مواضيع اليوم

الأعمال الكاملة للمفكر الإسلامي محمد بن عمر ؟ق2

محمد بن عمر

2010-09-15 17:08:31

0

مشروع بناء حضارة بديلة

 


الإسلام و تحديات الألفية الثالثة!؟

في أواخر القرن التّاسع عشر الميلادي كانت حركات الإستعمار الكبرى للعالم الإسلامي تركز قواعدها في الهند ومصر والجزائر وتونس والسودان... كحلقة أخيرة من حلقات تطويق العالم الإسلامي والإنقضاض على ثرواته و أراضيه و كل خيراته.. ونهبها..! وكان قد مهّد لإستعمار بلاد الإسلام بغزو حضاري و ثقافي نشيط، ابتدأه وألهب شرارته الأولى في ديار الإسلام ما يسمون عندنا « بزعماء الإصلاح العرب»!؟ وهكذا تراجعت الرّابطة الإسلامية كشكل من أشكال البناء السّياسي القائم .. أمام ضربات الإستعمار الموجعة .. وقد توّج ذلك بسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1924م على يد كمال أتاتورك..
لقد تمزقت الرابطة الإسلامية - التي وحدت المسلمين سياسيا و جغرافيا لقرون عديدة- خلال القرن العشرين وتنازعت الدّول الإستعمارية الكبرى ميراث الإسلام وثرواته و أراضيه ... وسيطرت على أضخم قواعده وقدراته .. واندفعت الحركة الصّهيونية العالميّة بدعم مباشر من الإستعمار الغربي ..!! تسيطر على فلسطين وتجعل من احتلال بريطانيا للقدس مقدمة لسيطرتها عليها بعد خمسين عاما...!!
ولقد قاوم "ورثة الإسلام" في معارك حاسمة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي في أفغانستان والقرم ومصر وسورية والجزائر والعراق وباكستان .. وحققوا بعض الإنتصارات.. وتحرّرت ديار الإسلام من نفوذ الإستعمار العسكري الغربي المباشر وانبعثت من قلبه « حركة تحرّرية و تنويرية » بعد طول سبات.
غير أن حركة التـّنوير والتـّحرر الفكري / الحضاري لم تلبث أن واجهت عقبات كأداء في العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية هذا القرن الجديد، فقد تحالف الإستعمار الغربي و الإستكبار العالمي والصّهيونية و أزلامهم.. من أجل ضرب حركة التـّنوير والتـّحرّر الإسلامية ودفعها دفعا للإنحراف عن ثوابتها الإسلامية و بصائرها القرآنيّة الأزلية المنزلة على محمد صلى الله عليه و سلم.." لتحرير البشرية من عبادة العباد لعبادة رب العباد و فك أسرها من الظلم و الطواغيت و الأغلال المختلفة...!؟.." ومن ثم فانّ أخطر التحدّيات التي تواجه "ورثة الأنبياء " - عليهم السلام - في السّنوات الأخيرة تتمثل أساسا في الحفاظ و الإستمساك الواعي بالهوية الإسلاميّة والثوابت القرآنية وحماية الهوية الثقافية والحضارية للشعوب الإسلامية، وتطوير هياكلها وتحرير الفكر الإسلامي من الجمود و التقليد والعمى الفكري/الحضاري و فكر الدروشة..! ومن الأخطار الفكرية الشاذة والمفاهيم الثقافية المغلوطة و المنحرفة عن هداية الله و بصائره الأزلية و قوانينه الأبدية المنظمة للأسرة و المجتمع و الحياة عامة.. ورعاية شؤون المسلمين في العصر الحديث طبقا للثوابت الإسلامية.. داخل أرض الإسلام و خارجها ..! و تحصين﴿ أمة الإسلام ﴾ ضد المخاطر الثقافية والحضارية التي تلقى إليها عن طريق وسائل الإعلام والإتصال المختلفة.. وعبر التبشير.. والإستشراق المنحاز لضلالات رجال الدين اليهودي و المسيحي .. و ضد الشعوبية المتطرفة.. والقوميات المتعصبة.. وهي آليات و مفاهيم منحرفة تلتقي جميعا على هدف : إذابة الهوية الحضارية و التشكيك في الثوابت الإلاهية لأمتنا الإسلامية.. بدعوى "الحداثة" و"العولمة" و"العلمانية" و" اللائكية " و الإجتهاد و مواكبة العصر..! و غيرها من بدع جاهلية الإنسان الغربي الحديث و حيوانيته و تخلف الإنسان العربي / المسلم و تبعيته و انهزامه الحضاري و انبتاته عن ثوابته القيمية الإسلامية و هجره للقرآن منذ أمد بعيد!!؟... وهي دعاوي وإن اختلفت مسمياتها وتنوعت مصادرها و اختلفت.. إلا أنّها تتّـفق على أن يترك المسلمون ثوابت دينهم الإسلامي ومفاهيم قرآنهم وقوانينه الأزلية المطابقة لحقائق الكون والحياة والإنسان و فطرته التي فطره الله عليها منذ خلقه للكون .. واستبدالها بفلسفات مريضة وتيّارات جانحة منحرفة من الفكر والثقافة والإعتقاد ونظرة خاطئة لحقيقة الألوهية والقدر و تأويل خاطئ للنصوص المقدسة ﴿ التوراة والإنجيل والقرآن ﴾ حتى يسهل للغرب الإستعماري و الإستكبار العالمي وأزلامهما من الأقوام التبع و ورثته من بني جلدتنا بعد ذلك السّيطرة على شعوبنا الإسلامية و استغلالها و إذلالها فكريا و حضاريا و سياسيا .. ونهب ثرواتنا .. واستغلال شعوبنا وتركيعها لسيادة الغرب الموهومة و ربوبيته المزعومة للعالم وإخضاعها لأطروحاته المعادية لكل مصالحنا و كل مصالح الشعوب المستضعفة..!!؟ هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهه المسلمون/ "ورثة القرآن" في بداية هذا القرن 21 !؟ فالقضاء على أصالة هذه الأمة وكيانها الفكري والروحي و الحضاري .. هو مقدمة الغرب ألإستكباري/ الإستعماري لتحقيق مآربه ومآرب الصهيونية اللقيطة في الإستيلاء على ما تبقى من أرض الإسلام وخيرات أراضيه الممتدة شرقا وغربا !!؟

إنّ كلّ هؤلاء "الأعداء" لا يخفون عداءهم لحملة﴿ الرّاية الإسلامية﴾: الذين اختاروا طريق الأنبياء والصّالحين للسير على منهجهم و الإنتصار للحق وإعلاء كلمة الله والتّمكين لشريعته الأزلية التي فطر الناس عليها في الأرض..ومن ثََََم: تحقيق الأمن و الإستقرار لشعوبنا الإسلامية و لكافة شعوب الأرض.. و تحقيق وحدة المسلمين و عزتهم تحت راية القرآن و كلماته الأزلية المعجزة لأنها كلمات﴿ الله العزيز الخبير﴾.. وهذا العداء للإسلام و أهله تتفق عليه مختلف مؤسسات هؤلاء الأعداء : الثقافية والسّياسيّة والعسكريّة وغيرها ‘وورثتهم و أتباعهم في ديارنا الإسلامية، وخلاصة ما يسعى إليه الغرب الإستعماري/ ألإستكباري بمعية الصّهيونية العالميّــة اللقيطة و أزلامهما من بني جلدتنا ..: هو التدجين ومن ثم الإحتواء و الهيمنة..! ولعل أبرز التّحديات التي واجهت الشعوب الإسلامية لتدجينهم و من ثم احتوائهم والهيمنة عليهم عن طريق العملاء و التبع تتمثل في تحريف مفاهيم الإسلام وتشويهها أو تأويلها وإخراجها عن طابعها المتكامل الجامع بين الدنيا والآخرة : متّهمين شريعته بأنها سبب تخلف المسلمين و تقهقرهم الحضاري..!؟؟ و قد نادى هؤلاء الأعداء جميعا باستبعاد مبادئه الأزلية الحقة وعزلها عن الحياة..!!؟؟ ودعوا إلى "اللائكية" و"العلمانية" بديلا عنه!؟ كما استغلوا جهل العامة والخاصة في ديارنا و غفلتهم عن أهمية الشريعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية في الحفاظ على مكتسبات الأمة المسلمة وحماية النفس البشرية والكيان الاجتماعي من السقوط والإنهيار‘ ونادوا بالتحلل منها واستبدالها بقوانين الغرب وشريعته - والتي حولت العالم كما حولت مجتمعاته الغربية نفسها .. إلى غابة وحوش ضارية يأكل القوي فيه الضعيف كما هو مشاهد اليوم!؟- رغم عدم انسجام هذه القوانين و التشريعات الوضعية مع خصوصيتنا الحضارية وقيمنا الثقافية ومفاهيمنا الإسلامية و قناعات شعوبنا الإسلامية ومعاييرها الإلاهية ..!؟
ثم امتدت دعوة التغريب و الإنبتات .. فزيفت المفاهيم وحرفت الكلم عن مواضعه وشوهت المبادئ التي أقامت الحضارة الإسلامية وأوصلتها إلى أقاصي الأرض واستمد منها المسلمون القوة على الصمود والقدرة على الفعل وبناء القوة والعزة والحضارة ووراثة الأرض وامتلاك ناصية الأمم و الشعوب لردح طويل من الزمن.. وأهلتهم لأن يكونوا :﴿ خير امة أخرجت للناس﴾..!

ويمكن حوصلة الهجمة الغربية – الصهيونية و أتباعهما على الإسلام في النقاط التالية:

محاربة الإسلام عن طريق نخبه المتغربة/المنبتة عن هوية أمتنا الإسلامية..: بنظريات زائفة كالتي تزعم "أن الدين ليس سوى الإنعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي": ( نظرية كارل ماركس/ ماركس محق إذا كان يقصد الدين اليهودي و الدين المسيحي المحرف و ليس دين التوحيد لموسى و عيسى و محمد عليهم السلام المفصل في التوراة و الإنجيل و القرآن) المنزل﴿ من لدن عزيز حكيم﴾..!
كما شكلت مصنفات ما يسمون "بفلاسفة الأنوار" في القرن الثامن عشر ميلادي أرضية خصبة لمحاربة الدين عامة والفكر الإسلامي خاصة، من بعد ما تبنته نخبة هامة من "زعماء الإصلاح" في البلاد الإسلامية !!!؟- كما سبق و بينا خلال دراستنا لفكر عبد الرحمان الكواكبي - ، ولم يع هؤلاء –"الزعماء"- أنهم كانوا يحفرون مقابرهم و مقابر حضارتهم الإسلامية بأيديهم!؟.

محاربة القيم والمبادئ والثوابت الإسلامية و اليهودية و المسيحية المشتركة وكل القيم الإنسانية النبيلة التي تنسجم مع فطرة الإنسان السوي، بدعوى أنها قيم نسبية ومتغيرة، ومرتبطة بالبيئات والعصور وتختلف باختلاف الحضارات!!؟ (التطبيقات البشرية للقيم الإلهية هي عملية نسبية لكن القيم و المعايير الإلاهية مطلقة و أزلية و صالحة لكل زمان و مكان ).

الدعوة إلى هدم الأسرة باعتبارها من مخلفات المجتمعات الإقطاعية وعصور الإنحطاط !!؟ والتشجيع على العلاقات المنحرفة و الشاذة كاللواط والسحاق-العلاقات المثلية- والإجهاض ... كحل للمشكلات الأسرية و الإجتماعية وهي دعوة شيطانية لتغيير خلق الله و فطرته التي فطر الناس عليها.. و بسبب ذلك تحولت حياة الناس شرقا و غربا إلى جحيم لا يطاق و فقد الرجل و المرأة دورهما الطبيعي المحدد لهما في الحياة.. فاستشرت الأمراض المزمنة نتيجة لذلك وانتشرت السيدا و العجز الجنسي و الأمراض العصبية والذهانية و غيرها انتشارا مرعبا بين الناس كما نلاحظ اليوم بل طالت الأمراض المرعبة حتى الحيوانات بسبب فساد الإنسان و سوء تقديره لعواقب تغيير خلق الله :(جنون البقر و أنفلونزا الطيور )...!!؟

الدعوة إلى قيام العلاقات البشرية على أساس المصالح المادية والعرقية والإثنية وإثارة العصبيات الطائفية والعرقية كما يروج الأمريكان و أزلامهم في العراق منذ احتلاله عام 2003..!!؟ ﴿هذه الدعوة تتناقض حتى مع دعوتهم للديمقراطية و دولة القانون ! لان القانون لا يفرق بين الناس عند تطبيقه : إنهم عميان البصيرة كالأنعام لا يعقلون بل هم أضل !؟

إيجاد الأحزاب السياسية – علمانية و إسلامية - التي تتبنى مفاهيم الغرب و معاييره المزدوجة في ديارنا و رعايتها ماديا و لوجستيا..!!

محاربة اللغة العربية الفصحى، لغة الإسلام الأولى ولغة القرآن الكريم/ الكتاب الذي تحدى الجن و الإنس على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.. لإدراكهم الإرتباط الوثيق بين اللغة العربية والدين الإسلامي ومجد ووحدة المسلمين، وقد عملوا جاهدين على ترويج الدعاوى التي تتهم اللغة العربية الفصحى بالعقم والبداوة وألقوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين ورفعوا شعار: « من أراد التقدم والرقي فلا يتكلم اللغة العربية »! زاعمين بعدم استجابة اللغة العربية الفصحى للحضارة الحديثة وأنها لا تستوعبها وهي عسيرة على من يتعلمها ؟! متعامين بذلك عن أن توقف اللغة العربية الفصحى عن الإشعاع الحضاري الذي بلغته من قبل مرده تخلفنا الحضاري و ليس عجز اللغة أو تخلفها..!؟

اعتماد مناهج تربوية من قبل الحكومات "العربية و الإسلامية" بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي في تربية الإنسان المسلم المثبت من الله ﴿ بالقول الثابت﴾ و القوانين الأزلية و التنويرية في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والمستضيء بنور الله و بصائره التي لا تخبو أبدا﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ﴾.

خلق مفهوم صراع الأجيال حتى يسهل بعد ذلك دفع الشباب إلى الإنهيار والتمزق في ظل فراغ نفسي وفكري وثقافي وعطش روحي و دفعه للإنحراف و الشذوذ و تقديس الجنس و المخدرات و الإعتقاد الخاطئ في عبثية الحياة..!!؟
وقد تخفى هؤلاء المستكبرون عميان البصيرة !!؟.. وراء مذاهب ونظريات منحرفة مغرضة أثبت العلماء المحايدون جهالتها و تفاهتها و تضاربها مع حقائق الوجود وعدم ارتكازها على حقائق علمية ثابتة وانبناؤها على الظن والتخمين .. وليس لها أية صلة بالواقع البشري و حقائق العلم و المعرفة، بل وقدرة هذه النظريات الفائقة على تخريب عقول الناشئة وصنع "الرجال الجوف " حسب تعبير أحد شعرائهم!!؟
كل هذه الوقائع قد ساهمت بدورها في تبعية مجتمعاتنا الإسلامية و تأبيد تخلفها حتى بدا للعيان أن شفاءها قد صار متعذرا..؟!
إن مجابهة كل هذه التحديات الخطيرة وغيرها على مستقبل أمتنا الإسلامية: تبدأ بتجديد الثقافة الإسلامية التصحيحية المبنية على الثوابت الإلهية الحقة... مستمسكين بثوابتنا القيمية والحضارية ومفاهيمنا الإسلامية المبثوثة في ثنايا "الذكر الحكيم" و الذي اتخذه المسلمون﴿مهجورا﴾ منذ أمد بعيد..! إنطلاقا من إدراكنا ووعينا بنسبية الحضارة البشرية و نسبية فهم الأجداد و الآباء للثوابت القرآنية و المعايير الإلاهية و الموازين الربانية كل حسب أزمنتهم و أمكنتهم و أطرهم التاريخية و الحضارية، إذ لا يعقل بداهة أن نجابه مفاهيم الزيف الحداثي والعولمة و هذا الضياع لكل شعوب العالم بسبب القوانين الوضعية التي أهوت بنا جميعا في مكان سحيق من الفقر و البطالة و الأمراض المزمنة .. وكل منجزات الحضارة المعاصرة و ما بلغته من تقنيات غاية في التطور و التقدم .. لا يعقل أن ننظر إليها بأعين أموات منذ قرون خلت أو بمفاهيم عصور الإنحطاط في تاريخنا الإسلامي أو بمفاهيم حضارتنا الإسلامية القديمة..أو بمفاهيم الغزالي وابن تيمية وابن رشد و غيرهم!؟ و الذين عاشوا في زمن غير زمننا و في واقع حضاري و اجتماعي معيش غير واقعنا في العصر الحديث .. ودون أن نطور مفاهيمنا – مرتكزين على بصائرنا القرآنية ومعطياتنا الحضارية الراهنة – ونصحح ما تآكل منها بمفعول الزمن و تقدم الحضارة البشرية .. ونجعلها تأخذ بالألباب كما أخذت بألباب رجال الجاهلية الأولى.. لارتكازها على الحق والنور الإلهي و ثوابته الأزلية و قوانينه السرمدية التي كلّفنا – نحن أمة الإسلام وورثة الأنبياء - بالإستمساك بها و تبشير العالم برحمتها... حتى نكون شهداء على الناس كافة و نقود مسيرتهم و مسيرة شعوبنا الإسلامية نحو التقدم و النما و الخير و الرحمة و الجمال.. في الحياة الدنيا و في الآخرة... فنغنم و يغنموا.. و نسعد و يسعدوا.. بعدما أرهقتهم و أرهقتنا القوانين الوضعية الظالمة و الحضارة الغربية المتداعية للسقوط!!!؟

 

 

 

 

في مفهوم الثقافة الإسلامية

اشتقت كلمة الثقافة من ثقف يثقف، وثقف العود بمعنى سواه وهذبه وبذلك يصبح معنى كلمة ثقافة كل ما من شانه تهذيب سلوك البشر والرقي به من حالة الحيوانية إلى مدارج الإنسانية الفاضلة.. إن الثقافة لها أهمية قصوى لدى الكائن البشري‘ فهي لا تخرج عن كونها تهذيب لخصائص الإنسان الطبيعية، وتشذيب لخصاله المتوحشة، وتغيير لما جبلته عليه فطرته الحيوانية تغييرا يستوي بالتدريج هوية ثقافية.. وإذ تعلو الثقافة بالكائن البشري عن منازل التوحش، فإنها تكسبه خصائص جديدة يؤصلها فيه تراكمها وتصاعدها، فتغير لديه جوهره الطبيعي الغريزي المتوحش، ويكون التغيير تهذيبا وتشذيبا من جهة وتعديلا وتبديلا من جهة أخرى. فالثقافة تهذب، على سبيل الذكر، غريزة التناسل وحب البقاء، فتنقلها بالتشذيب والتثقيف من طور التوحش الغريزي إلى طور الثقافة المكتسبة التي تقيدها بمؤسسة الزواج مثلا و قوانينه المعلومة، وتحسنها باختلاجات الوجدان وصنائع العقل...

كما تعكس الثقافة ـ بمفهومها الأنتروبولوجي ـ خصوصية المجتمع والقيم التي يتبناها والمفاهيم التي ينظر من خلالها إلى الحياة والكيفية التي يتعامل بها الفرد مع نفسه ومع بقية الأطراف الإجتماعية.. كما تعكس مواقف تلك المجموعة البشرية من الكون والحياة والعالم وما بلغوه من ارتفاع فكري ورقي حضاري ونماء ذوقي.. وازدهار الثقافة أو تطورها متوقف إلي حد كبير علي ما يسود بين أفراد المجتمع وجماعاته من حوار بناء وتنافس نزيه في مختلف ميادين الحياة ودروبها ومشكلاتها، بما يعنيه من تنوع في وجهات النظر وترك الفرصة أمام جميع الفرقاء ليدلي كل واحد بدلوه دون إقصاء. وهذا لن يحدث ما لم يلتزم كل صاحب رأي بأدب النقاش والإختلاف، جاعلا نصب عينيه أن غايته من بذل الجهد الفكري هو تقدم بلاد الإسلام وعزتها وتحصينها ضد كل الأدواء التي يمكن أن تعرضها للخطر، عندها، يصبح اختلافنا رحمة تنشر ظلالها الوارفة وثمارها اليانعة علي الجميع فنختار الرأي الأصوب والأقرب لمصلحتنا حاضرا ومستقبلا، مـتـعـاونين ومتحفزين دوما إلي ما هو خير وأحسن، ونرتقي في جو من التسامح والتعاون والتكامل.

لقد احتاجت الأمم الناهضة دائما إلى بلورة فكرية- ثقافية في شخصيتها وقيمها ومعاييرها.. اذ لكل شعب من شعوب الدنيا معاييره المميزة و سماته وشخصيته المتفردة. ومهمة المفكر أو المصلح في أية امة من الأمم هي البحث عن هذه السمات والخصائص بغية اكتشاف ما فيها من عناصر أصيلة لتقريبها واخذ الصالح منها. وما يمكن أن يكون فيها من شوائب دخيلة ومن ثم يعمل عل حذفها واستبعادها. وهي مهمة صعبة وعسيرة وتحتاج إلى كثير من الإرادة والمسؤولية.. وإذا ما أردنا النهوض من كبوتنا الحضارية فلا بد لنا أن نجعل من الثقافة الإسلامية والثوابت الإلاهية ركيزة أساسية من ركائز التغيير ودعامة صلبة للمجتمع المدني الذي ننشده وحافزا لكل نهضة وإبداع حضاري.. فلا تقدم ولا تطور لمجتمع بشري بدون ثقافة ناضجة ومتحفزة لاختراق الآفاق واعتلاء أعلى القمم.. تستنفر كافة قوى الإنسان وطاقاته وقدراته على البذل والعطاء والمشاركة الفعالة في تحريك هياكل المجتمع والمساهمة في بناء لبناته وتأسيس كيانه ونحت ملامحه..
إن كل مجتمع ينشد الرقي والإزدهار لا بد له من ثقافة مميزة يتخذها ركيزة ودعامة صلبة للإنطلاق والإقلاع الحضاري وإلا فانه سيضيع في متاهات الطريق. ويفقد توازنه على الفعل وتحبط أعماله ومجهودا ته وينتكس إلى الوراء.

فما هي أبرز الخصائص التي نريدها لثقافتنا...؟ وما هي حدودها...؟

إن الثقافة التي نريد، لها مواصفات وقرائن وهي تلك التي لها القدرة الكاملة علي تلبية حاجياتنا العضوية والغرائزية، وتتوفر علي قدر من الإنسجام مع شخصيتنا الحضارية والعقائدية والمفاهيم القرآنية ومعاييرنا الإسلامية وتستجيب لطموحاتنا الفكرية والروحية بحيث تصل بالفرد والمجموعة إلى الإنسجام والتوازن المادي والمعنوي، وتحفزهم لبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا ومواجهة تحديات:« الأخر/ العدو» على كافة الأصعدة: الثقافية والسياسية والإقتصادية والعسكرية.. ولا قيمة لثقافة تطلب من الإنسان أن يعيش مسكينا ومحروما من ملذات الدنيا وطيباتها التي أحلها الله لعباده:« قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ».. ولا قيمة لثقافة تكبت غرائز الإنسان الطبيعية أو تطلب منه تأجيل تلبيتها إلى وقت يصل فيه إلى حافة القبر.. أو تعطل طاقاته ومواهبه أو تحد من طموحه ورنوه إلى أعلى القمم.. كما نرفض ثقافة تطمس شخصيتنا وتميزنا، وتسعى إلي دمجنا وصهرنا إلي حد الذوبان في «الأخر/ العدو» لتحيلنا في النهاية إلي إذناب ليس لهم حول ولا قوة.

ويمكننا أن نجمل مرتكزات الثقافة الإسلامية التي نريد في النقاط التالية:

الإيمان بالله خالق و رب وحيد للكون والإنسان والحياة ‘ الجدير بالطاعة والخضوع وإتباع أوامره..(اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق.) (سورة العلق الآية 1و2).

القرآن الكريم الكتاب الوحيد الذي يحتوي على الحقائق الأزلية و القوانين السرمدية المتطابقة مع الواقع في الكون والإنسان والحياة والمجتمع والمتماهية مع فطرة الخلق الصحيحة التي فطر الله الكون عليها منذ الخلق الأول للحياة.. كما أنه من خلق الله الذي خلق كل شيء.. لذلك فهو معجز عن الإتيان بمثله: إذ الخلق كلهم﴿ الإنس و الجن و الملائكة..﴾ عاجزون عن الخلق بداهة .. وهو الكتاب الوحيد الذي يستمد منه المسلم في أي زمان و أي مكان كافة معاييره وموازينه لجميع سلوكيات البشر و كافة مفاهيمه لمختلف ميادين الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، داخليا وخارجيا.. لأنه من عند الله العزيز الحكيم : « ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ».

لا بد من العودة إلى التأسي والإقتباس من المرحلة التاريخية التي تم فيها ميلاد المجتمع الإسلامي الأول، فلهذه الفترة قدسيتها وعصمتها لأن رعاية الله كانت مستمرة، وتسديد الوحي كان مرافقا لكل خطوة وخلجة نفس، وهذا لن يتأتى لأية مرحلة تاريخية أخرى من حياة الأمة المسلمة. فالسيرة النبوية تشكل بالنسبة لنا أنموذج الإقتداء الوحيد الذي يجب أن يحتذى والمعالم ووسائل الإيضاح العملي لآيات القرآن المجيد للإهتداء على ضوئها والسير طبقا لتعاليمها، إن تلك القدسية لا يمكن أن تكون لأية فترة ماضية أو حاضرة أو مستقبلة..

بناء الإنسان المؤمن بالله الذي يستلهم في علاقاته بالكون والإنسان والحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية الثوابت القرآنية ويستمد منها مفاهيمه وإن تلك الثوابت هي حقائق أزلية قد سارت على هداها كل المجتمعاتالقدوة في الصلاح والتطور وقيادة الشعوب من لدن نوح عليه السلام.. إلى محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم قدوة جميع المؤمنين في العالم. فالسيرة النبوية تشكل لنا أنموذج الإقتداء الوحيد الذي يجب أن يحتذى والمعالم ووسائل الإيضاح لآيات القرآن المجيد-المكي والمدني- للإهتداء على ضوئها والسير طبقا لتعاليمها.فهي المعين الذي يمد المسلمين في العصر الحديث بدروس العبر وضوابط النصر والظفر. يقول الله عز وجل: « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...» (سورة الشورى الآية 13).

هناك صنفان من البشر لا ثالث لهما في الثقافة الإسلامية والمفهوم القرآني:مؤمن وكافر. مؤمن متبع لهدى الله قد اختار أن يتخذ من الله ربا ومن الإسلام دينا يخضع لشريعته و لكل معايير القرآن بملء إرادته. وكافر معرض عن ذكر الله وآياته قد اتخذ أربابا أخرى من دون الله. فمنذ هبوط آدم إلى الأرض خاطبه ربه قائلا: « فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا...» (سورة طه الآيات 123- 124).

هذه حدود ومرتكزات للثقافة التي ننشدها لا بد من استحضارها دائما ونحن نرنو إلى مستقبل أفضل، جاعلين نصب أعيننا انتمائنا الحضاري إلى" خير امة أخرجت للناس" وقد أنزل الله عليها القرآن لتكون رحمة للعالمين. وشاهدة عليهم و قائدة لمسيرتهم دنيا وآخرة.
نحو بناء حضارة إسلامية بديلة!

« زمن الإنحطاط العربي » مقولة مختصرة لكنها معبرة، تعبر عن المرارة التي أضحى يشعر بها المفكر في البلاد الإسلامية وهو يرى أن الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والسياسية و غيرها... تزداد سوءا وانتكاسا على مر الأيام...!!
يحدث كل هذا بعد أن شهدت البلاد العربية والإسلامية جمعا من المصلحين والمفكرين الذين تخصصوا في شتى المجالات الحياتية .
إن هذا الوضع الذي آلت إليه حالنا يحتم علينا أن نطرح السؤال التالي: ما هي الأسباب الكامنة وراء فشل البرامج الإصلاحية في إحداث النهضة التي أخذت تظهر في البلاد الإسلامية منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي! ؟

I. أسباب الفشل:
إن المتتبع لمؤلفات "زعماء الإصلاح" في بلادنا الإسلامية يلاحظ أن الإنبهار بما حققته الحضارة الغربية كان عظيما في نفوسهم والإنشداد إلى النمط الغربي في الحياة واضحـا وجلـيا . وهذا الإنبهار بمنجزات الغرب و حضارته و ثقافته.. جعلهم يتخذونه قدوة ومثالا، فكان النمط الغربي النهضوي حاضرا لدى جل هؤلاء الرواد . لذلك جاءت برامجهم الإصلاحية وتنظيراتهم تنقصها الدراسة العلمية المتأنية التي تراعى فيها الملابسات والظروف التي أدت بأمتهم الإسلامية إلى حالة من التخلف الحضاري و الإنحطاط الإجتماعي و الإستبداد السياسي...!

ولا عجب بعد ذلك أن نجد منهم من كان يدعو إلى « أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب» !؟ .
إن الصفة المشتركة التي جمعت "زعماء الإصلاح"هي:« افتقاد الشعور بالعزة بهويتهم الحضارية الإسلامية، والإنبهار الكلي بالغرب»! وهذا الإنبهار قد أعشى أبصارهم أن ترى الدّرب القويم والنهج السليم لنهضة أمتهم الإسلامية وبناء حضارة إسلامية جديدة ومتطورة تليق بخير امة أخرجت للناس والتي قد كلفها ربها بأن تكون شاهدة على الناس وقائدة لهم إن هي استمسكت بالنور الذي أنزله الله عليها – القرآن- والتاريخ:« يعلمنا انه ما من مدنية تستطيع أن تزدهر أو تظل على قيد الحياة إذا هي خسرت إعجابها بنفسها وصلتها بماضيها» .

II. عودة إلى التاريخ:
1- الإسلام:
أ- الإسلام ومرحلة بث "الفكرة الجديدة ":
جاء الإسلام معلنا منذ بداية نزول الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن بداية ظهور نظرة مغايرة لما هو سائد بين البشر ومفاهيم جديدة للكون والإنسان والحياة، تختلف جذريا عما تعلمه الإنسان من مصادر بشرية ومعلنا بوضوح مخالفته لسائر التصورات البشرية: ثقافتها ومعتقداتها أخلاقها ومعاملاتها، نظمها وتشريعاتها:﴿ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ (سورة العلق الآيات 3 و4 و5).. ليبرز بعد عملية الهدم للمنظومة القيمية العربية والبشرية عامة... شخصيته المستقلة بكل أبعادها: العقائدية والتشريعية ومختلف تصوراتها وطموحاتها على أنقاض الجاهلية=(كلّ مفاهيم الإنسان النسبية عن الكون والإنسان والحياة التي تخالف المعايير الإلاهية) والتي أعلن الحرب عليها منذ الوهلة الأولى : ﴿ كلاّ لا تطعه واسجد واقترب﴾ (سورة العلق الآية 19 وهي أول ما نزل من القرآن الكريم ). إن مراجعة بسيطة للنهج الذي اتبعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأنصاره من المؤمنين في إحداث التغييرات الحضارية التي هزت جزيرة العرب يلاحظ ما يلي:

- بداية نزول الوحي على الرّسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء وقد حمله ربه مسؤولية تبليغ الوحي و الإستمساك به بدءا بنفسه الضالة قبل نزول الوحي عليه ﴿ووجدك ضالا فهدى﴾ .. وإيصال ما ينزل إليه من قيم ومبادئ ومفاهيم جديدة عن الكون والإنسان والحياة والمجتمع .. إلى الناس كافة بدءا بالعشيرة الأقربين.

- الجهر بالدعوة الإسلامية وتحمل الأذى والصبر على تعنت الكفار وإجرامهم في حقه وحق أنصاره.. ووعده بالنصركما انتصر الأنبياء من قبله.. خضوعا لسنن الله الأزلية في الحياة.
- نزول ما سمي (بالقرآن المكي ويعد 86 سورة ) وهو في جملته آيات قصيرة تعالج قضايا التوحيد و الربوبية و الإيمان بالله و تذكّر بقوانينه الأزلية في الحياة و لزوم إتباعها و السير على هداها لتحقيق الفلاح.. وتحارب الشرك بالله بمختلف تشكلاته.. و تتحدى الجميع ( الإنس و الجن) أن يأتوا بسورة واحدة من مثله إن استطاعوا !!؟.. وتشير إلى مواطن الفساد في الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية و غيرها... وترد على بعض شبهات أهل الكتاب ومزاعم أهل مكة وتندد بتصرفات زعاماتهم المنحرفة وتصحح مفاهيم البشر عن الألوهية الحقة والربوبية الصحيحة والتي لا تجوز إلاّ لخالق الكون والإنسان والحياة .. العليم الخبير الذي يعلم غيب السّماوات والأرض علما مطلقا و شاملا.. على عكس علم البشر النسبي المحدود زمانا و مكانا و القاصر عن معرفة كل أسرار الكون و الحياة... فالقرآن المكّي كان يدعو إلـى – فكرة جديدة ومفاهيم مغايرة لمفاهيم البشر– لتحل محل الفكر والمفاهيم والمعتقدات الجاهلية في ذهن المتقبل حتى تؤثر في فكره ووجدانه و روحه تمهيدا للإنتقال به إلى مرحلة أخرى قادمة...!

- كان الرّسول صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه الذين آمنوا بدعوته للصّبر على الأذى والتنكيل الذي كانوا يتعرضون له على يد كفار ومشركي قريش .. وعدم الرد على الأذى و التنكيل والإضطهاد الذي كان يسلط عليهم..- بالعنف المادي أو المعنوي– رغم ما أبداه بعض الصحابة من استعداد للقيام بذلك...! ولما اشتد الإضطهاد على بعض الصحابة نصحهم عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى الحبشة .." لأن بها ملكا لا يظلم الناس عنده أبدا"!.. وقد استمر الرسول وأصحابه في الإستمساك بالمفاهيم الإلاهية الجديدة والإلتزام بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلة الكفار والمشركين وكل المناوئين ﴿بالتي هي أحسن﴾.. ولم يسجل لنا القرآن أو المؤرخون أن أحدا من الصحابة قد كون عصابة للرد على اضطهاد قريش أو العمل على" تحرير البيت الحرام" من أيدي كفار مكة ومشركيها..! بل كان سلاح المؤمنين الوحيد: الدعوة إلى الإسلام الحق والجهاد بآيات القرآن الكريم والتي تحمل المفاهيم الجديدة و الثابتة وإبلاغها إلى مسامع المشركين والصبر على آذاهم امتثالا لأوامر الله في القرآن المكي..والإستمساك بها قولا و عملا.. و عدم الركون إلى الكفار و المشركين أو مهادنتهم:﴿و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار﴾.!

- ثم جاءت حادثة الإسراء بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم لتتوج المرحلة المكية مرحلة الفكرة والمفاهيم الجديدة و المبهرة، وأهم ما يمكن استخلاصه من حادثة الإسراء هو التالي: بداية تلقي المسلمين لبعض العبادات كالصلاة وهي عبادات تستوجب توفر حد أدنى من الأمن للقيام بها وهو ما يعني حدوث نقلة نوعية كبيرة، لأن المرحلة المكية التي سبقت حادثة الإسراء تميزت بتركيز القرآن الكريم على المعتقدات الإسلامية والمبادئ الذهنية والمفاهيم الجديدة عن الكون والإنسان والحياة: الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والقيم الأخلاقية ومحاربة التمظهرات المتنوعة للكفر والشرك والتشهير بانحرافات زعامات قريش العقائدية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها.. وهذا يعني أن حادثة الإسراء كانت بمثابة التمهيد للإعلان عن انتقال المسلمين من مرحلة«الفكرة» إلى مرحلة« الدولة».

ب- الإسلام ومرحلة "بناء الدولة":
بعد حادثة الإسراء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وقد مهّد عليه الصلاة والسلام لهجرته وهجرة أصحابه و أنصاره عندما التقى ب"الأنصار" ( الأوس والخزرج) وأخذ منهم عهدا بحمايته وحماية أصحابه ونصرة الدين الذي بعثه الله به إلى ﴿الناس كافة﴾..! وكان قد سبقه بعض صحابته إلى المدينة لتوضيح الغامض من دعوته..!
- في المدينة أصبح للمسلمين أرض آمنة وقد امن جل أهلها بالرسالة الإسلامية وثروات متعدّدة وقوّة مادية استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بما اُوتيه من حكمة إلاهية وبصيرة قرآنية (حيث بدأ نزول القرآن المدني:المنظم لمختلف جوانب الحياة البشرية و المدنية) من أن ينشئ منهم مجتمعا مسلما يعتنق العقيدة الإسلامية ويحتكم إلى الشريعة الإسلامية في علاقات أفراده بعضهم ببعض وتنتظم علاقاته وفق التصور الإسلامي والمفاهيم الإسلامية في الأسرة والمجتمع وعلاقاته الداخلية والخارجية...!

- ولم يمر زمن طويل حتى أذن للذين أوذوا في سبيل الله و قوتلوا لأنهم قالوا: ﴿ربنا الله ﴾! بالقتال في سبيل الله واستعمال القوة و السلاح لاسترجاع حقوقهم المنتهبة من الكفار والمشركين وصد عدوانهم ومكرهم بالمستضعفين...!

- في مرحلة تالية بدأ المسلمون- بقيادة رسولهم عليه الصلاة والسلام- يفكرون في نشر الدعوة الإسلامية خارج حدود دولتهم الفتية، وبدأ الرسول/القائد السياسي والعسكري في بعث السرايا والجيوش إلى مختلف الأصقاع لفتحها ونشر الإسلام فيها حتى تعم رحمة الإسلام..﴿الناس كافة﴾.. استجابة لنداء ﴿القرآن الكريم ﴾.. إن الجيش الذي كونه الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم لحماية المجتمع الإسلامي و نشر الدعوة الإسلامية كان قوامه : مؤمنون قد باعوا أنفسهم وأموالهم لله رب العالمين مقابل الأمن في الحياة الدنيا والفوز بجنة عرضها السماوات والأرض : ﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ﴾ سورة التوبة الآية 111)...!

إن هذه المرحلية و التسلسل الزمني الذي اتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نشر الدعوة الإسلامية وإنشاء المجتمع المسلم والدولة الإسلامية ومن ثم بناء الحضارة الإسلامية.. رغم وضوحه في﴿ السيرة النبوية العملية ﴾ و القرآن الكريم فقد تغاضى عنه المسلمون(أحزابا و حكومات و مفكرين..) في العصر الحديث و تغافلوا عن حكمته.. فغابت عنهم المراحل و الأولويات مما أوقعهم في المحظورات وأبعدهم عن هداية الله و بصائره‘وصاروا يتخبطون خبطا عشواء وهووا في ظلمات بعضها فوق بعض!!؟

2- الرأسمالية الغربية:
لقد مثلت الحداثة الغربية في العصر الحديث– قطيعة تامة بين عهود الظلام السابقة التي كانوا يحيونها..! حيث سيطرت الكنيسة بجهالاتها وأغلالها الظالمة و المتحيزة على حياة المجتمع .. وبين ما سمي "بفلسفة الأنوار" التي نادت بتحرير الإنسان من سلطة الكنيسة وجبروتها وحرضته على امتلاك زمام أموره وكسر القيود التي فرضتها عليه عهود من الجهل والإنحطاط، فلقد استفاق الأوروبيون فوجدوا ركاما ضخما من التجارب والمعارف التي خلفتها حضارات عديدة بما فيها الحضارة الإسلامية، فأغراهم ذلك بالتمعن فيها بحثا عن السبيل الموصل إلى البناء الحضاري والتقدم والتحرر من جهالات رجال الدين عندهم و تخريفاتهم..! وما انفك هذا الشعور يتنامى في أوروبا منذ القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي خصوصا في فرنسا وايطاليا...!
وانتبه الغربيون بعد هيمنة طويلة فرضتها الكنيسة الكاثوليكية وإثر تزايد قهر الأباطرة، وصار بعض المفكرين يتحسسون طريق الخلاص من تبعات عصور الإنحطاط...! وكان لتضخم ممارسات الكنيسة الكاثوليكية ولإستفحال السياسة القهرية التي ينتهجها الأباطرة دور كبير في تصعيد الإستياء وتنمية رصيد الشعور الرافض بعد يقين عمقته الملاحظة بأن ممارسات "الإكليروس" ومقررات البابا فاقدة للمصداقية لأنّها تتضارب مع حقائق الوجود وتطلعات الإنسان نحو الإنعتاق و التحرر..‘ فهي تفرض وصايتها عليه باسم الدين!؟ وكان للجامعات أللاهوتية التي وقع بعثها في بعض أقطار أوروبا كالسربون مساهمات في المجال المعرفي وتأثيرات حتى في الكنيسة ذاتها .
إن فقدان الشّرعيات الدّينية مصداقيتها ليس فقط بالنّسبة إلى المثقفين.! بل وبالنسبة إلى الشرائح العريضة للمجتمعات الغربية بأسرها هو الذي ولد مفهوم "العلمانية" الداعي إلى تخليص قطاعات المجتمع والثقافة من سيطرة المؤسسات الدينية ونواميسها و مفاهيمها المحرفة للدين المسيحي..! وقد سعى مفكرو عصر الأنوار إلى تنوير الشّعب وتحريره من ظلم الكنيسة وجبروتها و تثويره ضد هيمنتها، فرفعوا في وجه الكنيسة التي كانت تبيع صكوك الغفران – "اللائكية"، وفي وجه رجال الدين واستغلالهم للشعب باسم الرب، رفعوا شعار:"الحرية والإخوة والمساواة"..إن إزاحة الغربيين لتأثيرات الكنيسة عن مجرى حياتهم نظرا لما أصبحت تمثله من عقبات كأداء في وجه تطور المجتمع واعتاقه من الجهل و التخلف ... أوجد لديهم الحافز الـقوي علـى البـحث والتنـقيب واستعمال عقولهم هم بدلا من عقول رجال الدين المحرفة للنصوص المقدسة..‘ واستنباط النـظم السياسية والإقتصادية والنظريات العلمية والمعرفية وغيرها.. بمعزل عن تأثيرات قرون من التخلف والجهل..! والذي ساهمت فيه بقسط وافر قناعات رجال الدين المسيحي الضالة عن وحي الله وكلماته النورانية الثابتة في:﴿ التوراة والإنجيل والقرآن﴾..
3- الماركسية:
عاش ماركس(1818-1883) ضمن المجتمع الرأسمالي، وعاين عن قرب أوضاع العمال المتردية، ذلك أن العامل رغم قيامه بالعمل والإنتاج إلا أنه لا يتمتع بثمار سواعده، حيث أصبحت الطبقة البرجوازية الرأسمالية هي المالكة " بل المغتصبة لما كان ينبغي أن يكون ملكا للعمال من وسائل الإنتاج "... يقول ماركس في معرض تحليله للأوضاع المتردية التي أفرزتها الطبقة البرجوازية والرأسمالية :« إن البرجوازية لم تكتف بصناعة الأسلحة التي سوف تؤدي إلى فنائها بل أنجبت الرجال الذين سوف يستعملون هذه الأسلحة – أعني بهم عمال العصر الحديث - الذين يؤلفون البروليتاريا..‘ وكلما ازدادت قوة البرجوازية أي رأس المال ازداد نمو البروليتاريا، تلك الطبقة التي تضم العمال الذين لا تتوفر لهم أسباب العيش إلاّ إذا وجدوا عملا، ولا يحصلون عليه إلا إذا كان هذا العمل منميا لرأس المال...فهؤلاء العمال الذين يضطرون إلى عرض أنفسهم للبيع يوميا هم معرضون نتيجة لذلك إلى كل تقلبات المنافسة التي تعتري السوق... لقد صار العامل فقيرا وتفاقم الفقر بسرعة تفوق سرعة نمو السكان وتراكم الثـّروات... فمن البين إذن أن البرجوازية لم يعد في إمكانها القيام لمدة طويلة بدور الطبقة المسيرة .
تكشف لنا هذه الوثيقة عن وعي "ماركس" بالظلم والحيف الإجتماعي الذي يعاني
منه العمال في مجتمع تسوده الأنانية والإستغلال وانتهاج كافة السبل للإثراء ولو على حساب فقر الملايين من العمال..!!؟ لا تهمنا هنا تحليلات ماركس وتنبؤاته الخاطئة فذاك أمر آخر! ما يهمنا هنا هو الموقف والبديل الفكري والسلوك الحضاري الذي انتهجه تجاه واقع معين...! تبنى ماركس إذن هموم العمال ومشاكلهم، وسعى إلى إنشاء منظومة فكرية بديلة: تمثلت في نظريته " المادية التاريخية" ذلك أنها تقوم على مبدأين أساسيين: هما "المادية المنطقية" و"المادية التاريخية".. ذلك أنها تنظر إلى المادة على أنها أساس كل أمر في الحياة، وأن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط .يقول ماركس موضحا ذلك: « إن الأفكار لا يبتدعها دماغ الإنسان...‘ وهذا الدماغ ليس إلا مادة دقيقة التركيب وهو جزء من الجسم يعكس مؤثرات العالم الخارجي » .

شنّ ماركس وأتباعه حملة منظمة ضد النظام الرأسمالي وكل مبادئه وقيمه و معاييره.. طارحين بدائل فكرية أخرى وقيما و معايير جديدة، ومبشرين بإيجاد جنة أرضية يحكمها الكادحون والعمال والفقراء..!؟ ففي جريدة "البرافدا" ركز لينين حملاته تحت شعار: « كل السلطة للسفيات " " الأرض للفلاحين"... "الخبز للجائعين"... وفي أكتوبر سنة 1917 قامت الثورة البلشفية، الثورة التي أنبنى على أساسها ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي في العصر الحديث..!
بعد هذا الإستقراء التاريخي السريع لثلاث حضارات/ثقافات مختلفات.. نعود لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل هناك شروط معينة لإقامة حضارة إنسانية ؟ و إن كان الأمر كذلك فما هي هذه السنن والقوانين و الشروط المشتركة التي تتحكم في إنشاء الحضارات الإنسانية و تأسيسها ؟

III. سنن بناء الحضارات الإنسانية:

إن استقراءنا للحضارة الإسلامية والحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والماركسي مكننا من معرفة القواسم المشتركة بين هذه الحضارات ومن بلورة السنن والقوانين والشروط الموضوعية التي تتحكم في إقامة الحضارات الإنسانية وهي كالتالي :

1- فكرة إنسانية سامية:
وهذه الفكرة يمكن أن تكون دينا سماويا أو أدلوجة بشرية أو منظومة إقتصادية أو سياسية أو إجتماعية... تحمل في طياتها صفة العالمية واستطاع مفكرو الشعب أن يقنعوه بان فكرته التي يتبناها هي أسمى فكرة على الإطلاق – في الحقبة التاريخية التي يحياها- وأن هذه الفكرة لا تحمل سعادته هو فقط بل مرشحة لإنقاذ البشرية كافة، وتستحق هذه الفكرة أن يضحي الشعب من أجلها ويغامر حتى تتجسد على أرض الواقع، ثم نقلها إلى بقية شعوب العالم لتستفيد منها وتخرجها "من الظلمات إلى النور" ومن الإستغلال إلى التمتع بخيرات الحياة وطيباتها... ومن الجور والظلم إلى العدل و الحرية والمساواة... ومن ظلمات القرون الخالية إلى نور الحياة ورفاهيتها ...إن أي برنامج إصلاحي أو منظومة فكرية عاجزة عن تحقيق النهضة المنشودة في الشعوب المستهدفة.. إن لم تكن تحمل في طياتها هذه السمة، وعجزت عن إقناع الشعب الذي يتبناها بسموها وتفوقها على كل الأفكار والمنظومات الأخرى.


2 - تقزيم الخصم والحط من فكره وقيمه .

وهذا القانون/الثابت الثاني هو تكملة للقانون الأول في شروط إقامة الحضارات الإنسانية.. إن "تقزيم الخصم" والحط من قيمة منظومته الفكرية عملية تأتي مواصلة للعملية الأولى وهدفها الوصول بالشعب المراد إنهاضه إلى مرحلة الشعور بالعزة و"الأناقة" وهذا الشعور يأتي كنتيجة حتمية لاعتقاد هذا الشعب و إيمانه الراسخ بسمو فكرته ومعتقداته ومنظومة القيم والمعايير و الموازين التي تحكمه والتي تفوق في سموّها جميع القيم والمعتقدات و المعايير الأخرى، بل قد لا يعطي هذه المفاهيم و المعايير المنافسة أهمية البتة ما دام يمتلك من القيم و المعايير ما هو أسمى و أرقى..! وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى تماسك الأفكار التي يتبناها وصدقها وتطابقها مع الواقع وقدرتها على الإقناع ومدى اعتقاده فيها وحنكة مفكريه وقدرتهم على تشويه الخصم وأفكاره ومعتقداته..!!

نخلص إلى القول بأنّه متى توفرت لدى أي شعب من شعوب الدنيا منظومة فكرية تحتوي على أفكار سامية واقتنع هذا الشعب بأنها أعظم الأفكار على الإطلاق في تلك الفترة من الزمن واقتنع بوجوب نشرها والتضحية في سبيل إيصالها إلى الشعوب الأخرى...عندها يبدأ ذلك الشعب بصفة تلقائية يسير رويدا .. رويدا نحو النهضة ومن ثم تكوين حضارة متفوقة على ما عداها من الحضارات القائمة...‘: والسبب في ذلك يعود إلى أن إدراك هذا الشعب لسمو فكرته وعالميتها يدفعه إلى البحث والتنقيب في كل المجالات الحياتية والعلمية لإثبات سمو فكرته عمليا للآخرين كي يعتنقوا مثله القيم التي يؤمن بها من جهة، وإقناع خصومه بتفاهتهم ومحاولة " تقزيمهم" و تركيعهم أمام عظمة فكرته وتكاملها وقدرتها على إسعاد الناس جميعا و الإيفاء بمختلف حاجياتهم و رغائبهم...! كما تدفعه إمكانية مواجهة الخصم ماديا و عسكريا.. إلى الإعتناء بالمجال الإقتصادي والصناعي وتكوين جيش قوي لمجابهة كل التحديات الممكنة والتي يمكن إن تهدد فكرته و قيمه ...أو تقف حائلا أمام نشرها.. وهكذا تبدأ حضارة هذا الشعب صاحب الفكرة والمفاهيم "السامية" الجديدة في صعود، أما أصحاب الحضارات الأخرى، إن كانت هناك حضارة قائمة فإما أن ينظموا إلى أصحاب الحضارة الصاعدة ويعتنقوا فكرتها السامية ويساندوها ويدعموها بمعارفهم وبالتالي تصبح إنجازاتهم تنتمي إلى الحضارة الجديدة. وإما أن يتزعزع اعتقادهم في فكرتهم التي بنوا عليها حضارتهم، فيفتقدون بذلك الحماس القادر على تمكينهم من مواصلة الإبداع وبناء الحضارة، عند ذلك تبدأ حضارتهم في أفول مستمر.! وتضعف قوتهم المادية والمعنوية شيئا فشيئا أمام القوة الصاعدة والحضارة الجديدة..‘ كما يصبح الشعب صاحب الحضارة الآفلة مقلدا لظواهر وسلوكيات صاحب الحضارة الصاعدة، اعتقادا منه أن هذا التقليد قد يعيد فيه الحيوية من جديد– لكنه يبقى كالذي يريد أن ينجو من الغرق وما هو بناج..!؟ لأنه كلما أغرق في التقليد ابتعد أكثر عن إمكانية الشعور بالعزة و الأناقة – شرط الإبداع الحضاري-، فتتبعثر أموره وتتذبذب حاله ويصبح كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن لم تحمل عليه يلهث..
و الحاصل أن هذه الدراسة قد كشفت لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الحضارات الإنسانية تخضع في صيرورة نشوئها و انقراضها – على اختلاف منظوماتها الفكرية و القيمية - إلى ثوابت و نواميس كونية أزلية عامة و مشتركة بين جميع البشر مهما اختلفت أديانهم و تنوعت ايديولجيتهم وتفرقت أراضيهم و اختلفت أزمانهم ..‘ و إن إيجاد حضارة ما متطورة و متقدمة يبدأ بإيجاد الإنسان الذي يتبنى الأفكار و المفاهيم الراقية والمتقدمة..‘ فالله لن يغير ما بقوم حتى﴿ يغيروا ما بأنفسهم﴾.. وان قانون تغيير ما بالنفوس البشرية لتغيير الواقع المادي والحضاري للشعوب.. قانون أزلي لم يشذ عنه حتى أتباع المادية التاريخية الذين ينظرون إلى المادة كونها أساس كل أمر في الحياة، وأن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط..!!؟ فالقوانين التي تتحكم حقيقة في أحداث التاريخ البشري و مجرياته وتوجه مختلف تطوراته هي القوانين الكونية والأزلية التي سطرها الله في القرآن العظيم و يحكم بمقتضاها موجوداته و سائر مخلوقاته .. و ما على الإنسانية إلا العودة إلى كتاب ربها مباشرة إذا ما أرادت أن تهتدي و تنتظم أوضاعها و ينصلح حالها‘ و ليس إلى كتب رجال الدين من الفقهاء و الأحبار والرهبان الذين تكون تفسيراتهم وتأويلاتهم للنصوص المقدسة محكومة بمصالحهم و مصالح الطبقات التي يمثلونها أو الضاغطة عليهم سياسيا واقتصاديا و اجتماعيا..! لقد شكل رجال الدين- و ليس الدين نفسه- في التاريخ و الحضارة الغربية عقبات معرفية خطيرة وقفت في وجه تطور المجتمع الغربي و نهوضه و تحرره- لذلك تكاتفت جهود« فلاسفة الأنوار" وجهود الماركسيين على إزاحة هذه العقبة الكأداء.‘. حتى كان شعار الثورة الفرنسية:( اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس).. وشعار الماركسيين:( الدين أفيون الشعوب).. كما شكل رجال الدين و الفقهاء في التاريخ الإسلامي و لا يزالون اكبر داعم لحكم الطواغيت المتألهين و السماسرة المتاجرين بقضايا الشعوب ..‘ وإلباس الحق بالباطل و تفريق الأمة الإسلامية الواحدة إلى ملل و شيع متفرقة... متناحرة ‘ باسها بينها شديد..!!؟ فمنذ استيلاء معاوية ابن أبي سفيان على الخلافة الإسلامية بالقوة و قيامه بتصفية أنصار علي بن أبي طالب بعد و فاة الرسول صلى الله عليه وسلم بحوالي 30 سنة.. شرﹼع الفقهاء المسلمون للطريقة العنيفة التي توخاها معاوية للإستيلاء على الحكم بالقوة و برروها شرعيا..!؟ كما شرﹼعوا باسم الإجتهاد– منذ ذلك الحين - للمذاهب الفقهية و المدارس الإجتهادية التي فرقت المسلمين و قسمتهم إلى ملل و نحل متنافرة و متناحرة.. كل حزب بما لديهم فرحين!؟ و هم الذين شرﹼعوا و يشرﹼعون لمذاهب السنة و الشيعة و لمذاهب السلفيين الجهاديين قتلة الأبرياء من خلق الله..!؟ و هم الذين شرﹼعوا و يشرعون للحركات الإسلامية المنادية بالديمقراطية الغربية و الإعراض عن قوانين الله الأزلية المفصلة في القرآن الكريم..!؟ و هم الذين يشرعون للأنظمة العلمانية التي تحكم العالم الإسلامي اليوم بتبريرات دينية و فقهية واجتهادية..!!؟ لذلك أصبح "الفقهاء الإسلاميون" يشكلون – كما شكل رجال الدين المسيحي- عقبة كأداء وخطيرة جدا أمام تحرر مجتمعاتنا الإسلامية من ربقة الإستعمار الحضاري الغربي و من الأغلال الفقهية التي صارت تكبل المواطن العربي المسلم بأثقال تدفعه دفعا إلى مكان سحيق من التخلف الفكري و الحضاري والإنحطاط الأخلاقي وانتهاج الدروشة أسلوبا لحياته مما جعله يعيش خارج الزمان و المكان حتى صار أضحوكة العالم يمتهن كل ما من شانه تسلية الإنسان الغربي ..!! بمبررات دينية و فقهية و اجتهادية ما أنزل الله بها من سلطان.!!؟ و توسيع قابلية المواطن العربي المسلم للنهب المحلي و الدولي والإستغلال المنظم برضى تام حتى غدا هذا المواطن فيئا يسيرا و أسيرا للجراثيم الفتاكة و كل الأمراض المزمنة وافتقاد الرجولة و الكرامة و الخضوع للإستبداد و الإستحمار الفكري في العصر الحديث..!؟

لقد ظلّ " المفكرون وزعماء الإصلاح " في البلاد الإسلامية يعتقدون ولا يزالون بأن الأنظمة والتشريعات السياسية والإجتماعية و الإقتصادية و غيرها.. هي التي ستنهض أمتهم الإسلامية من كبوتهم إذا ما اقتبسوها من المجتمعات الغربية المتقدمة، فاقتبسوا أنظمة الغرب وتشريعاته و لا يزالون، لكن دون جدوى...!؟ فالحال تزداد سوءا و انتكاسا على مر الأيام ..! وما دروا أنه على الرغم من تنوع الأنظمة والتشريعات لدى الشعوب المختلفة قامت الحضارات العديدة في التاريخ البشري.
إن القوانين والتشريعات ما هي إلا شكل من أشكال التنظم وتسهيل العلاقات الإنسانية في المجتمعات البشرية المختلفة‘وتنبع عادة من حاجيات هذه المجتمعات وطموحاتها و تعبر عن إرادة أبنائها.. وتنبثق عن منظوماتها القيمية والفكرية ومفاهيمها عن الكون والإنسان والحياة و معاييرها الدينية و الحضارية.. وليس هناك أي سند تاريخي أو واقعي يدل على أن الحضارة تبنى نتيجة لهذه القوانين والنظم والتشريعات البشرية و الوضعية..‘ وإنما هو إلتباس الأوضاع وضبابية الرؤيا.

 


جدلية الحداثة التغريبية والتخلف الحضاري

لعل أغرب ابتكارات الحداثيين التغريبيين في عالمنا الإسلامي زعمهم أن كل ما هو قديم يتعارض مع الحداثة وبما أن«النص الديني» قديم في تقديرهم فلا يمكن حينئذ أن «يكون الأدب حديثا إلا إذا رفض كل نص مقدس» (كمال أبوديب (. ولا يمكن لعاقل أن يقبل مثل هذه المعادلة التي تتنكر لأبسط حقائق الوجود، فالواقع لا يقر أبدا برفض القديم لأنه قديم أو قبول الجديد لمجرد أنه جديد، بل يقبل الإنسان عادة على الأشياء التي يراها قادرة على تحقيق رغباته والإيفاء بحاجياته وتجسيد طموحاته.. فنحن حين نقرأ للمعري مثلا أو المتنبي أو أبي نواس لا شك أننا نستفيد من تجربتهم الشعرية رغم طول العهد بيننا وبينهم، وبالتالي لا يمكن أن تطرح قضية الحداثة من حيث القدم أو الجدة بل الأصح أن تطرح قضية الحداثة من ناحية قيمة الشيء ومدى فاعليته في حياتنا المعاصرة و تأثيره علينا. فما نراه نافعا لنا وقادرا على دفعنا نحو التجاوز والإبداع الأدبي أو التقدم الحضاري نستحضره ونأخذ منه ما يروق لنا وندع ما لا نفع فيه، فالمسألة لا تتعلق بمدى جدة الشيء أو قدمه زمنيا بقدر ما تتعلق«بجدوى الشيء أولا جدواه». فالشاعر طرفة بن العبد مثلا لا يزال حاضرا في ذاكرتنا فاعلا رغم طول العهد بيننا وبينه في حين يموت بعض شعراء« الحداثة » قبل أن يولدوا.
أما بخصوص النّص الدّيني ولأفترض أن- المقصود به القرآن – فلم تقف ولن تقف نصوصه – قديما أو حديثا- حجر عثرة في وجه الإبداع الأدبي أو غيره من المجالات الإبداعية والحضارية لسبب بسيط وهو أن هذه النصوص لم تتناول أبدا المتغيرات التي يمكن أن تطرأ على الحياة البشرية في أي زمان أو أي مكان وإنما نصت جميعها على الثوابت و الحقائق الأزلية في الكون والإنسان والحياة وتركت للإنسان حرية التصرف في المتغيرات التي يمكن أن تطرأ على حياته بشرط أن يستلهم المسلم في اجتهاداته المعيشية المختلفة تلك الثوابت ويستنير بحقائقها.. ولنأخذ مثلا قضية العلم، فالنص القرآني لم يحدد مطلقا الوسائل والأساليب التي يمكن أن يتبعها الإنسان لتحصيل العلم واختراق الآفاق لأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان وبحسب اجتهاد الإنسان، لكنها أجمعت كلها على ضرورة طلب العلم واعتباره مفتاحا لكل ما يفيد الإنسان في دنياه وأخرته ولا يصح إيمان المرء إلا بالعلم الصحيح الذي هو القرآن...
إن أولئك الذين يربطون الحداثة بالمتغيرات الدائمة دون الإرتكاز على ثوابت إلاهية تحمينا من المنزلقات والمعوقات الخطيرة و تنير لنا دروب الحياة .. يريدوننا أن نكون كالشجرة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار فلا تثمر أبدا بل تزداد يبسا على مر الزمن.أما الثوابت الواردة في النص القرآني فهي قادرة على جعلنا شجرة يانعة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها – إن نحن استرشدنا بها واتخذناها بصائر لنا – حتى لا نسير بالبشرية في دياجير الظلمة والضبابية المهلكة كما هو بائن في الحضارة الغربية الآيلة للسقوط.!. بل نشبع جوعها ونروي عطشها ونهديها طريق الأمن ورحمة السماء.
فالمتغيرات« الحداثية» إذن تدعونا إلى الضبابية وترك زمام أمورنا تذروها الرياح، مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ديدنا التردد والحيرة والتيه في دياجير الظلمة والتخلف والإنحطاط.

 

 

 

 

 

في مفهوم الحداثة الإسلامية ؟

رغم مرور أكثر من قرنين منذ أن غزا بونابرت مصر سنة 1798م..‘ فان سؤال ‹‹ كيف نتقدم؟›› لا يزال يطرح بأشكال متعددة..؟ فمنذ تلك الغزوة بدأ المسلمون يفركون عيونهم بعد نوم عميق..! كان سببا في إخراجهم من حلبة التنافس الحضاري والثقافي لزمن طويل و أغرى بقية الأمم بالتطاول و محاولة بسط الهيمنة عليهم.. وقد اختلفت المقاربات الفكرية وتنوعت في كيفية امتلاك منابع القوة والقدرة على الفعل وصنع أحداث التاريخ مرة أخرى كما كان أجدادنا يفعلون منذ انبلاج فجر الإسلام العظيم.! فالمسلمون كانوا :﴿ خير امة أخرجت للناس﴾ و قد امتلكوا ناصية الأمم لردح طويل من الزمن وقادوها بالنور الذي انزله الله على أمة الإسلام رحمة للبشرية كافة..! لقد أضحت قضية ما صار يعرف ب"الحداثة " قضية محورية مزمنة في تاريخ المجتمع العربي الإسلامي الحديث، ولم تتوضح الحلول المقنعة لجميع الأطراف إلى حد الآن..؟؟

وفيما يلي سأحاول تقديم مقاربة لقضية "الحداثة الإسلامية"عساي أساهم ولو بلبنة في المضي قدما للحسم في هذه القضية الشائكة...! فماذا نقصد "بالحداثة "تحديدا ؟

ما نعنيه بالحداثة هو: ‹‹ ذلك الصراع المحتدم بين الأمم من أجل أن تكون أمة "هي الأقوى والأغنى والأربى من بقية الأمم".. وأن تمتلك تلك الأمة: "القدرة المبدعة على التغيير الذاتي والتطوير المستمر نحو الأفضل لجميع الهياكل المسيرة لدواليب مجتمعها و مؤسساته، ويحصل أهلها على الأمن من الإعتداءات، مطمئنة ..‘ و مستقرة لا يخاف أهلها ولا يضايقهم شيء..﴿ يأتيها رزقها رغدا من كل مكان﴾...!
وعلى النقيض من ذلك فان الأمة المتخلفة/غير الحداثية ..‘ هي تلك الأمة التي يعيش أفرادها الجوع والحرمان والفزع والهلع ويشتد ألمهم علي مر الزمان.. و تنتكس حالهم، كما يكثر التطاحن الإجتماعي والصراع الطبقي بين أفرادها!! و تزداد قابليتهم للتقليد و الإستعمار يوما بعد يوم ..!! فهل من سبيل لبناء "حداثة إسلامية" جديدة ؟

لقد احتاجت الشعوب التي استطاعت تشييد حضارة وقيادة الأمم في مرحلة زمنية معينة وتتوفر على معاني الحداثة التي حددناها آنفا إلى : ‹‹ فكرة إنسانية سامية›› تأخذ بالألباب وتبهر العقول وتثير العواطف الإنسانية وتحرك الحواس الناعسة...! فلقد حمل العرب المسلمون فكرة ‹‹إخراج الناس من الظلمات إلي النور››... ورفع الغرب شعار ‹‹ تخليص الإنسان من القصور الذي كبلته به الكنيسة بوصايتها عليه والدعوة إلى الحرية والأخوة والمساواة ››.. ووعد الإشتراكيون أتباعهم ب‹‹ إيجاد جنة أرضية للعمال المسحوقين››...!

وهكذا احتاجت هذه الحضارات الثلاث: (الإسلامية والغربية والاشتراكية)إلى: ‹‹ فكرة إنسانية سامية›› لتجلب إليها الأنصار وتضمهم إلي صفوفها وتجعلهم مستعدين للنضال والتضحية في سبيل إنزال هذه ‹‹الفكرة السامية›› إلي الواقع المعيش ليحيا في ظلها الناس، بل وكان أنصار هذه الفكرة يغزون أو يفتحون أو يستعمرون الأصقاع باسم هذه ‹‹ الفكرة الإنسانية السامية››... ولقد مثلت ‹‹ﺍﻠﺣﺪﺍﺜﺔ›› دائما قطيعة تامة و مفصلية بين عهدين، عهد الظلمات والمظالم والتخلف وعجز الإنسان عن الفعل الإيجابي والغيبوبة التاريخية، وبين عهد جديد يتحرر فيه هذا الإنسان من سلطة التراث والتبعية والتقليد الأعمى لهذا الطرف أو ذاك.. وامتلاك زمام النفس والمبادرة وكسر القيود و الأغلال ـ بمختلف تشكلاتها التي تكبله.... وتمنعه من التحاور مباشرة مع واقعه، واختيار أنجع الطرق والوسائل والتقنيات لتجاوز الموروث سواء أكان هذا الموروث ينتمي إلي حضارة الأجداد أو حضارات الأمم الأخرى، قديما كان أو حديثا..!؟
فالإنسان‹‹الحداثي›› هو ذاك الذي يمتلك القدرة الفائقة و المبدعة علي الإستفادة من الموروث الإنساني في جميع الميادين.. متحررا من كل ما يعيقه عن الإضافة والإبداع والتجاوز ومزيد بسط سلطته وهيمنته على الكون والحياة و الإستفادة من التسخير الإلاهي لكل ما في الكون.. والإرتقاء بأخيه الإنسان إلى السيادة المطلقة على كل شيء في هذا الكون الشاسع، حتى يتفرغ بعد ذلك لعبادة خالق الكون والحياة، فالإنسان سيد وحيد لهذا الكون والله رب وحيد للإنسان، فلا يخضعن هذا الإنسان لسلطة أخرى مهما كان مصدرها...! سوى لسلطة الله خالق الكون والحياة والإنسان...! وهو(الإنسان) في كدح متواصل حتى يلتقي بالملإ الأعلى.. وقد أفرغ جميع شحناته وطاقاته وقدراته في هذه الأرض التي قبل أن يكون سيدا عليها وعبدا لخالقها وحاملا لأمانة الله في الأرض:﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا﴾.
لقد ابتلي المسلمون قديما وحديثا بمن حول أحداث التاريخ وتجارب المسلمين السابقة و التي كانت وليدة ظروفهم الحضارية و العلمية و المعيشية.. إلي صنم / عائق معرفي يتعبدون في محرابه..!؟ مرددا قول العرب القدامى في مواجهتهم للإسلام :﴿ ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين﴾ و﴿إنا وجدنا آبائنا علي امة وإنا على أثارهم مقتدون ﴾ متناسين إلتزامهم بتوحيد الله والخضوع لربوبيته بما يعني عدم خضوعهم إلاّ لأوامر الله ونواهيه و الإلتزام بثوابته و بصائره المفصلة تفصيلا بينا والسير على هدي القرآن العظيم لكونه يشتمل على المنهج الأزلي الذي عبده الله لعباده المتقين!؟ وقد حالت هذه المواقف المتخلفة بيننا وبين الحداثة الحق والتقدم السليم ورؤية ما يدور حولنا من أحداث متجددة ووقائع حياتية معاصرة تفرض علينا حلولا أخرى غير التي ارتآها أجدادنا في "ميدان المعاملات" لتغيرالظروف و الملابسات ! وكل هذا يتطلب اجتهادا وإعمالا للعقل لاستنباط الحلول الملائمة للمشكلات المعيشية والحياتية و العلمية و الإنسانية و مختلف التحديات التي تواجهنا في حياتنا الدنيا..! وتعيق بلداننا عن النهوض والتقدم وتحقيق العزة والشهادة على بقية الأمم والشعوب بسبب ما نمتلكه من ثوابت إلاهية و معايير ربانية واضحة لكل أنواع السلوك البشري السليم ..! تهبنا القدرة على معرفة السلوك القويم في مختلف دروب الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية وغيرها...!

كما ابتلينا بمن اتخذ منجزات الغرب وحضارته صنما/عائقا معرفيا يعتقل عقلنا ويمنعنا من فهم متطلبات حياتنا وتحقيق سيادتنا على حاضرنا ومستقبلنا. وقد حال كل ذلك بيننا وبين الإعتماد على النفس لتحقيق إنجازاتنا الحضارية الخاصة بنا حتى نكون أهلا لقيادة مسيرة العالم من جديد...! إن ما نملكه من ثوابت إلاهية و بصائر عقلانية في جميع ميادين الحياة يعطينا الحق في قيادة الشعوب – إن نحن آمنا واستمسكنا بها- والتصدر لتوجيهها نحو الخير والفضيلة حتى نكمل رسالة من ابتعثه الله رحمة للناس كافة..! إن الإبداع الحضاري والإبتكار والتقدم مرهون إلي حد كبير بثقة الإنسان في صحة مبادئه واعتقاده في تفوقها على جميع المبادئ الأخرى – كما المحنا من قبل- ، وإن ما نتج عن الحضارة الغربية إلي حد الآن من تعميق للهوة بين الفقراء والأغنياء ومن احتجاجات عالمية عن ‹‹الكيل بمكيالين و اختلاف المعايير و اضطرابها حد التناقض ›› وما نراه ونسمعه من تطاحن رهيب وتقاتل على الحكم والمسؤولية باسم الديمقراطية الغربية..! وعدم استقرار للمجتمعات الغربية نفسها، وانتشار للظلم والعنصرية والحروب المدمرة واستفراد أقلية بالثروات الكونية... كل ذلك يجعل من إقناع الأمة الإسلامية بصحة هذه المبادئ والقيم و المعايير الغربية أمرا متعذرا إن لم يكن مستحيلا لتعارضها مع فطرة الإنسان السوي، خاصة وهي الوارثة للقرآن العظيم/ الميزان الحق للسلوك الإنساني...‘ والذي لم يثبت إلي حد اليوم أنه يحتوي على آية واحدة من شأنها أن تعرقل التطور أو تقف في وجه الإبداع الحضاري و التقدم الاجتماعي و الإنساني في مختلف الميادين الحياتية، لأن هذه الآيات والبصائر لم تعالج مطلقا متغيرات الحياة البشرية وإنما نصت جميعها علي الثوابت والحقائق الأزلية التي فطر الله الكون والحياة عليها منذ خلقهما الله و التي تتطابق تطابقا كليا مع حقائق الكون والحياة والإنسان .. وهي معادلات و قوانين أزلية مطلقة .. تخترق الزمان والمكان... قد سطرت ﴿ الطريق المستقيم﴾ المعبدة التي تصلح لان يسلكها الإنسان السوي إذا ما أراد حياة إنسانية راقية لا تشوبها الشوائب .! ولقد تركت هذه الآيات/الثوابت حرية الإبداع والإجتهاد و التطبيق العملي في كل المتغيرات المعيشية النسبية التي يمكن أن تطرأ على حياة الإنسان بشرط استلهامه هذه الحقائق الأزلية في اجتهاداته المعيشية المختلفة و معاملاته اليومية و ليست "العبادية" : إذ العبادات كان قد وضحها رسولنا الأكرم صلى الله عليه و سلم و نحن ملزمون جميعا بان نصلي و نعبد ربنا كما كان صلى الله عليه و سلم يعبد ربه : ففي قضية العلم مثلا نجد النص القرآني لم يحدد مطلقا الوسائل والأساليب التي يمكن أن يتبعها الإنسان لتحصيل العلم واختراق الآفاق وتحقيق الاكتشافات لأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان وبحسب اجتهاد الإنسان وحاجاته و تفاعلاته مع مجتمعه و حضارته ، لكنها أجمعت كلها على ضرورة طلب العلم وجعله مفتاحا لكل ما يفيد الإنسان في دينه ودنياه وهي حقيقة أزلية لا شك في ذلك، وفي السياسة نص القرآن على وجوب الشورى في جميع ما يهم شؤون المسلمين الخاصة والعامة وحث المسلمين على العدل واجتناب الهوى والحكم بما أنزل الله في كتابه العزيز وعدم التمييز بين الناس واعتماد المعايير الإلاهية في تقييم سلوك الإنسان ومختلف مكتسباته دون غيرها من المعايير البشرية النسبية المتحيزة بطبعها:﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾(سورة المائدة الآية 8 )، و قد حرمت بصائر الله الأزلية الفساد في الأرض أو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أو جعل ثروات البلاد - التي هي ملك لله في الأصل- دولة بين الأغنياء دون سائر خلق الله...‘ وقد دعا القرآن إلى اشتراك المسلمين جميعا في تحمل المسؤولية وتكوين: ﴿أمّة﴾ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتتبع ما أوحى الله به إلى محمد صلى الله عليه وسلم / قدوة كل من أسلم وجهه لله رب العالمين، خلال مرحلتين: مرحلة الدعوة(المرحلة المكية) ومرحلة الدولة(المرحلة المدنية ).. وهكذا دواليك.... ودور الإنسان أن يعتمد هذه الثوابت والبصائر المعلنة لإستنباط المؤسسات الكفيلة بإنزالها إلي حيز الواقع المعيش حتى ينعم الناس - جميع الناس- برحمة الله ويأمنوا على حياتهم وأرزاقهم ومكتسباتهم ويمتلكوا القدرة علي الإضافة والإبداع ويواصلوا أداء رسالتهم في الحياة..! يقول الله عز وجل :﴿ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ﴾ (سورة الكهف الآية عدد 109 ) فما الذي أصابنا في العصر الحديث حتى صرنا عاجزين عن استنباط ما يلزمنا من حلول لإصلاح معيشتنا و الإرتقاء بها انطلاقا من آيات الله التي لا تنفذ معانيها أبدا .. وصرنا نتخبط خبطا عشواء معرضين عن نور الله!؟ لقد صارت شعوبنا الإسلامية تعيش ضنكا مؤلما في حياتها و قد تداعت علينا الأمم من كل حدب و صوب .. و نحن نقف عاجزين عن حماية شعوبنا و أنفسنا من المستنقع المظلم الذي انحدرنا فيه بسبب إعراضنا عن نور الله و"صراطه المستقيم" المعبد لجميع البشر منذ الأزل!؟
إن اقتحام أمتنا الإسلامية لعصر العولمة باقتدار وجدارة وامتياز، رهين لشروط وقرائن لأبد من استحضارها جميعا حتى نفوز بقصب السبق في جميع الميادين الحضارية وننقذ أنفسنا و أمتنا و العالم من حولنا :

إذ لابد من استعمال عقولنا وحواسنا نحن لمواجهة مشكلاتنا الحياتية، واستنباط ما يلائمنا من حلول لمختلف مشكلاتنا بما يتوافق مع مصلحتنا حاضرا ومستقبلا ‘ مستنيرين في ذلك بكتاب الله و بصائره، بدلا من استنساخ الحلول القادمة من وراء البحار وإسقاطها على شعوبنا المسلمة والكف عن استعارة عقول ‹‹الآخرين /الأعداء›› وطرق تفكيرهم ومناهجهم في بحث المشكلات العالقة... و أن نكف عن تقديس ماضينا الحضاري و تراثنا الإسلامي و عبادة الآباء و الأجداد و التحرر من عباءتهم و أن ننظر إلى هذا التراث بوصفه تجربة حضارية نسبية قد عبرت عن تفاعل آباءنا مع عصرهم و مجتمعهم ارتكازا على بصائر القرآن الأزلية لا غير. و من حقنا نحن في العصر الحديث أن نصنع تجربتنا الخاصة بنا ارتكازا على الثوابت القرآنية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها على عكس تراث الآباء والأجداد و تجاربهم ‘إذ بفضل هذا التراث و هيمنته علينا صرنا دراويش نحيى خارج إطار الزمان و المكان حتى صارت أعراضنا و خيراتنا نهبا لكل من هب و دب !!؟

لا بد من استحضار الواقع المعيش بكل تجلياته وتعقيداته.. ولا فائدة من ستر أمراضنا مهما كان الداء مستحكما بدعوى الحفاظ على أسرارنا وعيوبنا حتى لا يستغلها الأعداء !!؟ إن منطق التستر على الآفات التي تكدر صفو حياتنا السياسية والثقافية والإجتماعية والعلمية وغيرها قد زاد الطين بلة حتى صارت الجراثيم تصول وتجول وترتع حيثما شاءت وتعفن ما قدرت على اقتحامه من حياتنا حتى بدا لنا العلاج متعذرا لشدة ما فتكت بنا الأمراض وألحقته في نفوسنا من أذى وفي أجسادنا من جراح مثخنة...!؟ وكل هذا يتطلب وقفة حازمة صادقة خالية من العقد لنواجهه بصبر وثبات وننقذ حياتنا مهما تطلب ذلك من تضحيات...!

لا بد عند بحثنا لمجمل قضايانا أن نعود إلي ثوابتنا القيمية والحضارية و معاييرنا الإسلامية و موازيننا الربانية والتي يمكن اختزالها في آيات القرآن أساسا مستعينين في فك المستغلق من هذه الثوابت ـ إذا شئنا ـ بإنجازات كل الحضارات الإنسانية بدون استثناء دون إن يعيقنا ذلك عن المضي قدما في طريق بناء الحضارة الإسلامية الجديدة المتفوقة .. مستفيدين مما يمكن الإستفادة منه ودون الإرتهان لتلك الإنجازات قديمها وحديثها...!

إن أخذ كل هذه الشروط والإعتبارات لمواجهة كل مشكلاتنا الحياتية والحضارية و السياسية و المعيشية ‘ من شأنه أن يعيد لنا القدرة علي الفعل والتحفز أكثر على الإنجاز واختراق الأفاق و تحقيق العزة و الأمن وبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا وتقدما حتى نكون أهلا لقيادة مسيرة البشرية من جديد.

 

 

 

 

الرحمة المهداة للعالمين

عاش محمد بن عبد الله يتيما و فقيرا و ضالا عن هداية الله كبقية خلق الله مدة أربعين سنة﴿ووجدك ضالا فهدى﴾...! ثم اجتباه ربه من بين جميع البشر ليكون المبلغ عن الله كلماته إلى الناس كافة، وقد كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مستوى التكليف والمسؤولية الملقاة على عاتقه، فاستوعب آيات الله البينات، وآمن بها وانصاع لكل أوامرها و نواهيها ... وجسدها في أخلاقه ومعاملاته ومعتقداته ونظرته لكل تفاصيل الحياة البشرية أحسن تجسيد ممكن في زمانه! فكان: ﴿ خلقه القرآن﴾، واستطاع بثباته و بصبره على أذى قومه بمكة أن يؤسس مجتمعا إسلاميا بالمدينة – بعد هجرته إليها- يدين بالإسلام في جميع مناحي الحياة الثقافية والسياسية الإجتماعية والإقتصادية والتشريعية..!

إن آيات الله الموحى بها إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تتناول كلها الحقائق والمفاهيم الثابتة في الكون والإنسان والحياة لأنها من عند العزيز العليم‘ رب السماوات والأرض، وربّ العالمين، وهي حقائق لا تتبدل ولا تتغير منذ خلق الله الكون والإنسان والحياة، وقد أوحى الله بهذه الحقائق الأزلية إلى كل أنبيائه عليهم السلام ‘ بلغاتهم المختلفة لتكون للمؤمنين بهؤلاء الأنبياء النور الذي به يهتدون في ظلمات الحياة ودروبها المتشعبة المدلهمة، و قد انصاعوا إليها جميعا و جسدوها في حياتهم كل حسب ظروفه التاريخية و الحضارية و المعيشية‘ يقول الله العليم الحكيم:﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب﴾(سورة الشورى الآية 13).

لقد جاءت كلمات الله البينات لتفك كل رموز الحياة وتصحح مفاهيم الإنسان عن حقيقة الألوهية والربوبية و حقيقة الكون والإنسان والحياة ..و تفضح أهل الكتب السابقة و ما ادخلوه من بدع و ضلالات و تحريفات لأديانهم ..!!؟ وتجعل الإنسان على بينة من أمره ليحيا من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وهي مهمة قد تكفل الله بها منذ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض:﴿ قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ (سورة البقرة الآيتين 38 و39).
وقد شاءت حكمة الله عز وجل أن يجعل من أسباب الحياة الطيبة الهنية الإهتداء بآياته البينات في جميع مناحي الحياة، يقول الله عز وجل:﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى﴾ (سورة طه الآيات 123و124و125و126 ).
لقد كرّس الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم كل حياته في سبيل إنارة درب أمته الإسلامية بمفاهيم الإسلام الصحيحة المبنية على بصائر القرآن و معاييره الربانية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها.. وجعلها:﴿ خير أمة أخرجت للناس﴾ للشهادة عليهم وقيادتهم وإخراج من شاء منهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده خالق الكون والإنسان والحياة الجدير بالعبادة، ومن ضيق الدنيا - بفعل الأغلال والتقاليد التي يكبلون بها أنفسهم - إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان الباطلة و المزيفة التي يصنعها رجال الدين!؟ إلى عدل الإسلام ورحمة الله التي وسعت كل شيء، قدوته في كل ذلك جميع الأنبياء السابقين‘ عليهم السلام.. ما داموا يشتركون جميعا في حمل نفس الرسالة و نفس الثوابت و البصائر الأزلية الموحى بها من الله رب العالمين: ﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم امة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾ (سورة المؤمنون الآية 51 و52). إن إقتداء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالرسل من قبله يأتي من منطلق وحدة الرسالة الإلاهية و القوانين الأزلية التي بشروا بها أقوامهم على اختلاف أزمانهم وأوطانهم..! كما يأتي استجابة لأوامر الله عز وجل الذي قص عليه قصصهم في القرآن مع أقوامهم وكيفية تعامل كل واحد منهم مع قومه في التبشير والإنذار بالرسالة الإلاهية الواحدة (توحيد الله)التي كلفوا جميعا بإبلاغها إلى أقوامهم في إطار من الوضوح والبيان .. يقول الله عز وجل : ﴿ أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. أولئك الذين هدى الله فبهداهم إقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين﴾ (سورة الأنعام الآيتين 89 و90).
لقد حد "بديع السماوات و الأرض" حدودا معلومة و ضبط سننا أزلية ثابتة لجميع مخلوقاته .. تحيى بمقتضى السير على هداها كل الكائنات و تضمن بها لنفسها صيرورة سالكة و حياة طبيعية هانئة..إن خروج أين من هذه الكائنات عن حدود الله و نظامه البديع وسننه الدقيقة في الكون و الحياة ‘الذي أبدعه الله بقدرته الفائقة و حكمته الأزلية .. يعني حتما فقدان هذه الكائنات الضعيفة في أصل خلقتها لتوازنها الحيوي واندثارها أو موتها و هلاكها.. فخروج كوكب الشمس عن مداره الذي خلق له يعني حتمية احتراق الكون برمته.. كاحتراق القطار الذي يحيد عن سكته..أو تحطم السيارة أو الشاحنة الجانفة عن الطريق المعبدة لسيرها ..!؟ كذا تضطرب حياة بني آدم و تنتابهم شتى الأمراض والمهالك و العلل إن هم حادوا قليلا أو كثيرا عن ﴿الصراط المستقيم ﴾المعبد لهم للسير فيه منذ الأزل‘ و قد فصلت لهم معالمه تفصيلا بينا في كل الكتب الإلاهية التي لم تطلها يد التحريف أو التأويل أو التشويه.. و قد عمل كل الأنبياء عليهم السلام على تذكير أقوامهم بمختلف معالم هذا ﴿الصراط المستقيم﴾ منذ نوح عليه السلام و انتهاء بمحمد صلى الله عليه و سلم.
إن الزيغ عن قوانين الله الأزلية و سننه الفطرية التي فطر الناس عليها يعني حتمية نيلهم الخزي و الشقاء في الدنيا و خلودهم في عذاب جهنم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
فالله عز وجل قد أبان للإنسان المنهج الحق والشريعة الحق منذ خلق آدم عليه السلام‘ لذلك نجده عز وجل يخاطب عبده آدم عليه السلام قائلا: ﴿اهبطوا منها جميعا – الجنة- فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾(سورة البقرة الآيتين 38 و39 ).
كما نجد الله عز وجل يذكر المسلمين دائما بأن القرآن هو كتاب الله الخالد الذي جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل وكل الكتب الإلاهية السابقة له:﴿إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى﴾(سورة الأعلى الآيتين 18و19) وعندما يخاطب الله بني إسرائيل يقول لهم:﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون﴾ (سورة البقرة الآيتين 40 و41). كما أن عقيدة المؤمن مبنية أساسا على الإيمان بالله وجميع كتبه ورسله... يقول الله عز وجل:﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾ (سورة البقرة الآية 285 ). وعندما يأمر الله عز وجل المؤمنين بصيام شهر رمضان يذكرهم بأن فريضة الصيام قد فرضت على المؤمنين من أتباع الرسل السابقين أيضا: يقول الله تبارك وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾(سورة البقرة الآية 183). وكثيرا ما ذكر القرآن المؤمنين أنه يريد أن يهديهم ﴿سنن الذين من قبلهم﴾ من عباد الله الصالحين..والحاصل أن شريعة الله مكتملة منذ خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وقرر أن يجعله خليفة في الأرض، فأوامر الله ونواهيه ثابتة لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان أو المكان، وكانت المهمة الأساسية لرسل الله عليهم السلام تذكير أقوامهم بها ليسير على هديها من شاء ويكفر بها من شاء، والمتبعون لها يسميهم الله:«المؤمنون والمهتدون وأولو الألباب وأولو العلم...» وغير المتبعين لتعاليم الله يسميهم الله:« المشركين والكفار والمنافقين والعصاة والظالمين والذين لا يعقلون والجاهلين.. كما يشبههم الله عز وجل بالأنعام﴿ بل هم أضل﴾... وبالتالي لم يترك الله إمكانية للإجتهاد البشري في الدين ولو كان هذا المجتهد نبيا أو رسولا. فالتشريع و تحديد المعايير للسلوك البشري .. قد اختص الله به دون سائر البشر‘ وكل ما يحتاجه المؤمن في حياته الدنيا قد فصل الله فيه القول تفصيلا..! وقد أعلمنا الله عز وجل أنه:﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ و﴿ وكل شيء فصلناه تفصيلا﴾. وهذا الإخبار القرآني باكتمال شريعة الله وتفصيل كل دقائقها ينزع عن المجتهدين في الدين و الفقهاء الإسلاميين أي مشروعية، بل إن الله يعتبر أن أتباع هؤلاء المجتهدين في الدين :﴿ قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم﴾ كما فعل اليهود والنصارى من قبل ‘وبالتالي فان المجتهدين في الدين وأتباعهم هم كفار ومشركون في المفهوم القرآني! فالمؤمن بالله حق الإيمان المقتنع بربوبية الله عز وجل لا يحتاج لانتهاج السلوك القويم إلاّ لكتاب الله الذي أنزل( الكتاب و الميزان﴾ آيات بينات/ بصائر إلاهية استطاع محمد صلى الله عليه وسلم - قدوة جميع المؤمنين- وأنصاره من الأميين المؤمنين فهمها واستيعابها بحسب معطيات عصرهم الحضارية لأنها آيات بينات‘وإقامة دولة إسلامية قوية على أساسها..أوصلت تعاليم الله و شريعته و معاييره و قرآنه إلى أقاصي الأرض.!
لقد بدأ الصراع بين الحق و الباطل منذ أن بدأت الحياة على الأرض..! و قد ألهب شرارة هذا الصراع إبنا آدم عليه السلام.. و بدأ الصراع بين متبع لهداية الله المفصلة في الكتاب المنزل وخائف من عقابه.. و بين متبع لهواه و أنانيته..! لا يهمه أرضي الله أم سخط ..! و لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ‘ اقتضت حكمة الله أن يبعث رسلا من البشر يذكرون أقوامهم بتعاليم الله و ثوابته و قوانينه الأزلية في شتى مجالات الحياة الدنيا.. و قد اجتبى الله هؤلاء الرسل من بين الناس لما تحلوا به من طهر و عفة و رجاحة عقل مقارنة بمعاصريهم من ذوي الألباب .. إن مهمة هؤلاء الرسل عليهم السلام تتمثل أساسا في تذكير أقوامهم بآيات الله البينات و المتضمنة لكل تعاليم الله مبتدئا بنوح عليه السلام و مختتما بمحمد صلى الله عليه و سلم.
إن تعاليم الله التي ذكر بها نوح – عليه السلام – قومه هي نفسها التي أوحى الله بها إلى محمد صلى الله عليه و سلم﴿القرآن﴾ وهي نفسها التي ذكر بها موسى و عيسى عليهما السلام : ﴿في التوراة و الإنجيل﴾ و هي نفسها التي ذكر بها داوود و إبراهيم عليهما السلام في ﴿ألزبور و الصحف﴾ : وهي ثوابت صار على هديها كل الصالحين من عباد الله المخلصين عبر مختلف العصور و ألازمان و في كل مكان.. إن السير طبق تلك الثوابت الإلاهية ( آيات بينات ) ماضيا و حاضرا و مستقبلا .. و إلى أن يرث الله الأرض و من عليها هي الضامن الوحيد لرضوان الله و الفوز بجنته يوم يحشر الناس لرب العالمين... و هي الضامن الوحيد لوحدة الأمة الإسلامية في العصر الحاضر و العصور اللاحقة وهي الضامن الوحيد لقوة الأمة الإسلامية و وحدتها و عدم تشرذمها كما هو واقعها الآن بفعل هجرها للقرآن و لجميع ثوابته .

إن مبادئ الله و ثوابته في الكون و الإنسان و الحياة و المجتمع هي مبادئ عامة لكل البشر منذ خلق آدم عليه السلام وهي مفصلة تفصيلا دقيقا في كل الكتب السماوية قبل أن ينالها التحريف و التأويل و التشويه من قبل بعض أتباع الرسل السابقين على محمد صلى الله عليه و سلم .. لذلك اقتضت حكمة الله أن يكون الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه و سلم ﴿ القرآن﴾ معجزا و غير قابل للتحريف أو التأويل أو التشويه... متحديا الإنس و الجن أن يأتوا بسورة من مثله لأن محمدا صلى الله عليه و سلم هو آخر المرسلين لبني البشر ‘ و كتابه ﴿ القرآن ﴾هو آخر الكتب السماوية المنزلة على بني آدم.. من اتبعها فقد هدي إلى الصراط المستقيم و من زاغ عنها بدعوى الحداثة و الإجتهاد و التأويل فقد ضل ضلالا مبينا..!!

1- الوحي الإلاهي:
من معاني الوحي: الخلق:﴿ و أوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا و من الشجر و مما يعرشون ﴾ ( سورة النحل الآية 68) و الخلق في حد ذاته عمل يختص به الله دون سائر الموجودات.. لذلك كان الوحي معجزا معنى و مبنى .. ولقد جاء الوحي الإلاهي منذ بداية نزوله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مبشرا بقراءة جديدة للكون والإنسان والحياة والربوبية الحقة الألوهية الصحيحة ومقدما مفاهيم مغايرة لما تعارف عليه البشر واصطلحوا عليه واستنتجوه من خلال تجاربهم الحياتية المحدودة زمانا ومكانا..... إن القراءة الجديدة التي بشر بها الإسلام تصطبغ بصبغة الله الذي أحسن كل شيء خلقه :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ فهي قراءة تبتدئ باسم الله وتنتهي باسم الله وهدفها الأساس فهم كلمات الله البينات لتجسيمها في الواقع المعيش للإنسان والسير على هداها في جميع مناحي الحياة لان كل سلوك المؤمن هي عبادة لله رب العالمين ما دام هذا السلوك منضبط بتوحيد الله و بأوامر الله ونواهيه، وغايته ابتغاء وجه الله والإخلاص لدينه والفوز برضاه في الدنيا والآخرة:﴿ و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى﴾ (سورة الليل الآيات:19 و20 و21 )... لقد اخطر الله نبيه عليه السلام منذ بداية إنزال الوحي عليه بأنه عز وجل قد: ﴿علم الإنسان ما لم يعلم﴾ حتى لا يخطرن ببال إنسان مهما أوتي من علم انه يجوز له أن يفتي بغير ما أنزل الله ولو كان نبيا :﴿ قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين﴾ (سورة الاحقاف الآية). ﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا﴾ (سورة الإسراء الآيات 73 .74. 75. (إن علم الله كامل و مطلق و يتجاوز كل قدرات الإنسان الذهنية.. فالله ﴿قد أحاط بكل شيء علما﴾‘ أما معارف الإنسان فهي نسبية ومحدودة وهي مجرد استنتاجات وتخمينات قد تخطئ وقد تصيب و تتغير وتتناقض و تختلف، فالإنسان عاجز بقدراته الذهنية ووسائله المحدودة زمانا ومكانا أن يعرف السلوك القويم للإنسان في مختلف مجالات الحياة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والسياسية و غيرها :﴿ و عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون﴾( سورة البقرة الآية 216)... وإنما هو قادر فقط بما أوتيه من إمكانيات ذهنية وتجريبية وتاريخية.. وقدرة على الإستفادة من حياة الكائنات والعوالم الأخرى أن يستنبط الحلول الملائمة لتطوير معيشته وابتكار أنجع السبل والوسائل لتيسير حياته.. كابتكار وسائل فلاحية متطورة والإرتقاء بوسائل النقل البري والبحري والجوي وتيسير وسائل التعلم والمعرفة وصناعة آلات حربية ووسائل عسكرية اقدر على الفتك بالإنسان والتدمير وإهلاك الحرث والنسل...وقد سمى الله عزّ وجلّ كلّ ذلك ﴿العلم بظاهر الحياة الدنيا﴾: ﴿ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا﴾ (سورة الروم الآية 7). فاكتشاف القوانين الفيزيائية والكيميائية والجيولوجية و الرياضية وغيرها.. وتطويع كل ذلك لتيسير معيشة الإنسان وجلب الرفاهية له أمر متيسر لجميع البشر إذا ما تعلقت همتهم بذلك، أما السلوك الإنساني الرشيد الذي يرضي الله عز وجل و ينسجم مع فطرة الإنسان السوي و قوانين الله في الأرض ويضمن الحياة الطيبة والهانئة والمطمئنة للإنسان.. فأمر متروك لخالق الكون والإنسان والحياة وحده، العليم بأسرار مخلوقاته، المطلع على كل خفاياها الظاهرة والباطنة...
إن قراءة متبصرة لآيات القرآن العظيم .. لا تلفها الأهواء و التأويلات المغرضة.. تكشف لنا عن كل القوانين والسنن الفطرية التي تتحكم في جميع العوالم التي خلقها الله و الخاضعة طوعا أو كرها لمشيئته عز وجل لا تحيد عنها منذ الأزل.. كما تحتوي هذه الآيات و خاصة الآيات المدنية منها على كل سنن و قوانين أمة الإسلام الأبدية في الأسرة و المجتمع.. و التي قد سار على هديها الصالحون من عباد الله منذ أقدم العصور‘ و ملخصها:﴿ اعبدوا الله مالكم من الاه غيره﴾ فتوحيد الله وخضوع الإنسان السوي المؤمن لشرع الله في الأسرة والمجتمع و كل علاقات الإنسان بنفسه و بربه و بأخيه الإنسان و بالطبيعة واستشعار الله و خشيته سرا و جهرا .. كانت و لا تزال جوهر كل الرسالات السماوية.. و لذلك جعل الله الأمة المستمسكة بهذه القوانين الأزلية ..أمة الشهادة على الناس أجمعين: ﴿ و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا﴾ (سورة البقرة الآية 143).إن تشبث أمة الإسلام بقوانين الله و سننه الأزلية يخضع في التطبيق و التجسيد للنسبية التي يخضع لها سائر عمل بني آدم الذين يحيون في إطار زماني و مكاني محدودين .. فما ارتاه الرسول الكريم و صحابته استجابة لأوامر الله و نواهيه في المجال السياسي و الإقتصادي و الإجتماعي و في الحرب وفي السلم و تنزيل شرع الله في الحياة المدنية و تشكيل مختلف الأجهزة التنفيذية في المجال الأمني و العسكري و الإجتماعي و السياسي و غيره: أي في ميدان المعاملات و ليس في ميدان العبادات- قد يختلف اختلافا كليا عن ذلك الذي يرتئيه المسلمون في العصر الحديث لبعث دولة الإسلام دولة التوحيدالقادرة لم شعث المسلمين و توحيدهم في كيان قوي.. نصرة لدين الله و للمسلمين في مشارق الأرض و مغاربها.. إن تغير العصر و تطور نوعية الحياة فيه و تقدم منتجات الحضارة الإنسانية.. لا يعني مطلقا تغيير المسلمين ﴿ لصراط الله المستقيم ﴾ و أحكامه و سننه الأزلية المفصلة في الذكر الحكيم.. بل يعني فقط الأخذ بأسباب الحداثة المادية و التقنية في الخضوع لكل قوانين الله و أحكامه في القرآن و الإجتهاد في تنفيذ الأحكام الشرعية بالأسلوب الملائم لحضارتنا في العصر الحديث قدر المستطاع .. كما لا بد من استحداث الوسائل والآليات المناسبة و الأجهزة التنفيذية الملائمة و الكفيلة بتوزيع ثروات أرض الإسلام بأقصى درجات العدالة الإجتماعية و الأخوة الإسلامية و تقوى الله التي تجمع كل المسلمين برباط الإسلام حكاما محكومين ..!
2- في معنى الألوهية والربوبية:

لا أحد من الخلق ينكر أن الله عز وجل هو خالق كل شيء في الوجود وأنه تعالى قد أحسن كل شيء خلقه، يقول الله عز وجل:﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾. لكن الإشكالية الكبرى التي تنازع فيها البشر ولا يزالون يختلفون فيها ويقتتلون من أجلها ويتصارعون هي: ربوبيّة الله سبحانه وتعالى، والرّبوبية تعني في أبسط مفاهيمها خضوع العبد المؤمن بألوهية الله إلى كل أوامر الله ونواهيه والعمل بمقتضى آيات الله البينات، لذلك تساءل الله سؤالا استنكاريا:﴿أتقتلون رجلا يقول ربي الله ؟!﴾. والذي يقول: ﴿ربي الله﴾ في المفهوم الإسلامي هو"المؤمن الحق "الذي يغنم الأمن و الإستقرار في حياته الدنيا و يستحق الفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، لذلك يتكرر في القرآن اقتران الإيمان بالله ب"العمل الصالح" أي العمل الذي يستضيء بنور الله .. وإلا أصبح إيمان المرء عدميا أي لا قيمة له، فالعمل الذي لا يقترن في ذهن صاحبه بربوبية الله أي أن يكون القصد منه التقرب إلى الله والسعي لمرضاته و الخوف من عقابه في الدنيا و الآخرة.. هو عمل كالهباء المنثور، يقول الله عز وجل: ﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾ ويقول أيضا: ﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الضمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ﴾(سورة النور الآية 39).

 

 

 

 

 

 

 

اللغة العربية والإبداع الحضاري

أحب العرب لغتهم وتباروا في إتقانها منذ ما قبل مجيء الإسلام، واستعملوها في حلهم وترحالهم، وانتقوا القصائد العصماء سميت ب «المعلقات» لتعليقها عند الكعبة.

ولما انطلق المسلمون لحمل رسالة الإسلام الخالدة كانوا في الوقت نفسه حملة للغة العربية، لغة القرآن، لأن الإسلام لا يمكن تفهم مفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة وشريعته التي تنظم حياة المسلمين الإجتماعية والسياسية والإقتصادية إلا من وجهة لسان العرب. وبذلك كان المسلمون يدعون القلوب إلى الإيمان والألسنة إلى التعريب.

كما برع الخطاطون المسلمون في رسم اللغة العربية، وأبدعوا خطوطا عديدة زينتها بحلة قشيبة لأن الخط الجميل يزيد الحق وضوحا وإبانة .. وزينوا المساجد والمنازل والقصور في مختلف البلاد الإسلامية وجملوا الأثاث والسجاد والملابس والمباني والآلات والكتب وغيرها.
ولقد مثلت اللغة العربية ولا تزال إحدى اللغات العريقة ذات التاريخ الحافل، وهي لغة ثرية بأبجديتها وتضم من الحروف ما لا يوجد مثيلها في اللغات الأخرى: كالثاء والخاء والذال والظاء.. فضلا عن حرف الضاد الذي تنفرد به دون سائر اللغات العالمية.

وهي لغة تفي بالقليل عن الكثير، وتمج الغث وتعج بالسمين.. كما أنها تمثل قلب الأمة الإسلامية النابض وعقلها الواعي الذي يحوي تراثها ومجدها.. ولقد استوعبت إنجازات المسلمين الحضارية كلها عبر تاريخهم الطويل بوفاء وأمانة، بل لقد شرفها خالق الكون والحياة و الإنسان بأن اختارها ليخاطب بها بني آدم عبر كتاب معجز شكلا ومضمونا. وقد حولها هذا التشريف إلى لغة عالمية.. يقول المستشرق «جوبيوم» في مقدمة كتابه تراث الإسلام: « إن اللغة العربية لغة عبقرية لا تدانيها لغة في مرونتها واشتقاقها..».هذا بالإضافة إلى أنها اللغة ذات الصوت الواضح المميز، وذلك راجع إلى دقة مخارج حروفها، بعكس ما هو ملحوظ في بعض اللغات الأخرى التي تكثر بكلماتها الحروف الساكتة، أو التي يتلاشى بعضها في بعض خلال النطق.

إن تميز اللغة العربية بخصوصيات كثيرة جعلتها تتربع على عرش اللغات جميعها بما احتوت عليه من ضروب البيان والبلاغة والإعجاز وسهولة الاشتقاق منها وقدرتها العجيبة على التعبير عن كل خلجات النفس البشرية في أفراحها وأتراحها، في هزلها وجدها، في علومها وآدابها.. ولقد أدرك أعداء أمتنا الإسلامية الإرتباط الوثيق بين اللغة العربية ومجد ووحدة المسلمين، فعملوا جاهدين على ترويج الدعاوي التي تتهم الفصحى بالعقم والبداوة وألقوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري"لأمة الإسلام " في العصر الحديث، زاعمين بعدم استجابة الفصحى للحضارة الحديثة وهي عسيرة على من يتعلمها !؟
واتفق هؤلاء - المتآمرون على رمز هويتنا الحضارية- على استبدال اللغة العربية بلغات المستعمرين القدامى لديارنا أو باللهجات العامية لشعوبنا الناطقة بالضاد أو كتابة العربية بالحروف أللاتينية لمسخها والقضاء على صحة النطق بها، أو تغيير الأساليب البيانية والبلاغية للغة الفصحى.

وهذه الدعوات مهما لبست من أقنعة، وزخرفت من قول إنما هي دعوات مسمومة و مفضوحة يريد لها أصحابها أن يخربوا هوية" الأمة الإسلامية" حتى يسهل لهم تذويبها وتركيعها لأطروحاتهم المعادية لمصالح أمتنا الإسلامية في التقدم والتطور وتحقيق العزة والمناعة و الشهادة على الناس.. ذلك لأن اللهجة العامية مثلا التي يريدها أعداء أمتنا بديلا عن اللغة الفصحى تمثل ألفاظا مهلهلة من لهجات تختلف من بلد لآخر كما تختلف في البلد الواحد باختلاف مناطقه وأجيال أبنائه، وهي فقيرة كل الفقر في مفرداتها، مضطربة في قواعدها وأساليبها حتى إن العربي يخاطب أخاه على لسان غير مبين فلا يكاد يفهمه ! يقول العقاد:«اللغة العامية لغة الجهل والجهلاء وليست بلغة الشعبيين، ولا من يحبون الخير للشعوب».!

لقد عبرت اللغة الفصحى قديما وحديثا بصدق عن المفاهيم والمصطلحات العلمية والأدبية والمشاعر الراقية التي توصل إليها المسلمون في مختلف ميادين الحياة ودروبها، تقوى وتينع بقوة المسلمين الحضارية وعزتهم وتضعف بضعف المسلمين وتخلفهم، فلا مجال إذن لأن نتهم اللغة الفصحى بالعجز أو القصور بل الأصح أن نتهم أنفسنا بالتخلي عن دورنا الإسلامي والحضاري في قيادة الشعوب وبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا.

إن اللغة لا يمكن أن تتطور وتينع وتزداد مفرداتها وتراكيبها ويترسخ جمالها وتنتشر بين الناس إلا إذا تراكمت المعارف الجديدة والمعاني الجليلة والمفاهيم المتطورة، وكثرت الإكتشافات والإختراعات، وأبدع الناس في كل المجالات الحياتية والمعرفية والتكنولوجية.. حينئذ تأتي اللغة لتعبر عن هذا التطور والرقي والإزدهار الحضاري عن طواعية، وتسلم قيادها للمبدعين و العاملين.. وكلما كثر هؤلاء المبدعون، كلما تطورت لغتنا المعيارية الفصحى واتسع قاموسها اللغوي وكثرت المعاني الجميلة بها، وأقبل عليها الناس واستعملوها في أحاديثهم وخطبهم وكتاباتهم و مختلف إبداعاتهم.

 

 

الهجرة في سبيل الله
تعني الهجرة بأبسط مدلولاتها الإنتقال من مكان إلى مكان وهجر مكان إلى آخر لأكثر من سبب، وهي قضية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض.. !؟ لكن اهتمامنا سينصب على الهجرة في سبيل الله ومفهومها في القرآن.. !؟

تبتدئ الهجرة إلى الله باعتزال فكري/ نفسي داخل المجتمع الذي يحيى فيه المؤمن وذلك بالإنخلاع من العادات والعبادات والتصورات والمفاهيم غير الإسلامية...! وتنتهي بهجرة عملية حركية بالإنتقال من موقع إذا ما تبين عقمه وخواءه في مجال العطاء الإسلامي.. إلى مواقع أخرى أكثر خصبا ونماء..!

1- الإعتزال الفكري/ النفسي وعدم الركون إلى الظلم:

الإعتزال الفكري يعني معرفة الحق ومن ثم الإرتحال إليه فكريا والإلتزام به قولا وعملا والثبات عليه والإستمساك به، وهو طريق الرسل عليهم السلام وكل الذين اختاروا السير على دربهم من المؤمنين عبر مختلف أحقاب التاريخ البشري – منذ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض- وهي ثمرة الأيمان بالله خالق الكون والإنسان والحياة، وتوحيده والخضوع لأوامره، وبالتالي هي اصطباغ بالمفاهيم الإسلامية في النظرة للكون والإنسان والحياة والمجتمع التي ضمنها الله كتابه المعجز الموحى به إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم و كل رسله عليهم السلام من قبله ...: يقص القرآن علينا قصة أصحاب الكهف – الفتية الذين آمنوا بربهم و اعتزلوا قومهم : ﴿ هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا. وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا﴾ (سورة الكهف الآيتين 15 و16). كما أخبرنا الله عن قصة نبيه إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه: ﴿ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا﴾ (سورة مريم الآية 4).

إن الإيمان الصادق بالله يوجب على المسلم الإستقامة بإتباع الوحي في كل صغيرة وكبيرة دون تجاوزه مهما كانت المبررات والضغوطات.!: ﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير‘ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون﴾ (سورة هود الآيتين112 و113).

إن استمساك المؤمن بالحق والخضوع لأوامر الله ونواهيه في العقيدة وفي كل ما ينبثق عنها من سلوك فطري قويم في مختلف ميادين الحياة الإنسانية ليس بالأمر الهين في محيط مجتمع تهيمن على معتقدات أفراده الأباطيل والخرافات وعلى سلوكياتهم وأقوالهم الظلم والفساد والمنكر والتقليد الأعمى لميراث الأجداد بغثه وسمينه:﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾(سورة البقرة الآية 170).إن التعارض والتضاد والتناقض حد العداء بين ما أصبح ينتهجه المؤمن بالله من سلوك قويم مستندا في ذلك إلى أوامر الله و بصائره في القرآن بفضل إيمانه بالله رب وحيد لكل مفاهيمه في الحياة وبين معتقدات المجتمع ومفاهيمه التي ترتكز أساسا على موروث الآباء والأجداد أو ما ترتئيه أهواؤهم و أربابهم المزيفة أو ما تشرعه لهم نخبهم ورجالات أديانهم المتاجرين بالدين...!! ينتج عنه حتما صراعا بين أهل الإيمان الذين يستمدون مفاهيم حياتهم من القرآن و ثوابته و بصائره وبين أهل المعتقدات الزائفة والمنحرفة عن هداية الله ‘ فيبدأ أهل الضلالات في أذية المؤمنين إعتقادا منهم أن الأذى قد يعيد المؤمنين إلى دائرة الجهل و الكفر و السير في ركب الطواغيت التي تعبد من دون الله.. وتطاع وتتخذ مرجعا في تقويم السلوك البشري وسن التشريعات..!؟ لكن الإيمان بالله يشحن المؤمنين الصادقين بقدرة فائقة على تحمل الأذى والصبر على المكاره ومكر المناوئين والإستقامة كما أمر الله عز وجل في كتابه العزيز طمعا في تحقيق الأمن و طيب العيش في الدنيا و فوزا بمرضاة الله و بجنته وعدم إتباع أهواء الذين لا يعلمون، متخذين من الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم قدوة لهم : ﴿ قل يا عبادي الذين آمنوا إتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾ (سورة الزمر الآية 10).﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ (سورة الأحزاب الآية 21)

2- حقيقة الهجرة في سبيل الله:

تعد الهجرة في سبيل الله: معلم خالد من معالم الدّعوة إلى الله وتحقيق العبودية لله رب العالمين.. وهي إحدى وسائل الصراع وصور المواجهة في المعركة بين الحق والباطل وطريقة للإستمساك بالحق والإنتصار له... فهي في مضمونها وفي أصل شرعيتها إنتصار للإيمان واستعلاء به وتحطيم للأغلال والقيود التي يحاول أعداء الحق إحكامها حول المؤمنين، وكسر للحواجز التي تحيط بالمؤمنين حتى لا يبلغوا دعوة الله، وسبيل لعدم السقوط تحت أقدام الطغاة والجبابرة المتألهين إستذلالا واستعطافا لأن ذلك يتنافى وكرامة الإنسان المؤمن بالله وعزة نفسه.. لذلك يلاحظ المتأمل لحركة النبوة - من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم- بأن التفكير بالهجرة لا يبدأ والإذن بها لا يتحصل إلا عندما يستحيل أمر الدعوة ويحاط بها من كل جانب ويهدد الدعاة إلى الله في حياتهم و في أرزاقهم وعندما تنعدم كل الخيارات إلا خيار الهجرة.. ومثال ذلك هجرة سيدنا موسى عليه السلام إلى مدين عندما أحيط به من كل جانب : ﴿ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين﴾ (سورة القصص الآية 20 ). كما تقررت هجرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأذن بها لما إجتمع كيد الكفار في دار الندوة على الإشتراك في قتله وتوزيع دمه على القبائل: ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين﴾ (سورة الأنفال الآية 30).

فالهجرة تتوجب عندما تفتقد الفاعلية ويتوقف العطاء على أرض المعركة وانسحاب مؤقت للعودة للمواجهة بوسائل أخرى، وهي ليست حركة إنسحابية من المجتمع وتخليا وهروبا من مواجهة الظلم واستسلاما لواقع اليأس والإحباط - كما هو حال المتصوفة أو جمعيات الدعوة و التبليغ مثلا-.. وليس إيثارا للراحة وطلبا للعافية ولو كان الأمر كذلك لفقدت الهجرة هدفها وثوابها وأثرها وكونها وسيلة من وسائل التغيير الإجتماعي التي اعتمدها الأنبياء/ القدوة عليهم السلام .. لذلك لا يجوز للمؤمن التفكير في الهجرة إلى خارج الأرض التي يسكنها إلا إذا سدت الآفاق أمامه وفتن في دينه وظلم..!﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة اكبر لو كانوا يعلمون. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون﴾ (سورة النحل الآية 41 و42).

فالهجرة في سبيل الله هي إذن مواصلة للدعوة إلى الله والبحث عن النصرة لدين الله والتمكين لشريعته الفطرية العادلة في أرض الله الواسعة :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم﴾(سورة النحل الآية 110)، لأن المؤمن الحق يعتقد أن الأرض لله يورثها عباده الصالحين، ﴿ قال موسى لقومه إستعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين﴾ (سورة الأعراف الآية 128 ). بل إن انتصار الحق على الباطل وتمكين الله للمؤمنين في الأرض هو قانون أزلي من قوانين الله في الكون والحياة منذ خلقهما الله:﴿ ولقد كتبنا في ألزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾(سورة الأنبياء الآية 105 ).

إن إيمان المؤمنين و قناعتهم التامة بأزلية القوانين الإلاهية التي يحكم بها الله عز و جل هذا العالم و سائر عوالم مخلوقاته المتعددة.. و عدالتها المطلقة تجعلهم في منأى عن ردة الفعل التي تحكم سلوك الناس العاديين..إن تعرضهم للظلم و التنكيل و حتى القتل .. على أيدي الجهلة و المناوئين للحق لا يدفع بهم مطلقا لرد فعل عنيف من شأنه أن يستغله أهل الباطل لمزيد الظلم و التنكيل بهم و تشويه دعوتهم بل يدفع بهم أكثر للإستمساك بالأيمان والصبر و الدعوة إلى سبيل ربهم بالحكمة و الموعظة الحسنة كما يأمرهم مولاهم الحق .. لأنهم يؤمنون يقينا أن﴿ النصر من عند الله﴾ و أنهم لن يحققوا نصرا إلا باستجابتهم الطوعية لأوامر الله و استمساكهم بالوحي و بنهج الأنبياء عليهم السلام ﴿ و يسلموا تسليما﴾.. دون السقوط في مهاوي كيد الأعداء المتسلحين دوما بمظاهر القوة و العنف و الجبروت..! لم يدفع جبروت فرعون بموسى عليه السلام و من معه إلى رد العنف بالعنف فانتصر موسى و من معه من بني إسرائيل على فرعون و قومه..‘ كما لم يدفع جبروت قريش بمحمد صلى الله عليه و سلم و الذين معه برد فعل عنيف فانتصر محمد رسول الله و من معه على كيد قريش..! و هكذا هي قوانين الله الأزلية في الكون و الحياة البشرية:﴿أن العاقبة للمتقين﴾ أقوياء الإيمان بكلمات الله و قوانينه الأزلية و ليس للأقوياء عتادا و عدة و عددا..!؟.
الحضارة الغربية وتفريخ الإرهاب!
لعل أبرز ما يميز الحضارة الإسلامية على غيرها من الحضارات هي إيلاؤها الإنسان أهمية قصوى لا حدود لها، فلا شيء يعلو على حياة الإنسان / أي إنسان وضمان رفاهيته واستقراره النّـفسي والمادي:«فليعبدوا ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»(سورة قريش الآية 3و4).. يستوي في ذلك كل الناس على اختلاف مواقعهم الإجتماعية والثقافية والسياسية، لأن حياة كل البشر هي هبة من الله وبالتالي فهم عبيد متساوون في العبودية لله حتى وإن أنكر بعضهم ذلك.

ومن هذا المنطلق فلا يجوز أن يستعلي أحد على أحد أو أن يظن أن حياته هي أهم من حياة الآخرين بسبب مركزه الإجتماعي أو السياسي أو الثقافي، ومن هنا يعتبر إزهاق روح بشرية واحدة ظلما وتعسفا هو بمثابة إزهاق أرواح البشر جميعا، وإحياء نفس بشرية (إنقاذها من الهلاك مثلا)هو إحياء للناس جميعا في الثقافة الإسلامية.

إن قداسة حياة الإنسان في الحضارة الإسلامية تجعل من إمكانية الإعتداء على فرد بسبب موقعه الإجتماعي أو إنتمائه العرقي أو بسبب توجهاته الفكرية أو السياسية أو الدينية عملا مرفوضا جملة وتفصيلا في الثقافة الإسلامية، يستوي في ذلك المؤمن وغير المؤمن ما لم يبادر بالإعتداء وارتكاب جرم يوجب القصاص... إن مثل هذا المفهوم يغيب في الحضارة الغربية التي تزعم التفوق و الإستعلاء على من عاداها من الحضارات!؟. فأوروبا منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بادرت باضطهاد الشعوب واستعمارها ونهب خيراتها.. بمجرد امتلاكها للقوة التي تقهر بها تلك الشعوب، وأمريكا اليوم تبادر باضطهاد شعوب بأكملها لمجرد الحفاظ على مصالح تراها حيوية، وتدعم الصهيونية المقيتة لاغتصاب أراضي الغير وقتلهم وتشريدهم... فلا عجب أن نرى بسبب ذلك انتشار ظاهرة الجماعات الإرهابية، والتي هي حالة مرضية كردة فعل غير إسلامية على حضارة مريضة لا تقيم أي وزن للإنسان / الآخر، وآن الأوان لاستبدالها بحضارة إسلامية جديدة بديلة ومتطورة تقوم على ثوابت الرحمان بدلا عن ترهات الإنسان الغربي وجهالته و حيوانيته و توحشه و حياة الأنعام التي يحياها و يجبر العالم على الحياة طبقها رغم تهافتها و انكشاف عوارها وتعدد أزماتها.. !

 

 

 

 

 

 

 

 

الإسلام يكره الإرهاب ويجرم الإرهابيين
صار ما يعرف بـ« الإرهاب الإسلامي » ظاهرة تتفاقم كل يوم وتسجل حضورها في مناطق مختلفة من العالم. ولقد سجل الإرهاب العالمي حضوره بكثافة في وعي الرأي العام العالمي كثافة الآلام التي يسببها لأناس أبرياء لا صلة لهم – في الغالب الأعم – بالسياسة والحروب التي يفجرها مصاصو دماء الشعوب من قوى الإستكبار في الأرض... فهل في نصوص القرآن(مصدر سلوك المسلم الحق) ما يبرر مثل تلك الأعمال القتالية خاصة وأن الإرهابيين يزعمون أنهم يخوضون ضد الكفار- بمن فيهم الحكومات العربية و الإسلامية - حربا جهادية ركيزتها آية من آيات القرآن الكريم: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفى إليكم وأنتم لا تظلمون»(سورة الأنفال المدنية الآية 60).؟!

لقد جاء الإسلام رحمة للعالمين.. من عرب وعجم وأهل كتب إلاهية سابقة«وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»(سورة الأنبياء الآية107).. ووعد أتباعه المؤمنين بالقرآن، المتبعين لوحي الله بالعزة والقوة والتمكين لهم في الأرض.. « ولقد كتبنا في ألزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » (سورة الأنبياء الآية 105). ورسم لهم في كتابه المجيد كل الثوابت والسنن الحضارية الأزلية التي تورثهم الأرض وتجعلهم قادرين على قيادة العالم بالعدل والحق والقسطاس المستقيم والشهادة على الناس... ولقد كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خير قدوة عملية لإنزال آيات القرآن العظيم / الثوابت الإلاهية في الكون والإنسان والحياة للواقع المعيش في دنيا البشر. ولقد انقسمت حياته عليه الصلاة والسلام إلى فترتين هامتين سمي القرآن باسمهما:

1 – الفترة المكيّة – القرآن المكّي: دامت 13 سنة، وقد خلت كل السور المكيّة الموحى بها خلال هذه الفترة (86 سورة)من أي إشارة إلى القتال في سبيل الله كما خلت حياته صلى الله عليه وسلم من أي عنف أو استعمال للقوة في ردّ الإضطهاد والتـّنكيل الذي كان يتعرض له المؤمنون برسالته... وقد أمر الله فيها المؤمنين بتطهير نفوسهم وتزكيتها من الشرك بالله وإفراغها من قيم وتقاليد مجتمعهم الجاهلي، وملئها بقيم الإسلام الحنيف وتوحيد الله وإفراده بالطاعة، والخضوع التام لأوامره ونواهيه.. ولعل أبرز ما نهت عنه الآيات والسور المكية "الفحشاء والمنكر" كالزّنا وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وامتدحت: « الذين لا يدعون مع الله إلاها أخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ».(سورة الفرقان الآيات 68-69).

2 – الفترة المدنيّة- القرآن المدني: وهي الفترة التي تواجد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة التي هاجر إليها و التي كون فيها الرسول صلى الله عليه وسلم دولته الإسلامية، وقد أذن له وللمؤمنين بالقتال لحماية المؤمنين الذين صاروا يحيون طبقا للشريعة الإسلامية وتنتظم حياتهم بآيات القرآن المدني ..يقول الله عز وجل: « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله » (سورة الحج المدنية الآيتين 39 و40).

إن استحضار حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في كيفية تطبيق وحي الله عز وجل تكشف لنا بوضوح حقيقة هؤلاء الإرهابيين- المجرمين بمعيار القرآن : والمتمثلة في أنهم لم يستجيبوا لأوامر الله في الانتهاء عن قتل النفس البريئة التي حرم الله قتلها إلا بالقصاص ولم يدر في خلدهم الإستجابة لأوامر الله أو الخضوع لشرعه وإنّما هم يقومون بأعمال إجرامية أملتها عليهم مصالحهم.. و يتبعون أهواءهم بغير علم ولا هدى من الله.:«ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله».

 

 

 

 


توزيع الثروة في البلاد الإسلامية

درجت الحكومات في العالم الإسلامي على الإلقاء باللائمة على شحّ الموارد الطبيعية وقلة الثروات الإقتصادية في تفسير مظاهر الفقر بين الناس وعدم قدرتها على تلبية حاجيات مواطنيها والإيفاء بمتطلبات حياتهم الإجتماعية والصحية والثقافية وغيرها، وهذا لعمري تمويه وتضليل لعموم الناس حتى لا يطالبوا بحقهم في ثروات بلادهم، لأن المشكلة الحقيقية التي توصل المواطنين في بلد ما إلى الفقر والحرمان بمختلف تشكلاته ليس فقر البلاد وقلة مواردها كما يزعم المضللون والمستكبرون بل التوزيع الظالم- الذي لا تراعى فيه حدود الله - للثروة مهما قلت، وعلى هذا الأساس فالمشكلة التي يجب أن يبحث لها عن حل هي فقر العباد وليس فقر البلاد، وعدم حصولهم على كفايتهم من الحاجيات والرغائب أي عدم قدرة الأفراد على تلبية حاجياتهم العضوية والغرائزية والفكرية...، وبعبارة أخرى المشكلة تكمن في توزيع الثروة وليس في إنتاج الثروة، فإنتاج الثروة أمر لا يختلف حوله الناس كاستعمال أحدث التقنيات العلمية والتقنية والتكنولوجية في الإنتاج..
أما مشكلة فقر الأفراد فأمر لا مناص منه فتحتاج إلى حل والحل يختلف باختلاف وجهة النظر- العقيدة - والمفاهيم التي يؤمن بها الإنسان في الحياة كما يختلف باختلاف الشعوب والأمم على عكس مشكلة إنتاج الثروة.
وعلى خلفية المفهوم الإسلامي « الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله » يصبح مفهوم تآخي الناس والمساواة بينهم في المجتمع وأمام القضاء و القانون لا معنى له إذا لم تعززه عدالة إقتصادية واجتماعية تضمن لكل فرد حقه إزاء ما يقدمه لمجتمعه أو للناتج الإجتماعي، وتكفل ألا يستغل أحد أحدا أو يبخسه حقه. فالعامل مثلا له أجره العادل لقاء مساهمته في الإنتاج والمعاملة الحسنة من قبل صاحب العمل، والحد الأدنى الذي يجب أن يحصل عليه العامل لقاء ما يقدمه من خدمات للمجتمع هو ما يؤمن للعامل كفايته من طعام جيد وملبس حسن له ولأسرته – حسب معطيات مجتمعه الحضارية - دون أن يكلف ما لا يطيق. أما الحد الأمثل فهو كما قرره النبي صلى الله عليه وسلم، الأجر الذي يمكن العامل من أن يأكل ويلبس، كما يأكل صاحب العمل ويلبس، فقال عليه الصلاة والسلام:« إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس » (رواه مسلم والبخاري). وعليه فإن الأجر العادل لا يمكن أن يكون أقل من الحد الأدنى، وما ذلك إلا لينخفض التفاوت في الدخول ولتضييق الهوة التي تفصل العامل عن صاحب العمل في شروط معيشتهما، وهذا التفاوت لو حصل في المجتمع المسلم من شأنه أن يوهن روابط الأخوة التي تعتبر سمة أساسية من سمات المجتمع المسلم الحق.

إن التفاوت الفاحش في الدخول والثروات وهو ما نراه اليوم منتشرا في كل « الدّول الإسلامية » ينافي جوهر الإسلام لأن فيه قضاء محتما على مشاعر الأخوة التي يريد الإسلام بثها بين المسلمين" إنما المؤمنون إخوة"، وليس هناك أي مبرر يدعو إلى حصر الثروة « التي هي ملك لله مالك الملك و خالق السماوات والأرض » عند قلة من الناس طالما أن الخالق سبحانه وتعالى لم يجعلها وقفا على فئة معينة.
إن عدالة التوزيع لثروة البلاد الإسلامية بين المسلمين في حدها الأدنى على الأقل من شأنها أن توفر لكل فرد مستوى من المعيشة تهيؤه لأن يحيا حياة تليق بكرامة الإنسان المسلم‘ ويتوجب على الدولة الإسلامية دولة التوحيد بعد ذلك أن تعمل على تأمين العمل لمن يبحث عنه وإثابة العاملين بالأجر العادل وجمع الزكاة من مكونات المجتمع الإسلامي ليعاد توزيع الدخل على الفقراء الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض أو يعانون من معوقات عقلية أو جسمية أو يرزحون تحت وطأة ظروف خارجة عن إرادتهم كالبطالة و اليتم أو وفاة العائل مثلا وتطبيق شريعة الله في الإرث و الملكية ليؤول إلى أكبر عدد من الناس.

 


قائمة المصادر والمراجع:
1- المصادر:
أ‌- العربية:
• عمارة (محمد): الأعمال الكاملة لعبد الرحمان الكواكبي: مع دراسة عن حياته وآثاره، (مصر، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ط1 – 1970)
• الأعمال الكاملة لعبد الرحمان الكواكبي: (لبنان المؤسسة العربية للدراسات والنشر: ط 1 1975)
• الكواكبي (عبد الرحمان): تقديم أسعد السحمراني): طبائع الإستبداد ومصارع الإستبعاد (بيروت، دار النفائس ط 1 1984).
• :أم القرى(بيروت- دار الرائد العربي-ط2-1982).
ب‌- الفرنسية:
• Alfieri (Victor) : De la Tyrannie- (Paris, aux bureaux de la Publication ; 1865)

2- المراجع: (لقد اقتصرنا على ذكر أهم المراجع التي استفدنا منها في بحثنا)
• الدهان (سامي): عبد الرحمان الكواكبي : (مصر، دار المعارف بدون سنة نشر)
• حمزة (محمد شاهين): عبد الرحمان الكواكبي، العبقرية الثائرة: (القاهرة، منشورات المكتبة العالمية ط 1، 1958)
• خلف الله (محمد أحمد): الكواكبي حياته وآراؤه: (القاهرة مكتبة العرب بدون سنة نشر)
• كتورة (جورج): طبائع الكواكبي في طبائع الاستبداد: (بيروت، المؤسسة الجامعية للنشر، ط1، 1987)
• أمين (أحمد): زعماء الإصلاح في العصر الحديث: (بيروت، دار الكتاب العربي، 1979)
• شرابي (هشام): المثقفون العرب والغرب: (بيروت، دار النهار 1973)
• خوري (رئيف): الفكر العربي الحديث وأثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والإجتماعي: (بيروت، منشورات دار المكشوف، ط 1، 1943)
• حوراني (ألبرت): الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939: (ترجمة كريم عزقول، بيروت، دار النهار)
• سابايارد (نازك): الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة: (مؤسسة نوفل ط1، 1979)
• زيادة (خالد): اكتشاف التقدم الأوروبي: (بيروت، دار الطليعة، ط1، 1981)
• هرمان (جورج): تكوين العقل الحديث: ( الجزء الأول): (بيروت، دار الثقافة، ط 2، 1965).
• عمارة (محمد): العرب والتحدّي: ( دمشق، دار قتيبة، ط2، 1987)
• بروكلمان (كارل): تاريخ الشعوب الإسلامية: (ج 3، بيروت، دار العلم للملايين، ط1، 1960))
• لانجر (وليم): موسوعة تاريخ العالم ج5: (أشرف على الترجمة عبد المنعم أبو بكر، ط 1966)
• دائرة المعارف الإسلامية: المجلد الثاني (نشر الشعب)
• المراكشي (محمد صالح): تفكير محمد رشيد رضا من خلال مجلة المنار: (تونس، الدار التونسية للنشر)
• الدوري (عبد العزيز): التكوين التاريخي للأمة العربية: (بيروت، ط1، 1984)
• ألحصري (أبو خلدون ساطع): محاضرات في نشوء الفكرة القومية: (ط. خاصة 1985)
• الأفغاني )جمال الدين) وعبده (محمد): العروة الوثقى: (بيروت، دار الكتاب العربي، ط3، 1983)
• محمد (محمد عوض): الإستعمار والمذاهب الاستعمارية: (دار الكتاب العربي، ط2، 1956)
• فولغين (ف): فلسفة الأنوار: (بيروت، دار الطليعة، ط1، 1981)
• الفنجري (أحمد شوقي): الحرية السياسية أولا: (الكويت، دار القلم، ط1، 1973)
• العروي (عبد الله): مفهوم الحرية: (المركز الثقافي العربي، ط 4، 1988)
مفهوم الإيديولوجيا: (المركز الثقافي العربي، ط 4، 1988)
مفهوم الدولة: (المركز الثقافي العربي، ط 4، 1988).

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !