح كافة شرائح المجتمع.
إن الإستبداد السياسي هو المسئول عن الظلم والقهر من جهة وعن التأخر الإقتصادي وعن الحيف الاجتماعي من جهة ثانية. أما "الإشتراك العمومي" فهو سر البقاء والتقدم لكل ما في الكون و"هو أعظم سر الكائنات". فهو طبيعي يتلاءم مع سنن الكون، وقوانين الطبيعة، ومن ثمة فإن الفردية المطلقة لا مكان لها في المجتمع الذي يدعو الكواكبي إلى إقامته، لأنها ضد نظام الكون وسنن الحياة. بالإضافة إلى أن الإشتراك العمومي أصبح حاجة ملحة في العصر الحديث وهو العمود الفقري لإنجاز الأعمال الكبرى التي لا تفي بها أعمال الأفراد كما أنه حجر الزاوية في "نجاح الأمم المتمدنة".
تنبع دعوة الكواكبي إلى "معيشة الإشتراك العمومي" من فلسفة قوامها أن ثروة المجتمع إنما هي "فيض" قد أودعه الله في الطبيعة، وبناء على ذلك فإن كل ما في هذه الطبيعة من ثروات وكنوز ظاهرة أو باطنة يجب أن تبقى عامة وأن يسود فيها قانون الإشتراك العمومي بين البشر العاملين في ترويض هذه الطبيعة وإخضاعها.
فالمال المستمد من الطبيعة لا يجب أن يملك.. وإذا جاز أن يختص بإنسان أو يدخل في حيازته فإن طاقة العمل الإنساني تكون هي السبب لهذه الحيازة وذلك الإختصاص، يقول الكواكبي في هذا المجال: "إن المال المستمد من الفيض الذي أودعه الله في الطبيعة ونواميسها... لا يملك إلا بعمل فيه أو في مقابله".
لكن هناك نوع من الثروة يجب أن تبقى عامة ومشتركة بين العاملين في المجتمع ولا يصح أن تملك أبدا وهي: "الأراضي والمعادن والأنهر، والسواحل، والقلاع والمعابد والأساطيل، والمعدات إلخ". مما هو لازم للجميع وتبقى للحكومة صفة الأمانة على هذه الأملاك.
والحاصل أن "الإشتراكية" التي يدعو إليها الكواكبي قائمة على دعامتين: أولهما الملكية العامة للثروة وتدخل في نطاقها جميع احتياجات البشر الضرورية لحياتهم سواء كانت مادية أو أدبية، وفي مقدمتها الأراضي الزراعية وكل ما في باطن الأرض من معادن وكنوز وهي "ملكا لعامة الأمة يستنبتها ويتمتع بخيراتها العاملون فيها استلهاما من الحديث المشهور "من أحيا أرضا مواتا فهي له".
وثانيهما: طاقة العمل الإنساني المبذولة في تنمية هذه الثروة العامة وتحصيل ثمراتها. وبناء على ذلك يصبح معيار إنسانية الإنسان في المجتمع الاشتراكي هو العمل.. فلا يكون الإنسان "إنسانا ما لم تكن له صنعة مفيدة تكفي معاشه باقتصاد لا تنقصه فتذله ولا تزيد عليه فتطغيه" فلا مكان في المجتمع الذي يدعو إلى إقامته الكواكبي للمتعطلين الذين يريدون العيش على حساب الآخرين "فمن لا يصلح لوظيفة أو لا يقوم بما يصلح له بل يريد أن يعيش كلا عليهم (أي العاملين) لا عن عجز طبيعي (يكون) حقيرا يستحق الموت لا الشفقة".
إن السعي في هذا السبيل لتطبيق "مبادئ الإشتراكية" هو مواصلة لتراث سابق، واستجابة لحاجات كثيرة بعضها كامن في طبيعة النفس العربية لأن "العرب أهدى الناس لأصول المعيشة الإشتراكية"..!؟ إن تحقيق هذا الطراز الرفيع من الشورى والديمقراطية والإشتراكية الإجتماعية يأتي نتيجة "لثقافة معينة" و تتويجا لمذهب إنساني أي نتيجة لتقويم معين للإنسان على مستواه الشخصي وعلى مستوى علاقته بالآخرين. لذلك يتوجب تخليص الإنسان من كل التوجهات المضادة للشورى والديمقراطية، وهذا ما يجعل "الإسلامية الثقافة" تقتضي الحكمة العقلية وعلوم الحياة، وحقوق الأمم، وطبائع الإجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصل... ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول، وتعرف الإنسان ما هي حقوقه، وما هي واجباته، وهذا ما يجعل من الثقافة الصحيحة المستنيرة والعميقة ونشرها بين كل أفراد المجتمع ركيزة أساسية من ركائز "الإسلامية" وأس من أسسها.
د- مهام الحكومة "البديل" للرقي بالأمة:
إن التنوير الذي سيطر على ذهن الكواكبي، كان قد هيمن عليه السياسي، كما لاحظنا. لأن "السياسي" في وعي النهضة لم يكن شيئا متعاليا ولا تعبيرة مجردة لواقع مستقل، بل التشخيص المؤسسي لحالة المجتمع بل والحضارة الإسلامية المحتضرة.وهذا الوعي بأهمية السياسي في تحديد حالة المجتمع، جعل الكواكبي يعطي "الحكومة البديل" دورا رياديا في النهوض بالمجتمع، لذلك أوكل لها مهمة تربية الأمة والسير بها في طريق الرقي والإزدهار إذ بيدها وحدها رقي المجتمع أو انحطاطه..! فعلى الحكومة المنتظمة التي ترعى شؤون الأمة أن تتولى ملاحظة تربية أفراد الأمة والسهر على راحتهم، وهذه المهمة تبدأ منذ ما قبل الزواج "بسن قوانين النكاح وتوفير متطلبات الصحة العامة كبناء المستشفيات وإيجاد القابلات والأطباء وبناء دور الحضانة وتشييد المخابر لصناعة الأدوية... كما عليها أن تفتح المدارس والمكاتب وتشجع على المعرفة والتعليم بدءا بالتعليم الإبتدائي وجعله إجباريا لكافة أفراد المجتمع، بلوغا إلى أعلى المراتب والدرجات، ثم تمهد المسارح والملاعب وتسهل الإجتماعات وتحمي المنتديات، وتنشئ المكتبات والمتاحف لحماية آثار الأمة وتراثها وتيسر الأعمال المفيدة وتشجع على كل خلق وابتكار.
لقد عاب الكواكبي على الإدارة المستبدة كبتها للحريات لذلك فلابد "للحكومة البديل" أن ترعى الحرية وتجعلها تقليدا من تقاليدها. والكواكبي إذ يورد مفهوم الحرية يورده بمثابة النقيض الأصلي لمفهوم الإستبداد، فعرفها (الحرية) بأن:"يكون الإنسان مختارا في قوله وفي فعله لا يعترضه مانع ظالم". وتكون السلطة منحصرة في القانون وذلك يعني أن ليس للحكومة الحق في إيقاع أي عمل إكراهي بدون الوسائط القانونية. بحيث أن الإنسان لا يخشى هضيمة في ذاته ولا في سائر حقوقه ولا يحكم عليه بشيء لا تقتضيه قوانين البلاد المتقررة لدى المجالس، وهذا التعريف هو على غرار ما عرف به "منتسكيو" الحرية حين قال بأنها: "الحق في عمل كل ما تسمح به القوانين".
وبرّر الكواكبي تبنيه للحرية مثلما فعل معاصروه من "السلفيين" بأنها مستمدة من الشريعة الإسلامية بل هي روح الدين على حد تعبيره.!!؟؟
فالحرية خاطر غريزي في النفوس البشرية. فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميدان الإبتكار والتدقيق، فلا يحق لها أن تسام بقيد من القيود، وقد تنبه الكواكبي إلى أن نهج الأوروبيين في البحث العلمي كان من أسباب تقدمهم وتطور العلوم عندهم، فهم يعتمدون حرية البحث والتفكير ويدققون ويبتكرون في المعارف ويطمحون دائما إلى تخطي ذواتهم وما وصل إليه أسلافهم.وبناء على ذلك فان افتقاد الحرية في أي مجتمع بشري معناه انتشار التقاعس فيه عن كل " صعب و ميسور"..
إن الحكومة العادلة الحرة تفعل في أخلاق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر، فالحاكم العادل هو بمثابة البستاني الذي يرعى أشجار بستانه وأزهاره ليل نهار حتى تؤتي أكلها على أحسن وجه ممكن... للسعة والفقر وانتظام المعيشة دخل كبير في تيسير التربية أو تعسيرها، والحكومة "البديل" كفيلة بتيسير كل الظروف الملائمة للتربية الصحيحة وتذليل كل العقبات حتى يتمكن أبناؤها من الرقي المادي والروحي.. فهي في سعي دائب ليرقى ابنها في جسمه وصحته ويزداد علمه وماله ويتصف بمكارم الأخلاق والخصال السامقة. ويرقى في صفاء روحه إلى مرتبة الملائكة.وهكذا يعيش الإنسان في ظل العدالة والحرية نشيطا على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله لأن مناخ الحرية والعدالة يفجر الطاقات العديدة الكامنة في كل إنسان ويمكنه من إبراز فعاليته الإجتماعية وصناعة التاريخ وبناء المستقبل.
"وللحكومة البديل" بالإضافة إلى ذلك، مهمة التوسيع في الزراعة والصناعة والتجارة... كي لا تهلك الأمة بالحاجة لغيرها أو تضعف بالفقر، ومن هنا يشدد الكواكبي على أهمية الثروة العمومية خصوصا فيما يتعلق بدورها الحاسم في حفظ الإستقلال والقضاء على الفقر الذي يمثل رمزا للشر حتى قال الرسول صلى الله عليه و سلم ذات مرة " لو كان الفقر رجلا لقتلته ..لأنه رائد كل نحس. فمنه جهلنا ومنه فساد أخلاقنا".. كما تكتسي الثروة العمومية أهمية بالغة في المجتمعات الحديثة خاصة تلك التي تخوض صراعا ضد المستعمرين، إذ أصبحت الثروة العامة سلاحا رئيسيا في هذه الصراعات ولا يمكن كسب أي معركة بدون تأمين هذا "السلاح الفتاك".
وهكذا يصبح من أوكد مهمات الحكومة البديل تحرير البلاد من الإستعمار الداخلي المتمثل خاصة في الإستبداد السياسي والإجتماعي (البغي الاجتماعي) والإستعمار الخارجي والمتمثل في الهيمنة الغربية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة والمضي بالبلاد والعباد في طريق الرقي والإزدهار والقوة.
و الحاصل: نلاحظ أن الكواكبي قد أدرك مثلما أدرك معاصروه من رجال الإصلاح أن المجتمع العربي الإسلامي قد أصبح بحاجة أكيدة إلى تغيير جذري في هياكله السياسية والإجتماعية و الإقتصادية و الثقافية... وجاء هذا الوعي وهذا الإدراك نتيجة مباشرة لغزو بونابرت لمصر عام 1798م، واطلاع بعض المثقفين العرب على "فلسفة الأنوار" التي مهدت لثورة 1789م.
ولقد تميز الكواكبي بحرص شديد على ضرب المؤسسة السياسية واعتبرها رأس كل شر أصاب العرب بسبب الإستبداد الذي كان يمارسه الحكام على المحكومين منذ عصر الإنحطاط. لهذا نجده يكثف من هجمته العنيفة ونقده الحاد لهذه المؤسسة، ويطالب بإحداث حكومة ديمقراطية حتى تتمكن من رعاية مصالح العرب على أحسن وجه.
ولعله قد أفلح كثيرا في إقناعنا بفساد الإدارة التركية وبخطورة المؤسسة السياسية في التأثير على كل جانب من جوانب الحياة في المجتمع‘ وكنا ننتظر أن يقدم لنا المؤلف بديلا فكريا وحضاريا واضحا للمجتمع المستقبلي الذي ينشده، لكنه لم يفعل، واكتفى بطرح الأسئلة العامة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. بالإضافة إلى كونه لم يقدم لنا طريقة مقنعة وواضحة المعالم في كيفية تثوير المجتمع العربي الذي يرزح تحت كل مظاهر التخلف الحضاري نتيجة الإستبداد الذي يمارسه الساسة على الرعية..! ودفعه نحو النهضة الفكرية والحضارية التي ينشدها.
لقد طغت على المؤلف في بعض الأحيان، مفاهيم ومصطلحات هي من مخلفات عهود الإنحطاط في التاريخ العربي- الإسلامي، فحدّت كثيرا من حرية تفكيره واستنباط الحلول الملائمة لمشكلات المجتمع المتنوعة، كمفهوم "أهل الحل والعقد" و"أشراف الأمة" الذين يقررون مصير الناس في جميع مناحي الحياة. "والفتنة" بمعناها السلبي... وقد غاب عنه أن مثل هذه المفاهيم هي التي ساهمت بقسط كبير في تكريس الإستبداد السياسي والإنحطاط الحضاري والتخلف. ولعل مثل هذه المفاهيم المغلوطة هي التي زادت في إرباك رواد النهضة العربية وحدّت من فاعليتهم التاريخية في تغيير المجتمع وجعلت العرب يعيشون في حلقة مفرغة، ديدنهم "عود على بدء"، منذ "عصر النهضة" إلى اليوم.
فلئن افلح الكواكبي في صنع نسق سياسي – فكري حضاري، فإن هذا النسق الفكري بقي محدودا في نجاعته الحضارية وإحداث النهضة، بسبب الهيمنة الكبيرة التي بقي يمارسها التراث العربي الإسلامي على الحلول التي استنبطها الكواكبي في معالجة مشكلات المجتمع العربي بالإضافة إلى الهيمنة الحضارية التي أصبح يمارسها الفكر الغربي الحديث على بعض الحلول التي قدمها دون مراعاة خصوصية كل مجتمع ومتطلباته الحضارية.
فهل من سبيل إلى حداثة إسلامية جديدة تنقذ أمتنا العربية و الإسلامية من التخلف الحضاري و التبعية و الإستعمار و ترجع لها القدرة على الفعل التاريخي و التقدم الحضاري و قيادة مسيرة الشعوب نحو الخير و الأمن و السلام؟
مشروع بناء حضارة بديلة

الإسلام و تحديات الألفية الثالثة!؟
في أواخر القرن التّاسع عشر الميلادي كانت حركات الإستعمار الكبرى للعالم الإسلامي تركز قواعدها في الهند ومصر والجزائر وتونس والسودان... كحلقة أخيرة من حلقات تطويق العالم الإسلامي والإنقضاض على ثرواته و أراضيه و كل خيراته.. ونهبها..! وكان قد مهّد لإستعمار بلاد الإسلام بغزو حضاري و ثقافي نشيط، ابتدأه وألهب شرارته الأولى في ديار الإسلام ما يسمون عندنا « بزعماء الإصلاح العرب»!؟ وهكذا تراجعت الرّابطة الإسلامية كشكل من أشكال البناء السّياسي القائم .. أمام ضربات الإستعمار الموجعة .. وقد توّج ذلك بسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1924م على يد كمال أتاتورك..
لقد تمزقت الرابطة الإسلامية - التي وحدت المسلمين سياسيا و جغرافيا لقرون عديدة- خلال القرن العشرين وتنازعت الدّول الإستعمارية الكبرى ميراث الإسلام وثرواته و أراضيه ... وسيطرت على أضخم قواعده وقدراته .. واندفعت الحركة الصّهيونية العالميّة بدعم مباشر من الإستعمار الغربي ..!! تسيطر على فلسطين وتجعل من احتلال بريطانيا للقدس مقدمة لسيطرتها عليها بعد خمسين عاما...!!
ولقد قاوم "ورثة الإسلام" في معارك حاسمة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي في أفغانستان والقرم ومصر وسورية والجزائر والعراق وباكستان .. وحققوا بعض الإنتصارات.. وتحرّرت ديار الإسلام من نفوذ الإستعمار العسكري الغربي المباشر وانبعثت من قلبه « حركة تحرّرية و تنويرية » بعد طول سبات.
غير أن حركة التـّنوير والتـّحرر الفكري / الحضاري لم تلبث أن واجهت عقبات كأداء في العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية هذا القرن الجديد، فقد تحالف الإستعمار الغربي و الإستكبار العالمي والصّهيونية و أزلامهم.. من أجل ضرب حركة التـّنوير والتـّحرّر الإسلامية ودفعها دفعا للإنحراف عن ثوابتها الإسلامية و بصائرها القرآنيّة الأزلية المنزلة على محمد صلى الله عليه و سلم.." لتحرير البشرية من عبادة العباد لعبادة رب العباد و فك أسرها من الظلم و الطواغيت و الأغلال المختلفة...!؟.." ومن ثم فانّ أخطر التحدّيات التي تواجه "ورثة الأنبياء " - عليهم السلام - في السّنوات الأخيرة تتمثل أساسا في الحفاظ و الإستمساك الواعي بالهوية الإسلاميّة والثوابت القرآنية وحماية الهوية الثقافية والحضارية للشعوب الإسلامية، وتطوير هياكلها وتحرير الفكر الإسلامي من الجمود و التقليد والعمى الفكري/الحضاري و فكر الدروشة..! ومن الأخطار الفكرية الشاذة والمفاهيم الثقافية المغلوطة و المنحرفة عن هداية الله و بصائره الأزلية و قوانينه الأبدية المنظمة للأسرة و المجتمع و الحياة عامة.. ورعاية شؤون المسلمين في العصر الحديث طبقا للثوابت الإسلامية.. داخل أرض الإسلام و خارجها ..! و تحصين﴿ أمة الإسلام ﴾ ضد المخاطر الثقافية والحضارية التي تلقى إليها عن طريق وسائل الإعلام والإتصال المختلفة.. وعبر التبشير.. والإستشراق المنحاز لضلالات رجال الدين اليهودي و المسيحي .. و ضد الشعوبية المتطرفة.. والقوميات المتعصبة.. وهي آليات و مفاهيم منحرفة تلتقي جميعا على هدف : إذابة الهوية الحضارية و التشكيك في الثوابت الإلاهية لأمتنا الإسلامية.. بدعوى "الحداثة" و"العولمة" و"العلمانية" و" اللائكية " و الإجتهاد و مواكبة العصر..! و غيرها من بدع جاهلية الإنسان الغربي الحديث و حيوانيته و تخلف الإنسان العربي / المسلم و تبعيته و انهزامه الحضاري و انبتاته عن ثوابته القيمية الإسلامية و هجره للقرآن منذ أمد بعيد!!؟... وهي دعاوي وإن اختلفت مسمياتها وتنوعت مصادرها و اختلفت.. إلا أنّها تتّـفق على أن يترك المسلمون ثوابت دينهم الإسلامي ومفاهيم قرآنهم وقوانينه الأزلية المطابقة لحقائق الكون والحياة والإنسان و فطرته التي فطره الله عليها منذ خلقه للكون .. واستبدالها بفلسفات مريضة وتيّارات جانحة منحرفة من الفكر والثقافة والإعتقاد ونظرة خاطئة لحقيقة الألوهية والقدر و تأويل خاطئ للنصوص المقدسة ﴿ التوراة والإنجيل والقرآن ﴾ حتى يسهل للغرب الإستعماري و الإستكبار العالمي وأزلامهما من الأقوام التبع و ورثته من بني جلدتنا بعد ذلك السّيطرة على شعوبنا الإسلامية و استغلالها و إذلالها فكريا و حضاريا و سياسيا .. ونهب ثرواتنا .. واستغلال شعوبنا وتركيعها لسيادة الغرب الموهومة و ربوبيته المزعومة للعالم وإخضاعها لأطروحاته المعادية لكل مصالحنا و كل مصالح الشعوب المستضعفة..!!؟ هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهه المسلمون/ "ورثة القرآن" في بداية هذا القرن 21 !؟ فالقضاء على أصالة هذه الأمة وكيانها الفكري والروحي و الحضاري .. هو مقدمة الغرب ألإستكباري/ الإستعماري لتحقيق مآربه ومآرب الصهيونية اللقيطة في الإستيلاء على ما تبقى من أرض الإسلام وخيرات أراضيه الممتدة شرقا وغربا !!؟
إنّ كلّ هؤلاء "الأعداء" لا يخفون عداءهم لحملة﴿ الرّاية الإسلامية﴾: الذين اختاروا طريق الأنبياء والصّالحين للسير على منهجهم و الإنتصار للحق وإعلاء كلمة الله والتّمكين لشريعته الأزلية التي فطر الناس عليها في الأرض..ومن ثََََم: تحقيق الأمن و الإستقرار لشعوبنا الإسلامية و لكافة شعوب الأرض.. و تحقيق وحدة المسلمين و عزتهم تحت راية القرآن و كلماته الأزلية المعجزة لأنها كلمات﴿ الله العزيز الخبير﴾.. وهذا العداء للإسلام و أهله تتفق عليه مختلف مؤسسات هؤلاء الأعداء : الثقافية والسّياسيّة والعسكريّة وغيرها ‘وورثتهم و أتباعهم في ديارنا الإسلامية، وخلاصة ما يسعى إليه الغرب الإستعماري/ ألإستكباري بمعية الصّهيونية العالميّــة اللقيطة و أزلامهما من بني جلدتنا ..: هو التدجين ومن ثم الإحتواء و الهيمنة..! ولعل أبرز التّحديات التي واجهت الشعوب الإسلامية لتدجينهم و من ثم احتوائهم والهيمنة عليهم عن طريق العملاء و التبع تتمثل في تحريف مفاهيم الإسلام وتشويهها أو تأويلها وإخراجها عن طابعها المتكامل الجامع بين الدنيا والآخرة : متّهمين شريعته بأنها سبب تخلف المسلمين و تقهقرهم الحضاري..!؟؟ و قد نادى هؤلاء الأعداء جميعا باستبعاد مبادئه الأزلية الحقة وعزلها عن الحياة..!!؟؟ ودعوا إلى "اللائكية" و"العلمانية" بديلا عنه!؟ كما استغلوا جهل العامة والخاصة في ديارنا و غفلتهم عن أهمية الشريعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية في الحفاظ على مكتسبات الأمة المسلمة وحماية النفس البشرية والكيان الاجتماعي من السقوط والإنهيار‘ ونادوا بالتحلل منها واستبدالها بقوانين الغرب وشريعته - والتي حولت العالم كما حولت مجتمعاته الغربية نفسها .. إلى غابة وحوش ضارية يأكل القوي فيه الضعيف كما هو مشاهد اليوم!؟- رغم عدم انسجام هذه القوانين و التشريعات الوضعية مع خصوصيتنا الحضارية وقيمنا الثقافية ومفاهيمنا الإسلامية و قناعات شعوبنا الإسلامية ومعاييرها الإلاهية ..!؟
ثم امتدت دعوة التغريب و الإنبتات .. فزيفت المفاهيم وحرفت الكلم عن مواضعه وشوهت المبادئ التي أقامت الحضارة الإسلامية وأوصلتها إلى أقاصي الأرض واستمد منها المسلمون القوة على الصمود والقدرة على الفعل وبناء القوة والعزة والحضارة ووراثة الأرض وامتلاك ناصية الأمم و الشعوب لردح طويل من الزمن.. وأهلتهم لأن يكونوا :﴿ خير امة أخرجت للناس﴾..!
ويمكن حوصلة الهجمة الغربية – الصهيونية و أتباعهما على الإسلام في النقاط التالية:
محاربة الإسلام عن طريق نخبه المتغربة/المنبتة عن هوية أمتنا الإسلامية..: بنظريات زائفة كالتي تزعم "أن الدين ليس سوى الإنعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي": ( نظرية كارل ماركس/ ماركس محق إذا كان يقصد الدين اليهودي و الدين المسيحي المحرف و ليس دين التوحيد لموسى و عيسى و محمد عليهم السلام المفصل في التوراة و الإنجيل و القرآن) المنزل﴿ من لدن عزيز حكيم﴾..!
كما شكلت مصنفات ما يسمون "بفلاسفة الأنوار" في القرن الثامن عشر ميلادي أرضية خصبة لمحاربة الدين عامة والفكر الإسلامي خاصة، من بعد ما تبنته نخبة هامة من "زعماء الإصلاح" في البلاد الإسلامية !!!؟- كما سبق و بينا خلال دراستنا لفكر عبد الرحمان الكواكبي - ، ولم يع هؤلاء –"الزعماء"- أنهم كانوا يحفرون مقابرهم و مقابر حضارتهم الإسلامية بأيديهم!؟.
محاربة القيم والمبادئ والثوابت الإسلامية و اليهودية و المسيحية المشتركة وكل القيم الإنسانية النبيلة التي تنسجم مع فطرة الإنسان السوي، بدعوى أنها قيم نسبية ومتغيرة، ومرتبطة بالبيئات والعصور وتختلف باختلاف الحضارات!!؟ (التطبيقات البشرية للقيم الإلهية هي عملية نسبية لكن القيم و المعايير الإلاهية مطلقة و أزلية و صالحة لكل زمان و مكان ).
الدعوة إلى هدم الأسرة باعتبارها من مخلفات المجتمعات الإقطاعية وعصور الإنحطاط !!؟ والتشجيع على العلاقات المنحرفة و الشاذة كاللواط والسحاق-العلاقات المثلية- والإجهاض ... كحل للمشكلات الأسرية و الإجتماعية وهي دعوة شيطانية لتغيير خلق الله و فطرته التي فطر الناس عليها.. و بسبب ذلك تحولت حياة الناس شرقا و غربا إلى جحيم لا يطاق و فقد الرجل و المرأة دورهما الطبيعي المحدد لهما في الحياة.. فاستشرت الأمراض المزمنة نتيجة لذلك وانتشرت السيدا و العجز الجنسي و الأمراض العصبية والذهانية و غيرها انتشارا مرعبا بين الناس كما نلاحظ اليوم بل طالت الأمراض المرعبة حتى الحيوانات بسبب فساد الإنسان و سوء تقديره لعواقب تغيير خلق الله :(جنون البقر و أنفلونزا الطيور )...!!؟
الدعوة إلى قيام العلاقات البشرية على أساس المصالح المادية والعرقية والإثنية وإثارة العصبيات الطائفية والعرقية كما يروج الأمريكان و أزلامهم في العراق منذ احتلاله عام 2003..!!؟ ﴿هذه الدعوة تتناقض حتى مع دعوتهم للديمقراطية و دولة القانون ! لان القانون لا يفرق بين الناس عند تطبيقه : إنهم عميان البصيرة كالأنعام لا يعقلون بل هم أضل !؟
إيجاد الأحزاب السياسية – علمانية و إسلامية - التي تتبنى مفاهيم الغرب و معاييره المزدوجة في ديارنا و رعايتها ماديا و لوجستيا..!!
محاربة اللغة العربية الفصحى، لغة الإسلام الأولى ولغة القرآن الكريم/ الكتاب الذي تحدى الجن و الإنس على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.. لإدراكهم الإرتباط الوثيق بين اللغة العربية والدين الإسلامي ومجد ووحدة المسلمين، وقد عملوا جاهدين على ترويج الدعاوى التي تتهم اللغة العربية الفصحى بالعقم والبداوة وألقوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين ورفعوا شعار: « من أراد التقدم والرقي فلا يتكلم اللغة العربية »! زاعمين بعدم استجابة اللغة العربية الفصحى للحضارة الحديثة وأنها لا تستوعبها وهي عسيرة على من يتعلمها ؟! متعامين بذلك عن أن توقف اللغة العربية الفصحى عن الإشعاع الحضاري الذي بلغته من قبل مرده تخلفنا الحضاري و ليس عجز اللغة أو تخلفها..!؟
اعتماد مناهج تربوية من قبل الحكومات "العربية و الإسلامية" بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي في تربية الإنسان المسلم المثبت من الله ﴿ بالقول الثابت﴾ و القوانين الأزلية و التنويرية في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والمستضيء بنور الله و بصائره التي لا تخبو أبدا﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ﴾.
خلق مفهوم صراع الأجيال حتى يسهل بعد ذلك دفع الشباب إلى الإنهيار والتمزق في ظل فراغ نفسي وفكري وثقافي وعطش روحي و دفعه للإنحراف و الشذوذ و تقديس الجنس و المخدرات و الإعتقاد الخاطئ في عبثية الحياة..!!؟
وقد تخفى هؤلاء المستكبرون عميان البصيرة !!؟.. وراء مذاهب ونظريات منحرفة مغرضة أثبت العلماء المحايدون جهالتها و تفاهتها و تضاربها مع حقائق الوجود وعدم ارتكازها على حقائق علمية ثابتة وانبناؤها على الظن والتخمين .. وليس لها أية صلة بالواقع البشري و حقائق العلم و المعرفة، بل وقدرة هذه النظريات الفائقة على تخريب عقول الناشئة وصنع "الرجال الجوف " حسب تعبير أحد شعرائهم!!؟
كل هذه الوقائع قد ساهمت بدورها في تبعية مجتمعاتنا الإسلامية و تأبيد تخلفها حتى بدا للعيان أن شفاءها قد صار متعذرا..؟!
إن مجابهة كل هذه التحديات الخطيرة وغيرها على مستقبل أمتنا الإسلامية: تبدأ بتجديد الثقافة الإسلامية التصحيحية المبنية على الثوابت الإلهية الحقة... مستمسكين بثوابتنا القيمية والحضارية ومفاهيمنا الإسلامية المبثوثة في ثنايا "الذكر الحكيم" و الذي اتخذه المسلمون﴿مهجورا﴾ منذ أمد بعيد..! إنطلاقا من إدراكنا ووعينا بنسبية الحضارة البشرية و نسبية فهم الأجداد و الآباء للثوابت القرآنية و المعايير الإلاهية و الموازين الربانية كل حسب أزمنتهم و أمكنتهم و أطرهم التاريخية و الحضارية، إذ لا يعقل بداهة أن نجابه مفاهيم الزيف الحداثي والعولمة و هذا الضياع لكل شعوب العالم بسبب القوانين الوضعية التي أهوت بنا جميعا في مكان سحيق من الفقر و البطالة و الأمراض المزمنة .. وكل منجزات الحضارة المعاصرة و ما بلغته من تقنيات غاية في التطور و التقدم .. لا يعقل أن ننظر إليها بأعين أموات منذ قرون خلت أو بمفاهيم عصور الإنحطاط في تاريخنا الإسلامي أو بمفاهيم حضارتنا الإسلامية القديمة..أو بمفاهيم الغزالي وابن تيمية وابن رشد و غيرهم!؟ و الذين عاشوا في زمن غير زمننا و في واقع حضاري و اجتماعي معيش غير واقعنا في العصر الحديث .. ودون أن نطور مفاهيمنا – مرتكزين على بصائرنا القرآنية ومعطياتنا الحضارية الراهنة – ونصحح ما تآكل منها بمفعول الزمن و تقدم الحضارة البشرية .. ونجعلها تأخذ بالألباب كما أخذت بألباب رجال الجاهلية الأولى.. لارتكازها على الحق والنور الإلهي و ثوابته الأزلية و قوانينه السرمدية التي كلّفنا – نحن أمة الإسلام وورثة الأنبياء - بالإستمساك بها و تبشير العالم برحمتها... حتى نكون شهداء على الناس كافة و نقود مسيرتهم و مسيرة شعوبنا الإسلامية نحو التقدم و النما و الخير و الرحمة و الجمال.. في الحياة الدنيا و في الآخرة... فنغنم و يغنموا.. و نسعد و يسعدوا.. بعدما أرهقتهم و أرهقتنا القوانين الوضعية الظالمة و الحضارة الغربية المتداعية للسقوط!!!؟

في مفهوم الثقافة الإسلامية
اشتقت كلمة الثقافة من ثقف يثقف، وثقف العود بمعنى سواه وهذبه وبذلك يصبح معنى كلمة ثقافة كل ما من شانه تهذيب سلوك البشر والرقي به من حالة الحيوانية إلى مدارج الإنسانية الفاضلة.. إن الثقافة لها أهمية قصوى لدى الكائن البشري‘ فهي لا تخرج عن كونها تهذيب لخصائص الإنسان الطبيعية، وتشذيب لخصاله المتوحشة، وتغيير لما جبلته عليه فطرته الحيوانية تغييرا يستوي بالتدريج هوية ثقافية.. وإذ تعلو الثقافة بالكائن البشري عن منازل التوحش، فإنها تكسبه خصائص جديدة يؤصلها فيه تراكمها وتصاعدها، فتغير لديه جوهره الطبيعي الغريزي المتوحش، ويكون التغيير تهذيبا وتشذيبا من جهة وتعديلا وتبديلا من جهة أخرى. فالثقافة تهذب، على سبيل الذكر، غريزة التناسل وحب البقاء، فتنقلها بالتشذيب والتثقيف من طور التوحش الغريزي إلى طور الثقافة المكتسبة التي تقيدها بمؤسسة الزواج مثلا و قوانينه المعلومة، وتحسنها باختلاجات الوجدان وصنائع العقل...
كما تعكس الثقافة ـ بمفهومها الأنتروبولوجي ـ خصوصية المجتمع والقيم التي يتبناها والمفاهيم التي ينظر من خلالها إلى الحياة والكيفية التي يتعامل بها الفرد مع نفسه ومع بقية الأطراف الإجتماعية.. كما تعكس مواقف تلك المجموعة البشرية من الكون والحياة والعالم وما بلغوه من ارتفاع فكري ورقي حضاري ونماء ذوقي.. وازدهار الثقافة أو تطورها متوقف إلي حد كبير علي ما يسود بين أفراد المجتمع وجماعاته من حوار بناء وتنافس نزيه في مختلف ميادين الحياة ودروبها ومشكلاتها، بما يعنيه من تنوع في وجهات النظر وترك الفرصة أمام جميع الفرقاء ليدلي كل واحد بدلوه دون إقصاء. وهذا لن يحدث ما لم يلتزم كل صاحب رأي بأدب النقاش والإختلاف، جاعلا نصب عينيه أن غايته من بذل الجهد الفكري هو تقدم بلاد الإسلام وعزتها وتحصينها ضد كل الأدواء التي يمكن أن تعرضها للخطر، عندها، يصبح اختلافنا رحمة تنشر ظلالها الوارفة وثمارها اليانعة علي الجميع فنختار الرأي الأصوب والأقرب لمصلحتنا حاضرا ومستقبلا، مـتـعـاونين ومتحفزين دوما إلي ما هو خير وأحسن، ونرتقي في جو من التسامح والتعاون والتكامل.
لقد احتاجت الأمم الناهضة دائما إلى بلورة فكرية- ثقافية في شخصيتها وقيمها ومعاييرها.. اذ لكل شعب من شعوب الدنيا معاييره المميزة و سماته وشخصيته المتفردة. ومهمة المفكر أو المصلح في أية امة من الأمم هي البحث عن هذه السمات والخصائص بغية اكتشاف ما فيها من عناصر أصيلة لتقريبها واخذ الصالح منها. وما يمكن أن يكون فيها من شوائب دخيلة ومن ثم يعمل عل حذفها واستبعادها. وهي مهمة صعبة وعسيرة وتحتاج إلى كثير من الإرادة والمسؤولية.. وإذا ما أردنا النهوض من كبوتنا الحضارية فلا بد لنا أن نجعل من الثقافة الإسلامية والثوابت الإلاهية ركيزة أساسية من ركائز التغيير ودعامة صلبة للمجتمع المدني الذي ننشده وحافزا لكل نهضة وإبداع حضاري.. فلا تقدم ولا تطور لمجتمع بشري بدون ثقافة ناضجة ومتحفزة لاختراق الآفاق واعتلاء أعلى القمم.. تستنفر كافة قوى الإنسان وطاقاته وقدراته على البذل والعطاء والمشاركة الفعالة في تحريك هياكل المجتمع والمساهمة في بناء لبناته وتأسيس كيانه ونحت ملامحه..
إن كل مجتمع ينشد الرقي والإزدهار لا بد له من ثقافة مميزة يتخذها ركيزة ودعامة صلبة للإنطلاق والإقلاع الحضاري وإلا فانه سيضيع في متاهات الطريق. ويفقد توازنه على الفعل وتحبط أعماله ومجهودا ته وينتكس إلى الوراء.
فما هي أبرز الخصائص التي نريدها لثقافتنا...؟ وما هي حدودها...؟
إن الثقافة التي نريد، لها مواصفات وقرائن وهي تلك التي لها القدرة الكاملة علي تلبية حاجياتنا العضوية والغرائزية، وتتوفر علي قدر من الإنسجام مع شخصيتنا الحضارية والعقائدية والمفاهيم القرآنية ومعاييرنا الإسلامية وتستجيب لطموحاتنا الفكرية والروحية بحيث تصل بالفرد والمجموعة إلى الإنسجام والتوازن المادي والمعنوي، وتحفزهم لبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا ومواجهة تحديات:« الأخر/ العدو» على كافة الأصعدة: الثقافية والسياسية والإقتصادية والعسكرية.. ولا قيمة لثقافة تطلب من الإنسان أن يعيش مسكينا ومحروما من ملذات الدنيا وطيباتها التي أحلها الله لعباده:« قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ».. ولا قيمة لثقافة تكبت غرائز الإنسان الطبيعية أو تطلب منه تأجيل تلبيتها إلى وقت يصل فيه إلى حافة القبر.. أو تعطل طاقاته ومواهبه أو تحد من طموحه ورنوه إلى أعلى القمم.. كما نرفض ثقافة تطمس شخصيتنا وتميزنا، وتسعى إلي دمجنا وصهرنا إلي حد الذوبان في «الأخر/ العدو» لتحيلنا في النهاية إلي إذناب ليس لهم حول ولا قوة.
ويمكننا أن نجمل مرتكزات الثقافة الإسلامية التي نريد في النقاط التالية:
الإيمان بالله خالق و رب وحيد للكون والإنسان والحياة ‘ الجدير بالطاعة والخضوع وإتباع أوامره..(اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق.) (سورة العلق الآية 1و2).
القرآن الكريم الكتاب الوحيد الذي يحتوي على الحقائق الأزلية و القوانين السرمدية المتطابقة مع الواقع في الكون والإنسان والحياة والمجتمع والمتماهية مع فطرة الخلق الصحيحة التي فطر الله الكون عليها منذ الخلق الأول للحياة.. كما أنه من خلق الله الذي خلق كل شيء.. لذلك فهو معجز عن الإتيان بمثله: إذ الخلق كلهم﴿ الإنس و الجن و الملائكة..﴾ عاجزون عن الخلق بداهة .. وهو الكتاب الوحيد الذي يستمد منه المسلم في أي زمان و أي مكان كافة معاييره وموازينه لجميع سلوكيات البشر و كافة مفاهيمه لمختلف ميادين الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، داخليا وخارجيا.. لأنه من عند الله العزيز الحكيم : « ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ».
لا بد من العودة إلى التأسي والإقتباس من المرحلة التاريخية التي تم فيها ميلاد المجتمع الإسلامي الأول، فلهذه الفترة قدسيتها وعصمتها لأن رعاية الله كانت مستمرة، وتسديد الوحي كان مرافقا لكل خطوة وخلجة نفس، وهذا لن يتأتى لأية مرحلة تاريخية أخرى من حياة الأمة المسلمة. فالسيرة النبوية تشكل بالنسبة لنا أنموذج الإقتداء الوحيد الذي يجب أن يحتذى والمعالم ووسائل الإيضاح العملي لآيات القرآن المجيد للإهتداء على ضوئها والسير طبقا لتعاليمها، إن تلك القدسية لا يمكن أن تكون لأية فترة ماضية أو حاضرة أو مستقبلة..
بناء الإنسان المؤمن بالله الذي يستلهم في علاقاته بالكون والإنسان والحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية الثوابت القرآنية ويستمد منها مفاهيمه وإن تلك الثوابت هي حقائق أزلية قد سارت على هداها كل المجتمعاتالقدوة في الصلاح والتطور وقيادة الشعوب من لدن نوح عليه السلام.. إلى محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم قدوة جميع المؤمنين في العالم. فالسيرة النبوية تشكل لنا أنموذج الإقتداء الوحيد الذي يجب أن يحتذى والمعالم ووسائل الإيضاح لآيات القرآن المجيد-المكي والمدني- للإهتداء على ضوئها والسير طبقا لتعاليمها.فهي المعين الذي يمد المسلمين في العصر الحديث بدروس العبر وضوابط النصر والظفر. يقول الله عز وجل: « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...» (سورة الشورى الآية 13).
هناك صنفان من البشر لا ثالث لهما في الثقافة الإسلامية والمفهوم القرآني:مؤمن وكافر. مؤمن متبع لهدى الله قد اختار أن يتخذ من الله ربا ومن الإسلام دينا يخضع لشريعته و لكل معايير القرآن بملء إرادته. وكافر معرض عن ذكر الله وآياته قد اتخذ أربابا أخرى من دون الله. فمنذ هبوط آدم إلى الأرض خاطبه ربه قائلا: « فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا...» (سورة طه الآيات 123- 124).
هذه حدود ومرتكزات للثقافة التي ننشدها لا بد من استحضارها دائما ونحن نرنو إلى مستقبل أفضل، جاعلين نصب أعيننا انتمائنا الحضاري إلى" خير امة أخرجت للناس" وقد أنزل الله عليها القرآن لتكون رحمة للعالمين. وشاهدة عليهم و قائدة لمسيرتهم دنيا وآخرة.
نحو بناء حضارة إسلامية بديلة!
« زمن الإنحطاط العربي » مقولة مختصرة لكنها معبرة، تعبر عن المرارة التي أضحى يشعر بها المفكر في البلاد الإسلامية وهو يرى أن الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والسياسية و غيرها... تزداد سوءا وانتكاسا على مر الأيام...!!
يحدث كل هذا بعد أن شهدت البلاد العربية والإسلامية جمعا من المصلحين والمفكرين الذين تخصصوا في شتى المجالات الحياتية .
إن هذا الوضع الذي آلت إليه حالنا يحتم علينا أن نطرح السؤال التالي: ما هي الأسباب الكامنة وراء فشل البرامج الإصلاحية في إحداث النهضة التي أخذت تظهر في البلاد الإسلامية منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي! ؟
I. أسباب الفشل:
إن المتتبع لمؤلفات "زعماء الإصلاح" في بلادنا الإسلامية يلاحظ أن الإنبهار بما حققته الحضارة الغربية كان عظيما في نفوسهم والإنشداد إلى النمط الغربي في الحياة واضحـا وجلـيا . وهذا الإنبهار بمنجزات الغرب و حضارته و ثقافته.. جعلهم يتخذونه قدوة ومثالا، فكان النمط الغربي النهضوي حاضرا لدى جل هؤلاء الرواد . لذلك جاءت برامجهم الإصلاحية وتنظيراتهم تنقصها الدراسة العلمية المتأنية التي تراعى فيها الملابسات والظروف التي أدت بأمتهم الإسلامية إلى حالة من التخلف الحضاري و الإنحطاط الإجتماعي و الإستبداد السياسي...!
ولا عجب بعد ذلك أن نجد منهم من كان يدعو إلى « أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب» !؟ .
إن الصفة المشتركة التي جمعت "زعماء الإصلاح"هي:« افتقاد الشعور بالعزة بهويتهم الحضارية الإسلامية، والإنبهار الكلي بالغرب»! وهذا الإنبهار قد أعشى أبصارهم أن ترى الدّرب القويم والنهج السليم لنهضة أمتهم الإسلامية وبناء حضارة إسلامية جديدة ومتطورة تليق بخير امة أخرجت للناس والتي قد كلفها ربها بأن تكون شاهدة على الناس وقائدة لهم إن هي استمسكت بالنور الذي أنزله الله عليها – القرآن- والتاريخ:« يعلمنا انه ما من مدنية تستطيع أن تزدهر أو تظل على قيد الحياة إذا هي خسرت إعجابها بنفسها وصلتها بماضيها» .
II. عودة إلى التاريخ:
1- الإسلام:
أ- الإسلام ومرحلة بث "الفكرة الجديدة ":
جاء الإسلام معلنا منذ بداية نزول الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن بداية ظهور نظرة مغايرة لما هو سائد بين البشر ومفاهيم جديدة للكون والإنسان والحياة، تختلف جذريا عما تعلمه الإنسان من مصادر بشرية ومعلنا بوضوح مخالفته لسائر التصورات البشرية: ثقافتها ومعتقداتها أخلاقها ومعاملاتها، نظمها وتشريعاتها:﴿ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ (سورة العلق الآيات 3 و4 و5).. ليبرز بعد عملية الهدم للمنظومة القيمية العربية والبشرية عامة... شخصيته المستقلة بكل أبعادها: العقائدية والتشريعية ومختلف تصوراتها وطموحاتها على أنقاض الجاهلية=(كلّ مفاهيم الإنسان النسبية عن الكون والإنسان والحياة التي تخالف المعايير الإلاهية) والتي أعلن الحرب عليها منذ الوهلة الأولى : ﴿ كلاّ لا تطعه واسجد واقترب﴾ (سورة العلق الآية 19 وهي أول ما نزل من القرآن الكريم ). إن مراجعة بسيطة للنهج الذي اتبعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأنصاره من المؤمنين في إحداث التغييرات الحضارية التي هزت جزيرة العرب يلاحظ ما يلي:
- بداية نزول الوحي على الرّسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء وقد حمله ربه مسؤولية تبليغ الوحي و الإستمساك به بدءا بنفسه الضالة قبل نزول الوحي عليه ﴿ووجدك ضالا فهدى﴾ .. وإيصال ما ينزل إليه من قيم ومبادئ ومفاهيم جديدة عن الكون والإنسان والحياة والمجتمع .. إلى الناس كافة بدءا بالعشيرة الأقربين.
- الجهر بالدعوة الإسلامية وتحمل الأذى والصبر على تعنت الكفار وإجرامهم في حقه وحق أنصاره.. ووعده بالنصركما انتصر الأنبياء من قبله.. خضوعا لسنن الله الأزلية في الحياة.
- نزول ما سمي (بالقرآن المكي ويعد 86 سورة ) وهو في جملته آيات قصيرة تعالج قضايا التوحيد و الربوبية و الإيمان بالله و تذكّر بقوانينه الأزلية في الحياة و لزوم إتباعها و السير على هداها لتحقيق الفلاح.. وتحارب الشرك بالله بمختلف تشكلاته.. و تتحدى الجميع ( الإنس و الجن) أن يأتوا بسورة واحدة من مثله إن استطاعوا !!؟.. وتشير إلى مواطن الفساد في الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية و غيرها... وترد على بعض شبهات أهل الكتاب ومزاعم أهل مكة وتندد بتصرفات زعاماتهم المنحرفة وتصحح مفاهيم البشر عن الألوهية الحقة والربوبية الصحيحة والتي لا تجوز إلاّ لخالق الكون والإنسان والحياة .. العليم الخبير الذي يعلم غيب السّماوات والأرض علما مطلقا و شاملا.. على عكس علم البشر النسبي المحدود زمانا و مكانا و القاصر عن معرفة كل أسرار الكون و الحياة... فالقرآن المكّي كان يدعو إلـى – فكرة جديدة ومفاهيم مغايرة لمفاهيم البشر– لتحل محل الفكر والمفاهيم والمعتقدات الجاهلية في ذهن المتقبل حتى تؤثر في فكره ووجدانه و روحه تمهيدا للإنتقال به إلى مرحلة أخرى قادمة...!
- كان الرّسول صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه الذين آمنوا بدعوته للصّبر على الأذى والتنكيل الذي كانوا يتعرضون له على يد كفار ومشركي قريش .. وعدم الرد على الأذى و التنكيل والإضطهاد الذي كان يسلط عليهم..- بالعنف المادي أو المعنوي– رغم ما أبداه بعض الصحابة من استعداد للقيام بذلك...! ولما اشتد الإضطهاد على بعض الصحابة نصحهم عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى الحبشة .." لأن بها ملكا لا يظلم الناس عنده أبدا"!.. وقد استمر الرسول وأصحابه في الإستمساك بالمفاهيم الإلاهية الجديدة والإلتزام بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلة الكفار والمشركين وكل المناوئين ﴿بالتي هي أحسن﴾.. ولم يسجل لنا القرآن أو المؤرخون أن أحدا من الصحابة قد كون عصابة للرد على اضطهاد قريش أو العمل على" تحرير البيت الحرام" من أيدي كفار مكة ومشركيها..! بل كان سلاح المؤمنين الوحيد: الدعوة إلى الإسلام الحق والجهاد بآيات القرآن الكريم والتي تحمل المفاهيم الجديدة و الثابتة وإبلاغها إلى مسامع المشركين والصبر على آذاهم امتثالا لأوامر الله في القرآن المكي..والإستمساك بها قولا و عملا.. و عدم الركون إلى الكفار و المشركين أو مهادنتهم:﴿و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار﴾.!
- ثم جاءت حادثة الإسراء بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم لتتوج المرحلة المكية مرحلة الفكرة والمفاهيم الجديدة و المبهرة، وأهم ما يمكن استخلاصه من حادثة الإسراء هو التالي: بداية تلقي المسلمين لبعض العبادات كالصلاة وهي عبادات تستوجب توفر حد أدنى من الأمن للقيام بها وهو ما يعني حدوث نقلة نوعية كبيرة، لأن المرحلة المكية التي سبقت حادثة الإسراء تميزت بتركيز القرآن الكريم على المعتقدات الإسلامية والمبادئ الذهنية والمفاهيم الجديدة عن الكون والإنسان والحياة: الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والقيم الأخلاقية ومحاربة التمظهرات المتنوعة للكفر والشرك والتشهير بانحرافات زعامات قريش العقائدية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها.. وهذا يعني أن حادثة الإسراء كانت بمثابة التمهيد للإعلان عن انتقال المسلمين من مرحلة«الفكرة» إلى مرحلة« الدولة».
ب- الإسلام ومرحلة "بناء الدولة":
بعد حادثة الإسراء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وقد مهّد عليه الصلاة والسلام لهجرته وهجرة أصحابه و أنصاره عندما التقى ب"الأنصار" ( الأوس والخزرج) وأخذ منهم عهدا بحمايته وحماية أصحابه ونصرة الدين الذي بعثه الله به إلى ﴿الناس كافة﴾..! وكان قد سبقه بعض صحابته إلى المدينة لتوضيح الغامض من دعوته..!
- في المدينة أصبح للمسلمين أرض آمنة وقد امن جل أهلها بالرسالة الإسلامية وثروات متعدّدة وقوّة مادية استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بما اُوتيه من حكمة إلاهية وبصيرة قرآنية (حيث بدأ نزول القرآن المدني:المنظم لمختلف جوانب الحياة البشرية و المدنية) من أن ينشئ منهم مجتمعا مسلما يعتنق العقيدة الإسلامية ويحتكم إلى الشريعة الإسلامية في علاقات أفراده بعضهم ببعض وتنتظم علاقاته وفق التصور الإسلامي والمفاهيم الإسلامية في الأسرة والمجتمع وعلاقاته الداخلية والخارجية...!
- ولم يمر زمن طويل حتى أذن للذين أوذوا في سبيل الله و قوتلوا لأنهم قالوا: ﴿ربنا الله ﴾! بالقتال في سبيل الله واستعمال القوة و السلاح لاسترجاع حقوقهم المنتهبة من الكفار والمشركين وصد عدوانهم ومكرهم بالمستضعفين...!
- في مرحلة تالية بدأ المسلمون- بقيادة رسولهم عليه الصلاة والسلام- يفكرون في نشر الدعوة الإسلامية خارج حدود دولتهم الفتية، وبدأ الرسول/القائد السياسي والعسكري في بعث السرايا والجيوش إلى مختلف الأصقاع لفتحها ونشر الإسلام فيها حتى تعم رحمة الإسلام..﴿الناس كافة﴾.. استجابة لنداء ﴿القرآن الكريم ﴾.. إن الجيش الذي كونه الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم لحماية المجتمع الإسلامي و نشر الدعوة الإسلامية كان قوامه : مؤمنون قد باعوا أنفسهم وأموالهم لله رب العالمين مقابل الأمن في الحياة الدنيا والفوز بجنة عرضها السماوات والأرض : ﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ﴾ سورة التوبة الآية 111)...!
إن هذه المرحلية و التسلسل الزمني الذي اتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نشر الدعوة الإسلامية وإنشاء المجتمع المسلم والدولة الإسلامية ومن ثم بناء الحضارة الإسلامية.. رغم وضوحه في﴿ السيرة النبوية العملية ﴾ و القرآن الكريم فقد تغاضى عنه المسلمون(أحزابا و حكومات و مفكرين..) في العصر الحديث و تغافلوا عن حكمته.. فغابت عنهم المراحل و الأولويات مما أوقعهم في المحظورات وأبعدهم عن هداية الله و بصائره‘وصاروا يتخبطون خبطا عشواء وهووا في ظلمات بعضها فوق بعض!!؟
2- الرأسمالية الغربية:
لقد مثلت الحداثة الغربية في العصر الحديث– قطيعة تامة بين عهود الظلام السابقة التي كانوا يحيونها..! حيث سيطرت الكنيسة بجهالاتها وأغلالها الظالمة و المتحيزة على حياة المجتمع .. وبين ما سمي "بفلسفة الأنوار" التي نادت بتحرير الإنسان من سلطة الكنيسة وجبروتها وحرضته على امتلاك زمام أموره وكسر القيود التي فرضتها عليه عهود من الجهل والإنحطاط، فلقد استفاق الأوروبيون فوجدوا ركاما ضخما من التجارب والمعارف التي خلفتها حضارات عديدة بما فيها الحضارة الإسلامية، فأغراهم ذلك بالتمعن فيها بحثا عن السبيل الموصل إلى البناء الحضاري والتقدم والتحرر من جهالات رجال الدين عندهم و تخريفاتهم..! وما انفك هذا الشعور يتنامى في أوروبا منذ القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي خصوصا في فرنسا وايطاليا...!
وانتبه الغربيون بعد هيمنة طويلة فرضتها الكنيسة الكاثوليكية وإثر تزايد قهر الأباطرة، وصار بعض المفكرين يتحسسون طريق الخلاص من تبعات عصور الإنحطاط...! وكان لتضخم ممارسات الكنيسة الكاثوليكية ولإستفحال السياسة القهرية التي ينتهجها الأباطرة دور كبير في تصعيد الإستياء وتنمية رصيد الشعور الرافض بعد يقين عمقته الملاحظة بأن ممارسات "الإكليروس" ومقررات البابا فاقدة للمصداقية لأنّها تتضارب مع حقائق الوجود وتطلعات الإنسان نحو الإنعتاق و التحرر..‘ فهي تفرض وصايتها عليه باسم الدين!؟ وكان للجامعات أللاهوتية التي وقع بعثها في بعض أقطار أوروبا كالسربون مساهمات في المجال المعرفي وتأثيرات حتى في الكنيسة ذاتها .
إن فقدان الشّرعيات الدّينية مصداقيتها ليس فقط بالنّسبة إلى المثقفين.! بل وبالنسبة إلى الشرائح العريضة للمجتمعات الغربية بأسرها هو الذي ولد مفهوم "العلمانية" الداعي إلى تخليص قطاعات المجتمع والثقافة من سيطرة المؤسسات الدينية ونواميسها و مفاهيمها المحرفة للدين المسيحي..! وقد سعى مفكرو عصر الأنوار إلى تنوير الشّعب وتحريره من ظلم الكنيسة وجبروتها و تثويره ضد هيمنتها، فرفعوا في وجه الكنيسة التي كانت تبيع صكوك الغفران – "اللائكية"، وفي وجه رجال الدين واستغلالهم للشعب باسم الرب، رفعوا شعار:"الحرية والإخوة والمساواة"..إن إزاحة الغربيين لتأثيرات الكنيسة عن مجرى حياتهم نظرا لما أصبحت تمثله من عقبات كأداء في وجه تطور المجتمع واعتاقه من الجهل و التخلف ... أوجد لديهم الحافز الـقوي علـى البـحث والتنـقيب واستعمال عقولهم هم بدلا من عقول رجال الدين المحرفة للنصوص المقدسة..‘ واستنباط النـظم السياسية والإقتصادية والنظريات العلمية والمعرفية وغيرها.. بمعزل عن تأثيرات قرون من التخلف والجهل..! والذي ساهمت فيه بقسط وافر قناعات رجال الدين المسيحي الضالة عن وحي الله وكلماته النورانية الثابتة في:﴿ التوراة والإنجيل والقرآن﴾..
3- الماركسية:
عاش ماركس(1818-1883) ضمن المجتمع الرأسمالي، وعاين عن قرب أوضاع العمال المتردية، ذلك أن العامل رغم قيامه بالعمل والإنتاج إلا أنه لا يتمتع بثمار سواعده، حيث أصبحت الطبقة البرجوازية الرأسمالية هي المالكة " بل المغتصبة لما كان ينبغي أن يكون ملكا للعمال من وسائل الإنتاج "... يقول ماركس في معرض تحليله للأوضاع المتردية التي أفرزتها الطبقة البرجوازية والرأسمالية :« إن البرجوازية لم تكتف بصناعة الأسلحة التي سوف تؤدي إلى فنائها بل أنجبت الرجال الذين سوف يستعملون هذه الأسلحة – أعني بهم عمال العصر الحديث - الذين يؤلفون البروليتاريا..‘ وكلما ازدادت قوة البرجوازية أي رأس المال ازداد نمو البروليتاريا، تلك الطبقة التي تضم العمال الذين لا تتوفر لهم أسباب العيش إلاّ إذا وجدوا عملا، ولا يحصلون عليه إلا إذا كان هذا العمل منميا لرأس المال...فهؤلاء العمال الذين يضطرون إلى عرض أنفسهم للبيع يوميا هم معرضون نتيجة لذلك إلى كل تقلبات المنافسة التي تعتري السوق... لقد صار العامل فقيرا وتفاقم الفقر بسرعة تفوق سرعة نمو السكان وتراكم الثـّروات... فمن البين إذن أن البرجوازية لم يعد في إمكانها القيام لمدة طويلة بدور الطبقة المسيرة .
تكشف لنا هذه الوثيقة عن وعي "ماركس" بالظلم والحيف الإجتماعي الذي يعاني
منه العمال في مجتمع تسوده الأنانية والإستغلال وانتهاج كافة السبل للإثراء ولو على حساب فقر الملايين من العمال..!!؟ لا تهمنا هنا تحليلات ماركس وتنبؤاته الخاطئة فذاك أمر آخر! ما يهمنا هنا هو الموقف والبديل الفكري والسلوك الحضاري الذي انتهجه تجاه واقع معين...! تبنى ماركس إذن هموم العمال ومشاكلهم، وسعى إلى إنشاء منظومة فكرية بديلة: تمثلت في نظريته " المادية التاريخية" ذلك أنها تقوم على مبدأين أساسيين: هما "المادية المنطقية" و"المادية التاريخية".. ذلك أنها تنظر إلى المادة على أنها أساس كل أمر في الحياة، وأن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط .يقول ماركس موضحا ذلك: « إن الأفكار لا يبتدعها دماغ الإنسان...‘ وهذا الدماغ ليس إلا مادة دقيقة التركيب وهو جزء من الجسم يعكس مؤثرات العالم الخارجي » .
شنّ ماركس وأتباعه حملة منظمة ضد النظام الرأسمالي وكل مبادئه وقيمه و معاييره.. طارحين بدائل فكرية أخرى وقيما و معايير جديدة، ومبشرين بإيجاد جنة أرضية يحكمها الكادحون والعمال والفقراء..!؟ ففي جريدة "البرافدا" ركز لينين حملاته تحت شعار: « كل السلطة للسفيات " " الأرض للفلاحين"... "الخبز للجائعين"... وفي أكتوبر سنة 1917 قامت الثورة البلشفية، الثورة التي أنبنى على أساسها ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي في العصر الحديث..!
بعد هذا الإستقراء التاريخي السريع لثلاث حضارات/ثقافات مختلفات.. نعود لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل هناك شروط معينة لإقامة حضارة إنسانية ؟ و إن كان الأمر كذلك فما هي هذه السنن والقوانين و الشروط المشتركة التي تتحكم في إنشاء الحضارات الإنسانية و تأسيسها ؟
III. سنن بناء الحضارات الإنسانية:
إن استقراءنا للحضارة الإسلامية والحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والماركسي مكننا من معرفة القواسم المشتركة بين هذه الحضارات ومن بلورة السنن والقوانين والشروط الموضوعية التي تتحكم في إقامة الحضارات الإنسانية وهي كالتالي :
1- فكرة إنسانية سامية:
وهذه الفكرة يمكن أن تكون دينا سماويا أو أدلوجة بشرية أو منظومة إقتصادية أو سياسية أو إجتماعية... تحمل في طياتها صفة العالمية واستطاع مفكرو الشعب أن يقنعوه بان فكرته التي يتبناها هي أسمى فكرة على الإطلاق – في الحقبة التاريخية التي يحياها- وأن هذه الفكرة لا تحمل سعادته هو فقط بل مرشحة لإنقاذ البشرية كافة، وتستحق هذه الفكرة أن يضحي الشعب من أجلها ويغامر حتى تتجسد على أرض الواقع، ثم نقلها إلى بقية شعوب العالم لتستفيد منها وتخرجها "من الظلمات إلى النور" ومن الإستغلال إلى التمتع بخيرات الحياة وطيباتها... ومن الجور والظلم إلى العدل و الحرية والمساواة... ومن ظلمات القرون الخالية إلى نور الحياة ورفاهيتها ...إن أي برنامج إصلاحي أو منظومة فكرية عاجزة عن تحقيق النهضة المنشودة في الشعوب المستهدفة.. إن لم تكن تحمل في طياتها هذه السمة، وعجزت عن إقناع الشعب الذي يتبناها بسموها وتفوقها على كل الأفكار والمنظومات الأخرى.

2 - تقزيم الخصم والحط من فكره وقيمه .
وهذا القانون/الثابت الثاني هو تكملة للقانون الأول في شروط إقامة الحضارات الإنسانية.. إن "تقزيم الخصم" والحط من قيمة منظومته الفكرية عملية تأتي مواصلة للعملية الأولى وهدفها الوصول بالشعب المراد إنهاضه إلى مرحلة الشعور بالعزة و"الأناقة" وهذا الشعور يأتي كنتيجة حتمية لاعتقاد هذا الشعب و إيمانه الراسخ بسمو فكرته ومعتقداته ومنظومة القيم والمعايير و الموازين التي تحكمه والتي تفوق في سموّها جميع القيم والمعتقدات و المعايير الأخرى، بل قد لا يعطي هذه المفاهيم و المعايير المنافسة أهمية البتة ما دام يمتلك من القيم و المعايير ما هو أسمى و أرقى..! وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى تماسك الأفكار التي يتبناها وصدقها وتطابقها مع الواقع وقدرتها على الإقناع ومدى اعتقاده فيها وحنكة مفكريه وقدرتهم على تشويه الخصم وأفكاره ومعتقداته..!!
نخلص إلى القول بأنّه متى توفرت لدى أي شعب من شعوب الدنيا منظومة فكرية تحتوي على أفكار سامية واقتنع هذا الشعب بأنها أعظم الأفكار على الإطلاق في تلك الفترة من الزمن واقتنع بوجوب نشرها والتضحية في سبيل إيصالها إلى الشعوب الأخرى...عندها يبدأ ذلك الشعب بصفة تلقائية يسير رويدا .. رويدا نحو النهضة ومن ثم تكوين حضارة متفوقة على ما عداها من الحضارات القائمة...‘: والسبب في ذلك يعود إلى أن إدراك هذا الشعب لسمو فكرته وعالميتها يدفعه إلى البحث والتنقيب في كل المجالات الحياتية والعلمية لإثبات سمو فكرته عمليا للآخرين كي يعتنقوا مثله القيم التي يؤمن بها من جهة، وإقناع خصومه بتفاهتهم ومحاولة " تقزيمهم" و تركيعهم أمام عظمة فكرته وتكاملها وقدرتها على إسعاد الناس جميعا و الإيفاء بمختلف حاجياتهم و رغائبهم...! كما تدفعه إمكانية مواجهة الخصم ماديا و عسكريا.. إلى الإعتناء بالمجال الإقتصادي والصناعي وتكوين جيش قوي لمجابهة كل التحديات الممكنة والتي يمكن إن تهدد فكرته و قيمه ...أو تقف حائلا أمام نشرها.. وهكذا تبدأ حضارة هذا الشعب صاحب الفكرة والمفاهيم "السامية" الجديدة في صعود، أما أصحاب الحضارات الأخرى، إن كانت هناك حضارة قائمة فإما أن ينظموا إلى أصحاب الحضارة الصاعدة ويعتنقوا فكرتها السامية ويساندوها ويدعموها بمعارفهم وبالتالي تصبح إنجازاتهم تنتمي إلى الحضارة الجديدة. وإما أن يتزعزع اعتقادهم في فكرتهم التي بنوا عليها حضارتهم، فيفتقدون بذلك الحماس القادر على تمكينهم من مواصلة الإبداع وبناء الحضارة، عند ذلك تبدأ حضارتهم في أفول مستمر.! وتضعف قوتهم المادية والمعنوية شيئا فشيئا أمام القوة الصاعدة والحضارة الجديدة..‘ كما يصبح الشعب صاحب الحضارة الآفلة مقلدا لظواهر وسلوكيات صاحب الحضارة الصاعدة، اعتقادا منه أن هذا التقليد قد يعيد فيه الحيوية من جديد– لكنه يبقى كالذي يريد أن ينجو من الغرق وما هو بناج..!؟ لأنه كلما أغرق في التقليد ابتعد أكثر عن إمكانية الشعور بالعزة و الأناقة – شرط الإبداع الحضاري-، فتتبعثر أموره وتتذبذب حاله ويصبح كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن لم تحمل عليه يلهث..
و الحاصل أن هذه الدراسة قد كشفت لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الحضارات الإنسانية تخضع في صيرورة نشوئها و انقراضها – على اختلاف منظوماتها الفكرية و القيمية - إلى ثوابت و نواميس كونية أزلية عامة و مشتركة بين جميع البشر مهما اختلفت أديانهم و تنوعت ايديولجيتهم وتفرقت أراضيهم و اختلفت أزمانهم ..‘ و إن إيجاد حضارة ما متطورة و متقدمة يبدأ بإيجاد الإنسان الذي يتبنى الأفكار و المفاهيم الراقية والمتقدمة..‘ فالله لن يغير ما بقوم حتى﴿ يغيروا ما بأنفسهم﴾.. وان قانون تغيير ما بالنفوس البشرية لتغيير الواقع المادي والحضاري للشعوب.. قانون أزلي لم يشذ عنه حتى أتباع المادية التاريخية الذين ينظرون إلى المادة كونها أساس كل أمر في الحياة، وأن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط..!!؟ فالقوانين التي تتحكم حقيقة في أحداث التاريخ البشري و مجرياته وتوجه مختلف تطوراته هي القوانين الكونية والأزلية التي سطرها الله في القرآن العظيم و يحكم بمقتضاها موجوداته و سائر مخلوقاته .. و ما على الإنسانية إلا العودة إلى كتاب ربها مباشرة إذا ما أرادت أن تهتدي و تنتظم أوضاعها و ينصلح حالها‘ و ليس إلى كتب رجال الدين من الفقهاء و الأحبار والرهبان الذين تكون تفسيراتهم وتأويلاتهم للنصوص المقدسة محكومة بمصالحهم و مصالح الطبقات التي يمثلونها أو الضاغطة عليهم سياسيا واقتصاديا و اجتماعيا..! لقد شكل رجال الدين- و ليس الدين نفسه- في التاريخ و الحضارة الغربية عقبات معرفية خطيرة وقفت في وجه تطور المجتمع الغربي و نهوضه و تحرره- لذلك تكاتفت جهود« فلاسفة الأنوار" وجهود الماركسيين على إزاحة هذه العقبة الكأداء.‘. حتى كان شعار الثورة الفرنسية:( اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس).. وشعار الماركسيين:( الدين أفيون الشعوب).. كما شكل رجال الدين و الفقهاء في التاريخ الإسلامي و لا يزالون اكبر داعم لحكم الطواغيت المتألهين و السماسرة المتاجرين بقضايا الشعوب ..‘ وإلباس الحق بالباطل و تفريق الأمة الإسلامية الواحدة إلى ملل و شيع متفرقة... متناحرة ‘ باسها بينها شديد..!!؟ فمنذ استيلاء معاوية ابن أبي سفيان على الخلافة الإسلامية بالقوة و قيامه بتصفية أنصار علي بن أبي طالب بعد و فاة الرسول صلى الله عليه وسلم بحوالي 30 سنة.. شرﹼع الفقهاء المسلمون للطريقة العنيفة التي توخاها معاوية للإستيلاء على الحكم بالقوة و برروها شرعيا..!؟ كما شرﹼعوا باسم الإجتهاد– منذ ذلك الحين - للمذاهب الفقهية و المدارس الإجتهادية التي فرقت المسلمين و قسمتهم إلى ملل و نحل متنافرة و متناحرة.. كل حزب بما لديهم فرحين!؟ و هم الذين شرﹼعوا و يشرﹼعون لمذاهب السنة و الشيعة و لمذاهب السلفيين الجهاديين قتلة الأبرياء من خلق الله..!؟ و هم الذين شرﹼعوا و يشرعون للحركات الإسلامية المنادية بالديمقراطية الغربية و الإعراض عن قوانين الله الأزلية المفصلة في القرآن الكريم..!؟ و هم الذين يشرعون للأنظمة العلمانية التي تحكم العالم الإسلامي اليوم بتبريرات دينية و فقهية واجتهادية..!!؟ لذلك أصبح "الفقهاء الإسلاميون" يشكلون – كما شكل رجال الدين المسيحي- عقبة كأداء وخطيرة جدا أمام تحرر مجتمعاتنا الإسلامية من ربقة الإستعمار الحضاري الغربي و من الأغلال الفقهية التي صارت تكبل المواطن العربي المسلم بأثقال تدفعه دفعا إلى مكان سحيق من التخلف الفكري و الحضاري والإنحطاط الأخلاقي وانتهاج الدروشة أسلوبا لحياته مما جعله يعيش خارج الزمان و المكان حتى صار أضحوكة العالم يمتهن كل ما من شانه تسلية الإنسان الغربي ..!! بمبررات دينية و فقهية و اجتهادية ما أنزل الله بها من سلطان.!!؟ و توسيع قابلية المواطن العربي المسلم للنهب المحلي و الدولي والإستغلال المنظم برضى تام حتى غدا هذا المواطن فيئا يسيرا و أسيرا للجراثيم الفتاكة و كل الأمراض المزمنة وافتقاد الرجولة و الكرامة و الخضوع للإستبداد و الإستحمار الفكري في العصر الحديث..!؟
لقد ظلّ " المفكرون وزعماء الإصلاح " في البلاد الإسلامية يعتقدون ولا يزالون بأن الأنظمة والتشريعات السياسية والإجتماعية و الإقتصادية و غيرها.. هي التي ستنهض أمتهم الإسلامية من كبوتهم إذا ما اقتبسوها من المجتمعات الغربية المتقدمة، فاقتبسوا أنظمة الغرب وتشريعاته و لا يزالون، لكن دون جدوى...!؟ فالحال تزداد سوءا و انتكاسا على مر الأيام ..! وما دروا أنه على الرغم من تنوع الأنظمة والتشريعات لدى الشعوب المختلفة قامت الحضارات العديدة في التاريخ البشري.
إن القوانين والتشريعات ما هي إلا شكل من أشكال التنظم وتسهيل العلاقات الإنسانية في المجتمعات البشرية المختلفة‘وتنبع عادة من حاجيات هذه المجتمعات وطموحاتها و تعبر عن إرادة أبنائها.. وتنبثق عن منظوماتها القيمية والفكرية ومفاهيمها عن الكون والإنسان والحياة و معاييرها الدينية و الحضارية.. وليس هناك أي سند تاريخي أو واقعي يدل على أن الحضارة تبنى نتيجة لهذه القوانين والنظم والتشريعات البشرية و الوضعية..‘ وإنما هو إلتباس الأوضاع وضبابية الرؤيا.

جدلية الحداثة التغريبية والتخلف الحضاري
لعل أغرب ابتكارات الحداثيين التغريبيين في عالمنا الإسلامي زعمهم أن كل ما هو قديم يتعارض مع الحداثة وبما أن«النص الديني» قديم في تقديرهم فلا يمكن حينئذ أن «يكون الأدب حديثا إلا إذا رفض كل نص مقدس» (كمال أبوديب (. ولا يمكن لعاقل أن يقبل مثل هذه المعادلة التي تتنكر لأبسط حقائق الوجود، فالواقع لا يقر أبدا برفض القديم لأنه قديم أو قبول الجديد لمجرد أنه جديد، بل يقبل الإنسان عادة على الأشياء التي يراها قادرة على تحقيق رغباته والإيفاء بحاجياته وتجسيد طموحاته.. فنحن حين نقرأ للمعري مثلا أو المتنبي أو أبي نواس لا شك أننا نستفيد من تجربتهم الشعرية رغم طول العهد بيننا وبينهم، وبالتالي لا يمكن أن تطرح قضية الحداثة من حيث القدم أو الجدة بل الأصح أن تطرح قضية الحداثة من ناحية قيمة الشيء ومدى فاعليته في حياتنا المعاصرة و تأثيره علينا. فما نراه نافعا لنا وقادرا على دفعنا نحو التجاوز والإبداع الأدبي أو التقدم الحضاري نستحضره ونأخذ منه ما يروق لنا وندع ما لا نفع فيه، فالمسألة لا تتعلق بمدى جدة الشيء أو قدمه زمنيا بقدر ما تتعلق«بجدوى الشيء أولا جدواه». فالشاعر طرفة بن العبد مثلا لا يزال حاضرا في ذاكرتنا فاعلا رغم طول العهد بيننا وبينه في حين يموت بعض شعراء« الحداثة » قبل أن يولدوا.
أما بخصوص النّص الدّيني ولأفترض أن- المقصود به القرآن – فلم تقف ولن تقف نصوصه – قديما أو حديثا- حجر عثرة في وجه الإبداع الأدبي أو غيره من المجالات الإبداعية والحضارية لسبب بسيط وهو أن هذه النصوص لم تتناول أبدا المتغيرات التي يمكن أن تطرأ على الحياة البشرية في أي زمان أو أي مكان وإنما نصت جميعها على الثوابت و الحقائق الأزلية في الكون والإنسان والحياة وتركت للإنسان حرية التصرف في المتغيرات التي يمكن أن تطرأ على حياته بشرط أن يستلهم المسلم في اجتهاداته المعيشية المختلفة تلك الثوابت ويستنير بحقائقها.. ولنأخذ مثلا قضية العلم، فالنص القرآني لم يحدد مطلقا الوسائل والأساليب التي يمكن أن يتبعها الإنسان لتحصيل العلم واختراق الآفاق لأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان وبحسب اجتهاد الإنسان، لكنها أجمعت كلها على ضرورة طلب العلم واعتباره مفتاحا لكل ما يفيد الإنسان في دنياه وأخرته ولا يصح إيمان المرء إلا بالعلم الصحيح الذي هو القرآن...
إن أولئك الذين يربطون الحداثة بالمتغيرات الدائمة دون الإرتكاز على ثوابت إلاهية تحمينا من المنزلقات والمعوقات الخطيرة و تنير لنا دروب الحياة .. يريدوننا أن نكون كالشجرة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار فلا تثمر أبدا بل تزداد يبسا على مر الزمن.أما الثوابت الواردة في النص القرآني فهي قادرة على جعلنا شجرة يانعة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها – إن نحن استرشدنا بها واتخذناها بصائر لنا – حتى لا نسير بالبشرية في دياجير الظلمة والضبابية المهلكة كما هو بائن في الحضارة الغربية الآيلة للسقوط.!. بل نشبع جوعها ونروي عطشها ونهديها طريق الأمن ورحمة السماء.
فالمتغيرات« الحداثية» إذن تدعونا إلى الضبابية وترك زمام أمورنا تذروها الرياح، مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ديدنا التردد والحيرة والتيه في دياجير الظلمة والتخلف والإنحطاط.
في مفهوم الحداثة الإسلامية ؟
رغم مرور أكثر من قرنين منذ أن غزا بونابرت مصر سنة 1798م..‘ فان سؤال ‹‹ كيف نتقدم؟›› لا يزال يطرح بأشكال متعددة..؟ فمنذ تلك الغزوة بدأ المسلمون يفركون عيونهم بعد نوم عميق..! كان سببا في إخراجهم من حلبة التنافس الحضاري والثقافي لزمن طويل و أغرى بقية الأمم بالتطاول و محاولة بسط الهيمنة عليهم.. وقد اختلفت المقاربات الفكرية وتنوعت في كيفية امتلاك منابع القوة والقدرة على الفعل وصنع أحداث التاريخ مرة أخرى كما كان أجدادنا يفعلون منذ انبلاج فجر الإسلام العظيم.! فالمسلمون كانوا :﴿ خير امة أخرجت للناس﴾ و قد امتلكوا ناصية الأمم لردح طويل من الزمن وقادوها بالنور الذي انزله الله على أمة الإسلام رحمة للبشرية كافة..! لقد أضحت قضية ما صار يعرف ب"الحداثة " قضية محورية مزمنة في تاريخ المجتمع العربي الإسلامي الحديث، ولم تتوضح الحلول المقنعة لجميع الأطراف إلى حد الآن..؟؟
وفيما يلي سأحاول تقديم مقاربة لقضية "الحداثة الإسلامية"عساي أساهم ولو بلبنة في المضي قدما للحسم في هذه القضية الشائكة...! فماذا نقصد "بالحداثة "تحديدا ؟

ما نعنيه بالحداثة هو: ‹‹ ذلك الصراع المحتدم بين الأمم من أجل أن تكون أمة "هي الأقوى والأغنى والأربى من بقية الأمم".. وأن تمتلك تلك الأمة: "القدرة المبدعة على التغيير الذاتي والتطوير المستمر نحو الأفضل لجميع الهياكل المسيرة لدواليب مجتمعها و مؤسساته، ويحصل أهلها على الأمن من الإعتداءات، مطمئنة ..‘ و مستقرة لا يخاف أهلها ولا يضايقهم شيء..﴿ يأتيها رزقها رغدا من كل مكان﴾...!
وعلى النقيض من ذلك فان الأمة المتخلفة/غير الحداثية ..‘ هي تلك الأمة التي يعيش أفرادها الجوع والحرمان والفزع والهلع ويشتد ألمهم علي مر الزمان.. و تنتكس حالهم، كما يكثر التطاحن الإجتماعي والصراع الطبقي بين أفرادها!! و تزداد قابليتهم للتقليد و الإستعمار يوما بعد يوم ..!! فهل من سبيل لبناء "حداثة إسلامية" جديدة ؟
لقد احتاجت الشعوب التي استطاعت تشييد حضارة وقيادة الأمم في مرحلة زمنية معينة وتتوفر على معاني الحداثة التي حددناها آنفا إلى : ‹‹ فكرة إنسانية سامية›› تأخذ بالألباب وتبهر العقول وتثير العواطف الإنسانية وتحرك الحواس الناعسة...! فلقد حمل العرب المسلمون فكرة ‹‹إخراج الناس من الظلمات إلي النور››... ورفع الغرب شعار ‹‹ تخليص الإنسان من القصور الذي كبلته به الكنيسة بوصايتها عليه والدعوة إلى الحرية والأخوة والمساواة ››.. ووعد الإشتراكيون أتباعهم ب‹‹ إيجاد جنة أرضية للعمال المسحوقين››...!
وهكذا احتاجت هذه الحضارات الثلاث: (الإسلامية والغربية والاشتراكية)إلى: ‹‹ فكرة إنسانية سامية›› لتجلب إليها الأنصار وتضمهم إلي صفوفها وتجعلهم مستعدين للنضال والتضحية في سبيل إنزال هذه ‹‹الفكرة السامية›› إلي الواقع المعيش ليحيا في ظلها الناس، بل وكان أنصار هذه الفكرة يغزون أو يفتحون أو يستعمرون الأصقاع باسم هذه ‹‹ الفكرة الإنسانية السامية››... ولقد مثلت ‹‹ﺍﻠﺣﺪﺍﺜﺔ›› دائما قطيعة تامة و مفصلية بين عهدين، عهد الظلمات والمظالم والتخلف وعجز الإنسان عن الفعل الإيجابي والغيبوبة التاريخية، وبين عهد جديد يتحرر فيه هذا الإنسان من سلطة التراث والتبعية والتقليد الأعمى لهذا الطرف أو ذاك.. وامتلاك زمام النفس والمبادرة وكسر القيود و الأغلال ـ بمختلف تشكلاتها التي تكبله.... وتمنعه من التحاور مباشرة مع واقعه، واختيار أنجع الطرق والوسائل والتقنيات لتجاوز الموروث سواء أكان هذا الموروث ينتمي إلي حضارة الأجداد أو حضارات الأمم الأخرى، قديما كان أو حديثا..!؟
فالإنسان‹‹الحداثي›› هو ذاك الذي يمتلك القدرة الفائقة و المبدعة علي الإستفادة من الموروث الإنساني في جميع الميادين.. متحررا من كل ما يعيقه عن الإضافة والإبداع والتجاوز ومزيد بسط سلطته وهيمنته على الكون والحياة و الإستفادة من التسخير الإلاهي لكل ما في الكون.. والإرتقاء بأخيه الإنسان إلى السيادة المطلقة على كل شيء في هذا الكون الشاسع، حتى يتفرغ بعد ذلك لعبادة خالق الكون والحياة، فالإنسان سيد وحيد لهذا الكون والله رب وحيد للإنسان، فلا يخضعن هذا الإنسان لسلطة أخرى مهما كان مصدرها...! سوى لسلطة الله خالق الكون والحياة والإنسان...! وهو(الإنسان) في كدح متواصل حتى يلتقي بالملإ الأعلى.. وقد أفرغ جميع شحناته وطاقاته وقدراته في هذه الأرض التي قبل أن يكون سيدا عليها وعبدا لخالقها وحاملا لأمانة الله في الأرض:﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا﴾.
لقد ابتلي المسلمون قديما وحديثا بمن حول أحداث التاريخ وتجارب المسلمين السابقة و التي كانت وليدة ظروفهم الحضارية و العلمية و المعيشية.. إلي صنم / عائق معرفي يتعبدون في محرابه..!؟ مرددا قول العرب القدامى في مواجهتهم للإسلام :﴿ ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين﴾ و﴿إنا وجدنا آبائنا علي امة وإنا على أثارهم مقتدون ﴾ متناسين إلتزامهم بتوحيد الله والخضوع لربوبيته بما يعني عدم خضوعهم إلاّ لأوامر الله ونواهيه و الإلتزام بثوابته و بصائره المفصلة تفصيلا بينا والسير على هدي القرآن العظيم لكونه يشتمل على المنهج الأزلي الذي عبده الله لعباده المتقين!؟ وقد حالت هذه المواقف المتخلفة بيننا وبين الحداثة الحق والتقدم السليم ورؤية ما يدور حولنا من أحداث متجددة ووقائع حياتية معاصرة تفرض علينا حلولا أخرى غير التي ارتآها أجدادنا في "ميدان المعاملات" لتغيرالظروف و الملابسات ! وكل هذا يتطلب اجتهادا وإعمالا للعقل لاستنباط الحلول الملائمة للمشكلات المعيشية والحياتية و العلمية و الإنسانية و مختلف التحديات التي تواجهنا في حياتنا الدنيا..! وتعيق بلداننا عن النهوض والتقدم وتحقيق العزة والشهادة على بقية الأمم والشعوب بسبب ما نمتلكه من ثوابت إلاهية و معايير ربانية واضحة لكل أنواع السلوك البشري السليم ..! تهبنا القدرة على معرفة السلوك القويم في مختلف دروب الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية وغيرها...!
كما ابتلينا بمن اتخذ منجزات الغرب وحضارته صنما/عائقا معرفيا يعتقل عقلنا ويمنعنا من فهم متطلبات حياتنا وتحقيق سيادتنا على حاضرنا ومستقبلنا. وقد حال كل ذلك بيننا وبين الإعتماد على النفس لتحقيق إنجازاتنا الحضارية الخاصة بنا حتى نكون أهلا لقيادة مسيرة العالم من جديد...! إن ما نملكه من ثوابت إلاهية و بصائر عقلانية في جميع ميادين الحياة يعطينا الحق في قيادة الشعوب – إن نحن آمنا واستمسكنا بها- والتصدر لتوجيهها نحو الخير والفضيلة حتى نكمل رسالة من ابتعثه الله رحمة للناس كافة..! إن الإبداع الحضاري والإبتكار والتقدم مرهون إلي حد كبير بثقة الإنسان في صحة مبادئه واعتقاده في تفوقها على جميع المبادئ الأخرى – كما المحنا من قبل- ، وإن ما نتج عن الحضارة الغربية إلي حد الآن من تعميق للهوة بين الفقراء والأغنياء ومن احتجاجات عالمية عن ‹‹الكيل بمكيالين و اختلاف المعايير و اضطرابها حد التناقض ›› وما نراه ونسمعه من تطاحن رهيب وتقاتل على الحكم والمسؤولية باسم الديمقراطية الغربية..! وعدم استقرار للمجتمعات الغربية نفسها، وانتشار للظلم والعنصرية والحروب المدمرة واستفراد أقلية بالثروات الكونية... كل ذلك يجعل من إقناع الأمة الإسلامية بصحة هذه المبادئ والقيم و المعايير الغربية أمرا متعذرا إن لم يكن مستحيلا لتعارضها مع فطرة الإنسان السوي، خاصة وهي الوارثة للقرآن العظيم/ الميزان الحق للسلوك الإنساني...‘ والذي لم يثبت إلي حد اليوم أنه يحتوي على آية واحدة من شأنها أن تعرقل التطور أو تقف في وجه الإبداع الحضاري و التقدم الاجتماعي و الإنساني في مختلف الميادين الحياتية، لأن هذه الآيات والبصائر لم تعالج مطلقا متغيرات الحياة البشرية وإنما نصت جميعها علي الثوابت والحقائق الأزلية التي فطر الله الكون والحياة عليها منذ خلقهما الله و التي تتطابق تطابقا كليا مع حقائق الكون والحياة والإنسان .. وهي معادلات و قوانين أزلية مطلقة .. تخترق الزمان والمكان... قد سطرت ﴿ الطريق المستقيم﴾ المعبدة التي تصلح لان يسلكها الإنسان السوي إذا ما أراد حياة إنسانية راقية لا تشوبها الشوائب .! ولقد تركت هذه الآيات/الثوابت حرية الإبداع والإجتهاد و التطبيق العملي في كل المتغيرات المعيشية النسبية التي يمكن أن تطرأ على حياة الإنسان بشرط استلهامه هذه الحقائق الأزلية في اجتهاداته المعيشية المختلفة و معاملاته اليومية و ليست "العبادية" : إذ العبادات كان قد وضحها رسولنا الأكرم صلى الله عليه و سلم و نحن ملزمون جميعا بان نصلي و نعبد ربنا كما كان صلى الله عليه و سلم يعبد ربه : ففي قضية العلم مثلا نجد النص القرآني لم يحدد مطلقا الوسائل والأساليب التي يمكن أن يتبعها الإنسان لتحصيل العلم واختراق الآفاق وتحقيق الاكتشافات لأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان وبحسب اجتهاد الإنسان وحاجاته و تفاعلاته مع مجتمعه و حضارته ، لكنها أجمعت كلها على ضرورة طلب العلم وجعله مفتاحا لكل ما يفيد الإنسان في دينه ودنياه وهي حقيقة أزلية لا شك في ذلك، وفي السياسة نص القرآن على وجوب الشورى في جميع ما يهم شؤون المسلمين الخاصة والعامة وحث المسلمين على العدل واجتناب الهوى والحكم بما أنزل الله في كتابه العزيز وعدم التمييز بين الناس واعتماد المعايير الإلاهية في تقييم سلوك الإنسان ومختلف مكتسباته دون غيرها من المعايير البشرية النسبية المتحيزة بطبعها:﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾(سورة المائدة الآية 8 )، و قد حرمت بصائر الله الأزلية الفساد في الأرض أو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أو جعل ثروات البلاد - التي هي ملك لله في الأصل- دولة بين الأغنياء دون سائر خلق الله...‘ وقد دعا القرآن إلى اشتراك المسلمين جميعا في تحمل المسؤولية وتكوين: ﴿أمّة﴾ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتتبع ما أوحى الله به إلى محمد صلى الله عليه وسلم / قدوة كل من أسلم وجهه لله رب العالمين، خلال مرحلتين: مرحلة الدعوة(المرحلة المكية) ومرحلة الدولة(المرحلة المدنية ).. وهكذا دواليك.... ودور الإنسان أن يعتمد هذه الثوابت والبصائر المعلنة لإستنباط المؤسسات الكفيلة بإنزالها إلي حيز الواقع المعيش حتى ينعم الناس - جميع الناس- برحمة الله ويأمنوا على حياتهم وأرزاقهم ومكتسباتهم ويمتلكوا القدرة علي الإضافة والإبداع ويواصلوا أداء رسالتهم في الحياة..! يقول الله عز وجل :﴿ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ﴾ (سورة الكهف الآية عدد 109 ) فما الذي أصابنا في العصر الحديث حتى صرنا عاجزين عن استنباط ما يلزمنا من حلول لإصلاح معيشتنا و الإرتقاء بها انطلاقا من آيات الله التي لا تنفذ معانيها أبدا .. وصرنا نتخبط خبطا عشواء معرضين عن نور الله!؟ لقد صارت شعوبنا الإسلامية تعيش ضنكا مؤلما في حياتها و قد تداعت علينا الأمم من كل حدب و صوب .. و نحن نقف عاجزين عن حماية شعوبنا و أنفسنا من المستنقع المظلم الذي انحدرنا فيه بسبب إعراضنا عن نور الله و"صراطه المستقيم" المعبد لجميع البشر منذ الأزل!؟
إن اقتحام أمتنا الإسلامية لعصر العولمة باقتدار وجدارة وامتياز، رهين لشروط وقرائن لأبد من استحضارها جميعا حتى نفوز بقصب السبق في جميع الميادين الحضارية وننقذ أنفسنا و أمتنا و العالم من حولنا :
إذ لابد من استعمال عقولنا وحواسنا نحن لمواجهة مشكلاتنا الحياتية، واستنباط ما يلائمنا من حلول لمختلف مشكلاتنا بما يتوافق مع مصلحتنا حاضرا ومستقبلا ‘ مستنيرين في ذلك بكتاب الله و بصائره، بدلا من استنساخ الحلول القادمة من وراء البحار وإسقاطها على شعوبنا المسلمة والكف عن استعارة عقول ‹‹الآخرين /الأعداء›› وطرق تفكيرهم ومناهجهم في بحث المشكلات العالقة... و أن نكف عن تقديس ماضينا الحضاري و تراثنا الإسلامي و عبادة الآباء و الأجداد و التحرر من عباءتهم و أن ننظر إلى هذا التراث بوصفه تجربة حضارية نسبية قد عبرت عن تفاعل آباءنا مع عصرهم و مجتمعهم ارتكازا على بصائر القرآن الأزلية لا غير. و من حقنا نحن في العصر الحديث أن نصنع تجربتنا الخاصة بنا ارتكازا على الثوابت القرآنية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها على عكس تراث الآباء والأجداد و تجاربهم ‘إذ بفضل هذا التراث و هيمنته علينا صرنا دراويش نحيى خارج إطار الزمان و المكان حتى صارت أعراضنا و خيراتنا نهبا لكل من هب و دب !!؟
لا بد من استحضار الواقع المعيش بكل تجلياته وتعقيداته.. ولا فائدة من ستر أمراضنا مهما كان الداء مستحكما بدعوى الحفاظ على أسرارنا وعيوبنا حتى لا يستغلها الأعداء !!؟ إن منطق التستر على الآفات التي تكدر صفو حياتنا السياسية والثقافية والإجتماعية والعلمية وغيرها قد زاد الطين بلة حتى صارت الجراثيم تصول وتجول وترتع حيثما شاءت وتعفن ما قدرت على اقتحامه من حياتنا حتى بدا لنا العلاج متعذرا لشدة ما فتكت بنا الأمراض وألحقته في نفوسنا من أذى وفي أجسادنا من جراح مثخنة...!؟ وكل هذا يتطلب وقفة حازمة صادقة خالية من العقد لنواجهه بصبر وثبات وننقذ حياتنا مهما تطلب ذلك من تضحيات...!
لا بد عند بحثنا لمجمل قضايانا أن نعود إلي ثوابتنا القيمية والحضارية و معاييرنا الإسلامية و موازيننا الربانية والتي يمكن اختزالها في آيات القرآن أساسا مستعينين في فك المستغلق من هذه الثوابت ـ إذا شئنا ـ بإنجازات كل الحضارات الإنسانية بدون استثناء دون إن يعيقنا ذلك عن المضي قدما في طريق بناء الحضارة الإسلامية الجديدة المتفوقة .. مستفيدين مما يمكن الإستفادة منه ودون الإرتهان لتلك الإنجازات قديمها وحديثها...!
إن أخذ كل هذه الشروط والإعتبارات لمواجهة كل مشكلاتنا الحياتية والحضارية و السياسية و المعيشية ‘ من شأنه أن يعيد لنا القدرة علي الفعل والتحفز أكثر على الإنجاز واختراق الأفاق و تحقيق العزة و الأمن وبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا وتقدما حتى نكون أهلا لقيادة مسيرة البشرية من جديد.

الرحمة المهداة للعالمين
عاش محمد بن عبد الله يتيما و فقيرا و ضالا عن هداية الله كبقية خلق الله مدة أربعين سنة﴿ووجدك ضالا فهدى﴾...! ثم اجتباه ربه من بين جميع البشر ليكون المبلغ عن الله كلماته إلى الناس كافة، وقد كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مستوى التكليف والمسؤولية الملقاة على عاتقه، فاستوعب آيات الله البينات، وآمن بها وانصاع لكل أوامرها و نواهيها ... وجسدها في أخلاقه ومعاملاته ومعتقداته ونظرته لكل تفاصيل الحياة البشرية أحسن تجسيد ممكن في زمانه! فكان: ﴿ خلقه القرآن﴾، واستطاع بثباته و بصبره على أذى قومه بمكة أن يؤسس مجتمعا إسلاميا بالمدينة – بعد هجرته إليها- يدين بالإسلام في جميع مناحي الحياة الثقافية والسياسية الإجتماعية والإقتصادية والتشريعية..!
إن آيات الله الموحى بها إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تتناول كلها الحقائق والمفاهيم الثابتة في الكون والإنسان والحياة لأنها من عند العزيز العليم‘ رب السماوات والأرض، وربّ العالمين، وهي حقائق لا تتبدل ولا تتغير منذ خلق الله الكون والإنسان والحياة، وقد أوحى الله بهذه الحقائق الأزلية إلى كل أنبيائه عليهم السلام ‘ بلغاتهم المختلفة لتكون للمؤمنين بهؤلاء الأنبياء النور الذي به يهتدون في ظلمات الحياة ودروبها المتشعبة المدلهمة، و قد انصاعوا إليها جميعا و جسدوها في حياتهم كل حسب ظروفه التاريخية و الحضارية و المعيشية‘ يقول الله العليم الحكيم:﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب﴾(سورة الشورى الآية 13).
لقد جاءت كلمات الله البينات لتفك كل رموز الحياة وتصحح مفاهيم الإنسان عن حقيقة الألوهية والربوبية و حقيقة الكون والإنسان والحياة ..و تفضح أهل الكتب السابقة و ما ادخلوه من بدع و ضلالات و تحريفات لأديانهم ..!!؟ وتجعل الإنسان على بينة من أمره ليحيا من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وهي مهمة قد تكفل الله بها منذ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض:﴿ قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ (سورة البقرة الآيتين 38 و39).
وقد شاءت حكمة الله عز وجل أن يجعل من أسباب الحياة الطيبة الهنية الإهتداء بآياته البينات في جميع مناحي الحياة، يقول الله عز وجل:﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى﴾ (سورة طه الآيات 123و124و125و126 ).
لقد كرّس الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم كل حياته في سبيل إنارة درب أمته الإسلامية بمفاهيم الإسلام الصحيحة المبنية على بصائر القرآن و معاييره الربانية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها.. وجعلها:﴿ خير أمة أخرجت للناس﴾ للشهادة عليهم وقيادتهم وإخراج من شاء منهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده خالق الكون والإنسان والحياة الجدير بالعبادة، ومن ضيق الدنيا - بفعل الأغلال والتقاليد التي يكبلون بها أنفسهم - إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان الباطلة و المزيفة التي يصنعها رجال الدين!؟ إلى عدل الإسلام ورحمة الله التي وسعت كل شيء، قدوته في كل ذلك جميع الأنبياء السابقين‘ عليهم السلام.. ما داموا يشتركون جميعا في حمل نفس الرسالة و نفس الثوابت و البصائر الأزلية الموحى بها من الله رب العالمين: ﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم امة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾ (سورة المؤمنون الآية 51 و52). إن إقتداء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالرسل من قبله يأتي من منطلق وحدة الرسالة الإلاهية و القوانين الأزلية التي بشروا بها أقوامهم على اختلاف أزمانهم وأوطانهم..! كما يأتي استجابة لأوامر الله عز وجل الذي قص عليه قصصهم في القرآن مع أقوامهم وكيفية تعامل كل واحد منهم مع قومه في التبشير والإنذار بالرسالة الإلاهية الواحدة (توحيد الله)التي كلفوا جميعا بإبلاغها إلى أقوامهم في إطار من الوضوح والبيان .. يقول الله عز وجل : ﴿ أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. أولئك الذين هدى الله فبهداهم إقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين﴾ (سورة الأنعام الآيتين 89 و90).
لقد حد "بديع السماوات و الأرض" حدودا معلومة و ضبط سننا أزلية ثابتة لجميع مخلوقاته .. تحيى بمقتضى السير على هداها كل الكائنات و تضمن بها لنفسها صيرورة سالكة و حياة طبيعية هانئة..إن خروج أين من هذه الكائنات عن حدود الله و نظامه البديع وسننه الدقيقة في الكون و الحياة ‘الذي أبدعه الله بقدرته الفائقة و حكمته الأزلية .. يعني حتما فقدان هذه الكائنات الضعيفة في أصل خلقتها لتوازنها الحيوي واندثارها أو موتها و هلاكها.. فخروج كوكب الشمس عن مداره الذي خلق له يعني حتمية احتراق الكون برمته.. كاحتراق القطار الذي يحيد عن سكته..أو تحطم السيارة أو الشاحنة الجانفة عن الطريق المعبدة لسيرها ..!؟ كذا تضطرب حياة بني آدم و تنتابهم شتى الأمراض والمهالك و العلل إن هم حادوا قليلا أو كثيرا عن ﴿الصراط المستقيم ﴾المعبد لهم للسير فيه منذ الأزل‘ و قد فصلت لهم معالمه تفصيلا بينا في كل الكتب الإلاهية التي لم تطلها يد التحريف أو التأويل أو التشويه.. و قد عمل كل الأنبياء عليهم السلام على تذكير أقوامهم بمختلف معالم هذا ﴿الصراط المستقيم﴾ منذ نوح عليه السلام و انتهاء بمحمد صلى الله عليه و سلم.
إن الزيغ عن قوانين الله الأزلية و سننه الفطرية التي فطر الناس عليها يعني حتمية نيلهم الخزي و الشقاء في الدنيا و خلودهم في عذاب جهنم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
فالله عز وجل قد أبان للإنسان المنهج الحق والشريعة الحق منذ خلق آدم عليه السلام‘ لذلك نجده عز وجل يخاطب عبده آدم عليه السلام قائلا: ﴿اهبطوا منها جميعا – الجنة- فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾(سورة البقرة الآيتين 38 و39 ).
كما نجد الله عز وجل يذكر المسلمين دائما بأن القرآن هو كتاب الله الخالد الذي جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل وكل الكتب الإلاهية السابقة له:﴿إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى﴾(سورة الأعلى الآيتين 18و19) وعندما يخاطب الله بني إسرائيل يقول لهم:﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون﴾ (سورة البقرة الآيتين 40 و41). كما أن عقيدة المؤمن مبنية أساسا على الإيمان بالله وجميع كتبه ورسله... يقول الله عز وجل:﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾ (سورة البقرة الآية 285 ). وعندما يأمر الله عز وجل المؤمنين بصيام شهر رمضان يذكرهم بأن فريضة الصيام قد فرضت على المؤمنين من أتباع الرسل السابقين أيضا: يقول الله تبارك وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾(سورة البقرة الآية 183). وكثيرا ما ذكر القرآن المؤمنين أنه يريد أن يهديهم ﴿سنن الذين من قبلهم﴾ من عباد الله الصالحين..والحاصل أن شريعة الله مكتملة منذ خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وقرر أن يجعله خليفة في الأرض، فأوامر الله ونواهيه ثابتة لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان أو المكان، وكانت المهمة الأساسية لرسل الله عليهم السلام تذكير أقوامهم بها ليسير على هديها من شاء ويكفر بها من شاء، والمتبعون لها يسميهم الله:«المؤمنون والمهتدون وأولو الألباب وأولو العلم...» وغير المتبعين لتعاليم الله يسميهم الله:« المشركين والكفار والمنافقين والعصاة والظالمين والذين لا يعقلون والجاهلين.. كما يشبههم الله عز وجل بالأنعام﴿ بل هم أضل﴾... وبالتالي لم يترك الله إمكانية للإجتهاد البشري في الدين ولو كان هذا المجتهد نبيا أو رسولا. فالتشريع و تحديد المعايير للسلوك البشري .. قد اختص الله به دون سائر البشر‘ وكل ما يحتاجه المؤمن في حياته الدنيا قد فصل الله فيه القول تفصيلا..! وقد أعلمنا الله عز وجل أنه:﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ و﴿ وكل شيء فصلناه تفصيلا﴾. وهذا الإخبار القرآني باكتمال شريعة الله وتفصيل كل دقائقها ينزع عن المجتهدين في الدين و الفقهاء الإسلاميين أي مشروعية، بل إن الله يعتبر أن أتباع هؤلاء المجتهدين في الدين :﴿ قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم﴾ كما فعل اليهود والنصارى من قبل ‘وبالتالي فان المجتهدين في الدين وأتباعهم هم كفار ومشركون في المفهوم القرآني! فالمؤمن بالله حق الإيمان المقتنع بربوبية الله عز وجل لا يحتاج لانتهاج السلوك القويم إلاّ لكتاب الله الذي أنزل( الكتاب و الميزان﴾ آيات بينات/ بصائر إلاهية استطاع محمد صلى الله عليه وسلم - قدوة جميع المؤمنين- وأنصاره من الأميين المؤمنين فهمها واستيعابها بحسب معطيات عصرهم الحضارية لأنها آيات بينات‘وإقامة دولة إسلامية قوية على أساسها..أوصلت تعاليم الله و شريعته و معاييره و قرآنه إلى أقاصي الأرض.!
لقد بدأ الصراع بين الحق و الباطل منذ أن بدأت الحياة على الأرض..! و قد ألهب شرارة هذا الصراع إبنا آدم عليه السلام.. و بدأ الصراع بين متبع لهداية الله المفصلة في الكتاب المنزل وخائف من عقابه.. و بين متبع لهواه و أنانيته..! لا يهمه أرضي الله أم سخط ..! و لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ‘ اقتضت حكمة الله أن يبعث رسلا من البشر يذكرون أقوامهم بتعاليم الله و ثوابته و قوانينه الأزلية في شتى مجالات الحياة الدنيا.. و قد اجتبى الله هؤلاء الرسل من بين الناس لما تحلوا به من طهر و عفة و رجاحة عقل مقارنة بمعاصريهم من ذوي الألباب .. إن مهمة هؤلاء الرسل عليهم السلام تتمثل أساسا في تذكير أقوامهم بآيات الله البينات و المتضمنة لكل تعاليم الله مبتدئا بنوح عليه السلام و مختتما بمحمد صلى الله عليه و سلم.
إن تعاليم الله التي ذكر بها نوح – عليه السلام – قومه هي نفسها التي أوحى الله بها إلى محمد صلى الله عليه و سلم﴿القرآن﴾ وهي نفسها التي ذكر بها موسى و عيسى عليهما السلام : ﴿في التوراة و الإنجيل﴾ و هي نفسها التي ذكر بها داوود و إبراهيم عليهما السلام في ﴿ألزبور و الصحف﴾ : وهي ثوابت صار على هديها كل الصالحين من عباد الله المخلصين عبر مختلف العصور و ألازمان و في كل مكان.. إن السير طبق تلك الثوابت الإلاهية ( آيات بينات ) ماضيا و حاضرا و مستقبلا .. و إلى أن يرث الله الأرض و من عليها هي الضامن الوحيد لرضوان الله و الفوز بجنته يوم يحشر الناس لرب العالمين... و هي الضامن الوحيد لوحدة الأمة الإسلامية في العصر الحاضر و العصور اللاحقة وهي الضامن الوحيد لقوة الأمة الإسلامية و وحدتها و عدم تشرذمها كما هو واقعها الآن بفعل هجرها للقرآن و لجميع ثوابته .
إن مبادئ الله و ثوابته في الكون و الإنسان و الحياة و المجتمع هي مبادئ عامة لكل البشر منذ خلق آدم عليه السلام وهي مفصلة تفصيلا دقيقا في كل الكتب السماوية قبل أن ينالها التحريف و التأويل و التشويه من قبل بعض أتباع الرسل السابقين على محمد صلى الله عليه و سلم .. لذلك اقتضت حكمة الله أن يكون الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه و سلم ﴿ القرآن﴾ معجزا و غير قابل للتحريف أو التأويل أو التشويه... متحديا الإنس و الجن أن يأتوا بسورة من مثله لأن محمدا صلى الله عليه و سلم هو آخر المرسلين لبني البشر ‘ و كتابه ﴿ القرآن ﴾هو آخر الكتب السماوية المنزلة على بني آدم.. من اتبعها فقد هدي إلى الصراط المستقيم و من زاغ عنها بدعوى الحداثة و الإجتهاد و التأويل فقد ضل ضلالا مبينا..!!
1- الوحي الإلاهي:
من معاني الوحي: الخلق:﴿ و أوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا و من الشجر و مما يعرشون ﴾ ( سورة النحل الآية 68) و الخلق في حد ذاته عمل يختص به الله دون سائر الموجودات.. لذلك كان الوحي معجزا معنى و مبنى .. ولقد جاء الوحي الإلاهي منذ بداية نزوله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مبشرا بقراءة جديدة للكون والإنسان والحياة والربوبية الحقة الألوهية الصحيحة ومقدما مفاهيم مغايرة لما تعارف عليه البشر واصطلحوا عليه واستنتجوه من خلال تجاربهم الحياتية المحدودة زمانا ومكانا..... إن القراءة الجديدة التي بشر بها الإسلام تصطبغ بصبغة الله الذي أحسن كل شيء خلقه :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ فهي قراءة تبتدئ باسم الله وتنتهي باسم الله وهدفها الأساس فهم كلمات الله البينات لتجسيمها في الواقع المعيش للإنسان والسير على هداها في جميع مناحي الحياة لان كل سلوك المؤمن هي عبادة لله رب العالمين ما دام هذا السلوك منضبط بتوحيد الله و بأوامر الله ونواهيه، وغايته ابتغاء وجه الله والإخلاص لدينه والفوز برضاه في الدنيا والآخرة:﴿ و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى﴾ (سورة الليل الآيات:19 و20 و21 )... لقد اخطر الله نبيه عليه السلام منذ بداية إنزال الوحي عليه بأنه عز وجل قد: ﴿علم الإنسان ما لم يعلم﴾ حتى لا يخطرن ببال إنسان مهما أوتي من علم انه يجوز له أن يفتي بغير ما أنزل الله ولو كان نبيا :﴿ قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين﴾ (سورة الاحقاف الآية). ﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا﴾ (سورة الإسراء الآيات 73 .74. 75. (إن علم الله كامل و مطلق و يتجاوز كل قدرات الإنسان الذهنية.. فالله ﴿قد أحاط بكل شيء علما﴾‘ أما معارف الإنسان فهي نسبية ومحدودة وهي مجرد استنتاجات وتخمينات قد تخطئ وقد تصيب و تتغير وتتناقض و تختلف، فالإنسان عاجز بقدراته الذهنية ووسائله المحدودة زمانا ومكانا أن يعرف السلوك القويم للإنسان في مختلف مجالات الحياة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والسياسية و غيرها :﴿ و عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون﴾( سورة البقرة الآية 216)... وإنما هو قادر فقط بما أوتيه من إمكانيات ذهنية وتجريبية وتاريخية.. وقدرة على الإستفادة من حياة الكائنات والعوالم الأخرى أن يستنبط الحلول الملائمة لتطوير معيشته وابتكار أنجع السبل والوسائل لتيسير حياته.. كابتكار وسائل فلاحية متطورة والإرتقاء بوسائل النقل البري والبحري والجوي وتيسير وسائل التعلم والمعرفة وصناعة آلات حربية ووسائل عسكرية اقدر على الفتك بالإنسان والتدمير وإهلاك الحرث والنسل...وقد سمى الله عزّ وجلّ كلّ ذلك ﴿العلم بظاهر الحياة الدنيا﴾: ﴿ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا﴾ (سورة الروم الآية 7). فاكتشاف القوانين الفيزيائية والكيميائية والجيولوجية و الرياضية وغيرها.. وتطويع كل ذلك لتيسير معيشة الإنسان وجلب الرفاهية له أمر متيسر لجميع البشر إذا ما تعلقت همتهم بذلك، أما السلوك الإنساني الرشيد الذي يرضي الله عز وجل و ينسجم مع فطرة الإنسان السوي و قوانين الله في الأرض ويضمن الحياة الطيبة والهانئة والمطمئنة للإنسان.. فأمر متروك لخالق الكون والإنسان والحياة وحده، العليم بأسرار مخلوقاته، المطلع على كل خفاياها الظاهرة والباطنة...
إن قراءة متبصرة لآيات القرآن العظيم .. لا تلفها الأهواء و التأويلات المغرضة.. تكشف لنا عن كل القوانين والسنن الفطرية التي تتحكم في جميع العوالم التي خلقها الله و الخاضعة طوعا أو كرها لمشيئته عز وجل لا تحيد عنها منذ الأزل.. كما تحتوي هذه الآيات و خاصة الآيات المدنية منها على كل سنن و قوانين أمة الإسلام الأبدية في الأسرة و المجتمع.. و التي قد سار على هديها الصالحون من عباد الله منذ أقدم العصور‘ و ملخصها:﴿ اعبدوا الله مالكم من الاه غيره﴾ فتوحيد الله وخضوع الإنسان السوي المؤمن لشرع الله في الأسرة والمجتمع و كل علاقات الإنسان بنفسه و بربه و بأخيه الإنسان و بالطبيعة واستشعار الله و خشيته سرا و جهرا .. كانت و لا تزال جوهر كل الرسالات السماوية.. و لذلك جعل الله الأمة المستمسكة بهذه القوانين الأزلية ..أمة الشهادة على الناس أجمعين: ﴿ و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا﴾ (سورة البقرة الآية 143).إن تشبث أمة الإسلام بقوانين الله و سننه الأزلية يخضع في التطبيق و التجسيد للنسبية التي يخضع لها سائر عمل بني آدم الذين يحيون في إطار زماني و مكاني محدودين .. فما ارتاه الرسول الكريم و صحابته استجابة لأوامر الله و نواهيه في المجال السياسي و الإقتصادي و الإجتماعي و في الحرب وفي السلم و تنزيل شرع الله في الحياة المدنية و تشكيل مختلف الأجهزة التنفيذية في المجال الأمني و العسكري و الإجتماعي و السياسي و غيره: أي في ميدان المعاملات و ليس في ميدان العبادات- قد يختلف اختلافا كليا عن ذلك الذي يرتئيه المسلمون في العصر الحديث لبعث دولة الإسلام دولة التوحيدالقادرة لم شعث المسلمين و توحيدهم في كيان قوي.. نصرة لدين الله و للمسلمين في مشارق الأرض و مغاربها.. إن تغير العصر و تطور نوعية الحياة فيه و تقدم منتجات الحضارة الإنسانية.. لا يعني مطلقا تغيير المسلمين ﴿ لصراط الله المستقيم ﴾ و أحكامه و سننه الأزلية المفصلة في الذكر الحكيم.. بل يعني فقط الأخذ بأسباب الحداثة المادية و التقنية في الخضوع لكل قوانين الله و أحكامه في القرآن و الإجتهاد في تنفيذ الأحكام الشرعية بالأسلوب الملائم لحضارتنا في العصر الحديث قدر المستطاع .. كما لا بد من استحداث الوسائل والآليات المناسبة و الأجهزة التنفيذية الملائمة و الكفيلة بتوزيع ثروات أرض الإسلام بأقصى درجات العدالة الإجتماعية و الأخوة الإسلامية و تقوى الله التي تجمع كل المسلمين برباط الإسلام حكاما محكومين ..!
2- في معنى الألوهية والربوبية:
لا أحد من الخلق ينكر أن الله عز وجل هو خالق كل شيء في الوجود وأنه تعالى قد أحسن كل شيء خلقه، يقول الله عز وجل:﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾. لكن الإشكالية الكبرى التي تنازع فيها البشر ولا يزالون يختلفون فيها ويقتتلون من أجلها ويتصارعون هي: ربوبيّة الله سبحانه وتعالى، والرّبوبية تعني في أبسط مفاهيمها خضوع العبد المؤمن بألوهية الله إلى كل أوامر الله ونواهيه والعمل بمقتضى آيات الله البينات، لذلك تساءل الله سؤالا استنكاريا:﴿أتقتلون رجلا يقول ربي الله ؟!﴾. والذي يقول: ﴿ربي الله﴾ في المفهوم الإسلامي هو"المؤمن الحق "الذي يغنم الأمن و الإستقرار في حياته الدنيا و يستحق الفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، لذلك يتكرر في القرآن اقتران الإيمان بالله ب"العمل الصالح" أي العمل الذي يستضيء بنور الله .. وإلا أصبح إيمان المرء عدميا أي لا قيمة له، فالعمل الذي لا يقترن في ذهن صاحبه بربوبية الله أي أن يكون القصد منه التقرب إلى الله والسعي لمرضاته و الخوف من عقابه في الدنيا و الآخرة.. هو عمل كالهباء المنثور، يقول الله عز وجل: ﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾ ويقول أيضا: ﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الضمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ﴾(سورة النور الآية 39).

اللغة العربية والإبداع الحضاري
أحب العرب لغتهم وتباروا في إتقانها منذ ما قبل مجيء الإسلام، واستعملوها في حلهم وترحالهم، وانتقوا القصائد العصماء سميت ب «المعلقات» لتعليقها عند الكعبة.
ولما انطلق المسلمون لحمل رسالة الإسلام الخالدة كانوا في الوقت نفسه حملة للغة العربية، لغة القرآن، لأن الإسلام لا يمكن تفهم مفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة وشريعته التي تنظم حياة المسلمين الإجتماعية والسياسية والإقتصادية إلا من وجهة لسان العرب. وبذلك كان المسلمون يدعون القلوب إلى الإيمان والألسنة إلى التعريب.
كما برع الخطاطون المسلمون في رسم اللغة العربية، وأبدعوا خطوطا عديدة زينتها بحلة قشيبة لأن الخط الجميل يزيد الحق وضوحا وإبانة .. وزينوا المساجد والمنازل والقصور في مختلف البلاد الإسلامية وجملوا الأثاث والسجاد والملابس والمباني والآلات والكتب وغيرها.
ولقد مثلت اللغة العربية ولا تزال إحدى اللغات العريقة ذات التاريخ الحافل، وهي لغة ثرية بأبجديتها وتضم من الحروف ما لا يوجد مثيلها في اللغات الأخرى: كالثاء والخاء والذال والظاء.. فضلا عن حرف الضاد الذي تنفرد به دون سائر اللغات العالمية.
وهي لغة تفي بالقليل عن الكثير، وتمج الغث وتعج بالسمين.. كما أنها تمثل قلب الأمة الإسلامية النابض وعقلها الواعي الذي يحوي تراثها ومجدها.. ولقد استوعبت إنجازات المسلمين الحضارية كلها عبر تاريخهم الطويل بوفاء وأمانة، بل لقد شرفها خالق الكون والحياة و الإنسان بأن اختارها ليخاطب بها بني آدم عبر كتاب معجز شكلا ومضمونا. وقد حولها هذا التشريف إلى لغة عالمية.. يقول المستشرق «جوبيوم» في مقدمة كتابه تراث الإسلام: « إن اللغة العربية لغة عبقرية لا تدانيها لغة في مرونتها واشتقاقها..».هذا بالإضافة إلى أنها اللغة ذات الصوت الواضح المميز، وذلك راجع إلى دقة مخارج حروفها، بعكس ما هو ملحوظ في بعض اللغات الأخرى التي تكثر بكلماتها الحروف الساكتة، أو التي يتلاشى بعضها في بعض خلال النطق.
إن تميز اللغة العربية بخصوصيات كثيرة جعلتها تتربع على عرش اللغات جميعها بما احتوت عليه من ضروب البيان والبلاغة والإعجاز وسهولة الاشتقاق منها وقدرتها العجيبة على التعبير عن كل خلجات النفس البشرية في أفراحها وأتراحها، في هزلها وجدها، في علومها وآدابها.. ولقد أدرك أعداء أمتنا الإسلامية الإرتباط الوثيق بين اللغة العربية ومجد ووحدة المسلمين، فعملوا جاهدين على ترويج الدعاوي التي تتهم الفصحى بالعقم والبداوة وألقوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري"لأمة الإسلام " في العصر الحديث، زاعمين بعدم استجابة الفصحى للحضارة الحديثة وهي عسيرة على من يتعلمها !؟
واتفق هؤلاء - المتآمرون على رمز هويتنا الحضارية- على استبدال اللغة العربية بلغات المستعمرين القدامى لديارنا أو باللهجات العامية لشعوبنا الناطقة بالضاد أو كتابة العربية بالحروف أللاتينية لمسخها والقضاء على صحة النطق بها، أو تغيير الأساليب البيانية والبلاغية للغة الفصحى.
وهذه الدعوات مهما لبست من أقنعة، وزخرفت من قول إنما هي دعوات مسمومة و مفضوحة يريد لها أصحابها أن يخربوا هوية" الأمة الإسلامية" حتى يسهل لهم تذويبها وتركيعها لأطروحاتهم المعادية لمصالح أمتنا الإسلامية في التقدم والتطور وتحقيق العزة والمناعة و الشهادة على الناس.. ذلك لأن اللهجة العامية مثلا التي يريدها أعداء أمتنا بديلا عن اللغة الفصحى تمثل ألفاظا مهلهلة من لهجات تختلف من بلد لآخر كما تختلف في البلد الواحد باختلاف مناطقه وأجيال أبنائه، وهي فقيرة كل الفقر في مفرداتها، مضطربة في قواعدها وأساليبها حتى إن العربي يخاطب أخاه على لسان غير مبين فلا يكاد يفهمه ! يقول العقاد:«اللغة العامية لغة الجهل والجهلاء وليست بلغة الشعبيين، ولا من يحبون الخير للشعوب».!
لقد عبرت اللغة الفصحى قديما وحديثا بصدق عن المفاهيم والمصطلحات العلمية والأدبية والمشاعر الراقية التي توصل إليها المسلمون في مختلف ميادين الحياة ودروبها، تقوى وتينع بقوة المسلمين الحضارية وعزتهم وتضعف بضعف المسلمين وتخلفهم، فلا مجال إذن لأن نتهم اللغة الفصحى بالعجز أو القصور بل الأصح أن نتهم أنفسنا بالتخلي عن دورنا الإسلامي والحضاري في قيادة الشعوب وبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا.
إن اللغة لا يمكن أن تتطور وتينع وتزداد مفرداتها وتراكيبها ويترسخ جمالها وتنتشر بين الناس إلا إذا تراكمت المعارف الجديدة والمعاني الجليلة والمفاهيم المتطورة، وكثرت الإكتشافات والإختراعات، وأبدع الناس في كل المجالات الحياتية والمعرفية والتكنولوجية.. حينئذ تأتي اللغة لتعبر عن هذا التطور والرقي والإزدهار الحضاري عن طواعية، وتسلم قيادها للمبدعين و العاملين.. وكلما كثر هؤلاء المبدعون، كلما تطورت لغتنا المعيارية الفصحى واتسع قاموسها اللغوي وكثرت المعاني الجميلة بها، وأقبل عليها الناس واستعملوها في أحاديثهم وخطبهم وكتاباتهم و مختلف إبداعاتهم.
الهجرة في سبيل الله
تعني الهجرة بأبسط مدلولاتها الإنتقال من مكان إلى مكان وهجر مكان إلى آخر لأكثر من سبب، وهي قضية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض.. !؟ لكن اهتمامنا سينصب على الهجرة في سبيل الله ومفهومها في القرآن.. !؟
تبتدئ الهجرة إلى الله باعتزال فكري/ نفسي داخل المجتمع الذي يحيى فيه المؤمن وذلك بالإنخلاع من العادات والعبادات والتصورات والمفاهيم غير الإسلامية...! وتنتهي بهجرة عملية حركية بالإنتقال من موقع إذا ما تبين عقمه وخواءه في مجال العطاء الإسلامي.. إلى مواقع أخرى أكثر خصبا ونماء..!
1- الإعتزال الفكري/ النفسي وعدم الركون إلى الظلم:
الإعتزال الفكري يعني معرفة الحق ومن ثم الإرتحال إليه فكريا والإلتزام به قولا وعملا والثبات عليه والإستمساك به، وهو طريق الرسل عليهم السلام وكل الذين اختاروا السير على دربهم من المؤمنين عبر مختلف أحقاب التاريخ البشري – منذ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض- وهي ثمرة الأيمان بالله خالق الكون والإنسان والحياة، وتوحيده والخضوع لأوامره، وبالتالي هي اصطباغ بالمفاهيم الإسلامية في النظرة للكون والإنسان والحياة والمجتمع التي ضمنها الله كتابه المعجز الموحى به إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم و كل رسله عليهم السلام من قبله ...: يقص القرآن علينا قصة أصحاب الكهف – الفتية الذين آمنوا بربهم و اعتزلوا قومهم : ﴿ هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا. وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا﴾ (سورة الكهف الآيتين 15 و16). كما أخبرنا الله عن قصة نبيه إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه: ﴿ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا﴾ (سورة مريم الآية 4).
إن الإيمان الصادق بالله يوجب على المسلم الإستقامة بإتباع الوحي في كل صغيرة وكبيرة دون تجاوزه مهما كانت المبررات والضغوطات.!: ﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير‘ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون﴾ (سورة هود الآيتين112 و113).
إن استمساك المؤمن بالحق والخضوع لأوامر الله ونواهيه في العقيدة وفي كل ما ينبثق عنها من سلوك فطري قويم في مختلف ميادين الحياة الإنسانية ليس بالأمر الهين في محيط مجتمع تهيمن على معتقدات أفراده الأباطيل والخرافات وعلى سلوكياتهم وأقوالهم الظلم والفساد والمنكر والتقليد الأعمى لميراث الأجداد بغثه وسمينه:﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾(سورة البقرة الآية 170).إن التعارض والتضاد والتناقض حد العداء بين ما أصبح ينتهجه المؤمن بالله من سلوك قويم مستندا في ذلك إلى أوامر الله و بصائره في القرآن بفضل إيمانه بالله رب وحيد لكل مفاهيمه في الحياة وبين معتقدات المجتمع ومفاهيمه التي ترتكز أساسا على موروث الآباء والأجداد أو ما ترتئيه أهواؤهم و أربابهم المزيفة أو ما تشرعه لهم نخبهم ورجالات أديانهم المتاجرين بالدين...!! ينتج عنه حتما صراعا بين أهل الإيمان الذين يستمدون مفاهيم حياتهم من القرآن و ثوابته و بصائره وبين أهل المعتقدات الزائفة والمنحرفة عن هداية الله ‘ فيبدأ أهل الضلالات في أذية المؤمنين إعتقادا منهم أن الأذى قد يعيد المؤمنين إلى دائرة الجهل و الكفر و السير في ركب الطواغيت التي تعبد من دون الله.. وتطاع وتتخذ مرجعا في تقويم السلوك البشري وسن التشريعات..!؟ لكن الإيمان بالله يشحن المؤمنين الصادقين بقدرة فائقة على تحمل الأذى والصبر على المكاره ومكر المناوئين والإستقامة كما أمر الله عز وجل في كتابه العزيز طمعا في تحقيق الأمن و طيب العيش في الدنيا و فوزا بمرضاة الله و بجنته وعدم إتباع أهواء الذين لا يعلمون، متخذين من الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم قدوة لهم : ﴿ قل يا عبادي الذين آمنوا إتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾ (سورة الزمر الآية 10).﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ (سورة الأحزاب الآية 21)
2- حقيقة الهجرة في سبيل الله:
تعد الهجرة في سبيل الله: معلم خالد من معالم الدّعوة إلى الله وتحقيق العبودية لله رب العالمين.. وهي إحدى وسائل الصراع وصور المواجهة في المعركة بين الحق والباطل وطريقة للإستمساك بالحق والإنتصار له... فهي في مضمونها وفي أصل شرعيتها إنتصار للإيمان واستعلاء به وتحطيم للأغلال والقيود التي يحاول أعداء الحق إحكامها حول المؤمنين، وكسر للحواجز التي تحيط بالمؤمنين حتى لا يبلغوا دعوة الله، وسبيل لعدم السقوط تحت أقدام الطغاة والجبابرة المتألهين إستذلالا واستعطافا لأن ذلك يتنافى وكرامة الإنسان المؤمن بالله وعزة نفسه.. لذلك يلاحظ المتأمل لحركة النبوة - من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم- بأن التفكير بالهجرة لا يبدأ والإذن بها لا يتحصل إلا عندما يستحيل أمر الدعوة ويحاط بها من كل جانب ويهدد الدعاة إلى الله في حياتهم و في أرزاقهم وعندما تنعدم كل الخيارات إلا خيار الهجرة.. ومثال ذلك هجرة سيدنا موسى عليه السلام إلى مدين عندما أحيط به من كل جانب : ﴿ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين﴾ (سورة القصص الآية 20 ). كما تقررت هجرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأذن بها لما إجتمع كيد الكفار في دار الندوة على الإشتراك في قتله وتوزيع دمه على القبائل: ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين﴾ (سورة الأنفال الآية 30).
فالهجرة تتوجب عندما تفتقد الفاعلية ويتوقف العطاء على أرض المعركة وانسحاب مؤقت للعودة للمواجهة بوسائل أخرى، وهي ليست حركة إنسحابية من المجتمع وتخليا وهروبا من مواجهة الظلم واستسلاما لواقع اليأس والإحباط - كما هو حال المتصوفة أو جمعيات الدعوة و التبليغ مثلا-.. وليس إيثارا للراحة وطلبا للعافية ولو كان الأمر كذلك لفقدت الهجرة هدفها وثوابها وأثرها وكونها وسيلة من وسائل التغيير الإجتماعي التي اعتمدها الأنبياء/ القدوة عليهم السلام .. لذلك لا يجوز للمؤمن التفكير في الهجرة إلى خارج الأرض التي يسكنها إلا إذا سدت الآفاق أمامه وفتن في دينه وظلم..!﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة اكبر لو كانوا يعلمون. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون﴾ (سورة النحل الآية 41 و42).
فالهجرة في سبيل الله هي إذن مواصلة للدعوة إلى الله والبحث عن النصرة لدين الله والتمكين لشريعته الفطرية العادلة في أرض الله الواسعة :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم﴾(سورة النحل الآية 110)، لأن المؤمن الحق يعتقد أن الأرض لله يورثها عباده الصالحين، ﴿ قال موسى لقومه إستعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين﴾ (سورة الأعراف الآية 128 ). بل إن انتصار الحق على الباطل وتمكين الله للمؤمنين في الأرض هو قانون أزلي من قوانين الله في الكون والحياة منذ خلقهما الله:﴿ ولقد كتبنا في ألزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾(سورة الأنبياء الآية 105 ).
إن إيمان المؤمنين و قناعتهم التامة بأزلية القوانين الإلاهية التي يحكم بها الله عز و جل هذا العالم و سائر عوالم مخلوقاته المتعددة.. و عدالتها المطلقة تجعلهم في منأى عن ردة الفعل التي تحكم سلوك الناس العاديين..إن تعرضهم للظلم و التنكيل و حتى القتل .. على أيدي الجهلة و المناوئين للحق لا يدفع بهم مطلقا لرد فعل عنيف من شأنه أن يستغله أهل الباطل لمزيد الظلم و التنكيل بهم و تشويه دعوتهم بل يدفع بهم أكثر للإستمساك بالأيمان والصبر و الدعوة إلى سبيل ربهم بالحكمة و الموعظة الحسنة كما يأمرهم مولاهم الحق .. لأنهم يؤمنون يقينا أن﴿ النصر من عند الله﴾ و أنهم لن يحققوا نصرا إلا باستجابتهم الطوعية لأوامر الله و استمساكهم بالوحي و بنهج الأنبياء عليهم السلام ﴿ و يسلموا تسليما﴾.. دون السقوط في مهاوي كيد الأعداء المتسلحين دوما بمظاهر القوة و العنف و الجبروت..! لم يدفع جبروت فرعون بموسى عليه السلام و من معه إلى رد العنف بالعنف فانتصر موسى و من معه من بني إسرائيل على فرعون و قومه..‘ كما لم يدفع جبروت قريش بمحمد صلى الله عليه و سلم و الذين معه برد فعل عنيف فانتصر محمد رسول الله و من معه على كيد قريش..! و هكذا هي قوانين الله الأزلية في الكون و الحياة البشرية:﴿أن العاقبة للمتقين﴾ أقوياء الإيمان بكلمات الله و قوانينه الأزلية و ليس للأقوياء عتادا و عدة و عددا..!؟.
الحضارة الغربية وتفريخ الإرهاب!
لعل أبرز ما يميز الحضارة الإسلامية على غيرها من الحضارات هي إيلاؤها الإنسان أهمية قصوى لا حدود لها، فلا شيء يعلو على حياة الإنسان / أي إنسان وضمان رفاهيته واستقراره النّـفسي والمادي:«فليعبدوا ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»(سورة قريش الآية 3و4).. يستوي في ذلك كل الناس على اختلاف مواقعهم الإجتماعية والثقافية والسياسية، لأن حياة كل البشر هي هبة من الله وبالتالي فهم عبيد متساوون في العبودية لله حتى وإن أنكر بعضهم ذلك.
ومن هذا المنطلق فلا يجوز أن يستعلي أحد على أحد أو أن يظن أن حياته هي أهم من حياة الآخرين بسبب مركزه الإجتماعي أو السياسي أو الثقافي، ومن هنا يعتبر إزهاق روح بشرية واحدة ظلما وتعسفا هو بمثابة إزهاق أرواح البشر جميعا، وإحياء نفس بشرية (إنقاذها من الهلاك مثلا)هو إحياء للناس جميعا في الثقافة الإسلامية.
إن قداسة حياة الإنسان في الحضارة الإسلامية تجعل من إمكانية الإعتداء على فرد بسبب موقعه الإجتماعي أو إنتمائه العرقي أو بسبب توجهاته الفكرية أو السياسية أو الدينية عملا مرفوضا جملة وتفصيلا في الثقافة الإسلامية، يستوي في ذلك المؤمن وغير المؤمن ما لم يبادر بالإعتداء وارتكاب جرم يوجب القصاص... إن مثل هذا المفهوم يغيب في الحضارة الغربية التي تزعم التفوق و الإستعلاء على من عاداها من الحضارات!؟. فأوروبا منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بادرت باضطهاد الشعوب واستعمارها ونهب خيراتها.. بمجرد امتلاكها للقوة التي تقهر بها تلك الشعوب، وأمريكا اليوم تبادر باضطهاد شعوب بأكملها لمجرد الحفاظ على مصالح تراها حيوية، وتدعم الصهيونية المقيتة لاغتصاب أراضي الغير وقتلهم وتشريدهم... فلا عجب أن نرى بسبب ذلك انتشار ظاهرة الجماعات الإرهابية، والتي هي حالة مرضية كردة فعل غير إسلامية على حضارة مريضة لا تقيم أي وزن للإنسان / الآخر، وآن الأوان لاستبدالها بحضارة إسلامية جديدة بديلة ومتطورة تقوم على ثوابت الرحمان بدلا عن ترهات الإنسان الغربي وجهالته و حيوانيته و توحشه و حياة الأنعام التي يحياها و يجبر العالم على الحياة طبقها رغم تهافتها و انكشاف عوارها وتعدد أزماتها.. !
الإسلام يكره الإرهاب ويجرم الإرهابيين
صار ما يعرف بـ« الإرهاب الإسلامي » ظاهرة تتفاقم كل يوم وتسجل حضورها في مناطق مختلفة من العالم. ولقد سجل الإرهاب العالمي حضوره بكثافة في وعي الرأي العام العالمي كثافة الآلام التي يسببها لأناس أبرياء لا صلة لهم – في الغالب الأعم – بالسياسة والحروب التي يفجرها مصاصو دماء الشعوب من قوى الإستكبار في الأرض... فهل في نصوص القرآن(مصدر سلوك المسلم الحق) ما يبرر مثل تلك الأعمال القتالية خاصة وأن الإرهابيين يزعمون أنهم يخوضون ضد الكفار- بمن فيهم الحكومات العربية و الإسلامية - حربا جهادية ركيزتها آية من آيات القرآن الكريم: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفى إليكم وأنتم لا تظلمون»(سورة الأنفال المدنية الآية 60).؟!
لقد جاء الإسلام رحمة للعالمين.. من عرب وعجم وأهل كتب إلاهية سابقة«وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»(سورة الأنبياء الآية107).. ووعد أتباعه المؤمنين بالقرآن، المتبعين لوحي الله بالعزة والقوة والتمكين لهم في الأرض.. « ولقد كتبنا في ألزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » (سورة الأنبياء الآية 105). ورسم لهم في كتابه المجيد كل الثوابت والسنن الحضارية الأزلية التي تورثهم الأرض وتجعلهم قادرين على قيادة العالم بالعدل والحق والقسطاس المستقيم والشهادة على الناس... ولقد كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خير قدوة عملية لإنزال آيات القرآن العظيم / الثوابت الإلاهية في الكون والإنسان والحياة للواقع المعيش في دنيا البشر. ولقد انقسمت حياته عليه الصلاة والسلام إلى فترتين هامتين سمي القرآن باسمهما:
1 – الفترة المكيّة – القرآن المكّي: دامت 13 سنة، وقد خلت كل السور المكيّة الموحى بها خلال هذه الفترة (86 سورة)من أي إشارة إلى القتال في سبيل الله كما خلت حياته صلى الله عليه وسلم من أي عنف أو استعمال للقوة في ردّ الإضطهاد والتـّنكيل الذي كان يتعرض له المؤمنون برسالته... وقد أمر الله فيها المؤمنين بتطهير نفوسهم وتزكيتها من الشرك بالله وإفراغها من قيم وتقاليد مجتمعهم الجاهلي، وملئها بقيم الإسلام الحنيف وتوحيد الله وإفراده بالطاعة، والخضوع التام لأوامره ونواهيه.. ولعل أبرز ما نهت عنه الآيات والسور المكية "الفحشاء والمنكر" كالزّنا وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وامتدحت: « الذين لا يدعون مع الله إلاها أخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ».(سورة الفرقان الآيات 68-69).
2 – الفترة المدنيّة- القرآن المدني: وهي الفترة التي تواجد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة التي هاجر إليها و التي كون فيها الرسول صلى الله عليه وسلم دولته الإسلامية، وقد أذن له وللمؤمنين بالقتال لحماية المؤمنين الذين صاروا يحيون طبقا للشريعة الإسلامية وتنتظم حياتهم بآيات القرآن المدني ..يقول الله عز وجل: « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله » (سورة الحج المدنية الآيتين 39 و40).
إن استحضار حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في كيفية تطبيق وحي الله عز وجل تكشف لنا بوضوح حقيقة هؤلاء الإرهابيين- المجرمين بمعيار القرآن : والمتمثلة في أنهم لم يستجيبوا لأوامر الله في الانتهاء عن قتل النفس البريئة التي حرم الله قتلها إلا بالقصاص ولم يدر في خلدهم الإستجابة لأوامر الله أو الخضوع لشرعه وإنّما هم يقومون بأعمال إجرامية أملتها عليهم مصالحهم.. و يتبعون أهواءهم بغير علم ولا هدى من الله.:«ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله».


توزيع الثروة في البلاد الإسلامية
درجت الحكومات في العالم الإسلامي على الإلقاء باللائمة على شحّ الموارد الطبيعية وقلة الثروات الإقتصادية في تفسير مظاهر الفقر بين الناس وعدم قدرتها على تلبية حاجيات مواطنيها والإيفاء بمتطلبات حياتهم الإجتماعية والصحية والثقافية وغيرها، وهذا لعمري تمويه وتضليل لعموم الناس حتى لا يطالبوا بحقهم في ثروات بلادهم، لأن المشكلة الحقيقية التي توصل المواطنين في بلد ما إلى الفقر والحرمان بمختلف تشكلاته ليس فقر البلاد وقلة مواردها كما يزعم المضللون والمستكبرون بل التوزيع الظالم- الذي لا تراعى فيه حدود الله - للثروة مهما قلت، وعلى هذا الأساس فالمشكلة التي يجب أن يبحث لها عن حل هي فقر العباد وليس فقر البلاد، وعدم حصولهم على كفايتهم من الحاجيات والرغائب أي عدم قدرة الأفراد على تلبية حاجياتهم العضوية والغرائزية والفكرية...، وبعبارة أخرى المشكلة تكمن في توزيع الثروة وليس في إنتاج الثروة، فإنتاج الثروة أمر لا يختلف حوله الناس كاستعمال أحدث التقنيات العلمية والتقنية والتكنولوجية في الإنتاج..
أما مشكلة فقر الأفراد فأمر لا مناص منه فتحتاج إلى حل والحل يختلف باختلاف وجهة النظر- العقيدة - والمفاهيم التي يؤمن بها الإنسان في الحياة كما يختلف باختلاف الشعوب والأمم على عكس مشكلة إنتاج الثروة.
وعلى خلفية المفهوم الإسلامي « الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله » يصبح مفهوم تآخي الناس والمساواة بينهم في المجتمع وأمام القضاء و القانون لا معنى له إذا لم تعززه عدالة إقتصادية واجتماعية تضمن لكل فرد حقه إزاء ما يقدمه لمجتمعه أو للناتج الإجتماعي، وتكفل ألا يستغل أحد أحدا أو يبخسه حقه. فالعامل مثلا له أجره العادل لقاء مساهمته في الإنتاج والمعاملة الحسنة من قبل صاحب العمل، والحد الأدنى الذي يجب أن يحصل عليه العامل لقاء ما يقدمه من خدمات للمجتمع هو ما يؤمن للعامل كفايته من طعام جيد وملبس حسن له ولأسرته – حسب معطيات مجتمعه الحضارية - دون أن يكلف ما لا يطيق. أما الحد الأمثل فهو كما قرره النبي صلى الله عليه وسلم، الأجر الذي يمكن العامل من أن يأكل ويلبس، كما يأكل صاحب العمل ويلبس، فقال عليه الصلاة والسلام:« إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس » (رواه مسلم والبخاري). وعليه فإن الأجر العادل لا يمكن أن يكون أقل من الحد الأدنى، وما ذلك إلا لينخفض التفاوت في الدخول ولتضييق الهوة التي تفصل العامل عن صاحب العمل في شروط معيشتهما، وهذا التفاوت لو حصل في المجتمع المسلم من شأنه أن يوهن روابط الأخوة التي تعتبر سمة أساسية من سمات المجتمع المسلم الحق.
إن التفاوت الفاحش في الدخول والثروات وهو ما نراه اليوم منتشرا في كل « الدّول الإسلامية » ينافي جوهر الإسلام لأن فيه قضاء محتما على مشاعر الأخوة التي يريد الإسلام بثها بين المسلمين" إنما المؤمنون إخوة"، وليس هناك أي مبرر يدعو إلى حصر الثروة « التي هي ملك لله مالك الملك و خالق السماوات والأرض » عند قلة من الناس طالما أن الخالق سبحانه وتعالى لم يجعلها وقفا على فئة معينة.
إن عدالة التوزيع لثروة البلاد الإسلامية بين المسلمين في حدها الأدنى على الأقل من شأنها أن توفر لكل فرد مستوى من المعيشة تهيؤه لأن يحيا حياة تليق بكرامة الإنسان المسلم‘ ويتوجب على الدولة الإسلامية دولة التوحيد بعد ذلك أن تعمل على تأمين العمل لمن يبحث عنه وإثابة العاملين بالأجر العادل وجمع الزكاة من مكونات المجتمع الإسلامي ليعاد توزيع الدخل على الفقراء الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض أو يعانون من معوقات عقلية أو جسمية أو يرزحون تحت وطأة ظروف خارجة عن إرادتهم كالبطالة و اليتم أو وفاة العائل مثلا وتطبيق شريعة الله في الإرث و الملكية ليؤول إلى أكبر عدد من الناس.

قائمة المصادر والمراجع:
1- المصادر:
أ‌- العربية:
• عمارة (محمد): الأعمال الكاملة لعبد الرحمان الكواكبي: مع دراسة عن حياته وآثاره، (مصر، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ط1 – 1970)
• الأعمال الكاملة لعبد الرحمان الكواكبي: (لبنان المؤسسة العربية للدراسات والنشر: ط 1 1975)
• الكواكبي (عبد الرحمان): تقديم أسعد السحمراني): طبائع الإستبداد ومصارع الإستبعاد (بيروت، دار النفائس ط 1 1984).
• :أم القرى(بيروت- دار الرائد العربي-ط2-1982).
ب‌- الفرنسية:
• Alfieri (Victor) : De la Tyrannie- (Paris, aux bureaux de la Publication ; 1865)
2- المراجع: (لقد اقتصرنا على ذكر أهم المراجع التي استفدنا منها في بحثنا)
• الدهان (سامي): عبد الرحمان الكواكبي : (مصر، دار المعارف بدون سنة نشر)
• حمزة (محمد شاهين): عبد الرحمان الكواكبي، العبقرية الثائرة: (القاهرة، منشورات المكتبة العالمية ط 1، 1958)
• خلف الله (محمد أحمد): الكواكبي حياته وآراؤه: (القاهرة مكتبة العرب بدون سنة نشر)
• كتورة (جورج): طبائع الكواكبي في طبائع الاستبداد: (بيروت، المؤسسة الجامعية للنشر، ط1، 1987)
• أمين (أحمد): زعماء الإصلاح في العصر الحديث: (بيروت، دار الكتاب العربي، 1979)
• شرابي (هشام): المثقفون العرب والغرب: (بيروت، دار النهار 1973)
• خوري (رئيف): الفكر العربي الحديث وأثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والإجتماعي: (بيروت، منشورات دار المكشوف، ط 1، 1943)
• حوراني (ألبرت): الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939: (ترجمة كريم عزقول، بيروت، دار النهار)
• سابايارد (نازك): الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة: (مؤسسة نوفل ط1، 1979)
• زيادة (خالد): اكتشاف التقدم الأوروبي: (بيروت، دار الطليعة، ط1، 1981)
• هرمان (جورج): تكوين العقل الحديث: ( الجزء الأول): (بيروت، دار الثقافة، ط 2، 1965).
• عمارة (محمد): العرب والتحدّي: ( دمشق، دار قتيبة، ط2، 1987)
• بروكلمان (كارل): تاريخ الشعوب الإسلامية: (ج 3، بيروت، دار العلم للملايين، ط1، 1960))
• لانجر (وليم): موسوعة تاريخ العالم ج5: (أشرف على الترجمة عبد المنعم أبو بكر، ط 1966)
• دائرة المعارف الإسلامية: المجلد الثاني (نشر الشعب)
• المراكشي (محمد صالح): تفكير محمد رشيد رضا من خلال مجلة المنار: (تونس، الدار التونسية للنشر)
• الدوري (عبد العزيز): التكوين التاريخي للأمة العربية: (بيروت، ط1، 1984)
• ألحصري (أبو خلدون ساطع): محاضرات في نشوء الفكرة القومية: (ط. خاصة 1985)
• الأفغاني )جمال الدين) وعبده (محمد): العروة الوثقى: (بيروت، دار الكتاب العربي، ط3، 1983)
• محمد (محمد عوض): الإستعمار والمذاهب الاستعمارية: (دار الكتاب العربي، ط2، 1956)
• فولغين (ف): فلسفة الأنوار: (بيروت، دار الطليعة، ط1، 1981)
• الفنجري (أحمد شوقي): الحرية السياسية أولا: (الكويت، دار القلم، ط1، 1973)
• العروي (عبد الله): مفهوم الحرية: (المركز الثقافي العربي، ط 4، 1988)
مفهوم الإيديولوجيا: (المركز الثقافي العربي، ط 4، 1988)
مفهوم الدولة: (المركز الثقافي العربي، ط 4، 1988).


راجع تفصيل ذلك في :
Islam3mille.blogspot.com
http://mohamedbenamor21.blogspot.com
Daawatalhak.blogspot.com
Almizenalislami.blogspot.com
http://islam3000-islamonegod.blogspot.com/2010/08/blog-post_31.html
http://www.elaphblog.com/daawatalhak
http://www.elaphblog.com/islam3000
http://www.elaphblog.com/islamonegod
http://islamonegod.canalblog.com/
news.maktoob.com/story_list/816369
http://www.banady.com/profile/174552
http://www.facebook.com/home.php?
http://www.facebook.com/home.php?#!/islam3000
http://Alwah.net/islamonegod
للتواصل مع الكاتب :
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
Portable :00216 93833734

 





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !