مواضيع اليوم

الأعمال الكاملة للمفكر الإسلامي : محمد بن عمر

محمد بن عمر

2010-09-10 00:54:36

0

الفن الإسلامي و شروط الإبداع
الكاتب
محمد سالم بن عمر
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
http:islam3mille.blogspot.com
محمد سالم بن عمر، كاتب و ناقد تونسي ، عضو باتحاد الكتاب التونسيين .
أصيل سيدي بوعلي ولاية سوسة، متزوج و له شيماء و نصير الله.و أمة الله
متحصل على شهادة الأستاذية في التنشيط الثقافي منذ 1992، وقد عمل مديرا لدور الثقافة بتونس .
له مساهمات عديدة في النقد و الإبداع و المقال الفكري الحضاري...
صدر له كتاب:" اللسان العربي و تحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي عام 1995"
كما صدر له كتاب : " نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه عام 2009 "
و قد نشرت له جل الصحف و المجلات الوطنية مقالات فكرية و نقدية و قصص قصيرة وقصائد .. كما نشرت له بعض المجلات و الصحف العربية .. مقالات فكرية وحضارية..
له مخطوطات عديدة أهمها :
ذكريات زمن مضى (رواية) نحو إعادة تشكيل الفكر العربي الإسلامي في العصر الحديث ﴿مقالات فكرية / حضارية﴾ .
الـمقـــــــــدمــــــــة
الفن هو جملة الوسائل التي يستعملها الإنسان لإثارة المشاعر و العواطف و بخاصة عاطفة الجمال . فالإنسان يتأثر و ينفعل فيعبر عن تأثره و انفعاله ، و يخرج إلى العالم الخارجي صدى وقع الحياة التي تلقاها إحساسه الداخلي ، فالصورة الفنية مهما كان شكلها هي تعبير عن الإحساس الداخلي الذي يحس به الإنسان و ينفعل و يتأثر، فيعبر بصورة من صور الفن التي يجيدها عن موقف من الوجود بمعناه الكوني ، و الإجتماعي و السياسي و هموم عصره و قضاياه و مشاكله . أما الفنان فهو المشتغل بفن من الفنون و القادر على أن يجعل من فنه كائنا حيا ، يموج بالحركة و الحيوية مشعا بالحرارة ، و تنطلق منه موجات خفية أو مجسدة ، تفعل فعلها ، و تؤدي المنوط بها،إزاء جهاز الإستقبال العقلي و العاطفي في الإنسان.
لقد شهد عالمنا المعاصر تحولات عميقة أثرت في جميع هياكله السياسية و الإقتصادية و الثقافية .. و صار الفن بأشكاله المختلفة يحتل مكان الصدارة في توجيه المسيرة البشرية نحو الخير و الفضيلة أو نحو الخراب و الدمار و سوء المآل. و طرحت مفاهيم جديدة تستفز فكرنا خاصة ما يتصل منها بالفن عموما كالقصة و المسرح و الموسيقى و الغناء و الشعر... مما يتطلب و قفة نبحث خلالها في موضوع الفن بهدف إكتشاف ما هناك من عناصر أصيلة و ناجعة لتقريبها و أخذ الصالح منها ، و ما يمكن أن يكون هناك من عناصر دخيلة أو شوائب و من ثم يجب حذفها و استبعادها ، و بذلك ننفي الخبث ، و نطرد الدخيل و السقيم حفاظا على مسيرة شعوب الإسلام الحضارية و تخليصا لبقية شعوب الدنيا من الغل الذي وقعت فيه . لذلك حددنا في الفصل الأول من بحثنا : المنابع الفكرية لهذا الفن الدخيل و أسميناه بالفن " الهائم " تمييزا له عن الفن المنشود وهو الفن " الفرقاني ". و في الفصل الثاني تحدثنا عن أهم سمات الفن الهائم ، لنمهد بذلك إلى الفصل الثالث و الذي تناولنا فيه بالدراسة أبرز مرتكزات الفن الفرقاني و مميزاته ، و ختمنا هذا الفصل بالحديث عن مفهوم الإبداع و الشروط الواجب توفرها في أي عمل إبداعي ليكون بحق " فنا فرقانيا " .
الفصـل الأول
المنابع الفكرية للفن الهائم
تكشف لنا دراسات الآثار و النقوش البدائية أن القدر مثل القوة الخفية التي أحس بها الإنسان البدائي منذ أن وجد نفسه في مواجهة الطبيـــــــــــــــعة الجميلة و المخيفة ، و منذ أن واجه الموت في الخطر الداهم ، و أحس بيد خفية تمتد إليه بالنجاة ... و منذ أن عجز عن تفسير قضايا كثيرة تمر به بين الحين و الآخر...هذا القدر مثل حقيقة رهيبة في حس الإنسان القديم يخافها و يتقيها غالبا ،و قد سعى الإنسان أن يبرز هذه الصورة في أطره الفنية المتنوعة ، و يجعلها في حالات كثيرة مضمونه المهم .فلقد اهتم الأدب اليوناني شديد الإهتمام بالقدر ، و اتخذه موضوعا لعدد من مسرحياته ، يبرزه في ملاحمه و شعره و رواياته ، و كانت صورة القدر دائما مشربة بالوثنية ، و بتصورات الإنسان السوداء تجعله ظلما محضا ، ينصب على الإنسان و يحاصره باللعنات و المصائب ، و يدخل معه في صراع مرير ، و تفنن الأدباء في تلوين فنهم بألوان قاتمة لشحن المتلقين بمشاعر سوداء إزاء القدر !!؟
و أخذ الأدب الروماني عن الأدب اليوناني هذه الصورة المضطربة للقدر ، و عرضها في أعماله الأدبية ، و نجد أثر ذلك في الإلياذة ملحمة الأدب الروماني الكبرى و في مسرحيات " بلوتوس " الفكاهية الساخرة .
و لما جاءت المسيحية توجهت بالأدب إلى الآخرة و أصبحت التماثيل العارية ممنوعة، و اتجه الفن إلى تصوير النزعات السامية في الإنسان و الخصال الحميدة فيه، كالتوبة و الإستشهاد في سبيل الدين ، و تحمل الآلام و العذاب في سبيله ، و تمجيد الله و إعلاء كلمة المسيح عليه السلام ، و الإشادة بطهارة العذراء و استشهاد القديسين ...! و كانت المسيحية ترى بوجه عام أن الفنون التصويرية وسيلة طيبة لتثقيف المسيحيين في دينهم ، حتى قال بعض قديسيهم : " إن اللوحات في الكنائس تشرح للأميين ما لا يستطيعون قراءته في بطون الكتب ".
أما الأدب الأوروبي المعاصر فهو حفيد الأدبين الأثيني و الروماني في نظرته للقدر ، و تصوره للكون و الإنسان و الحياة و العلاقة بين الله و الإنسان أو بين الطبيعة الغامضة و الإنسان ، إذ لا يختلف في خطوطه العامة عن تصور " سوفوكليس " أديب اليونانيين في مسرحية ﴿ أوديب﴾ و "يوربيدوس "و " فرجيل "و "بلوتوس " خاصة و أنه تلون بموجات الإلحاد و معاداة الكنيسة التي بدأت في عصر النهضة واستمرت مدة طويلة ، و قد استبدل الأديب الأوروبي في بعض الحالات به قدرا آخر كالطبيعة أو الظروف أو قوة المجتمع ، و حاول أن يفسر الألوهية في صورة مادية محسوسة ، دون أن يسقط قضية الصراع منها ، وهي القضية الكبرى في التصور اليوناني الوثني ... و ظل الإنسان في هذه الصورة مظلوما مقهورا ، و ظل في صراع مع القوة الغامضة الجديدة ، ينهزم أحيانا و ينتصر أحيانا أخرى. و قد حمل المسرح الأوروبي منذ العصر الكلاسيكي الجديد و حتى عصرنا الحاضر أشكالا من هذه الصورة القاتمة، و جسد صراع الإنسان المتوهم مع الألوهية و صور القدر ظلما مطلقا ينصب على الإنسان.!
و تقوم مسرحيات "آرمان سلاكرو" و "جان كوكتو" و "موريس مترلتر"و "البيركامي"و "جان بول سارتر" على فكرة الصراع مع القوة الخفية و الآلام المضخمة التي يعانيها الإنسان نتيجة لهذا الصراع ، فالمسرح المعاصر يعترف بالقدر و يخاف منه و يبحث من خلال تصوره له عن براءة للفرد الأوروبي من ذنوبه وإلحاده للتخلص من تبعة الذنوب و الإلحاد و التناقضات و إلقائها على قوة غيبية لا يريد أن يبحث عن حقيقتها ، و توهم الأديب الغربي أنه لا مجال لأن يلتقي قدر الله و إرادة الإنسان في انسجام و توافق جعله يصرخ بهستيرية عجيبة ، لماذا الحياة ؟! و ما المصير؟.
في الحقيقة ، لقد ساعدت عدة عوامل على تأصل مثل هذا الفن الهائم الضائع في متاهات التاريخ ، في أوروبا و في أصقاع مختلفة من العالم (راجع كتاب : بن سالم بن عمر( محمد) نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه – المطبعة العصرية ،2009 / الطبعة الأولى .) ، و قد ساهمت الكنيسة بدور هام في تكريس واقع الضياع و التخبط ... فلقد جعل كهنة الكنيسة: "النصرانية " : مرقعات من البوذية و الوثنية ، و جعلوا التعاليم الدينية كلمات جوفاء من أي مدلول روحي سام يجتذب الأفئدة و يسر البصائر ، و حرفوا الكلم عن مواضعه ليشتروا بذلك ثمنا قليلا ، فطغت الخرافات و الأساطير و ألبس الحق بالباطل ...؟! و تولد عن ذلك نزعة عقلية نقدية انتشرت بسرعة، بسبب النقمة على الكنيسة و الضيق من تسلطها على الناس و الحكام و إشعال الحروب الصليبية التي دفعت أعدادا كبيرة من الناس إليها ، و النظام الإقطاعي الذي سام الناس ظلما وخسفا و باركته الكنيسة و شاركت فيه ، و موقف رجال الدين المشين من العلم و العلماء ... هذه العوامل ساعدت على إقناع الناس بالدعوة العقلية و بناء الحياة بمعزل عن الكنيسة و ترهاتها ، فانتشرت الفلسفة العقلية في بداية ما اصطلح عليه بعصر النهضة ، و كان لهذه الفلسفة تصورات بديلة للتصورات المسيحية السائدة ، فشجعت حركة الإلحاد و حولت مقاليد الإنسان من الغيب و القدر – كما هو في التصور النصراني الذي يثلث أو يوحد – إلى العقل البشري ، و جعلت ما يقدمه العقل من تشريعات و تنظيمات هو الحكم ، و أعطت منجزات الإنسان قبل المسيحية – الرومانية و اليونانية – الأولوية ، ووجهت الباحثين إلى دراستها و تنظيمها ، لأنه إبداع إنساني لا يستلهم تعاليم السماء ، و أصبح النظام العقلي هو الذي يدير قضايا الحياة كلها من السياسة ، حيث "الميكيافلية " ، إلى الفنون و الآداب ، حيث يحيط العقل بالعواطف البشرية ، و لم تعد أراء الكنيسة مسموعة و لم يعد الأدب الذي يستند إلى التصورات النصرانية – أدب العصور الوسطى – مقبولا لدى النقاد و الجمهور . و ظهرت الكلاسيكية الأدبية معبرة عن هذا الواقع الجديد بفضل "كورني "و "موليير" و " راسين " الذين أعجبوا بالنظام الكلاسيكي و الأدب اليوناني فأخذوا بقواعدهما و استخرجوا أصول الكلاسيكية من الأدب القديم و من كتاب "أرسطو " و الشروح التالية عليه و طبقوها في مسرحياتهم وأدبهم . و هيأت الظروف التي أحاطت بالغربيين في القرن التاسع عشر للتيارات الفردية و فلسفاتها ، فقد كثرت الحروب و اشتدت النزعة الإستعمارية ، و توالت الأزمات الإقتصادية و الإضطرابات الإجتماعية ، فأصيب الفرد الغربي بموجات من خيبة الأمل و اليأس ، و بدأ يفقد الثقة بالنظام العقلي الذي أنجب الكلاسيكية ، و شعر بالحاجة الشديدة إلى ملاذ عاطفي ، فأقبل على الفلسفات المثالية ، و طبقها في ميادين حياته ، و على رأسها الفن و الأدب . و من مظاهر ذلك تشكل المدرسة الرومانسية الفرنسية بفضل قصائد "سندال "و "الفريد دي موسيه " و "ستندال " و "لامرتين " و "شاتوبريان " و مسرحيات "فكتور هوجو" .و قد حملت الرومانسية الفرنسية خلفها ركاما هائلا من الظروف المضطربة و الفشل و خيبات الأمل و عجز العلمانية عن تحقيق حلم الإنسان بالسعادة . و لقد آمن الأدباء الرومانسيون بالمبادئ التي طرحتها الفلسفات المثالية و ثاروا من خلال إبداعاتهم الأدبية على الكلاسيكية و مبادئها. و ظهرت الرومانسية الأنقليزية بفضل قصائد "وردزورث " و "ولييم بليك " و " كولردج " و " شيللي "التي جسدت النزعة الفردية و الإهتمام الشديد بالعاطفة و الوجدان . و استوت الرومانسية مذهبا أدبيا واضح المعالم بفضل كتابات " هربرت ريد " و "ولييم بليك " و " كولردج " و "هوجو" و "سيلر" و آخرين . كما ساهمت منذ منتصف القرن العشرين الحربان العالميتان ، و الأزمات الإقتصادية الكبرى ، و تفكك الأسرة الغربية و تردي الأخلاق و موجات الحيرة و القلق و الضياع .. في جعل الفرد الغربي مستعدا لقبول الفلسفات الواقعية و الماركسية و الوجودية ، فأدب الإشتراكيين الماركسيين عبر بدقة عن المذهب المادي الجدلي الذي يربط الحياة كلها بمحور واحد هو المادة ، و يدير ظهره نهائيا لعالم الغيب و الخالق . كما أن المذهب الواقعي الإشتراكي لم يظهر إلا بعد أن ظهر " مكسيم غوركي " و "بوشكين " و آخرون اقتنعوا بالمبادئ الماركسية و أنتجوا أدبا يبرز قضاياها الرئيسية . كما كان لكتابات " سوتشكوف " و "روجيه غارودي " و "أرنست فيشر " و " جورج لوكاتش " الفضل في تأصيل الواقعية الإشتراكية . و عكس أدب الوجوديين فلسفتهم الغارقة في الوجود المادي و المنقطعة عن السماء و العاجزة عن التعامل مع البيئة ، و قد استوت الوجودية مذهبا أدبيا بفضل كتابات " سارتر " عن الإلتزام و تحليلاته الأدبية . و لعل أهم القضايا التي يحملها الأدب الوجودي تتمثل في عبثية الحياة ، و التمرد الفوضوي على المجتمع ، و القلق الدائم ، و لا سيما القلق من الموت ، و اعتبار الموت نهاية غير عادلة للحياة ، و تنصيب الذات البشرية في مقام الألوهية ، و منحها القدرة الكاملة على تسيير الحياة . و منذ ما سمي بعهد الإصلاح و النهضة أخذت هذه المفاهيم الغربية تنتقل إلى قدر من الأدباء في البلاد العربية و الإسلامية، أقبلوا على الثقافة الغربية و أعجبوا بالأدب الغربي و مذاهبه ، و فتنوا بمسرحه و لم يحسوا بما فيه من أمراض ، فدبت فيهم العدوى و ولعوا بكل ما ينتجه الغربيون في الفن ، و ما لبث إنتاجهم الأدبي أن حمل جراثيم كثيرة فتاكة ...! أخطرها النظرة الغارقة في التشاؤم للحياة و التصور القاتم للقدر ، فإذا بهم يناقشون في أشعارهم أو قصصهم أو مسرحياتهم قضايا الحياة و الموت و يبثون في شخصياتهم الأدبية التي ينشئونها شعور العبث و الظلم ، و تجري على ألسنتها عبارات الخصومة و التمرد و الصراع ، ليقولوا لك في النهاية أن الحياة عبث لا طائل وراءه ، و أن الإنسان مقهور شاء أم أبى !؟إن هذه النقلة الخطيرة في أدبنا و نظرتنا للكون و الإنسان و الحياة ، لم تأت صدفة بل هناك ما يبررها : فبالإضافة إلى الإستعمار الذي بسط نفوذه على جل البلاد العربية و الإسلامية و قام بمجهودات جبارة لاجتثاث هويتنا ، و انبهارنا بمنجزاته الحضارية ، -انبهار الغالب بالمغلوب - قام الإستشراق بدور خطير في مجريات أدابنا و علومنا و فننا عموما ، فقد ظل المستشرقون أساتذة لعلوم حضارتنا لفترة طويلة مما مكنهم من تربية جيل واسع ممن أشربوا مفاهيمهم و تجربتهم و روحهم المعادية لقيمنا الحضارية الأصيلة ، و قد تربى هذا الجيل على مناهجهم في تناول القضايا المختلفة دون مراعاة خصوصيتنا الحضارية و قيمنا الإسلامية . و بعد أن انحصر دور المستشرقين في بلادنا العربية و الإسلامية خرج هؤلاء التلاميذ أساتذة لعلومنا و فنوننا ، و كان دورهم أخطر ، و ضرباتهم أعنف في نقل الخراب إلى ديارنا من المستشرقين أنفسهم . و هكذا بدأت مع بدايات العصر الحديث الغزوة الحضارية الكبرى لبلدان العالم العربي و الإسلامي ، و استيقظت معها كل دعاوي الشعوبيين ، و أعداء أمتنا ، لتصبح العنصرية و العرقية هما التكوين الإنتمائي ، و تبدأ الغربة الطويلة التي تعيشها الأمة العربية و الإسلامية .. !!؟ من ذلك إقدام طه حسين على الطعن في أصول اللغة العربية حتى ينهار الأساس الذي نفسر به تراث الأجداد ، و يصبح التفسير و الشرح تحكميا ، و بانهيار الأسلوب العربي ينهار الأسلوب القرآني كذلك ، لشدة الصلة بينهما و نزول القرآن " بلسان عربي مبين ". كما حوربت القيم التي بنى عليها المسلمون حضارتهم و أزيحت فكرة الأصول الثابتة بهدف تغليب طوابع التطور المطلق الذي لا يعترف أساسا بالضوابط و الحدود، ففي سنة 1930م ارتفع صوت محمد عبد الله عنان في مقال له في "السياسة الأسبوعية " قائلا: «.. أعتقد أن المستقبل ليس لأدب القصة ، و أن هذا النوع من الكتابة سيبقى في مكانه بعيدا عن النهضة الفكرية و الأدبية العامة ، ما بقيت الحياة الإسلامية قائمة على أصولها و تقاليدها الأثيلة ، و ما بقي للأخلاق و الخلال معيارها الإسلامي "!؟
و قد أشر هذا لفتح الطريق أمام حرية الإباحية و تمجيد العلاقة الجنسية خارج نطاق الزواج الشرعي و الجرأة على كل القيم و المعايير الإسلامية الثابتة ، و أصبحت هذه الجرأة على قيم الإسلام شرطا من شروط الإبداع حسب البعض ، يقول علي أحمد سعيد " أدونيس " : " إن السبب الذي يكنه العرب للإبداع ، هو أن الثقافة العربية بشكلها الموروث هي ثقافة ذات معنى ديني "!!؟ و يضيف كمال أبوديب في هذا المعنى : " من الدال جدا على أن النص المقدس في جميع الثقافات التي نعرفها هو نص قديم ، فليس هناك من نص مقدس حديث و الحداثة بهذا المعنى هي ظاهرة اللاقداسة ... و لا سبيل لأن يكون الأدب حديثا إلا إذا رفض كل نص مقدس و أصبح نقيضا لكل ما هو مقدس حتى العبادة " ! ؟ راجع ردا على هذه الترهات في كتاب : بن سالم بن عمر( محمد) نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه – المطبعة العصرية ،2009 / الطبعة الأولى / جدلية الحداثة التغريبية و التخلف." بل تصل الجرأة ببعض الكتاب أن يبشروا بالحقد و الكراهية و الأنانية و تمني الموت ، يقول الأستاذ "ولسون" في كتابه " اللامنتمي " لا صلاح لهذا العالم المليء بالتناقضات إلا بالثورة و الغضب و عدم الإنتماء إلى أية قيمة أخلاقية من القيم الموروثة بل لا بد من مواجهة العالم بكل مشاعر الحقد و الكراهية " !! و يقول محمد الماغوط في نفس الموضوع : " على اللامنتمي أن يحس باللاجدوى لأن هذا الوجود بلا موقف و لا دليل و لا مستقر و لا مرشد ، فليس للامنتمي إلا الإحساس بالسأم و يتمنى الموت و الأنانية الفردية و رفض كل المعطيات الخارجية " !! إن هذه الثقافات المستعارة ، و القيم الغريبة و التقليد الأعمى للغرب ، قد سرب إلى النفوس جموحا عاطفيا سلبيا و أورثها العلل الذي أفرزتها الفلسفات الفردية كالوجودية و الرومانسية و غيرهما ، و لعلنا لا نشك في أن الفكر الوجودي يمثل أعظم الروافد التي أشاعت موجات الإغتراب و الضياع في إبداعاتنا الشعرية و الفنية عموما ، لقد أصبح الإنسان بفضل هذه " الفلسفات " يحس بالضياع و الغربة في عالم التكرار الممل الذي فقد المعنى ، عالم يحس فيه الإنسان بوحدته و تفرده و نفيه في هذا الكون ، بعد أن يرفض العناية الإلاهية و هدايتها له في كل التفاصيل الحياتية و يتمرد على كل قيم سابقة تعوق تحقيق وجوده !؟
الفصل الثاني
خصائص الفن الهائم
بينا حتى الآن كيف كان "الفن الهائم " وليد فلسفات مريضة و تيارات جانحة منحرفة من الفكر و الثقافة الإعتقاد ، و نظرة خاطئة لحقيقة الألوهية و القدر ، و قد انعكس كل ذلك على مختلف الفنون و أصبحت جل الإبداعات الفنية لا تعكس إلا الحيرة و التخبط ، و الهروب من المواقف الجادة ، و الإنسلاخ عن الدين الحق و معطياته ، و الإغراق في اليأس و القنوط ، و النزوع إلى الهدم و التحلل . و لقد عانى المجتمع الإسلامي منذ عهد النبوة من مثل هذا الفن الهائم على وجهه ، و الضائع في متاهات التاريخ و الذي تخطى حرمات العقيدة و العقل ، و حمل صورا و مواقف و قضايا معادية للإسلام ، كالشعر الذي هجا به الشعراء المشركون رسول الله صلى الله عليه و سلم و الصحابة الكرام ، و تبذلوا فيه حتى ولغوا في أعراضهم و سخروا فيه من المفهومات الإسلامية ، و كالشعر و النثر الذين يدعوان إلى الرذيلة أو إلى قضية يحاربها الإسلام ، أو يسوغان محرما . و قد واجه المسلمون هذا التيار ، فأهدر الرسول صلى الله عليه و سلم دماء الشعراء الذين نالوا من مبادئ الإسلام و من أعراض المسلمين ، و أمر صلى الله عليه و سلم بقتل عدد من الشعراء المشركين و اليهود ممن آذوا المسلمين بشعرهم منهم على سبيل المثال : أبو عفك أحد بني عمرو بن عوف ، و عبد الله بن خطل القرشي ، و مقيس بن صبابة الكناني ، و أبو عزة الجمحي ، و عصماء بنت مروان ، و كعب بن الأشرف ، و أبو رافع سلام بن أبي الحقيق . و هناك شعراء لم ينفذ فيهم القتل لهروبهم أو توبتهم و دخولهم في الإسلام ، مثل هبيرة بن أبي وهب ، و الحارث بن هشام (" أنظر سيرة بن هشام 5/636، و الطبري 3/59"). و سار الخلفاء الراشدون على نهج النبوة فراقبوا إلتزام الشعراء بالإطار الخلقي الإسلامي و عاقبوا الشعراء الخارجين عليه كالحطيئة و ضابئ البرجمي و الأحوص ... و كانت هذه المواقف درسا من دروس التوجيه و شكلا من أشكال معالجة العلاقة السلبية بين الأدب و الإسلام .كما ظهرت تجاوزات في العصور التالية تخطت جدران العقيدة ، كالغزل بالغلمان و التعهر و الدعوة إلى معاقرة الخمرة و التغني بها ، و إعلان الإيمان بالحلول و التناسخ و الإلحاد ، و العبث بالقيم الإسلامية على سبيل الدعابة أو المجون ... و غير ذلك من التجاوزات الكبيرة و الصغيرة ، فعارضتها السلطات الرسمية ، و عوقب أصحابها بالسجن أو القتل ، كما حدث لبشار و الحلاج . و قد تطورت هذه الحالات الشاذة في الأدب العربي و الإسلامي في العصر الحديث ، و شهد تغيرات هائلة دفعت جله إلى جزر نائية حتى غدا هذا الفن غريبا عن فن الإسلام ، دخيلا عليه ، و صرنا لا نرى في إنتاج أدباء هذه الأيام العجاف ، إلا الحيرة و التخبط ، و سكب الدموع و تصعيد الآهات ، و السخط على الحياة و الأحياء ، و التنكر للقيم الرفيعة و المبادئ السامية ، و الإنسلاخ عن الدين و أهدافه ، و الإغراق في اليأس و القنوط ... !؟ و لعل أبرز ما يميز هؤلاء الأدباء ميلهم الشديد إلى تصوير الآلام النفسية ، و الإنتكاسات العاطفية ، و هم مغرمون بتصوير الأحزان و العذاب و الهجر ... إن مثل هذا الأدب لا يستطيع أن ينهض بأمة، أو يبني قوة قادرة أو يشكل من المستقبل جنة وارفة الظلال، تفوح بالحب و الأمل و العمل البناء ، لأنه لا يقوم برموزه و دلالاته على أسس سليمة من الواقع التاريخي أو التجريبي . كما أصبح الحزن غاية في حد ذاته ، لأنهم يرسمون لوحات تطفح باليأس و الألم و قسوة الحياة ، و يعكس إيقاعها الناقم المتشائم رؤية نفس مدمرة ساخطة ، و ينظرون إلى الناس نظرة فيها الكثير من المقت و الإنكار و النقمة .
و لا شك أن مثل هذا الأدب يصدر عن نفس حائرة مضطربة بلا عقيدة ، أو بعقيدة قد اهتزت أمامها السبل فتركت صاحبها بلا يقين و لذلك جاء إفرازها أيضا حائرا مضطربا ، و ضالا عن هداية الله ، لا يرى اتساقا في الكون و إنما عبثا ، و لا ينتظر أملا بل يلف روحه التشاؤم ، و لا يرى لوجوده ووجود البشرية غاية ، ما دامت علة الوجود عن نفسه غائبة ، فكل إناء بما فيه يرشح و من فارقه الإيمان و جافاه اليقين فقد تلازمه الحيرة و يغلب على سلوكه العبث و سيبقى أبدا كما كان "سيزيف" في الأسطورة اليونانية ، حاملا صخرته صاعدا بها ، فساقطة منه ، و بينما هو يواصل الحمل و الصعود ، يظل قانون العبث ، و اللامنطق و العشوائية و اللاجدوى يحكم العالم .! و قديما تصور عمر الخيام الكون كتابا لا ينفذ العلم البشري إلى واحد من سطوره ، و غيبا مجهولا يطرقه الإنسان دون جدوى ، فجاء شعره موغلا في الضياع و العبث و السلبية ، و انغمس حتى الأذقان في اللذة بأشكالها و صنوفها جميعا أملا في التخفيف من الألم و التساؤل و الحيرة ؟! و صور لنا الناقد الألماني "هيلموت أوليج " واقع الأديب العالمي "هنري ميلر" فقال : " إن عالمه يقوم على ازدراء العمل و تعاطي الشراب كمخدر و الإتصال الجنسي ، و أن هذا العالم عنده هو العلة الغائية للوجود ، و الإباحية هي منوال الحياة ، وهو يعتمد على كل المثيرات العنيفة "-"( معنى الواقعية ص 54") ﴿ ﴾ و منذ ديوانه الأول راح صلاح عبد الصبور ﴿ ﴾" (عنوان الديوان : الناس في بلادي ") يصرخ في قصائده أن الحياة عبث ، و أن الناموس الذي يسيرها خطأ، و أن فيها انحرافا صميما يعجز الإنسان عن إصلاحه ، و أن الموت نهاية غير عادلة للحياة ، و أن القدر ظلم محض ...!و عبرت قصائد بدر شاكر السياب كلها تقريبا عن صيحات الإنكار و الحيرة و التخبط في دياجير الظلام !؟أما الموضوعات المطروقة في القصة العربية فتدور جلها حول " الحب "أو " الخيانة الزوجية " ، أو الحديث عن حياة البغايا و الراقصات ... و تغرق أحداث القصة بتفصيل حالات الإنحراف و السقوط ، و تصويرها في صورة لذيذة ، تحمل بذور الشر التي تنمو و تطغى على المقاصد النبيلة التي يمكن أن توجد في القصة ، و توحي القصة لكل زوجة ينحرف قلبها قليلا عن زوجها أن تسارع إلى عشيق ، و تسمي ارتباطها بعشيقها هذا رباطا مقدسا !!؟ بينما يسمى ارتباطها بزوجها عقد بيع الجسد ! و قد بذل كتاب القصة و لا يزالون جهودا منظمة لإنشاء موازين و قيم و تصورات غريبة عن مجتمعنا العربي الإسلامي . و سعوا جاهدين إلى إطلاق الغرائز من كل عقال إخلاقي ، قصد انطلاق السعار الجنسي المحموم بلا حواجز .. باسم الحرية، وهي عندهم لا تعني سوى الشهوة و النزوة. يقول فؤاد دوارة في نقده لقصة " لا أنام " لإحسان عبد القدوس : " لا أعرف قيمة فنية واحدة يمكن أن تدفع الكاتب الروائي إلى أن يملأ روايته بكل هذه التفصيلات الدقيقة عن أفضل السبل لخداع الأهل و ممارسة الرذيلة في أمن و دعة"﴿ ﴾ " - في الرواية المصرية ص 136 .".أعتقد أن أدب الإنحلال و العبودية الذي يبشر به هؤلاء الكتاب/ "الأدباء" لا يمكن أن يجد صدى لدى الناس و يروج بينهم إلا حين تفرغ الشعوب من القدرة على الكفاح في سبيل مثل أرفع من شهوة الجسد ، لأنه كلما غابت الفكرة ، يعلو الصنم ، صنم البطن و الجنس و عبادة الذات ، و تتقلص اهتمامات الإنسان و فعاليته الإجتماعية ، فيصبح المأكل و الملبس و الزينة المبالغ فيها و الجنس المحموم و تزجية الوقت في اللهو و العبث شغل الإنسان الشاغل ، و بذلك يفقد الفن أي تأثير في البناء و يصبح أداة هدم ، يبث في أعماق النفس اليأس و الخراب و الإستسلام للواقع المرير و لشهوات النفس الأمارة بالسوء بطبعها . و حينئذ يأتي دور الكتاب الذين تخصصوا في إعطاء الشعوب جرعة من الوهم و الخيال للتعويض عن الواقع ،و ذلك بسرد القصص الخيالية الكاذبة التي تعطي الوهم بدلا من إعطاء الحقيقة ، و استعارة الرموز التي تتنافى مع عقائدنا و ثوابتنا و بصائرنا القرآنية لإفساد الذوق السليم و التصور الراقي و التمكين للفردية و الأنانية و الرفض المطلق لكل ماهو غيبي ، و نسخ الكثير من المثل العليا ، و القيم السامقة التي بشرت بها كل رسالات الأنبياء عليهم السلام .
إن هذا الفهم الخاطئ للفن عموما و دوره في واقع الحياة هو الذي مهد لولادة شعر غامض لا طعم له و لا رائحة بل و يتربص التعقيد بالقصيدة من مطلعها إلى آخرها ، و هذا الغموض و التعقيد ، يقف في وجهك شاهرا سيفه و لا يتيح لك فرصة ولوج عالم الشعر – إن كان هناك عالم أصلا – و أصبح "الشعراء " في هذا الزمن الأغبر يستعذبون حشد كم هائل من المصطلحات و الألفاظ التي تستعصي على الفهم بالنسبة للقراء ، و في غالب الأحيان بالنسبة "للشاعر" نفسه . و هكذا أصبح الغموض و الإبهام و الرمز الغريب من سمات الشعر الحديث ، واختلط الشعر بالنثر ، و الغامض بالمفهوم ، و السهل بالصعب واعتقد بعضهم - أمثال أدونيس – أن الغموض هو القوة المحفزة على ولوج عالم الشاعر ، و أن الوضوح يسلب في كثير من الأحيان تلك المتعة التي يحققها الغموض !؟ إن أمثال هؤلاء " الشعراء " قد برهنوا في الحقيقة على الإفلاس الإبداعي الصحيح ، لأن الغموض لن يمكنهم من الوصول إلى عقول الناس و وجداناتهم ، و الشعر الذي لا يحدث تأثيرا في عقل الإنسان و وجدانه ليس بشعر. و سنسوق هنا اعتراف أحد هؤلاء " الشعراء " بتفاهة ما يكتبه بعض زملائه ، يقول أدونيس : " في الشعر الجديد اختلاط و فوضى و غرور تافه و شبه أمية ، و من الشعراء الجدد من يجهل حتى أبسط ما يتطلب الشعر من إدراك لأسرار اللغة و السيطرة عليها و من لا يعرف من فن الشعر غير ترتيب التفاعيل في سياق ما ، إن الشعر الجديد مليء بالحواة و المهرجين "!
بالإضافة إلى كل ما سبق ذكره ظهرت فئة مرتزقة من الأدباء و الفنانين حادت بالفن عن رسالته السامية في الحياة و قد و صفهم أحد الشعراء خير وصف حين قال :
وهم الجمع ثوب أو رغيف و صك من رصيد أو حوالــه
و ألقاب يتيه بها قرود و ليس لها معان أو دلالــــه
فخامته هزيل ليس يدري بأن الناس قد فضحوا هزاله
و هذه الفئة تتعلق بالأشكال و الأمجاد الزائفة ، وهي في سعي دائب لتحضى بلقب " المفكر " أو " المثقف " أو" أستاذ الجيل" إلى غير ذلك من الألقاب التي يحن إليها ضعاف العقول ، و تصل السفالة بهؤلاء إلى قلب حقائق الأشياء وسط عالم مليء بالضجيج و الخداع ، و يصير الفن أداة هدم وآلة تشويه للحياة ، و لن يكون هذا الفن إلا فنا ميتا لا يتعدى تأثيره حدود زمانه و مكانه لأنه فن طبول دعاية و نفاق و تملق و تزييف و تدليس . و قد يمدح اليوم ما كان هجاه بالأمس ، و قد يهجو غدا ما كان قد مدحه اليوم . و هكذا هم في كل واد يهيمون ، و يقولون ما لا يفعلون ... حتى بدا لقائل : أن وطنه قد ولد من رحم طبلة و أن الناس قد صاروا يتنفسون من زكرة !؟
الفصل الثالث
الفن الإسلامي وشروط الإبداع
يقصد بالفن: "التعبير عن الحال بمختلف الأساليب والأدوات من أدب إلى رسم إلى شعر.. إلى غير ذلك من أساليب التعبير، والفنان إنسان يعبر عن الإحساس الداخلي الذي يحس وينفعل ويتأثر به، فيعبر عن ذلك بصورة من صور الفن التي يجيدها، والفنان الحق هو الذي يختار من الأفكار والأحاسيس التي يجد فيها مظهرا لجمال ظاهر أو خفي، أي يختار ما يوجد التأثر والإنفعال،وتكون الألفاظ والتراكيب التي تؤدي هذه الأفكار والأحاسيس على وجه يثير القراء ويثير السامعين، فيهز مشاعرهم، ويبعث فيهم ما يقتضيه هذا الانفعال من غبطة ورضا، أو سخط وغضب.
كما أن الفنان الحقيقي هو الذي يمثل بفنه مثله العليا ومفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة..!؟ وينظر دائما إلى عالمه بالمقارنة مع مثله وقيمه ومبادئه، وكذلك الأديب الحق، والشاعر المقتدر هو الذي يبلغ أهدافه ولا يضيق ذرعا بقيود اللغة السليمة والتراكيب الجميلة المعبرة عن أن تصير وعاء يستوعب أفكاره ومشاعره التي يحسها داخل نفسه، فيساهم بقسطه من أجل رفع الحياة البشرية وترقيتها، ويسعى إلى تحريك النفس لتنفعل بالحياة في أعماقها وتتجاوب تجاوبا حيا مع الأشياء والأحياء ، يقول الجرجاني: « إن من كمال الجمال البلاغي أن تكون مادته الخير والفضيلة ». أجل، فليس الأدب سوى رسالة سامية تنير سبيل الحياة الطيبة التي بشر الله بها عباده المؤمنين بروبيته، وتعرف الناس كيف يهتدون إلى منابع السعادة والمعرفة فيها.. وهل الأديب سوى مبدع يحمل بيده مشعل الحب والحرية المسئولة والتسامح، ويبحث بكل ما في ضميره من شوق وشغف وما في نفسه من نشاط وإخلاص عن مصدر السعادة والمعرفة في الحياة ليهدي إليهما نفوس البشر الحائرة، ويزيل عن وجه الحياة قشور الكآبة والجفاف، ويكلله بنور الغبطة والإنتعاش ؟! نقول هذا القول ونحن ننظر بعين الحسرة والألم لما آل إليه الأدب الآن في مختلف البلاد العربية والإسلامية، إن قصارى جهود الكثيرين من «الأدباء والشعراء» التحدث عن التجارب الخاصة والمفاهيم المنحرفة عن هداية الله، واغلبها يدخل في نطاق المرأة، كما أصبح الأدب يعطي صورة منقبضة متشائمة للحياة طافحة باليأس والألم وقسوة الحياة ، لأنه أدب صادر عن نفس حائرة مضطربة قد اهتزت أمامها السبل، فلا ترى اتساقا في الكون، وإنما عبثا، ولا تنتظر أملا، بل يلفها التشاؤم، إنها إفرازات العبث والعدمية والتّنكر لروبية الله ووحدانيته و يأس من روح الله، وكم نحن بحاجة إلى أدب متفائل يحمل الحب والأمل والدعوة إلى العمل بمقتضى التنزيل الحكيم.
لقد مثل الفن بأشكاله المختلفة عبر الأحقاب التاريخية المختلفة مرآة الأمم ونبضات قلبها وعصارة فكرها وحقيقة وجدانها ومختلف تصوراتها عن الكون والإنسان والحياة، وهذا يجعلنا بحاجة أكيدة إلى تحديد إطار واضح، ومفهوم محدد للفن الإسلامي الذي ننشده، ليكون فنا متميزا واضحا، يعبر عن التصور الإسلامي والحضاري لأمتنا الإسلامية..، حتى نستطيع تقديم هذا المفهوم للناس إزاء المفاهيم الأخرى للفن الهائم على وجهه والسائر في ظلمات بعضها فوق بعض والمتخبط على وجهه في متاهات الحياة ودروبها المدلهمة، فلا يكفي أبدا أن ننادي بفن إسلامي بديل وننشد الإهتمام به، دون تحديد لمفهومه ومعالمه وتصوراته، إن الفن الذي ننشده هو كل فن جميل مؤثر ازدهر في ظل قيمنا ومعاييرنا الإسلامية وثوابتنا الحضارية المستنبطة من القرآن وارتوى بروائها وتغذى من نبعها واعتمد معاييرها، وأشرق على الدنيا داعيا إلى قيم المحبة في الله والخير والجمال والحق والعدل بين الناس، وانتصر للقضايا العادلة وحارب الباطل بمختلف تشكلاته .. بعزة وثقة تامة وإقدام وبأسلوب واضح ولغة عربية فصيحة يفهمها كل الناس. فالفن الذي ننشده هو نقيض الفن الهائم والضائع الذي يتبنى الزيف منهجا للحياة مزركشا بالأكاذيب والمساحيق المضللة عن الحق والعدل، إنا نطمح إلى فن إسلامي نظيف يحارب الغموض والعبث، ويشجب الحيرة والإضطراب والتناقض ونشر الفساد في الأرض، ونندد بكل فن يعمل على إيجاد الصراعات والإحن بين الناس، أو يكرس واقع التخلف والتوحش وحياة الأنعام و عبادة الأشخاص، أو يشكك في شيء أصيل وجميل في ألذات البشرية و فطرتها التي فطرها الله عليها. إن المبدع الفرقاني هو إنسان خير بطبعه، ولديه مجموعة من الثوابت الإلاهية والقيم السامية تدفعه لأن يعمل ويبحث في موضوع ما، ومن أهم القيم التي يمتلكها المبدع المسلم هي الإصلاح والبحث عن الأصالة والصدق والأمانة، وكل الموضوعات التي يعالجها تصطبغ بالقيم الإنسانية الرفيعة التي يؤمن بها ويجسدها في حياته... على عكس الفنان الهائم الضال عن هداية الله الذي يقول ما لا يفعل ويظهر غير ما يبطن ويعيش حياة ضنكا بسبب إعراضه عن الحق و تبنيه للباطل.! وهكذا يصبح الفن وسيلة للبناء والتشييد، والسمو والتقدم، وحافزا للرّوح، ومشكلا للفكر والوجدان والمفاهيم المتطابقة مع الحق والعدل، وباعثا للحيوية والقوة الإيجابية في حركة الحياة الشاملة، وممهدا لطريق السعادة والنقاء والحياة الطيبة المطمئنة، وحارسا لهوية أمّتنا الإسلامية...!
إن الفن الإسلامي فسيح الرقعة، واسع الأرجاء، لأن كل فن سار في فلك القيم الإنسانية النبيلة التي لا تمجها النفس السوية صراحة أو ضمنا كان فنا إسلاميا، وكل فن عالج قضايا وأفكارا بتصور إنساني راق واصطبغ بالمفاهيم الإسلامية الواردة في كتاب الله فهو الفن الإسلامي الذي ننشده لبناء حضارة إسلامية جديدة ومتقدمة عن أية حضارة إنسانية لا ترتكز على المفاهيم القرآنية في بناء المجتمع . وكل عمل يبث الخير في نفوس شبابنا وأطفالنا والأسرة بشكل عام هو عمل إبداعي وحضاري و إنساني يؤجر عليه الإنسان و يمكث في الأرض، وأي عمل فني ينفع الناس ليس فيه فساد ولا إفساد متعمد، وإنما فيه خير نبثه في نفوس شبابنا وأطفالنا وعقولهم ليساعد على خلق جيل يحمل الخير في نفسه، فهو عمل نباركه، والفن إن لم يكن : خادما للمجتمع، مدافعا عن ثقافة الأمة ومفاهيمها السوية وأسلوب عيشها المميز في الحياة ومدافعا عن تطلعات الناس وطموحاتهم وحقهم في الحياة الكريمة وفق المنهج الإسلامي الذي ارتضوه لحياتهم، وتبصيرهم بالواقع، والصدق مع النفس، والتجاوب العاطفي الوجداني مع المشكلات الحياتية النابعة من ممارسات الواقع، ساعيا إلى تغيير البنية المادية والنفسية لأفراد الأمة، فاعلا بنجاعة في تطور المجتمع ومساهما في أداء الناس لمسؤولياتهم، رافضا لكل أنواع القهر والإستبداد والإستغلال و الإستفراد بالسلطة، قائدا للأمة إلى أهدافها الرئيسية في الحياة.. فليس بفن. إن أولى مهمات الفنان المؤمن هو مواجهة أوضاع التخلف والظلم والإستبداد والتسلط والطغيان و تعريتها أمام الوعي الجمعي و الدعوة إلى تغييرها إلى الأفضل والأمثل والتخلص من قيود المرض والجهل والتمييز الطبقي والطائفي، والتفتح على القيم الإنسانية النبيلة في العالم والإرتفاع بمستوى المجتمع والأمة لتتناسب أوضاعها مع مبادئها الحضارية والإسلامية التي تحفزها لبلوغ ما وراء العرش تطورا وتقدما وازدهارا، والنفاذ من أقطار السماوات والأرض...!
إن هذه المهمات التي ندعو لأن يبشر بها الفنان الفرقاني المسلم في أدبه ومسرحه ورسومه ومختلف الأشكال الفنية التي يحسنها، هي التي ستجعله فنا متميزا جديرا بنيل احترام الناس بوصفه يتبنى قضاياهم ويعالج مشاكلهم ويساعدهم على تبين طريق الحق والسعادة والفلاح.
لقد قام الفن الإسلامي منذ بدايات الدعوة الإسلامية بمهمات جليلة في التمكين لقيم الإسلام ومبادئه السمحة و معاييره الإنسانية، وظهرت آثار التصور الإسلامي في المدينة المنورة، ونجحت التجربة الإسلامية نجاحا باهرا حين قدمت لنا وللعالم كله روائع الشعر الإسلامي القديم، ولقد عبر الشعر – ديوان العرب الأول – عن أدق خواطر الإنسان المسلم ومشاعره، وأزماته وهمومه، وحيرته وقلقه، وسخطه وتمرده، وموقفه من الحب والغربة والموت، وتأملاته في الكون والطبيعة، وتعاطفه مع الحيوان، ورثائه للطيور الصادحة، وحنينه إلى الأوطان، وتمجيده للقيم النبيلة، وتصويره للبطولات الملحمية...، إلى غير ذلك من التجارب الشعرية الرائعة. كما استخدم الأدب كوسيلة في تهذيب الأخلاق وتربية الضمير وهداية العقول إلى الحق والخير وفي هذا يقول حسان بن ثابت:
إذا الشعر لم ينشر مكارم قومه فلا حمدت منه المكارم مشهدا
ويقول زهير بن أبي سلمى:
وإن أحسن شيء أنت قائله بيت يقال إ ذا أنشدته صدقا
فالحضارة الإسلامية لم تفصل في يوم من الأيام بين النواحي الجمالية في الفن والمضامين الراقية التي ترتفع بفكر الناس وأذواقهم وتجلب لهم الفائدة و المغنم في حياتهم وتخضع لهم الدنيا ذليلة لأنهم عرفوا حقيقتها من خلال الحكم والأمثال والقصص التي تبثها مختلف الفنون في نفوسهم، يقول عبد القاهر الجرجاني في (أسرار البلاغة ج 2 ص 133): « المقصد الأسنى للشعر هو تنمية الذّوق السّليم بحكمة يقبلها العقل وأدب يحسب به الفضل وموعظة تروض جماع الهوى وتبعث على التقوى وتبين موضع القبح والحسن في الأفعال وتفصل بين المحمود والمذموم من الخصال ».
ويشدو أبو تمام:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
واستمر هذا الفهم الصحيح لمهمات الفن الإسلامي والأدب المصطبغ بالمفاهيم القرآنية .. وأنتج تيارا فنيا مباركا ظل متدفقا في مختلف العصور الإسلامية، حتى أطلت علينا رؤوس الفتن في حياة هذه الأمة بنزعاتها العنصرية، وشعوبيتها وقومياتها الحديثة، وكان السبب الرئيس والمباشر في ذلك فتور المفاهيم الإسلامية و الرابطة الدينية الصحيحة التي كان لها الفضل في عزة المسلمين وقوتهم وازدهارهم. ولا عجب بعد ذلك أن أصبحنا نرى في العصر الحديث أفرادا يحملون القلم ويخطون الكتاب ويدبجون المقال والقصة والقصيدة...، بيد أنهم منفصلين عن كيان الأمة الإسلامية وضميرها و متصادمين مع معاييرها القرآنية!!
لقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي تحركا إنسانيا ملحا في سبيل البحث عن ألذات، وتحديد الهوية البشرية الحقة، ونفض الغبار المتراكم على الأذهان والقلوب بعد أن شعر الفرد بالتمزق والضياع، واختنق العالم كله فكريا وروحيا بمنطق العصر الآلي الصناعي ،بل وأصبح الناس يوصفون بالرجال الجوف، ويشبهون بتماثيل مليئة بالقش تصيح قائلة:
نحن الرّجال الجوف حشينا بالقش ." (- نقلا عن كتاب « اليوت» للدكتور فائق متى ص155")
وفي ظلّ هذا الواقع الجديد الذي صار إليه الإنسان بسبب بعده عن هداية السماء يبقى: (العامل الإلاهي وحده، هو الذي يستطيع أن ينتصر على العزلة، وأن يجعل الإنسان مدركا للشعور بالألفة والصلة ومتوخيا غاية جديرة بوجوده (-" نيكولاي برديائف : العزلة والمجتمع ص121 – ترجمة فؤاد كامل – مكتبة النهضة المصرية – القاهرة 1960،" ) لذلك ينبغي أن يكون التصور الإسلامي هو الذخيرة التي يستمد منها الفن الفرقاني موضوعاته ومجالاته، ثم تعمل البراعة الفنية عملها، فتخرج من تلك المفاهيم في شتى مجالاتها فنونا جميلة رائعة، بمقدار ما تطيق الفهم والتلقي والإكتشاف، وبمقدار ما تتفتح بصيرتها لارتباطات الكون والحياة والوجود، فالكون خلقه الله من عدم، وكل شيء فيه موجه بقدرته وعنايته سبحانه وتعالى، وهو في حركيته يخضع لقانون أزلي واحد ويتجسد فيه التكامل والتعاضد وتحدث فيه جملة من التطورات التي لا تصطدم مع المشيئة الإلاهية، وقد كرم الله الإنسان وجعله خليفة في الأرض ليقيم العدل اعتمادا على الميزان – ميزان القرآن – وهو مسئول على عمارة الأرض وإنشاء الحضارة، والبشر كلهم من آدم وآدم أصل خلقته من تراب وأحب البشر إلى الله انفعهم للناس إذا ما قصدوا بأعمالهم التقرب إلى الله ، وما الشريعة إلا وسيلة ليعرف الناس دورهم في الحياة ولكي لا يتيهوا عن طريق الحق والرشاد. فالفن الفرقاني هو الذي سيبشر بالرؤية الشاملة للإسلام التي تملأ فراغ النفس والحياة، وتستوعب الطاقة البشرية في الشعور والعمل، وفي الوجدان والحركة، فلا تبقي فيها فراغا للقلق والحيرة، ولا للتأمل الضائع الذي لا يحقق سوى التسيب والعبث.
إن الفنان الفرقاني مطالب بالبحث عن الحقائق الوجودية وأن يعيها جيدا، ويحاول الغوص وراء أسرارها ورموزها، ويبحث عن النماذج الإنسانية والتحركات الجماعية التي تؤكدها وتبلورها، حتى ينطلق في مسيرته نحو الخير والكمال والجمال. فهو اقدر الناس على نفع المجتمع الإنساني والسير به في الطريق الصحيحة لتحقيق المطامح الإنسانية المشروعة في هذه الحياة، لأن منهاج حياته منضبط بالصدق والتعاون مع الآخرين، وبواجبات كثيرة ومتنوعة نحو نفسه ونحو الآخرين، وكذلك نحو المجتمع الذي يعيش فيه، ويحيى على أمل أنه «لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» وهو قوي أمام إغراءات الحياة المختلفة، فلا يقع في الحرام، أو ينزلق إلى الرذيلة، ولا يحني رأسه أمام الفساد والظلم وشراء الذمم، رافعا راية العدل والقوة والمحبة والوئام لإخراج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
إنه من الخطورة بمكان أن يقتنع بعض المبدعين في ديارنا الإسلامية بتفوق الثقافة الغربية على ثقافتنا الإسلامية فيلجئون تبعا لهذه القناعة إلى اتخاذ الغرب قدوة ومثالا، ويستبطنون مدارسه الإبداعية المختلفة، ومفاهيمه عن الحياة يقيسون بها إبداعاتنا ونتاجاتنا الفنية..، إن مثل هذا العمل يسقطهم أولا وأخرا في التقليد الذي يتنافى تماما مع العملية الإبداعية، لأن التقليد يمثل العدو الأول للإبداع، كما أن استحضار مفاهيم الغرب في كل خطواتنا واعتباره سباقا في كل المجالات الحياتية يضعف من همتنا، ويميت تحفزنا للإبداع واختراق الآفاق، لأن المرء إذا ما أدرك أن هناك من سبقه إلى درب من دروب الحياة واعتقد بعدم إمكانية الإتيان بشيء جديد، يفتر عزمه، ويتلاشى حزمه في تقديم التضحيات الكافية لبلوغ ذلك الدرب المقصود، على عكس ما إذا كان سباقا لاكتشاف جواهر مطمورة، ولآلئ مكنوزة، وتحف لم تر العين مثلها من قبل، فان نفسه تكون في توق، وقلبه في شوق، لتقديم كل غال ونفيس ليفوز بقصب السبق في الإكتشاف الجديد وبلوغ الهدف المراد ونيل كل عجيب متسام، ولقد أدرك أجدادنا من المسلمين هذا السر في الإبداع فصنعوا المعجزات فكرا واكتشافات، وبهروا نفوسا كرعت من ينابيعهم الثرة وبحارهم العميقة المليئة بكل رائع وجميل ومؤثر عجيب، وانتقلت آدابهم إلى أوروبا عبر الدردنيل والأندلس وصقلية وغيرها...، وعلى ورثة هؤلاء الأفذاذ أن يواصلوا مسيرتهم في البناء والتشييد والإبداع.. ولقد جاء في مادة بدع ما يلي :« بدع، بدعا الشيء: اخترعه وصنعه لا على مثال، والبدع المحدث الجديد، والبدعة ما أحدث على غير مثال سابق» ﴿". منجد الطلاب ص24 – 25") والفن إبداع لأنه يبدع ما هو جديد، ويجعله يظهر للوجود فجأة، كأن المرء يراه لأول وهلة، ولا بد من الإشارة إلى أن الفنان لا يقوم بخلق العمل الفني، لأن الخلق هو عملية الإيجاد من العدم، وإطلاق صفة الخلق على عمل الفنان يعتبر تجاوزا لحقيقة العمل الذي يمارسه الفنان. فالله وحده خالق كل شيء في الوجود. إن أقصى ما يستطيعه الفنان هو: تركيب الصور والمفاهيم والمعاني التي خلقها الله، بشكل جميل ملفت للانتباه، ومؤثر، أي بشكل بديع يحسبه الناظر إليه أنه يراه لأول مرة، فالرسام مثلا يختار بعض المشاهد الكونية التي خلقها الله ثم يقوم بتركيبها بصورة جميلة ملفتة للانتباه، وتحدث العجب والدهشة في نفس المشاهد، محاكيا في رسم هذه المشاهد حقيقة المشاهد الكونية المخلوقة، ومصبغا عليها المفاهيم التي توصل إليها خلال مسيرته الوجودية، إن المعاني والمفاهيم هي أيضا قد خلقها الله مع خلق الإنسان، ومهمة الإنسان اكتشافها والبحث عنها في المخلوقات الكونية أوفي الكتب السماوية الصحيحة ، غير المحرفة التي تضمنت تلك المعاني والمفاهيم. إن أقصى ما يمكن إن يطمح إليه الفنان المبدع هو تحقيق السبق في اكتشاف المشاهد والصور والمعاني الراقية الجميلة والجليلة وتركيبها بصورة مؤثرة وممتعة لتقريبها من البشر حتى يتمتعوا بجمالية الصور والمعاني التي من شأنها أن ترقى بأذواقهم وأفكارهم وتسمو بسلوكهم وأخلاقهم . وهذا الفهم لرسالة المبدع / الفنان المسلم يجعلنا نلح على ضرورة توفر المضمون الهادف في كل الأشكال الإبداعية وأن تحتوي نتاجات المبدع على القيم الإسلامية النبيلة والمبادئ السامية من أجل رفع الحياة البشرية وترقيتها إلى مستوى التكريم الإلاهي للإنسان . فالفنان إنسان واع بدوره في الوجود، يسعى بفنه إلى تحريك الحواس المتبلدة لتنفعل بالحياة في أعماقها، وتتجاوب تجاوبا حيا مع الأشياء والأحياء، فقيمة الفن تظهر فيما يقدمه للحياة والناس من خير، وما يبشر به من قيم عليا ومثل سامية وما يدعو إليه من أخوة وتراحم وعدالة ومحبة بين الناس ليتعارفوا ويعيشوا في أمن وسلام، ويدلهم على الطريق ويأخذ بأيديهم إلى العزة والفضيلة، إن الفن موهبة من الله يحدث به صاحبه ثورة فكرية تضرب الأوضاع الفاسدة، وتملأ النفوس تذمرا وتطلعا دائما إلى الأفضل، فهو وسيلة للدفاع عن الحق والإنتصار له وإذاعة الفضيلة ومحاربة الشر في كافة صوره ومقاومة الظلم وأصحابه ومن يمشون في ركابه...!
فأمام الفنان المسلم إذن حقول خصبة للإبداع والعطاء وخاصة في مجال القوة الذاتية التي تحفظ القيم السامية والمبادئ النبيلة في نفوس الشرفاء المؤمنين برسالتهم في الحياة جيلا بعد جيل، ولعل من أعظم الأشياء قيمة « الأمل»، حيث لا تموت الأماني، أو يتطرق اليأس إلى النفوس في أحلك الأوقات وأحرجها، ولا يقع الفنان المؤمن برسالته فريسة الخوف أو الخشية إذا ما قارن قوة أعداء أمته المادية بقوته، المهم أن يمضي قدما في مسيرته الخالدة مهما كانت التضحيات جسيمة :« إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي...» وهذا يجعل مقاييس النصر أو الهزيمة، ومقاييس القوّة والضّعف تختلف وجهة نظر الفنان الفرقاني المسلم إزاءها عن وجهة نظر الآخرين باعتباره يستمد كل مفاهيمه عن الكون والإنسان والحياة من القرآن الكريم. وهكذا يصبح الفن المنشود هو الذي يقوي الذات وينميها ويكملها، فالفن يجب آن يكون إنسانيا يخاطب في الإنسان سموه، ويركز على جانب القدرات الإيجابية فيه، والتي تنسجم مع مهمته فوق الأرض، والتي تحقق مبدأ الإستخلاف، ما دام الإنسان مستخلفا، إنه إضاءات وجدانية، وإشراقات عقلية في الوقت نفسه تستهدف الإنسان كأعظم مشروع يتحقق فيه التصحيح و التغيير.
إن المضامين الهادفة والراقية إذا لم توضع في قوالب جمالية مؤثرة تفقد جزءا من قيمتها ويصبح تأثيرها محدودا، لذلك يصبح من شروط إبداع الفن الفرقاني تهيئة اللقاء بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في هذا الكون الذي أبدعه الله كأحسن ما يكون..! والحق هو ذروة الجمال، من هنا فإنهما يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها كل حقائق الوجود، والفن بهذا المعنى هو التعبير الجميل عن حقائق هذا الوجود اعتمادا على مواهب ناضجة، وأسس فنية واضحة، مؤثرة، فالفنان المسلم يجب أن يكون وسيطا بين الوجود والتعبير ويقف في موضع الوفاق والتناغم الذي يحيل كل شيء إلى لحن جميل، وأن يبتعد قدر المستطاع عن عيوب الخطابة والتقريرية، وجمود الشكل، ونثرية العبارة، وبهوت الصورة، بشرط أن لا يطغى الإحساس بالجمال عن الفكرة الملتزمة بقضايا الوجود والحياة والمصطبغة بصبغة الإسلام وثوابته . فلا بد إذن من اتخاذ العدة الفنية التي تستطيع تقديم الفكر النظيف في صورة موحية مؤثرة، وأن يسعى الفنان إلى استغلال الجوانب الفنية والنفسية والتأثيرية في الفن لاجتذاب الفطر السليمة.. وإقناع العقول السوية، والتغلغل إلى أعماق الوجدان الحي، للخروج بالإنسان إلى نطاق الفعل المتبصر، والحركة الواعية، والتغيير الإيجابي، وإيجاد مجتمع الخير والعدل والفضيلة مع الإنتصار على سلبيات الفكر والسلوك.
إن المزاوجة بين الجمال والحق أي المزاوجة بين الشكل والمضمون بصورة مبدعة تتطلب الإقتدار على الضبط، والبراعة في إحسان التحرك وإجادة التصرف في أضيق المساحات والمجالات، وأدق الأطر دون المساس بها، أو خدشها وتشويشها أو المروق منها. والإقتدار على الحركة داخل هذا الإطار الضيق المحدود هو المقياس أو المعيار الذي نفرق به بين الصادق والدعي، وبين الأصيل المتمكن والدخيل المتطفل. فالطفل الذي لم تنم مهاراته، تعطيه الصفحة الكاملة ليرسم فيها شجرة فيحتج بصغر المساحة التي لا تتسع لرسم شجرة، وتعطي عشر معشارها لفنان مقتدر، فيعطيك فيها عالما متكاملا يضج بالحياة، وينضح بالفتنة والجمال...
والفنان المبدع يدرك جيدا أن الفن لا يقوم على تصوير الحياة كما هي، بل لا بد من تدخل الفنان الذي يقوم باختيار أهم العناصر وانتقائها من واقع الحياة ثم يعيد ترتيبها ويخلع عليها من ذاته المسلمة وخياله وتفسيره مم يجعل تلك العناصر عملا فنيا محكما، فيه يمتزج الواقع بالخيال بما لا يشوه ذلك الواقع أو يفقده واقعيته ولبابه، فالفن الفرقاني المنشود لا بد أن يكون مرتبطا بالحقيقة والواقع متميزا بأسلوبه ومضمونه وغايته ويقصد منه أولا وأخرا تحقيق الموعظة الحسنة والعبرة ودفع الناس للتفكير في حكمة الله وربوبيته، وأن يبتعد قدر المستطاع عن الغموض والإبهام، ويحرص على تحقيق الإشباع العقلي والوجداني دون حيرة أو إبهام، حتى يمهد ذلك السبيل لرحلة جديدة من التفكير والتذكر واتخاذ موقف واضح من الوجود.
نماذج شعرية و قصصية من الفن الإسلامي المنشود
النهار بأحشاء الدجى يثب
(شعر)
قالوا استرح من شقاء ما في الشقاء إفادة
حطم يراعك تسلم واسلك سبيل البلادة
المسلمون نيام و الذبح أصبح عادة
و ليس فينا "صلاح" يعيد روح القيادة
في كل شيء فساد و أنت تدري فساده
اليأس خير دواء لمن يطيل سهاده
فقلت خلوا سبيلي لستم كراما و سادة
المرء ليس بحر إن خان يوما بلاده
أخلصت لله ديني فما عرفت الهوادة
ما الدين إلا جهاد و عزة أو شهادة
إسلامكم فاحفظوه واسترجعوا أمجاده
تطهروا من فساد وليحيي كل فؤاده
--------
رسول الهدى رائد للفلاح لمن سار في دربه و ادكر
أيا أمة الخير .. دين النبي بمنهجه يعاد الظفر
بغير شريعة رب السماء سنبقى نهيم بواد الخور
--------------
مهما دجا الليل فالتاريخ علمني أن النهار بأحشاء الدجى يثب
متمسك بكتاب الله معتصم و الريح حولي و الأوثان و النصب
-------------
فعش بعقيدة الإسلام حرا و كن كالنسر في قمم الجبال
و مت في ساحة الأحرار تحيى شهيد الحق رمزا للنضال
إلى تونس المحبة... و في القلب شوق!!
(شعر)
أنت البهاء ............. يموج في أحداقنا
أنت الصفاء .......... يجول في أعماقنا
أنت السخاء .......... يفيض من أعمالنا
أنت العبير .......... يفوح من سمائنا
تونس أنت مؤنستي و رفيقي
فيك بدائع شتى من كل فن رشيق
هاأنذا جئت لألقاك في السكون
العمــــــــــــــــــــــــــــيـــــــق
حاملا لك من كل محدث و عريق
ألقي به تحت قدميك في لهفة
المـــــــــــشــــــــــــــــــــــــوق
واضعا حول طوقك تاجا ووشاحا
لقدك الممشـــــــــــــــــــــــــــــــوق
بهاؤك تجلى في رونق الشباب
الأنـــــــــــــــــــــــــيـــــــــــق
فيه الخير تبدى و صفاء البريق
شباب يصنع الأمل في صورة الغد
المــــــــــــــــــــــــــــــــرموق
شباب يعشق الخير و يسمو لكل
معنى دقـــــــــــــــيـــــــــــــق
للفناء تصدى و سكب دماء
الرحيــــــــــــــــــــــــــــــــق
فليسمع الكون ... بأنك لن تكوني
لـــــــــــــــــــــــــغيــــــــــرنا
أبدا...و لن يعلو على كتفيك إلا
حبنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
هذي تونس بحارها......و ترابها
ملك لــــــــــــــــــــــــــــــنا
وهي الــــــــــــــــــردى
لمن اعتـــــــــــــــــــدى
(شعر) فلسطين
أنت جرح ينزف من جسدي..!
أنت قطعة من كبدي ..!
فلسطين الوفاء
يا أرض العروبة و السلام..
ابعثي لكل بطل مقدام ،
بفرح الأطفال و الأحلام ..!
قولي له : ‹‹القدس عروبتنا
و ديننا الإسلام.. !››
قولي له : ‹‹ أغنية خضراء
بدون كلام .. !››.
حديث البحر
قصة قصيرة
كان لي صديق، استأثرت به النشوة أياما، ثم مضت حماسته تفتر و نشوته تخبو، بيد أنه لم ينكص على عاقبيه و بقي به شيء مما كان ، أقصده كلما ألم بي كرب و اشتد علي حزن ، أطلب السلوى بحكايته التي يرويها و مغامراته التي يتقن صياغتها في كلام مشوق و حديث منمق، حالما رآني قادما إليه اهتز صدره فرحا و قال بصوت ينم عن السرور :أين أنت يا رجل !؟هل نسيت عشرتنا بهذه السرعة ؟! ثم استدرك قائلا: ‹‹أعلم أن مشاغل الحياة كثيرة ، لعن الله هذه الدنيا التي جعلتنا نجري وراء لقمة العيش ليل نهار دون أن ننال مبتغانا، الحياة صعبت و قل راكبها و فرقت الشمل بين الأصحاب و الخلان .›› وطافت بالرجل الذكريات اللذيذة فعاوده الحنين إلي صفو الحياة و جمالها، ثم أمر بإحضار الشاي، و تهالك علي أريكة و وثيرة و جلست قربه ثم بدأ في ثرثرته المعهودة و قال بحماسة و فخار: ‹‹كنت أهوى البحر و أركب في سبيل بلوغه الأهوال و الأخطار.. لذ لـ" قريبع" ، صديق العمر الذهاب معي إلي البحر ، وقد اشتد الحر و ذهب الريح و القر، الصائفة اشتدت حرارتها و الأجساد قد تعرت، و السواعد قد نشطت و الغرف قد اكتضت و قبلت .. و النفوس لمرماها طمحت …أراد " قريبع" في أيام صباه ـ و قد غرم غرما بساعده، حتى اشتد بلاؤه ـ أن يجد لنفسه مأوى يرفع به عن النفس و يذهب الحر و القلق ، فركب سيارة استأجرها وركبت معه ، ووصلنا البحر فطالعنا كل جمال و كمال ... نسيمات عليلة اعترضتنا و تملقتنا ... و طيور في الفضاء سابحة و لرب السماء شاكرة.. السماء زرقاء صافية و النجوم آفلة بعدما قضت الليل ساهرة و على راحة الإنسان عاملة ... البحر ليس له حدود والماء لا يعرف له ركود .. و السماء تتسع منذ عهود... فسبحنا من وضعها بغير عمد و أقامها بغير قد، فأعانت البحر على الجزر و المد، نظرت أمامي فإذا السماء و الأرض مطبقتان كأنهما منذ القديم متعاشرتان و لحماية نفسيهما متعاونتان ، و حملقت أمامي فإذا الماء هناك أزرق و هنا أبيض فعجبت لهذه الحال !! و علمت فيما بعد ... أن أبصارنا تخدعنا و لعقولنا المرجع و المنقلب ؟!
حملنا أمتعتنا عل الشاطئ و بالقرب من أمواج البحر فرشنا و تمددنا ننعم النظر في النهود و نتأمل الخدود التي أقبلت من كل الجهات و الحدود ... فبدأ الحمام لمرآنا يسرح و لنا يمرح ... فعشقت ذات الوجنات الحمراء والأغصان البيضاء و القوام الممشوق و الحبال الطويلة السود، والتي حرثها بان ونادت بأعلى صوتها : إلي يا أصحاب المعاول والفؤوس ، فشكرت الشمس علي تركها اللحم تحت أشعتها ينعش و العيون بالجمال تنعم بدون قيود ، و تمنيتها أكلة شهية قرب أمواج البحر، و تمنى صاحبي أخرى على الفراش الوثير تمددت و علي ظهرها و بطنها تقلبت كتقلب السمك في البحار و الوديان ؟! و أقسم صاحبي أنه لم ير مثلها أكلة في عز الصيف فغمز صاحبي و غمزت و في بيت مهجور تم ما تم و أفرغنا الجيوب من النقود.. و تمنيت و تمني صاحبي لو هدمت السدود التي سطرت بالحدود و القلم الممدود حتى ننعم بالحرث دون عقود .. وقلت لـ"قريبع : ‹‹هذا يومنا فلا نفرط فيه ،و قصدنا مجلس العم طاهر و قد جعله صاحبه لسراة القوم مقصدا ليشربوا النبيذ و يرقصوا حتى الثمالة . و قبل أن ندخل المجلس لمحنا العم الشاذلي بوصيد دكانه جالسا و على سحنته هم ، و غم ، فخلنا أن ماله ذهب و بقي في نكد ...! فصارحته بذلك، رفع رأسه حيرة و تنهد من الأعماق و قال و هو يتمالك أنفاسه المضطربة: ‹‹ لقد ذهبت الحرة بعد أن تركت في نفسي غمة ››. فقلت مواسيا :‹‹لا عليك فالنساء في الوجود كثرة و صيدهن أيسر من شرب الخمرة ، فالنفس له اشتاقت و لنبيذه تشوفت و ارتاحت ، فانفرجت أسارير وجهه و تنهد مسرورا و قام و أغلق الدكان و انصرفنا ...!
و لما اقتربنا من المجلس رأينا الليل قد ذهب ظلامه، و تلألأت نجومه و أنواره .. و تصاعد في الجو البخور من القدور ، و تعالت الأصوات و عم الضجيج و الصياح و انتابني شك في المجلس المقصود ، فهرول العم الشاذلي و هرولنا خلفه و تسابقنا للجنان : خدر الأكواب الموضوعة ، و النمارق المصفوفة ، و الزرابي المبثوثة و الحور العين .. و اللحم المشوي.. رائحة زكية بعطر و زنود ونهود بيض نقية ... و ...
و دخلنا و دخل العم الشاذلي ... و رفع على الأعناق .. فالجميع صحبه و بشذى أقاصيص غرامه و مغامراته تغنوا و ترنحوا .. قال العم الشاذلي مسلما :‹‹حياكم الله معشر الشباب ›› . و رد الجميع بحماس فياض: ‹‹ حيــيــت يا عم ››.! ثم أخذ العم الشاذلي مجلسه و جلسنا . و عاد العم الشاذلي يقول هاتفا بصوته الأجش: ‹‹إلي أيتها المليحة، هات الكؤوس التي تحيي النفوس و اسقي أهل المعاول والفؤوس ››.هرولت أحداهن و قدمت الشراب في الكؤوس فاشرأبت إليها الأعناق و النفوس، فتسلمها العم الشاذلي و أجلس المرأة أمامه و أشربها النبيذ لتسقيه من خمرها اللذيذ ، ثم ارتمي عليها لتبادل الحلو و المر، ثم مد الكأس و صب الخمر على الرأس، فاشتد الغيظ بالمرأة و نهرته، و قربت إليها ‹‹قريبع›› و قد كان يتفحش مع إحداهن فغضب العم الشاذلي و امتلأ حنقا و قال بحدة و هو يتميز من الغيظ : ‹‹لا عبثن بالمجلس يا غواني ›› فقالت المرأة تستفزه :‹‹ دع لي هذا الشاب يا عم ، فساعده بقوة الشباب معمر ، و أنت أفقدتك النساء صلابته، فتهرأ ..!؟
فازداد غضبه ، و امتلأ صدره حنقا و قال بصوت رفيع : ‹‹هاكم المال يا معشر "القــــ" ..! و أخذت الدنانير تتناثر عن يمين و شمال ، و كثر الصخب و اللغط ..!
و تسابقت النسوة الحاضرات لجمع المال و العم الشاذلي واقف يضحك و يقهقه... ؟! رن الجرس
ليعلن انتصاف الليل ، فترنحت الرؤوس ، و ذابت القلوب .. ثم خرج العم الشاذلي و خرجنا .../
صديق العمر قصة قصيرة
استيقظ عبد الحميد قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود على غير عادته .. تململ عن يمين و شمال .. ثم شخص من النافذة و جعل ينقل طرفه الشارد فيما يحيط به و حاول أن يعود إلى النوم ، لكن دون جدوى .. تساءل بينه و بين نفسه : ما الذي أيقظني مع هذه الساعة المبكرة ؟ثم تذكر فجأة : آه نسيت أن أحفظ الآيات التي كلفني بحفظها المؤدب لهذا اليوم ... يا إلهي ما الذي أصابني ؟ هل هرمت ذاكرتي بعد ؟!
و طفق يحدث نفسه و يقول : " لا يا عبد الحميد .. إن حافظتك قوية و إلا لما فزت بثقة المؤدب .. ؟! لكن لعن الله الإرهاق ... لقد قمت بعمل عظيم بالأمس .. أنسيت أنك بقيت تجمع الزيتون مع أمك كامل اليوم.." ؟!
و عاد الهدوء إلى نفسه و سرى الإرتياح في كامل بدنه .. فاستعاذ من الشيطان الرجيم ، واستجمع قوته لينهض من فراشه الدافئ . ملأ الإبريق ماء ليتوضأ للصلاة و هم بتشمير ساعديه ، إذ سمع طرقا خفيفا على الباب . فتساءل : " من يكون الطارق يا ترى ؟" و لم يطل انتظاره حتى سمع صوتا جهوريا يدعوه قائلا : "هيا يا عبد الحميد .. ألم تتهيأ بعد لنذهب إلى المسجد ؟! فرد عبد الحميد قائلا : "أهلا .. رضا.. هل حان وقت الصلاة بعد ؟!.
فرد رضا بصوت فيه كثير من التعجب : " يظهر أنك نسيت ، لا بأس .. سنذهب قبل صلاة الفجر .. لنحفظ معا الآيات التي كلفنا بحفظها المؤدب بالأمس .. ؟!
فقال عبد الحميد معتذرا : "العفو يا رضا .. بعض الدقائق .. لأخرج معك .."
الليل لا يزال يلف بكلاكله أرجاء القرية الساحلية .. صمت رهيب يخيم على الشوارع و الأنهج الضيقة .. يخترقه من حين لآخر عواء الكلاب و صياح الديكة .. و نقيق الضفادع .. خرج عبد الحميد ملتفا في سترته .. و أخذ يسير جنبا إلى جنب مع رضا و أخذا يشقان شوارع القرية ، الرذاذ كان يتساقط ..
أخذا الطيفان يهرولان حتى بلغا المسجد .. سلما الإثنان على العم وناس المكلف بتنظيف المسجد .. ثم نزعا أحذيتها و دخلا و لم يفترقا إلا عند بداية بزوغ الشمس .
لا أعرف بالضبط ما الذي كان يشدني إلى عبد الحميد ،إبتدأت علاقتنا بتنافس شديد على حفظ القرآن .. كنت أغبطه على العناية التي يوليها له المؤدب دون سائر أقرانه .. أجل كان ما يتمتع به عبد الحميد من قدرة عجيبة على الحفظ و النطق السليم .. خليقا بأن يجلب له حب المؤدب و احترام أقرانه و غيرة البعض منهم ، و ليس من شك في أنه كان يعلم كل ذلك و لكنه لا يبدي تجاهه أي اهتمام .. كان همه منصبا على طلب العلم .. لا غير ، و تحسين زاده المعرفي ..وهو إلى ذلك يعرف حق المعرفة أن الإهتمام بمثل هذه الأشياء مضيعة للوقت و صارفا له عن الهدف الذي رسمه لنفسه :" أن يصبح كاتبا يساعد بني جلدته على تلمس الحقيقة و بلوغ أعلى القمم،
إن أراء الناس لا تكاد تسمو عن الخرافات و المعتقدات الساذجة ، و ليس من شك في أنه رأى بأم عينيه كيف يتقاعس بعض أقرانه في المدرسة عن المذاكرة ثم يذهبون ليلة الإمتحان إلى مقام الولي الصالح" سيدي بوعلي " بجهتهم ، يتضرعون له كي ينقذهم من الرسوب . كان ينظر إلى كل هؤلاء بعين التهكم و الإزدراء و الإحتقار و لكنه لا يجاهر بذلك ، إنه يعرف خطأ مسعى هؤلاء و سذاجتهم و يدرك ذلك كله جيدا و لكنه فضل الصمت ، إن جل سكان القرية، برجالها و نسائها .. و أطفالها يلجئون إلى مقام الولي في أوقات الشدة يلتمسون مساعدة و يطلبون مخرجا في ذل و مسكنه ، و مهما يكن من أمر فليس الوقت مناسبا للبوح بما يختلج في صدره من إنكار لهذه الحماقات الجماعية .
و لكن هذا لا يعني أنه لم يسر لأمه العجوز بما يراه في شأن استنجاد الناس بالولي الصالح و خنوعهم لصنوف الدهر تصنع بهم ما تشاء ، و قد حذرته أمه مرارا من الإفشاء بمثل هذا الرأي الذي ينضح ردة عن تقاليد أهل القرية و معتقداتهم . و لعل هذا ما جعله برما بكل شيء حوله ، ينظر بعين الإرتياب لكل ما يقع في القرية من طقوس و ما يشاع من أراء ، و لعل برمه هذا هو الذي دفعه إلى مزيد التحصيل و الكرع من العلم أصنافا و قنع بلغة الصمت حتى يحين أوان الكلام .
عرفت عبد الحميد لا يعترف بالعجز أو المستحيل ، يثق في قدراته إلى حد الغرور ، يردد باستمرار: " يوجد لكل مشكلة حل ، نحن الذين نوهم أنفسنا بالعجز فنعجز ؟!"
كان يشق طريقه بثبات عجيب ، هو الوحيد بين أترابه الذي ارتقى إلى الجامعة دون رسوب . كل من في القرية كان يشهد له بالتفوق و الذكاء .
" أسباب التخلف".. " الشرق و الغرب".. " حركة الإصلاح و الحضارة الغربية "، " طريق النهضة " ... قضايا شغلت ذهن عبد الحميد منذ كان تلميذا يافعا،كان قولي له : "عش كما يعيش سائر الناس "خليقا بأن يستفزه و يغضبه، فأبتسم له و أواسيه قائلا : "إن اهتمامك بهذه القضايا لن يجديك نفعا ... خالط الناس و ستقتنع أن شعبنا لم يبلغ سن الرشد بعد ، إنك كمن يريد إحياء الموتى أو الحرث في البحر .." ؟!. فيرد علي بلهجة لا تخلو من عتاب و تأنيب : " الحمد لله أن لم يكن كل الناس مثلك و إلا لحقت بنا الطامة الكبرى!"
كنت أغبطه على صبره و قوة شكيمته ، كلما حاولنا صرفه عن هذا الطريق الوعر ازداد إصرارا و عنادا ، و يهز عبد الحميد رأسه حيرة بعد إطراق و يقول بلهجة جدية : "إن شعبنا شعب عظيم، و لكننا فرطنا فيه و تركناه يسير على غير هدى.
كنا نعجب من سرعة بديهته واطلاعه الواسع على التاريخ القديم و الحديث و إلمامه بمجريات الأحداث في العالم . كانت له قدرة عجيبة على تغيير مجرى أحاديثنا ، يزرع الأمل أين ذهب ،بل يحول اليأس إلى أمل .. و يردد دوما : ‹‹ إن مصاعب الحياة و مشاقها تصنع الرجال ›› مؤكدا : ‹‹ أن اليأس يعني الموت وليس أمام القانطين إلا الموت ، يجب أن نأمل لأن الأمل يعني الحياة ... ››! أسمعنا يوما قصيدة يقول فيها مخاطبا فلسطين: ‹‹
فـــلسطــــــــــــــــــين
أنت جرح ينزف من جسدي..!
أنت قطعة من كبدي ..!
فلسطين الوفاء
يا أرض العروبة و السلام..
ابعثي لكل بطل مقدام ،
بفرح الأطفال و الأحلام ..!
قولي له : ‹‹القدس عروبتنا
و ديننا الإسلام .. !››
قولي له : ‹‹ أغنية خضراء
بدون كلام .. !››.
‹‹إن طريق الحياة سكين حادة و كل تذبذب أو ارتباك كفيل بإحداث الجروح البليغة المؤدية إلى الموت ››.
"إن مجتمعا لا تلبى فيه الغرائز بصورة طبيعية هو مجتمع متخلف " هذا ما كان يردده عبد الحميد بلهجة فيها كثير من الجد و الحرارة.
" إن المجتمع الذي تكبت فيه الغرائز و يلبي فيه أفراده غرائزهم بصورة ملتوية يسهل انبهاره بتقاليد و قيم مجتمع آخر و يفقد الثقة بتقاليده و قيمه ، فيتلاشى بذلك الإنسجام الداخلي للمجتمع و يفقد القدرة الذاتية على النهضة و بناء الحضارة .."!
كنت قد اجتمعت مع عبد الحميد ذات يوم ، في مجلس حضرته نخبة من الشباب ، و كان معنا المنذر الذي عاد لتوه من فرنسا ، بعدما قضى بها أربع سنوات يدرس علم الإقتصاد . و كان المنذر" يزين لنا الحياة في الغرب حتى نعرف الحياة الحقيقية من حياة التفاهة و التعاسة " على حد تعبيره !؟ و قال وهو يهز رأسه في زهو و عجب: " إن الحياة هناك ممتعة و لذيذة، هناك يا أصدقاء يعرف المرء معنى تدفق الحياة، حياة التحضر
و العقلية المستنيرة.. لا حياة الجمود و التوحش و الإبتذال !؟ فقال عبد الحميد محتجا : " و لمن نترك هذا الشعب المسكين " أيها المنذر !؟ ثم استطرد قائلا: " الأولى بنا يا أصدقاء أن نفكر في بناء حضارة أرقى من الحضارة الغربية التي تبهرنا .. و حدج عبد الحميد المنذر بنظرة حادة : " ماذا ينقصنا حتى نعول على أنفسنا ، ثروات طائلة و سواعد تنتظر البناء و التشييد !؟ فقال المنذر و قد افتر ثغره عن ابتسامة ظفر و وارتياح ،
- تريدنا يا عبد الحميد أن ننتظر حتى تقام حضارتنا الموهومة ، " ترقب يا دجاجة حتى يأتيك القمح من باجة " و سكت المنذر و حدج الحاضرين بنظرة انتصار ثم نظر إلى عبد الحميد نظرة تهكم و استفزاز و قال و عيناه تتقدان سرورا ، " دعونا يا جماعة نشارك القوم متعهم و نكرع من الحياة كما يكرعون .. و نسلك طريقهم حتى نكون لهم أندادا ، أما عبد الحميد فيدعوكم إلى الوهم و إضاعة أعماركم في ترقب أمل زائف ".
كان الحاضرون يترقبون أن يرد عبد الحميد على هذا التهكم بشدة لكن عبد الحميد استمع إلى المنذر بانتباه شديد ، و صمت قليلا حتى سكت الغضب و الإنفعال عن المنذر و قال بأدب جم : " أصدقائي ، لا تغرنكم كلمات المنذر ، و لا تنسوا أنكم قلب الأمة النابض ، المنذر يدعوكم إلى التخلي عن مسؤولياتكم تجاه أمتكم التي تنتظر منكم خيرا كثيرا . المرء بطبعه يبحث عن السهولة .. و اليسر و يخشى التعب و تحمل المسؤوليات، و التفت إلى المنذر و ربت على كتفه و قال موجها له حديثه : " من حقك أيها الصديق أن تذهب إلى هناك و تنعم بحياتك دون أية منغصات .. فنحن لسنا بحاجة لإلى أمثالك ، فأمثالك لا يرجى منهم خير أبدا " .
و تمتم المنذر في ارتباك وهو لا يدري ماذا يقول: " ماذا تقول يا عبد الحميد !؟ أو تظن نفسك زعيم هذه الأمة !؟ و من حملك مسؤولية النهوض بها !؟
ثم قام وهو يهز كتفه مغيظا محنقا : " كلكم قد نصبتم أنفسكم زعماء لهذه الأمة ، كلكم تزعمون أنكم ستنهضون الأمة من كبوتها .. !؟ لكن أين الفعل ؟؟ نريد الفعل يا ناس ؟؟ نريد الفعل ... لقد سئمنا كثرة أحاديثكم ، ورثتم عن العرب القدامى زخرف القول و قلة الفعل ، لم ترثوا عن سوق عكاظ إلا الأحاديث المنمقة " . و صاح بأعلى صوته : " نريد الفعل ... نريد الفعل ..." و حرك عبد الحميد
رأسه موافقا و قال : " الآن نستطيع أن نتحاور ، و نتفاهم ، نريد الفعل ، معك كل الحق في هذا القول أيها الصديق !" .
و هتف عبد الحميد من الأعماق و قال : " إن انبهارنا بالغرب سلب منا كل قدرة على الفعل .. إن تقليدنا للنمط الغربي في الحياة قد مسخ شخصيتنا حتى أضحينا عاجزين عن الفعل و الإبداع ... إن التقليد يا إخوتي قد أعشى أبصارنا على ما يحمد من حضارة الغرب . حالنا يا جماعة حال الذي يريد أن ينجو من الغرق و ما هو بناج ، ثم قال بصوت ينبعث من أعماق فؤاده : ليتنا أدركنا منذ البداية أن الحضارة : تواصل و إبداع : الإنبهار جعلنا نهتم بالتفاهات دون إدراك الحقائق في التاريخ .. ثم سكت عبد الحميد و استجمع قوته و قال في حزم و صراحة .. : " الغرب ! ذاك الذي يبهرنا بإنجازاته وابتكاراته .. ألا تساءلنا كيف بنى قوته ؟ - لقد خضع في مسيرته إلى قاعدة : التواصل و الإبداع ، التواصل يظهر فيما قام به فلاسفة الأنوار من مجهودات جبارة في إحياء ما خلفه أجدادهم مثل سقراط و أفلاطون .. و أرسطو .. ثم نقلوا ما أبدعه علماء المسلمين و فلاسفتهم في شتى الميادين . لقد نقلوا علوم المسلمين و معارفهم دون أن ينقلوا أخلاقهم و تشريعاتهم .. بل شوهوها تشويها مغرضا و حطوا متعمدين من قيمتها "!
تململ عبد الحميد قليلا و جعل ينقل طرفه بين الكتب المتراصة في الخزانة ثم استلم كتابا و تصفح أوراقه ، كان الجميع يرمقونه بأعين مسائلة و تنهد عبد الحميد و حدج الجميع بعين فاحصة و قال : " اسمعوا ما يقوله " فولتير" : " إن محمدا ولد أميرا واستدعي لتسلم مقاليد الأمور عن طريق الناس له ... و لو أنه وضع قوانين سليمة ، و دافع عن بلاده ، لكان من الممكن احترامه و تبجيله ، و لكن عندما يقوم راعي إبل بثورة و يزعم أنه كلم جبريل و أنه تلقى هذا الكتاب غير المفهوم الذي تطالع في كل صفحة منه خرقا للتفكير المتزن حيث يقتل الرجال و يخطف النساء لحملهم على الإيمان بهذا الكتاب ، مثل هذا السلوك لا يمكن أن يدافع عنه إنسان لم تكن الخرافات قد خنقت فيه نور الطبيعة ... "!؟
نظر عبد الحميد إلى الوجوه المقطبة الممتلئة حنقا و كأنها تتأهب للإنقضاض على عدو مقيت فشجعه ذلك على مواصلة الحديث فقال بصوت كالزئير و قد تناثر ريقه : "كلهم سعوا إلى ذلك متعمدين ..: " محمد لم يستطع فهم النصرانية ... و لذلك لم يكن في خياله منها إلا صور مشوهة بنى عليها دينه الذي جاء به للعرب ، هذا ما قاله "أديسون" ، و وجدت نفسي أسائل عبد الحميد: " و لماذا قاموا بهذا التشويه ؟"
فسدد عبد الحميد نحوي نظرة ذات معنى و قال : " لأنهم يدركون بالبداهة أن مجتمعهم إذا انبهر بقيم مجتمع آخر ، يفقد ثقته بتقاليده و قيمه ، فيتلاشى بذلك الإنسجام الداخلي للمجتمع و يفقد بذلك القدرة على النهوض و بناء الحضارة ...
كانت بي رغبة جامحة لملاقاة عبد الحميد بالعاصمة !؟ و سألت عنه فقيل لي إنه هناك ... و ذهبت إلى هناك ... و فجأة وجدتني مع عبد الحميد وجها لوجه ... كان قد انتحى له ركنا ... بإحدى الحانات الكبيرة ... كانت يداه ترتعشان ... وهو يأخذ الكأس ليفرغها في جوفه .. !؟ لما رأيت عبد الحميد على هذه الحال ... أحسست كأن شيئا ينهار داخلي ... !؟ فصحت بأعلى صوتي : "سأقــــــــــــ .... سأقتلك يا عبد الحميد ... أنت لم تعد تصلح للحياة ... أنت لم تعد تصلح للحياة ... أنت لم تعد تصلح للحياة ... !؟
واستيقظت مذعورا .. و جاءت أمي مهرولة وهي تقول : " مالك يا بني !؟ فقلت لها : " أمي ... أرجوك أن تحضري لي بقجتي غدا صباحا ... لأني سألتحق بصديقي عبد الحميد ... بالعاصمة، إن الحياة هنا لم تعد تطاق .. و لن أحتملها بعد اليوم .. !؟
حديث العشق
خــــــاطـــــرة
‹‹ أنا لست مسئولا عن مشاكل العالم، أنا فقط أبحث عن الخلاص لنفسي ››.
لقد جف نبعي ، بي ظمأ كبير إلى الحياة و بهجتها ، أريد أن أكرع من لذاتها كما يكرع الطفل من ثديي أمه الحليب و الحنان ، بي شوق إلى الحياة شديد ، أريد أن أقبل على الحياة بدون مساحيق المجتمع التي تكبلنا و تصنع منا شخصيات غير التي نريد أن نكون ، إن حياة الإنسان تجربة من جملة تجارب عديدة تقع أمام أعيننا كل يوم ، فلماذا نحمل أنفسنا أكثر مما تطيق !؟ و لماذا لا نترك السفينة تمضي حيثما تشاء !؟
الحياة لا تستحق زفرة واحدة و لا دمعة حزن، فلماذا نندم، و لماذا نتخاصم و لماذا الإحن التي بيننا و العداوات !؟ ... و لماذا كل هذه الحروب و الخصومات ؟؟! لماذا لا يعيش الناس في محبة و سلام و وئام و تعاون!؟
أنا أريد أن أحيا كالطفل في عفوية تامة، إني أكره المساحيق، مساحيق المجتمع و قيوده الضالة الجانية المجرمة!؟... أريد أن أكون أنا و ليس كما يريدني الغير .. لماذا لا نعيش التعدد و التكامل و الوحدة !؟ إني لأعجب من تنوع عناصر الطبيعة مع تناسق أجزائها و تكامل أدوارها فلماذا لا نتنوع نحن البشر و نتناسق و نختلف و نتكامل !؟ إن الطبيعة رحبة فلماذا لا تتسع صدورنا للآخر !؟ و لماذا لا نقبله كما هو، و لماذا نتراشق بالسهام و نتصارع و نتناحر و الشجر يعلمنا أنه كلما قذف بالحجر ألقى بثماره اليانعة !؟
لماذا لا يرتع المرء بين الثمار اليانعة المتواجدة في كل مكان حتى يشعر بالإمتلاء و الحب و الأمل و الأمان .. و تمتلئ حياته سعادة و بهجة و سرورا !؟ إنها ينبوع الحياة و سر الوجود ، الخيرات تملأ الأفاق .. لكن لا أحد بلغ الشبع و الإرتواء ، لماذا كل هذا يا ترى ؟!؟
ما هي قيمة الإنسان إذا لم يقدر على تكريس مباهج الحياة و خيراتها لفائدة أخيه الإنسان !؟ هل خلق الإنسان ليعذب أخاه الإنسان !؟ أواه منك أيها العالم ، كل شيء فيك غريب ؟ عجيب ، محير ، مقرف ، مخجل ، قلت فيك المروءة ، و ندر الحياء ، و انقرضت القيم ، يتحكم في مصيرك الخبيث و اللئيم و المهرجون !؟ ... أواه ... ثم أواه ... كل شيء فيك يشعر بالإختناق و التأفف ، يظنك الجاهل بخفاياك فيك رواء للضمآن و أنت تسقيه السم الزعاف و لا يشعر .. !؟
أحياؤك ميتون و ما يشعرون !؟ سوائم بدون قوائم ، و لا يدرون ؟ على وجوههم هائمون !؟
أما متنبؤو العصر الحديث ، المقروءات و المسموعات ... فتلقي الإحن بين الأفراد و الجماعات و المجموعات .. والعداوات !؟و الناس في غيهم سائرون ، و على نهجهم ماكثون ، لكن عشيقتي أراها أخذت تنزع عنها ثوب الهوان .. و تسير بخطى ثابتة نحو الهدف المراد .. فإلى الأمام يا أعز عشيقة في الوجود و لا تخشي شيئا و لا تجبني ، فأنت عاشقة بك صبابة ، و لا يخشى العاشق الولهان .. !
حديث الجنون
قصة قصيرة
قال محدثي : ‹‹ كنت أسكن بحي شعبي في إحدى ضواحي العاصمة ، سعيت و أنا في مقتبل العمر إلى تحسين وضعي الإجتماعي ، سافرت كثيرا إلى خارج حدود الوطن ، حتى جمعت رأس مال محترم ، بعد سنوات من الغربة و التشرد ذقت فيها من العذاب ألوانا .. و عرفت الحرمان و الخصاصة، رجعت بعدها إلى وطني، و كونت مشروعا تجاريا ناجحا.. و انتشلت عائلتي كبيرة العدد من الفقر والحرمان، حتى أحسست أن الزمن بدأ يهدني هدا و يقتطع مني كل يوم جزءا هاما ، فسارعت و بحثت عن فتاة طالما راودتني في خيالي، تكون رفيقة دربي فيما بقي لي من عمر لتشاركني أفراحي و أتراحي و تعينني على تحمل أعباء الحياة .
رأيتها تتبختر ذات يوم في إحدى شوارع المدينة، كانت ممشوقة القوام، رقيقة الملامح،صافية العينين ، حنونا ، فخفق لها قلبي بشدة،و أحسست أني مكبل بقيود جمالها و أنوثتها الطاغية ، و سألت عنها ، فقيل لي إنها أجمل فتاة في الحي الذي تسكنه .. فتزوجتها.
‹‹ لقد أصبحت تسيطر على أحاسيسي بجمالها الفتان ، و تملكني شعور بعجزي عن حماية هذا الجمال الرهيب من عيون الذئاب التي تلتهمه التهاما بشراهة كلما خرجت من المنزل ، و تشرئب لها الأعناق ، كلما سارت في الشارع ، و تحول عجزي إلى غيرة قاتلة ..!
‹‹ أصبحت أغير عليها من كل شيء ، من كل شيء .. حتى من نفسي ››.!؟
و تنهد الشيخ من الأعماق كأن قلبه يحترق أسفا و حزنا .. ثم قال : ‹‹ و في هذا الجو الغريب ولدت ابنتي رابعة ››.!؟ ثم يصمت الشيخ برهة و يحدجني بنظرة حالمة ثم يقول بصوت منخفض : ‹‹ كنت أنتظر أن يخفف مقدمها حدة توتر العلاقة بيني و بين أمها ››و قطب الشيخ في تقزز و ندت عنه الكلمات بلا وعي .. و في ازدراء شديد :‹‹ و لكن شيئا من ذلك لم يحدث ››.!؟
و تمتم في ارتباك وهو لا يدري ماذا يقول : " تحولت غيرتي إلى هوس مزمن لم أستطع منه فكاكا ..!؟ "
"كنت أتقدم نحو الشيخوخة و العجز و كنت أرى زوجتي في غاية الجمال و الأناقة و الحيوية، و صرت أكره هذا الجمال و صاحبته و أحقد عليها كثيرا.. و تحول حقدي إلى عنف ، فكلما حاولت زوجتي الإقتراب مني زجرتها و عنفتها واعتقدت أنها تخدعني ، حتى أمست حياتنا جحيما لا يطاق ، و انتهت بالطلاق .! ثم يصمت الشيخ برهة و يواصل قائلا :" يبدو أن شعوري بعجزي و بخيانة مطلقتي بقي يشغل بالي .. كنت أنتظر أن تتغير حالتي.. و يفارقني هذا الشعور الغريب بعد أن بقيت ابنتي رابعة في بيتي و تحت رعايتي .. " على أن شعوري نحو أمها لم يتغير بل كنت أتسقط أخبارها من حين لآخر .. حتى بلغني أنها سافرت للعمل خارج حدود الوطن، و يسعل الشيخ حتى خلت أن روحه.. ستصعد إلى بارئها .. ثم يواصل حديثه وهو يرتجف، كمن به حمى .. ؟ : "رجعت يوما من العمل ، كانت رابعة نائمة كملاك ، دخلت غرفتها ، و بسرعة غمرت ذهني الخواطر المرعبة! و تصورتها أمها .. و في تلك اللحظة تملكني حقد كبير على الجمال و صاحبته، و بدون أن أشعر وجدتني أخمد أنفاسها و أنا أصيح بصوت كالرعد : "لا .. لا يمكن أن تعيشي أكثر "!!؟ لا يمكن أن تعيشي أكثر..../
ذكريات زمن مضى ..!!
أقصوصة
محمد سالم بن عمر
محمد سالم بن عمر
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
http:islam3mille.blogspot.com
86، حي الليمون ، منزل بورقيبة 7050 / ص.ب :260 ولاية بنزرت – الجمهورية التونسية .
الهاتف : 23038163 (00216)
محمد سالم بن عمر، كاتب و ناقد تونسي ، عضو باتحاد الكتاب التونسيين .
أصيل سيدي بوعلي ولاية سوسة، متزوج و له شيماء و نصير الله.
متحصل على شهادة الأستاذية في التنشيط الثقافي منذ 1992، وقد عمل مديرا لدور الثقافة بتونس.
له مساهمات عديدة في النقد و الإبداع و المقال الفكري الحضاري...
صدر له كتاب:" اللسان العربي و تحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي عام 1995"
كما صدر له كتاب : " نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه عام 2009 "
و قد نشرت له جل الصحف و المجلات الوطنية مقالات فكرية و نقدية و قصص قصيرة وقصائد .. كما نشرت له بعض المجلات و الصحف العربية .. مقالات فكرية وحضارية..
له مخطوطات عديدة أهمها :
ذكريات زمن مضى (رواية) نحو إعادة تشكيل الفكر العربي الإسلامي في العصر الحديث ﴿مقالات فكرية / حضارية﴾ ...
استيقظ عبد الحميد قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود على غير عادته.. تململ عن يمين و شمال ..ثم شخص من النافذة و جعل ينقل طرفه الشارد فيما يحيط به و حاول أن يعود إلى النوم ، لكن دون جدوى ..تساءل بينه و بين نفسه : ما الذي أيقظني مع هذه الساعة المبكرة ؟ثم تذكر فجأة : آه نسيت أن أحفظ الآيات التي كلفني بحفظها المؤدب لهذا اليوم ... يا إلهي ما الذي أصابني ؟ هل هرمت ذاكرتي بعد ؟!
و طفق يحدث نفسه و يقول : " لا يا عبد الحميد..إن حافظتك قوية و إلا لما فزت بثقة المؤدب .. ؟! لكن لعن الله الإرهاق ... لقد قمت بعمل عظيم بالأمس .. أنسيت أنك بقيت تجمع الزيتون مع أمك كامل اليوم .." ؟!
و عاد الهدوء إلى نفسه و سرى الإرتياح في كامل بدنه .. فاستعاذ من الشيطان ، واستجمع قوته لينهض من فراشه الدافئ . ملأ الإبريق ماء ليتوضأ للصلاة و هم بتشمير ساعديه ،إذ سمع طرقا خفيفا على الباب . فتساءل : " من يكون الطارق يا ترى ؟" و لم ينتظر انتظاره حتى سمع صوتا جهوريا يدعوه قائلا : "هيا يا عبد الحميد .. ألم تتهيأ بعد لنذهب إلى المسجد ؟! فرد عبد الحميد قائلا : "أهلا .. رضا.. هل حان وقت الصلاة بعد ؟!.
فرد رضا بصوت فيه كثيرا من التعجب :" يظهر أنك نسيت .. ، لا بأس ..سنذهب قبل صلاة الفجر ..لنحفظ معا الآيات التي كلفنا بحفظها المؤدب بالأمس .. ؟!
فقال عبد الحميد معتذرا :- "العفو يا رضا .. بعض الدقائق ..لأخرج معك .."
الليل لا يزال يلف بكلاكله أرجاء القرية الساحلية .. صمت رهيب يخيم على الشوارع و الأنهج الضيقة .. يخترقه من حين لآخر عواء الكلاب و صياح الديكة .. و نقيق الضفادع .. خرج عبد الحميد ملتفا في سترته .. و أخذ يسير جنبا إلى جنب مع رضا و أخذا يشقان شوارع القرية .. ، الرذاذ كان يتساقط ..أخذا الطيفان يهرولان حتى بلغا المسجد..سلما الإثنان على العم وناس المكلف بتنظيف المسجد ..ثم نزعا أحذيتها و دخلا و لم يفترقا إلا عند بداية بزوغ الشمس .
لا أعرف بالضبط ما الذي كان يشدني إلى عبد الحميد..،إبتدأت علاقتنا بتنافس شديد على حفظ القرآن .. كنت أغبطه على العناية التي يوليها له المؤدب دون سائر أقرانه .. أجل كان ما يتمتع به عبد الحميد من قدرة عجيبة على الحفظ و النطق السليم.. خليقا بأن يجلب له حب المؤدب و احترام أقرانه و غيرة البعض منهم ..، و ليس من شك في أنه كان يعلم كل ذلك و لكنه لا يبدي تجاهه أي اهتمام .. كان همه منصبا على طلب العلم .. لا غير ، و تحسين زاده المعرفي ..وهو إلى ذلك يعرف حق المعرفة أن الإهتمام بمثل هذه الأشياء مضيعة للوقت و صارفا له عن الهدف الذي رسمه لنفسه .. :" أن يصبح كاتبا يساعد بني جلدته على تلمس الحقيقة و بلوغ أعلى القمم .. "
إن أراء الناس لا تكاد تسمو عن الخرافات و المعتقدات الساذجة..، و ليس من شك في أنه رأى بأم عينيه كيف يتقاعس بعض أقرانه في المدرسة عن المذاكرة ثم يذهبون ليلة الإمتحان إلى مقام الولي الصالح بجهتهم ، يتضرعون له كي ينقذهم من الرسوب . كان ينظر إلى كل هؤلاء بعين التهكم و الإزدراء و الإحتقار و لكنه لا يجاهر بذلك ، إنه يعرف خطأ مسعى هؤلاء و سذاجتهم و يدرك ذلك كله جيدا و لكنه فضل الصمت ، إن جل سكان القرية، برجالها و نسائها .. و أطفالها يلجئون إلى مقام الولي في أوقات الشدة يلتمسون مساعدة و يطلبون مخرجا في ذل و مسكنه ، و مهما يكن من أمر فليس الوقت مناسبا للبوح بما يختلج في صدره من إنكار لهذه الحماقات الجماعية .
و لكن هذا لا يعني أنه لم لأمه بما يراه في شأن استنجاد الناس بالولي الصالح و خنوعهم لصنوف الدهر تصنع بهم ما تشاء ، و قد حذرته أمه مرارا من الإفشاء بمثل هذا الرأي الذي ينضح ردة عن تقاليد أهل القرية و معتقداتهم . و لعل هذا ما جعله برما بكل شيء حوله ، ينظر بعين الإرتياب لكل ما يقع في القرية من طقوس و ما يشاع من أراء ، و لعل برمه هذا هو الذي دفعه إلى مزيد التحصيل و الكرع من العلم أصنافا و قنع بلغة الصمت حتى يحين أوان الكلام .
خيم الظلام على القرية فأوحى بانطواء يوم آخر من عمر الزمان و وفاة يوم من حياتي و حياة الأحياء..
أخذت أتفرس بعض الكتب مفكرا بفضاعة تواصل الليل و النهار.. و حاولت التغلب على هذا الشعور بالإرتماء على سريري ، لكنني تصورته نعشا يلتهمني إلتهاما ،انتفضت كالمعتوه !غير أني عدت إلى وعيي بعد أن تيقنت من تفاهة تفكيري...
و أخذت كتابا شدتني فيه العبارة التالية : "الإهداء إلى أبي رحمه الله ". و عاد لي الشعور الغريب ، و تساءلت في نفسي : "كم عاش هذا الأب ؟ و ماذا ترك ؟
و هل صنع في حياته شيئا يذكر ؟ أترك إبنا ليخلد اسمه بهذا الإهداء ؟! " و تذكرت جدي رحمه الله ، لقد عاش و مات و ما بقي منه غير بعض الذكريات لا تزال عالقة بذهني .. و فجأة رن منبه الساعة كأنه يحذرني و يذكرني بسباقي مع الزمن .. فالعقارب تجري و لا تلتفت إلى النائمين .. و الوقت يمر معلنا قدوم الصباح ..
" صباح الخير" التفت نحو الصوت و أنا أقول : " صباح الخير "، إنه أحد عمال البلدية شرع في تنظيف الشوارع مبكرا وهي عادة تعود عليها منذ زمن بعيد .. لا شك أنه يشعر بالإرتياح لأنه يعمل لصالح الغير و يريح المواطن من جميع رواسب الأمس .
و قبل أن يغادر المكان قال لي : " لماذا أنت هنا ؟؟! فقلت له أنا لست هنا.. بل هناك ... هناك..
ارتحل عني عبد الحميد إلى العاصمة لمواصلة تعلمه الجامعي ، كانت رسائله تصلني تباعا ..، وصلتني منه رسالة يقول فيها : أخي و صديقي ، تحية صادقة ،لم أجد من أفشي له بمكنونات نفسي غيرك ، منذ مدة أخذ شعوري بالغربة يزداد شيئا فشيئا ... أسئلة عديدة أخذت تواجهني أينما ذهبت ... من أنا و ماذا أريد ؟! قد تعجب مني و يحق لك أن تعجب ، أجل لقد أمسيت أشك في كل شيء . لقد أصبح يساورني شعور بالقلق و التردد و الحيرة ...".
و تساءلت بيني و بين نفسي : " أحين جد الجد أصبحت يا عبد الحميد مترددا مضطربا حائرا لا تعرف أي وجهة تسلك ؟!
عرفت عبد الحميد لا يعترف بالعجز أو المستحيل ، يثق في قدراته إلى حد الغرور ، يردد باستمرار .. " يوجد لكل مشكلة حل ، نحن الذين نوهم أنفسنا بالعجز فنعجز ؟!"
كان يشق طريقه بثبات عجيب ، هو الوحيد بين أترابه الذي ارتقى إلى الجامعة دون رسوب . كل من في القرية كان يشهد له بالتفوق و الذكاء .
" أسباب التخلف".. " الشرق و الغرب".. " حركة الإصلاح و الحضارة الغربية "، " طريق النهضة ".. قضايا شغلت ذهن عبد الحميد منذ كان تلميذا يافعا،كان قولي له : "عش كما يعيش سائر الناس "خليقا بأن يستفزه و يغضبه، فأبتسم له و أواسيه قائلا : "إن اهتمامك بهذه القضايا لن يجديك نفعا ... خالط الناس و ستقتنع أن شعبنا لم يبلغ سن الرشد بعد ، إنك كمن يريد إحياء الموتى أو الحرث في البحر .." ؟!.
فيرد علي بلهجة لا تخلو من عتاب و تأنيب : " الحمد لله أن لم يكن الناس مثلك و إلا لحقت بنا الطامة الكبرى!"
كنت أغبطه على صبره و قوة شكيمته ، كلما حاولنا صرفه عن هذا الطريق الوعر ازداد إصرارا و عنادا ..، و يهز عبد الحميد رأسه حيرة بعد إطراق و يقول بلهجة جدية : "إن شعبنا شعب عظيم، و لكننا فرطنا فيه و تركناه يسير على غير هدى.
كنا نعجب من سرعة بديهته واطلاعه الواسع على التاريخ و إلمامه بمجريات الأحداث في العالم .كانت له قدرة عجيبة على تغيير مجرى أحاديثنا ، يزرع الأمل أين ذهب ،بل يحول اليأس إلى أمل .. و يردد دوما : ‹‹ إن مصاعب الحياة و مشاقها تصنع الرجال ›› مؤكدا : ‹‹ أن اليأس يعني الموت وليس أمام القانطين إلا الموت ، يجب أن نأمل لأن الأمل يعني الحياة ... ››! أسمعنا يوما قصيدة يقول فيها مخاطبا فلسطين: ‹‹
فـــلسطــــــــــــــــــين
أنت جرح ينزف من جسدي..!
أنت قطعة من كبدي ..!
فلسطين الوفاء
يا أرض العروبة و السلام..
ابعثي لكل بطل مقدام ،
بفرح الأطفال و الأحلام ..!
قولي له : ‹‹القدس عروبتنا
و ديننا الإسلام .. !››
قولي له : ‹‹ أغنية خضراء
بدون كلام .. !››.
و أعود فأتذكر رسالته الأخيرة و ما تطفح به من قلق و حيرة ، فيتملكني الهلع على ما آل إليه حاله من تذبذب و ارتباك .. و عدت إلى المنزل و أنا على أسوإ حال ..، و لم أهنأ بخروجي إلى الغابة على غير عادتي ، فرأسي كانت تغلي بأسئلة لا نهاية لها حتى أحسست بدوار و كأن عاصفة هائلة تعبث بي في صحراء قاحلة . و تهالكت على أريكة اعترضتني، ثم كتبت له رسالة أقول له فيها : ‹‹ أخي عبد الحميد ، صحيح أني لم أعد أفهمك .. لكنني أدرك جيدا أنك أقوى من الحيرة و القلق.. إن العمل لفائدة هذا الشعب حري أن يبعدك عن كل حيرة و ارتباك ››.
‹‹إن طريق الحياة سكين حادة و كل تذبذب كفيل بإحداث الجروح البليغة المؤدية إلى الموت ››.
كان لي صديق، استأثرت به النشوة أياما، ثم مضت حماسته تفتر و نشوته تخبو، بيد انه لم ينكص على عاقبيه و بقي به شئ مما كان ، أقصده كلما ألم بي كرب و اشتد علي حزن ، أطلب السلوى بحكايته التي يرويها و مغامراته التي يتقن صياغتها في كلام مشوق و حديث منمق، حالما رآني قادما إليه اهتز صدره فرحا و قال بصوت ينم عن السرور:
أين أنت يا رجل !؟ هل نسيت عشرتنا بهذه السرعة ؟!
ثم استدرك قائلا: ‹‹أعلم أن مشاغل الحياة كثيرة ، لعن الله هذه الدنيا التي جعلتنا نجري وراء لقمة العيش ليل نهار دون أن ننال مبتغانا، الحياة صعبت وقل راكبها و فرقت الشمل بين الأصحاب و الخلان ›› . وطافت بالرجل الذكريات اللذيذة فعاوده الحنين إلي صفو الحياة و جمالها.ثم ما لبث أن تذكر شيئا ، فأشرق وجهه بابتسامة لطيفة و راح يدندن بصوت منخفض : ‹‹ بالله أخبرني ، كيف حال عبد الحميد ؟ألا يزال على عناده القديم ؟! ياله من فتى ، كم نصحته أن يكرع من الحياة صنوفا و يتمتع بطيباتها ، فالعمر قصير و لا يحتمل التأخير. ›› فحدجته بنظرة ذات معنى و قلت له بأمل و رجاء : ‹‹ لا تعكر اللقاء ، و دع عبد الحميد و شأنه، فلم يطلب من أحد أن يخوض معه غمار الحياة ، ألا يحق له أن يختار طريقه بنفسه ، فهو ليس بحاجة لمن يوجهه ››.
فضحك صاحبي ضحكة عالية ذات معنى ، و قال مهدئا من غضبي : ‹‹ لا بأس لا فائدة من النقاش الآن ! و لكنني سأقولها دائما: ‹‹ السياسة في بلادنا خربت بيوتا كثيرة و يتمت أطفالا و أهرقت طاقات ، فلماذا لا تدعونها و شأنها ؟! ›› .
ثم أمر بإحضار الشاي، و تهالك علي أريكة و وثيرة و جلست قربه ثم بدأ في ثرثرته المعهودة و قال بحماسة و فخار: ‹‹كنت أهوى البحر و اركب في سبيل بلوغه الأهوال و الأخطار.. لذ " لقريبع" ، صديق العمر الذهاب معي إلي البحر ، وقد اشتد الحر و ذهب الريح و القر، الصائفة اشتدت حرارتها و الأجساد قد تعرت، و السواعد قد نشطت و الغرف قد اقتضت و قبلت .. و النفوس لمرماها طمعت.
أراد " قريبع" في أيام صباه ـ و قد غرم غرما بساعده، حتى اشتد بلاؤه ـ أن يجد لنفسه مأوى يرفع به عن النفس و يذهب الحر و القلق فركب سيارة استأجرها و ركبت معه ، ووصلنا البحر فطالعنا كل جمال و كمال ... نسيمات عليلة اعترضتنا و تملقتنا... و طيور في الفضاء سابحة و لرب السماء شاكرة ..السماء زرقاء صافية و النجوم آفلة بعدما قضت الليل ساهرة و علي راحة الإنسان عاملة... البحر ليس له حدود والماء لا يعرف له ركود. و السماء تتسع منذ عهود ... فسبحنا من وضعها بغير عمد و أقامها بغير قد، فأعانت البحر على الجزر و المد.
نظرت أمامي فإذا السماء و الأرض مطبقتان كانهما منذ القديم متعاشرتان و لحماية نفسيهما متعاونتان.. و حملقت فإذا الماء هناك أزرق و هنا أبيض فعجبت لهذه الحال. و علمت فيما بعد... أن أبصارنا تخدعنا و لعقولنا المرجع و المنقلب.
حملنا أمتعتنا عل الشاطئ و بالقرب من أمواج البحر فرشنا و تمددنا ننعم النظر في النهود و نتأمل الخدود التي أقبلت من كل الجهات و الحدود... فبدأ الحمام لمرآنا يسرح و لنا يمرح . فعشقت ذات الوجنات الحمراء والأغصان البيضاء و القوام الممشوق و الحبال الطويلة السود، فشكرت الشمس علي تركها اللحم تحت أشعتها ينعش و العيون بالجمال تنعم و تمنيتها أكلة شهية قرب أمواج البحر. و تمنى صاحبي أخرى على الفراش الوثير تمددت و على ظهرها و بطنها تقلبت كتقلب السمك في الوديان و البحار .
و أقسم صاحبي أنه لم ير مثلها أكلة في عز الصيف فغمز صاحبي و غمزت و في بيت مهجور تم ما تم و أفرغنا الجيوب من النقود .. و تمنيت و تمني صاحبي لو هدمت السدود التي سطرت بالحدود و القلم الممدود حتى ننعم بدون عقود .. وقلت لـ " قريبع ": ‹‹هذا يومنا فلا نفرط فيه و قصدنا مجلس العم طاهر و قد جعله صاحبه لسراة القوم مقصدا ليشربوا النبيذ و يرقصوا حتى الثمالة . و قبل أن ندخل المجلس لمحنا العم الشاذلي بوصيد دكانه جالسا و علي سحنته هم و غم فخلنا أن ماله ذهب و بقي في نكد... فصارحته بذلك . رفع رأسه حيرة و تنهد من الأعماق و قال و هو يتمالك أنفاسه المضطربة : ‹‹ لقد ذهبت الحرة بعد أن تركت في نفسي غمة ››. فقلت مواسيا:‹‹لا عليك فالنساء في الوجود كثرة و صيدهن أيسر من شرب الخمرة ، فالنفس له اشتاقت و لنبيذه تشوفت و ارتاحت فانفرجت أسارير وجهه و تنهد مسرورا و قام و أغلق الدكان و انصرفنا ...!
و لما اقتربنا من المجلس رأينا الليل قد ذهب ظلامه، و تلألأت نجومه و أنواره و تصاعد في الجو البخور من القدور ، و تعالت الأصوات و عم الضجيج و الصياح و انتابني شك في المجلس المقصود ، فهرول العم الشاذلي و هرولنا خلفه و تسابقنا للجنان : خدر الأكواب الموضوعة ، و النمارق المصفوفة ، و الزرابي المبثوثة و الحور العين .. و اللحم المشوي.. رائحة زكية بعطر و زنود ونهود بيض نقية... و...
و دخلنا و دخل العم الشاذلي ... و رفع على الأعناق .. فالجميع صحبه و بشذى أقاصيص غرامه و مغامراته تغنوا و ترنحوا .. قال العم الشاذلي مسلما :‹‹ حياكم الله معشر الشباب ››
و رد الجميع بحماس فياض: ‹‹حييت يا عم ››.!
ثم أخذ العم الشاذلي مجلسه و جلسنا . و عاد العم يقول هاتفا بصوته الأجش : ‹‹ إلي أيتها المليحة ، هات الكؤوس التي تحيي النفوس و اسقي أهل الفؤوس ››∙
هرولت أحدهن و قدمت الشراب في الكؤوس فاشرأبت إليها الأعناق و النفوس، فتسلمها العم الشاذلي و أجلس المرأة أمامه و أشربها النبيذ لتسقيه من خمرها اللذيذ ثم ارتمى عليها لتبادل الحلو و المر، ثم مد الكأس و صب الخمر على الرأس، فاشتد الغيظ بالفتاة و نهرته، و قربت إليها ‹‹قريبع›› و قد كان يتفحش مع إحداهن فغضب العم الشاذلي و امتلأ حنقا و قال بحدة و هو يتميز من الغيظ : ‹‹لأعبثن بالمجلس يا قحاب ›› فقالت المرأة تستفزه :‹‹دع لي هذا الشاب يا عم ، فساعده بقوة الشباب معمر ، و أنت فقدتك النساء صلابته، فتهرأ ..!
فازداد غضبه ، و أمتلأ صدره حنقا و قال بصوت رفيع : ‹‹هاكم المال يا معشر القحاب .. و أخذت الدنانير تتناثر عن يمين و شمال .. و كثر الصخب و اللغط .. و تسابقت النسوة الحاضرات لجمع المال و العم الشاذلي واقف يضحك و يقهقه... رن الجرس ليعلن انتصاف الليل ، فترنحت الرؤوس ، و ذابت القلوب ..
ثم خرج العم الشاذلي و خرجنا ...!
"إن مجتمعا لا تلبى فيه الغرائز بصورة طبيعية هو مجتمع متخلف " .. هذا ما كان يردده عبد الحميد بلهجة فيها كثير من الجد و الحرارة.
" إن المجتمع الذي تكبت فيه الحرارة و يلبي فيه أفراده غرائزهم بصورة ملتوية يسهل انبهاره بتقاليد و قيم مجتمع آخر و يفقد الثقة بتقليده و قيمه ، فيتلاشى بذلك الإنسجام الداخلي للمجتمع و يفقد القدرة الذاتية على النهضة و بناء الحضارة .."!
تذكرت كل هذا لما كنت راجعا من عند صديق المغامرات. استوقفني موزع البريد فجأة و سلمني رسالة ، قلبت الرسالة بسرعة ، كدت أطير من الفرحة عندما تبينت على الظرف خط عبد الحميد .. رجعت إلى المنزل و أنا أسابق الزمن ، فتحت الظرف ، حجم الرسالة على غير ما عودني عليه عبد الحميد ، و تساءلت بيني و بين نفسي " هل تراه وجد حلا لشكه و حيرته !؟"
" لن أحدثك هذه المرة عن نفسي ، سأسرد عليك قصة عجوز عرفته في المدة الأخيرة .. قال محدثي : " كنت أسكن بحي شعبي في إحدى ضواحي العاصمة ، سعيت و أنا في مقتبل العمر إلى تحسين وضعي الإجتماعي ،سافرت كثيرا إلى خارج حدود الوطن ، حتى جمعت رأس مال محترم ، بعد سنوات من الغربة و التشرد ذقت فيها العذاب ألوانا .. و عرفت الحرمان و الخصاصة ، رجعت بعدها إلى بلادي ،و كونت مشروعا تجاريا ناجحا .. و انتشلت عائلتي كبيرة العدد من الفقر ، حتى أحسست أن الزمن بدأ يهدني هدا و يقتطع مني كل يوم جزءا ، فسارعت و بحثت عن فتاة تكون رفيقة دربي فيما بقي لي من أيام لتشاركني أفراحي و أتراحي و تعينني على تحمل أعباء الحياة .
رأيتها تتبختر ذات يوم في إحدى شوارع المدينة ، كانت ممشوقة القوام ،رقيقة الملامح ،صافية العينين ، حنونا ،فخفق قلبي لها ،و أحسست أني مكبل بقيود جمالها و أنوثتها ، و سألت عنها ، فقيل لي إنها أجمل فتاة في الحي الذي تسكنه .. فتزوجتها . "
" لقد أصبحت تسيطر على أحاسيسي بجمالها الفتان ، و تملكني شعور بعجزي عن حماية عن حماية هذا الجمال من عيون الذئاب التي تلتهمه التهاما بشراهة كلما خرجت من المنزل و تشرئب لها الأعناق ، كلما سارت في الشارع ، و تحول عجزي إلى غيرة قاتلة ..!
" أصبحت أغير عليها من كل شيء ، من كل شيء .."
و تنهد الشيخ من الأعماق كأن قلبه يحترق أسفا و حزنا .. ثم قال : "و في هذا الجو الغريب ولدت ابنتي رابعة .." ثم يصمت الشيخ برهة و يحدجني بنظرة حالمة ثم يقول بصوت منخفض : " كنت أنتظر أن يخفف مقدمها حدة توتر العلاقة بيني و بين أمها " و قطب الشيخ في تقزز و ندت عنه الكلمات بلا وعي .. و في ازدراء شديد ..: " و لكن شيئا من ذلك لم يحدث "
و تمتم في ارتباك وهو لا يدري ماذا يقول : " تحولت غيرتي إلى هوس مزمن لم أستطع منه فكاكا ..!؟ "
"كنت أتقدم نحو الشيخوخة و العجز و كنت أرى زوجتي في غاية الجمال و الأناقة و الحيوية، و صرت أكره هذا الجمال و صاحبته و أحقد عليها كثيرا . و تحول حقدي إلى عنف ، فكلما حاولت زوجتي الإقتراب مني زجرتها و عنفتها واعتقدت أنها تخدعني ،حتى أمست حياتنا جحيما لا يطاق .. و انتهت بالطلاق .ثم يصمت الشيخ برهة و يواصل قائلا :" يبدو أن شعري بعجزي و بخيانة مطلقتي بقي يشغل بالي .. كنت أنتظر أن تتغير حالتي .. و يفارقني هذا الشعور الغريب بعد أن بقيت ابنتي رابعة في بيتي و تحت رعايتي .. " على أن شعوري نحو أمها لم يتغير بل كنت أتسقط أخبارها من حين لآخر .. حتى بلغني أنه سافرت للعمل خارج حدود الوطن ، و يسعل الشيخ حتى خلت أن روحه .. ستصعد إلى بارئها .. ثم يواصل حديثه وهو يرتجف كمن به حمى ..: " رجعت يوما من العمل ، كانت رابعة نائمة كملاك ، دخلت غرفتها ، و بسرعة غمرت ذهني الخواطر المرعبة .. و تصورتها أمها .. و في تلك اللحظة تملكني حقد كبير على الجمال و صاحبته ، و بدون أن أشعر وجدتني أخمد أنفاسها و أنا أصيح بصوت كالرعد : " لا .. لا يمكن أن تعيشي أكثر .. "
ألقيت بالرسالة على السرير و أنا أرتعد من شدة الغيظ . و تساءلت بيني و بين نفسي : " ماذا يعني عبد الحميد بسرد هذه القصة المحمومة وقد كنت أنتظر منه أن يحدثني عن حاله ؟ "
"لا تظنوا بي أيها السادة ظن السوء، فتعتقدون أني أصبحت بوقا لعبد الحميد «
" أنا لست مسئولا عن مشاكل العالم، أنا فقط أبحث عن الخلاص لنفسي " " لقد جف نبعي ، بي ظمأ كبير إلى الحياة و بهجتها ، أريد أن أكرع من لذاتها كما يكرع الطفل من ثديي أمه الحليب و الحنان ،، بي شوق إلى الحياة شديد ، أريد أن أقبل على الحياة بدون مساحيق المجتمع التي تكبلنا و تصنع منا شخصيات غير التي نريد أن نكون ،إن حياة الإنسان تجربة من جملة تجارب عديدة تقع أمام أعيننا كل يوم ، فلماذا نحمل أنفسنا أكثر مما تطيق !؟ و لماذا لا نترك السفينة تمضي حيثما تشاء !؟
الحياة لا تستحق زفرة واحدة و لا دمعة حزن ، فلماذا نندم ، و لماذا نتخاصم و لماذا الإحن التي بيننا ... و لماذا كل هذه الحروب و الخصومات ؟؟! لماذا لا يعيش الناس في محبة و سلام و وئام !؟
أنا أريد أن أحيا كالطفل في عفوية تامة ، إني أكره المساحيق ، مساحيق المجتمع و قيوده الضالة الجانية المجرمة ... أريد ان أكون أنا و ليس كما يريدني الغير .. لماذا لا نعيش التعدد و التكامل و الوحدة !؟ إني لأعجب من تنوع عناصر الطبيعة مع تناسق أجزائها و تكامل أدوارها فلماذا لا نتنوع نحن البشر و نتناسق و نختلف و نتكامل !؟ إن الطبيعة رحبة فلماذا لا تتسع صدورنا للآخر !؟ و لماذا لا نقبله كما هو ، و لماذا نتراشق بالسهام و نتصارع و نتناحر و الشجر يعلمنا أنه كلما قذف بالحجر ألقى بثماره اليانعة !؟
لماذا لا يرتع المرء بين الثمار اليانعة المتواجدة في كل مكان حتى يشعر بالإمتلاء و الحب و الأمل و الأمان .. و تمتلئ حياته سعادة و بهجة و سرورا !؟ إنها ينبوع الحياة و سر الوجود ، الخيرات تملأ الأفاق .. لكن لا أحد بلغ الشبع و الإرتواء ، لماذا كل هذا يا ترى ؟!؟
ما هي قيمة الإنسان إذا لم يقدر على تكريس مباهج الحياة و خيراتها لفائدة أخيه الإنسان !؟ هل خلق الإنسان ليعذب أخاه الإنسان !؟
أواه منك أيها العالم ، كل شيء فيك غريب ؟ عجيب ، محير ، مقرف ، مخجل ، قلت فيك المروءة ،و ندر الحياء ، و انقرضت القيم ، يتحكم في مصيرك الخبيث و اللئيم و المهرجون ، ... أواه ... ثم أواه ... كل شيء فيك يشعر بالإختناق و التأفف ، يظنك الجاهل بخفاياك فيك رواء للضمآن و أنت تسقيه السم الزعاف و لا يشعر ..
!؟ أحياؤك ميتون و ما يشعرون !؟ سوائم بدون قوائم ، و لا يدرون ؟ على وجوههم هائمون !؟
أما متنبؤو العصر الحديث ، المقروءات و المسموعات ... فتلقي الإحن بين الأفراد و الجماعات و المجموعات .. والعداوات !؟ و الناس في غيهم سائرون ، و على نهجهم ماكثون ، لكن أمي أراها أخذت تنزع عنها ثوب الهوان .. و تسير بخطى ثابتة نحو الهدف المراد .. فإلى الأمام يا أعز أم في الوجود .. و لا تخشي شيئا و لا تجبني ، فأنت عاشقة بك صبابة ، و لا يخشى العاشق الولهان .. !
لا أعرف بالضبط ما الذي جعلني استحضر عبد الحميد لم كنت راجعا من العرض المسرحي الذي أقامته ثلة من الشباب ،كان العرض قد تناول صراع " الذات " م " الآخر "و كيف أن الإنسان بحاجة أكيدة إلى تحديد هويته ، في الحقيقة كان عرضا مملا ، إذ كثر فيه الصخب ، و ردد الممثلون الكثير من الشعارات ،الرنانة التي سئمت سماعها .. خاصة أنها لم تواكب بإبداع فني !؟
" كنت قد اجتمعت مع عبد الحميد في مجلس حضرته نخبة من الشباب ، ، و كان معنا المنذر إلي عاد لتوه من فرنسا لمواصلة تعليمه الجامعي ،بعدما قضى بها أربع سنوات يدرس علم الإقتصاد . و كان المنذر" يزين لنا الحياة في الغرب حتى نعرف الحياة الحقيقية من حياة التفاهة و التعاسة " على حد تعبيره !؟
و قال وهو يهز رأسه في زهو و عجب : " إن الحياة هناك ممتعة و لذيذة ، هناك يا أصدقاء يعرف المرء معنى تدفق الحياة ..، حياة التحضر و العقلية المستنيرة ..لا حياة الجمود و التوحش و الإبتذال !؟ فقال عبد الحميد محتجا : " و لمن نترك هذا الشعب المسكين " أيها المنذر !؟ ثم استطرد قائلا : " الأولى بنا يا أصدقاء أن نفكر في بناء حضارة أرقى من الحضارة الغربية التي تبهرنا .. و حدج عبد الحميد المنذر بنظرة حادة : " ماذا ينقصنا حتى نعول على أنفسنا ، ثروات طائلة و سواعد تنتظر البناء و التشييد !؟ فقال المنذر و قد افتر ثغره عن ابتسامة ظفر و وارتياح ،
- تريدنا يا عبد الحميد أن ننتظر حتى تقام حضارتنا الموهومة ، " ترقب يا دجاجة حتى يأتيك القمح من باجة " و سكت المنذر و حدج الحاضرين بنظرة انتصار ثم نظر إلى عبد الحميد نظرة تهكم و استفزاز و قال و عيناه تتقدان سرورا ، " دعونا يا جماعة نشارك القوم متعهم و نكرع من الحياة كما يكرعون .. و نسلك طريقهم حتى نكون لهم أندادا ، أما عبد الحميد فيدعوكم إلى الوهم و إضاعة أعماركم في ترقب أمل زائف ".
كان الحاضرون يترقبون أن يرد عبد الحميد على هذا التهكم بشدة لكن عبد الحميد استمع إلى المنذر بانتباه شديد ، و صمت قليلا حتى سكت الغضب و الإنفعال عن المنذر و قال بأدب جم : " أصدقائي ، لا تغرنكم كلمات المنذر ، و لا تنسوا أنكم قلب الأمة النابض ، المنذر يدعوكم إلى التخلي عن مسؤولياتكم تجاه أمتكم التي تنتظر منكم خيرا كثيرا . المرء بطبعه يبحث عن السهولة .. و اليسر و يخشى التعب و تحمل المسؤوليات " .
و التفت إلى المنذر و ربت على كتفه و قال موجها له حديثه : " من حقك أيها الصديق أن تذهب إلى هناك و تنعم بحياتك دون أية منغصات .. فنحن لسنا بحاجة لإلى أمثالك ،فأمثالك لا يرجى منهم خير أبدا " .
و تمتم المنذر في ارتباك وهو لا يدري ماذا يقول : " ماذا تقول يا عبد الحميد !؟ أو تظن نفسك زعيم هذه الأمة !؟ و من حملك مسؤولية النهوض بها !؟
ثم قام وهو يهز كتفه مغيظا محنقا : " كلكم قد نصبتم أنفسكم زعماء لهذه الأمة ، كلكم تزعمون أنكم ستنهضون الأمة من كبوتها .. !؟ لكن أين الفعل ؟؟ نريد الفعل يا ناس ؟؟ نريد الفعل ... لقد سئمنا كثرة أحاديثكم ، ورثتم عن العرب القدامى زخرف القول و قلة الفعل ، لم ترثوا عن سوق عكاظ إلا الأحاديث المنمقة " . و صاح بأعلى صوته : " نريد الفعل ... نريد الفعل ...".
و حرك عبد الحميد رأسه موافقا و قال : " الآن نستطيع أن نتحاور ، و نتفاهم ، نريد الفعل ، معك كل الحق في هذا القول !" .
و هتف عبد الحميد من الأعماق و قال : " إن انبهارنا بالغرب سلب منا كل قدرة على الفعل .. إن تقليدنا للنمط الغربي في الحياة قد مسخ شخصيتنا حتى أضحينا عاجزين عن الفعل و الإبداع... إن التقليد يا إخوتي قد أعشى أبصارنا على ما يحمد من حضارة الغرب . حالنا يا جماعة حال الذي يريد أن ينجو من الغرق و ما هو بناج ، ثم قال بصوت ينبعث من أعماق فؤاده : ليتنا أدركنا منذ البداية أن الحضارة : تواصل و إبداع : الإنبهار جعلنا نهتم بالتفاهات دون إدراك الحقائق في التاريخ ..ثم سكت عبد الحميد و استجمع قوته و قال في حزم و صراحة .. : " الغرب ! ذاك الذي يبهرنا بإنجازاته وابتكاراته .. ألا تساءلنا كيف بنى قوته ؟ لقد خضع في مسيرته إلى قاعدة : التواصل و الإبداع ، التواصل يظهر فيما قام به فلاسفة الأنوار من مجهودات جبارة في إحياء ما خلفه أجدادهم مثل سقراط و أفلاطون .. و أرسطو .. ثم نقلوا ما أبدعه علماء المسلمين و فلاسفتهم في شتى الميادين . لقد نقلوا علوم المسلمين و معارفهم دون أن ينقلوا أخلاقهم و تشريعاتهم .. بل شوهوها تشويها مغرضا و حطوا متعمدين من قيمتها "
تململ عبد الحميد قليلا و جعل ينقل طرفه بين الكتب المتراصة في الخزانة ثم استلم كتابا و تصفح أوراقه ، كان الجميع يرمقونه بأعين مسائلة و تنهد عبد الحميد و حدج الجميع بعين فاحصة و قال : " اسمعوا ما يقوله " فولتير" : " إن محمدا ولد أميرا واستدعي لتسلم مقاليد الأمور عن طريق الناس له ... و لو أنه وضع قوانين سليمة ، و دافع عن بلاده ، لكان من الممكن احترامه و تبجيله ، و لكن عندما يقوم راعي إبل بثورة و يزعم أنه كلم جبريل و أنه تلقى هذا الكتاب غير المفهوم الذي تطالع في كل صفحة منه خرقا للتفكير المتزن حيث يقتل الرجال و يخطف النساء لحملهم على الإيمان بهذا الكتاب ، مثل هذا السلوك لا يمكن أن يدافع عنه إنسان لم تكن الخرافات قد خنقت فيه نور الطبيعة ... "
نظر عبد الحميد إلى الوجوه المقطبة الممتلئة حنقا و كأنها تتأهب للإنقضاض على عدو مقيت فشجعه ذلك على مواصلة الحديث فقال بصوت كالزئير و قد تناثر ريقه : "كلهم سعوا إلى ذلك متعمدين ..: " محمد لم يستطع فهم النصرانية ... و لذلك لم يكن في خياله منها إلا صور مشوهة بنى عليها دينه الذي جاء به للعرب ، هذا ما قاله "أديسون" . و وجدت نفسي أسائل عبد الحميد: " و لماذا قاموا بهذا التشويه ؟"
فسدد عبد الحميد نحوي نظرة ذات معنى و قال : " لأنهم يدركون بالبداهة أن مجتمعهم إذا انبهر بقيم مجتمع آخر ، يفقد ثقته بتقاليده و قيمه ، فيتلاشى بذلك الإنسجام الداخلي للمجتمع و يفقد بذلك القدرة على النهوض و بناء الحضارة ...
و سمعنا صياحا و عويلا .. تبعه طرق قوي على باب المجلس ، فخيم الصمت و التساؤل على وجوه الحاضرين ، و ملأتنا الرهبة فأسرع رضا و فتح الباب و حملق في القادم و قال بصوت مرتجف : " هو أنت يا خالد !؟ ماذا تريد!؟ ماذا حدث !؟
فتمتم خالد بصوت خفيض، مهموس: " توفي الشيخ الذهبي، صدمته سيارة هذا المساء... ! و حمل إلى المستشفى .. غير أنه فارق الحياة !؟ نعم فارق الحياة على أبشع صورة يمكن تخيلها !؟
و عم اللغو في المجلس ثم سمعنا عبد الحميد يقول بصوت لا يخلو من رنة الأسف: " رحمة الله عليك يا عم الذهبي ..لقد كانت حياتك عظة .. و كذلك موتك .. !؟ " ثم خرج كل من كان في المجلس و افترقنا .
إني قادم إليك يا عبد الحميد ... لقد جعلت حياتي جحيما لا يطاق ..إني أكاد أهلك ... سأبحث عنك في كل مكان .. إلى أن أجدك .. كانت بي رغبة جامحة لملاقاة عبد الحميد !؟ و سألت عنه فقيل لي إنه هناك ... و ذهبت إلى هناك ... و فجأة وجدتني مع عبد الحميد وجها لوجه ... كان قد انتحى له ركنا ... بإحدى الحانات الكبيرة ... كانت يداه ترتعشان ... وهو يأخذ الكأس ليفرغها في جوفه .. !؟ لما رأيت عبد الحميد على هذه الحال ... أحسست كأن شيئا ينهار داخلي ... !؟ فصحت بأعلى صوتي : " .... سأقتلك يا عبد الحميد ... أنت لم تعد تصلح للحياة ... أنت لم تعد تصلح للحياة ...أنت لم تعد تصلح للحياة ... !؟
واستيقظت مذعورا .. و جاءت أمي مهرولة وهي تقول: " مالك يا بني !؟ فقلت لها : " أمي ... أرجوك أن تحضري لي بقجتي غدا صباحا ... لأني سألتحق بصديقي عبد الحميد ... بالعاصمة، إن الحياة هنا لم تعد تطاق .. و لن أحتملها بعد اليوم .. !؟
نـــــــــداءات حارة
بقلم : محمد سالم بن عمر- عضو اتحاد الكتاب التونسيين -
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
http:islam3mille.blogspot.com
86، حي الليمون ، منزل بورقيبة 7050 / ص.ب :260 ولاية بنزرت – الجمهورية التونسية .
الهاتف : 23038163 (00216)
نداء إلى خطباء المساجد
في العالم الإسلامي
قد بوأكم الله – أيها السادة- مكان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقد علمتم أن الله قد فرض على المسلمين صلاة الجمعة بعد هجرة الرسول عليه السلام ومن آمن معه إلى المدينة وإقامة دولة الإسلام هناك، دولة أسها مؤمنون صادقون باعوا أنفسهم وأموالهم لله رب العالمين ، ودستورها ما تنزّل على النبي الكريم من سور قرآنية مدنية فصّل الله فيها القول تفصيلا في كل مناحي الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية... فلماذا تسمحون لأنفسكم أيها الخطباء بالافتراء على الله ورسوله وتعتلون منابر في ظل أنظمة حكم علمانية لا تحكم بما أنزل الله، ظالمة لشعوبها، فاسقة عن كل القيم والمبادئ الإسلامية... أتبتغون عند هؤلاء المجرمين العزّة فإن العزّة لله جميعا، تدعون لهم بالنصر، ولن ينصر الله أقواما فرقوا دينهم وكانوا شيعا، فلستم منهم وليسوا منكم، بل هم قوم عادون. كتب الله عليهم الخزي دنيا وآخرة ولن ينجيكم الله من مصيرهم المظلم إلا بالتبرؤ منهم، فالله قد أهلك من قبلكم فرعون وجنده، وأنتم قد أصبحتم جنودا من جنود فراعنة العصر الحديث تخضعون لوزارات الداخلية في حكوماتهم وتقبضون مرتباتكم منهم، مرتبات زهيدة مقابل بيعكم لآيات الله التي تلعنكم وتلعن سادتكم ليلا نهارا... فأف لكم وأفّ للمبررات الكاذبة التي ستقفون بها أمام الله يوم يقوم الناس لرب العالمين.
اعلموا أيها "الخطباء" أن هؤلاء الفراعنة يسخرون منكم في سرهم عند حضورهم مناسباتكم الدينية لأنهم يعلمون يقينا أنكم لن تتفوّهوا إلا بما يرضيهم ويرضي استكبارهم في الأرض بغير الحق، وما أنتم إلا خاتما في إصبعهم، وأنكم لأهوائكم متبعون، وبمشائخ أموات مقتدون، وأنكم وإياهم عن الصراط لناكبون، وأنكم وإياهم أموات غير أحياء وما تشعرون، وأنكم قد حولتم أمتنا الإسلامية إلى جثث هامدة لذلك تداعت علينا الأمم من كل حدب وصوب لو تشعرون، لذا فإننا نتبرّأ منكم وسنبقى نكن لكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وتوحدوه بصدق وتعلنوا سرّا وجهرا كفركم بهؤلاء الفراعنة المجرمين، واعلموا أننا لن نصلي وراءكم حتى تثوبوا إلى رشدكم.
"وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم به يوقنون" (المائدة/49-50).صدق الله العظيم
نداء إلى المرأة المسلمة في العالم الإسلامي
لقد خلقك ربك وسواك في أحسن الصور وأبهاها وأجمل قوام وأروعه، وجعل سكينة الرجل وسعادته لاتتم إلا بالتوحد بك ومعك جنسيا وعاطفيا وفكريا لذلك فالرجل يطلبك ولا تطلبينه وينفق عليك كل غال ونفيس طلبا لرضاك لأن في رضاك سعادته وهناءه دنيا وآخرة.
أما الحركات الإسلامية والأحزاب السياسية والحكومات في العالم الإسلامي .. فهم جميعا يستغلونك ويوظفونك لقضاء مآربهم ومصالحهم واتخاذك مصعدا للفوز بكراسي الحكم والنفوذ لا غير، إن أمرك الإخواني بواجب فلفرض سيطرته وتلبية لنزواته واستجابة لعادات أوحى بها إليه ذهنه المريض أو شيخه الميت أو زعيمه المتاجر بآيات الله والمحرف لها ابتغاء الفتنة والتحيز إلى فئة.. و إن أمرك السياسي المعارض بالإنتماء إلى معارضته وحزبه فليخوف بك رجال السلطان علّهم يمنّون عليه بفتات موائدهم من الحكم والنفوذ... أما قرارات السلط السياسية في العالم الإسلامي .. وإنجازاتها فقد حولتك أيتها الطاهرة العفيفة ، وحولت أخواتك إلى سلعة تباع وتشترى في أسواق النخاسة: في وسائل الإعلام المختلفة صوتك و جمالك لإشهار سلع المستكرشين و المستكبرين في الأرض والظلمة لعمالهم في مصانعهم... أكرهوك على دور الخناء والنزل وأماكن الترفيه .. لتدنيس عفتك وطهرك مع أن خالقك قد فرض على أبيك أو زوجك أوالدولة – دولة التوحيد - التكفل بكل مصاريفك وكل احتياجاتك..شجعوك على العمل في الشركات والمؤسسات لاستغلالك فيما لم تخلقي من أجله وهو الإنفاق على نفسك وعيالك وزوجك حتى فقدت بهائك وجمالك ونضارتك... وانصرفت عن مهمتك الحقيقية في رعاية الأجيال .. و تربيتهم .. لقد أرهقوك يا سيدتي بدنيا ونفسيا حتى كرهوك في جمال الحياة وروعتها.
إن الأحرى بك أيتها الطاهرة العفيفة أن تكفري بربوبية هؤلاء المجرمين جميعا - الأموات غير الأحياء وما يشعرون - العاجزين عن النفع والضر ولو لأنفسهم وتستضيئي بنور ربك في القرآن لإحياء نفسك وأخيك الإنسان وتبحثي لك عن مسلم مثلك لا يخضع إلا لأوامر الله عز وجل خالقكما من نفس واحدة ، يكون لك لباسا وتكونين له لباسا تستران بعضكما بعضا وتوحدان الله ناصركما ومحقق سعادتكما.
اتحدي أيتها المسلمة الطاهرة مع حبيبك وزوجك وأبوك وأخوك المسلم لإقامة "دولة التوحيد " في العالم دولة الرب الحقيقي , لنصرة المستضعفين من النساء والرجال والولدان والقضاء على دول المستكبرين والطواغيت والظلمة والمجرمين في الأرض...
تحرري من أغلال هؤلاء الأرباب المزيفين فلن يضروك بشيء ولن ينفعوك مادمت مع الله.
فالله يمقت هؤلاء الحكام لأنهم يقولون ما لا يفعلون ويذيعون قرآنا يلعنهم ويلعن سدنتهم من الكهان المتاجرين بالدين ليل نهار...
وتمتعي بالحياة كما شاءت لك روحك الطاهرة.
نداء إلى الشعوب الإسلامية
الشعوب الإسلامية تنحاز إلى تطبيق سنن و قوانين القرآن؟
يا شعبي العربي المسلم الحبيب ׃
لقد عشت بين أظهركم منذ أربعين سنة، انعم بخيرات هذه البلاد الإسلامية المعطاء.. لذا أحببت أن أذكركم و اذكر كافة القوى الحية في عالمنا الإسلامي بالله ربنا جميعا و رب العالمين.. مالك الملك و رازق الخلق بغير حساب ... و أن نعبده وحده دون شريك .. و أن نفرده بالطاعة و الخضوع لما أنزل علينا في القرآن .. و نجعل من جميع آياته البينات دستورا لحياتنا و قوانين تنتظم به علاقات بعضنا ببعض ׃ أفرادا و جماعات .. نساء ورجالا .. حكاما و محكومين..
يا أحفاد طارق ׃
إن القوانين التي استنوها لكم منذ استقلال بلداننا في العالم الإسلامي و تخضعون لها اليوم في حياتكم.. قد استنها عباد أمثالكم عاجزين بطبعهم عن تقييم أي سلوك أو مدى نفعه أو ضره لكم.. و قد حولت هذه القوانين الوضعية حياتكم إلى جحيم لا يطاق .. و ضنك في العيش لا يدانى ..لأنها قوانين تتعارض و الفطرة التي خلفكم ربكم عليها( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). فأفقدت رجالكم رجولتهم و نساءكم أنوثتهن.. فاستشرى العجز الجنسي و مرض السكري و ضغط الدم و شتى الأمراض المزمنة و البطالة المهلكة و الانحراف المهين لكرامتكم.. و ضاع أبناؤنا في متاهات الطريق..! (أربعون في المائة من التونسيين – مثلا - يعانون عجزا جنسيا متفاوتا.. و أن الأمراض المزمنة تتزايد في تونس من عام إلى آخر حسب ما جاء في جريدة القدس العربي ليوم 28 فيفري 2008) و( تحت عنوان : تونس الأولى عربيا .. و الرابعة عالميا : 9127حالة طلاق سنة2008 و العنف و الخيانة أبرز الأسباب
- المرجع: جريدة الصباح ؟8 أوت 2009 – تحتل تونس المركز الأول عربيا و الرابع عالميا في نسبة الطلاق بعد أن بلغت حالات الطلاق أرقاما قياسية / المشاكل الإجتماعية تسبب بنسبة 48.3%بحالات الطلاق و التي تشمل المعاملة السيئة و العنف و عدم الشعور بالمسؤولية و الإختلاف في المستوى الثقافي و التعليمي / حالات الطلاق لسنة 2008 بلغت 9127 حالة مقابل 16 ألف زواج لنفس السنة ، و تعتبر نسبة الطلاق الأعلى في المنطقة العربية حسبما جاء في الدراسة والملفت للإنتباه في الدراسة أن أكثر من 50% من رافعي قضايا الطلاق من النساء سنة 2008بينما كانت سنة 1960لا تتجاوز 6%)
تذكروا أيها الأحبة ׃
إن قوانين الله و سننه نافذة على جميع خلقه طوعا و كرها لأنها قوانين أزلية خلقت مع خلق الإنسان .. فلنختر السير على هديها طوعا لا كرها.. بإيمان و احتساب .. حتى نسعد دنيا و آخرة كما سعد كل أتباع الرسل عليهم السلام ׃" فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى" سورة طه الآية 123و 124.
و اعلموا أيها الأحبة ׃
إن جميع الخلق .. مهما أوتوا من علم و قوة لا يملكون لكم ضرا و لا نفعا إذا آمنتم بربكم حق الإيمان و نصرتم دينه واستجبتم لما أنزل علينا في القرآن .. و تذكروا أن الله قد أهلك من قبل فرعون و هامان و جنودهما.. فهل تقبلون العيش جنودا للطواغيت و قوانينهم التي ما سنت إلا لإخضاعكم للطواغيت و سدنتهم من الكهنة و رجال الدين البائعين لآيات الله بثمن بخس و استغلالهم.. و نهب الثروات التي أنعم الله بها عليكم و على بلادنا لتكونوا عبيدا له لا لغيره من الخلق.. .! و تذكروا أيها الأحبة أنكم قد أعطيتم عهدكم و ميثاقكم الغليظ لله ربكم عندما تقفون بين يديه كل يوم معاهدين مرددين׃" إياك نعبد و إياك نستعين"
يا أبناء شعبي المسلم:
تشكل بلادنا الإسلامية منارة للإسلام دين التوحيد و الخضوع لشرع الله العزيز... و قلاعا حصينة لأمة الإسلام في العالم .. أمة جميع الأنبياء عليهم السلام.. فلا تسمحوا لأنفسكم بالخضوع لحكم سماسرة/ طواغيت ما أنزل الله بها من سلطان أو نفوذ .. إني أعظكم أن تكونوا من " الجاهلين " أو" الظالمين " أو" الفاسقين عن شرع الله" ׃(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) سورة المائدة الآية 44 .
يا شعبي الحبيب:
إني أهيب بكم جميعا أن لا تتخذوا من الطواغيت مهما كانت مسمياتهم أربابا لكم تتبعون قوانينهم الوضعية الفاسقة عن شرع الله و تشريعاتهم الظالمة – التي ما حبروها إلا لخدمة مصالحهم ... إنها قوانين عمياء كعمى بصيرة الذين حبروها.. فاسقة عن قوانين الله و فطرته التي فطر الناس عليها و سننه في الأسرة و المجتمع و الحياة الحق الطيبة... و التي أهوت بكم في مكان سحيق من الظلم و الضياع و ضنك العيش ﴿ شاهدوا إن شئتم برامجهم الإجتماعية مثل "برنامج الحق معاك" على قناة تونس 7 الفضائية مع العلم أن تونس العلمانية ، تزعم أنها تمثل رمز التقدم و التطور في العالم الإسلامي كله..؟!﴾.... فالله وحده مولاكم و رازقكم و العالم بحقيقة ما يناسب خلقتكم .. نعم المولى و نعم النصير.. و تذكروا أن الأرض أرضه وعد بتوريثها عباده الصالحين المتبعين لما أنزل في القرآن العظيم.. إني أدعوك يا شعبي المسلم لنتكاتف جميعا و نوحد جهودنا و إرادتنا .. نساء و رجالا حكاما و محكومين لإقامة دولة التوحيد في عالمنا الإسلامي .. دولة أسها الإيمان و قانونها آيات القرآن العظيم .. و نجمع شتات أمتنا الإسلامية في مشارق الأرض و مغاربها حتى نقوى بهم و يقووا بنا و نرفع الظلم عن أنفسنا و عن كل المستضعفين في الأرض و نوصل رحمة الله إلى جميع الخلق :" و إن هذه أمتكم امة واحدة و أنا ربكم فاتقون"سورة المؤمنون الآية 52.
ارفعوا الظلم عن أمتي
السادة زعماء و قادة المسلمين.. سلام الله عليكم وبعد :
لقد ملكتم رقاب المسلمين عنوة و حكمتم بغير ما أنزل الله في كتابه الحكيم... فأذل الله شعوبكم على أيديكم لأنهم قبلوا الخضوع لربوبيتكم- أصبحتم مصدر التشريع الظالم !!؟- و الإحتكام لغير ما أنزل الله ... و أذلكم على أيدي أعدائكم من عبدة العجل و الطاغوت.. الذين حولتهم أفعالهم الآثمة إلى قردة و خنازير ... و على أيدي الصليبيين من أمريكان و أنكليز و فرنسيين و ايطاليين ...
السادة زعماء و قادة المسلمين:
عاهدتم الله أن تصونوا حرمة ديارنا لكنكم تجاوزتم كل الحدود في نكث العهد: فقد أبحتم حرمة ديارنا و أبنائنا و نسائنا لغير المسلمين ممن يتفننون في مص دمائنا متخفين وراء مؤسسات متعددة الجنسيات... استوليتم على الحكم استيلاء ! و تعهدتم بنشر الأمن و تحقيق العزة و المناعة... فتلك خيرات بلادنا منهوبة.. و أعراض رجالنا و نسائنا منتهكة.. و المواطن يعاني شتى صنوف القهر و الإذلال.. يلهث وراء لقمة العيش لهاث الكلاب .. و عجزتم عن توفير الأمن حتى لأنفسكم و أهاليكم ... أشعلتم نيران الفتنة و التصادم و التنافر بقوانينكم الوضعية/ الظالمة ، فصارت المرأة تعادي زوجها عوض التكامل معه و التعاون كما أراد رب العزة :(هن لباس لكم و أنتم لباس لهن ). و جعلتم شعوبنا فرقا و مللا متناحرة .. متنافرة بما يبثه سحرتكم و كهنتكم من سموم...!
اعلموا أيها السادة أن القوانين الوضعية /الأديان التي ابتدعتموها بمعية سحرتكم و كهنتكم و التي صيرتموها موازية لدين الله / دين الحق و التي تخضعون لها شعوبكم لن تضمن لكم و لهم أمنا أو استقرارا و لا ازدهارا و لا طيب عيش لأنها تتصادم و قوانين الفطرة و الحياة و نواميسها التي خلقها الله عليها ..؟! لذا فبطن الأرض خير لكم من العيش على غير ما شرع الله لنا جميعا لو كنتم تعقلون..!
السادة زعماء و قادة المسلمين:
أليس فيكم رجل رشيد .. فيحكم شعبه المسلم بقوانين القرآن و سننه الأزلية في الأسرة و المجتمع المفصلة تفصيلا بينا ..!!؟؟ و يتخذ من الله و رسوله و المؤمنين الصادقين أولياء له يستعين بهم على تطبيق آيات الذكر الحكيم و قوانينه الأبدية على واقع المسلمين المعيشي حتى يؤتيه الله أجره مرتين .. في الدنيا و الآخرة .. !! فيسعد هو و يسعد شعبه؟؟ لقد سبق و اتخذتم من الغرب و الروس .. أولياء لكم من دون الله .. فسمم عبد الناصر و دمرت بلاده.. و أعدم صدام و أهلك حرثه و نسله .. و يراد لعمر البشير أن يحاكم كمجرم حرب هو و شعبه ثم يباد..!!
السادة زعماء و قادة المسلمين:
لا نجاة لكم .. و لا نجاة لنا إلا بالإحتكام لشرع الله جميعا حكاما و محكومين و إقامة عدالة الإسلام في ارض الإسلام إخلاصا لله و نصرة لدينه الذي فضلنا به على العالمين ..
- حولوا المجالس التشريعية في بلدانكم إلى لجان مختصة كل في ميدانه لاستنباط أحكام القرآن و شريعته في الأسرة و المجتمع و الإقتصاد و السياسة و كل العلاقات الداخلية و الخارجية ...
- شكلوا من أحيائكم السكنية لجانا .. كل أسرة يمثلها فرد تعطى لها صلاحيات تشريعية (فيما يخص حيهم فقط ) و تنفيذية لخدمة مصالح حيهم و سكانه تحت إشراف وزارة تابعة للدولة المركزية.. فيعم البناء و التشييد و النشاط كافة سكان بلداننا و نصبح جميعا شركاء في خيرات بلادنا..
- أعطوا الشباب العاطل الأراضي الخصبة لفلاحتها و تخضيرها و تشجيرها بما ينفع البلاد و العباد و سهلوا لهم إنشاء صناديق تمويل تؤخذ من أغنياءنا و ترد على المحتاجين من شبابنا حتى يصبحوا أفرادا منتجين .. فالأرض و الخيرات كلها لله و ما دمنا جميعا عبيدا لله متساوون، فلا بد أن نتساوى جميعا في عطايا الله.ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
أيها الناس في الشرق و في الغرب
اعبدوا ربكم الذي خلكم و الذين من قبلكم...خالق كل شيء في الوجود.. و لا تتخذوا بعضكم بعضا أربابا من دون الله تتبعونهم من دوت الله و تقدسون القوانين و الدساتير التي تمليها عليهم مصالحهم و أهواءهم ليقتسموا بها الثروات و الخيرات التي انعم الله بها عليكم.. حتى صار لكل بلد دستوره و قوانينه التي يتبعها معرضا عن شريعة الله و سننه في القرآن الذي جاء مصدقا لكل الكتب الإلاهية التي سبقته ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه) - سورة الشورى الاية13-
أيها الناس في الشرق و في الغرب
لا تتركوا هؤلاء المتاجرين بآيات الله يضحكون على ذقونكم.. ويشرعون لكم القوانين باسم الإجتهاد و مواكبة العصر.. فالذي شرعه لكم ربكم منذ خلق آدم عليه و على نبينا السلام هو الشرع الحق الذي يناسب فطرتكم التي خلقكم ربكم عليها... و سيحاسبكم طبقا لتلك المعايير/الآيات يوم تقفون بين يديه للحساب .. إن قوانين الله و سننه نافذة علينا جميعا في الدنيا و الآخرة .. و انظروا إلى عذابات الخلق في الحياة لأنهم لا يلتزمون بقوانين الله التي شرعها لهم منذ الأزل .. عذابات الفلسطينيين.. عذابات اليهود.. عذابات المسلمين في العالم ... : عذابات نفسية و بدنية تتناسب و الإنحراف عن شرع الله و التنكب عن قوانينه في الكون و الإنسان و الحياة...
أيها المستضعفون في الشرق و الغرب
اصطفوا جميعا وراء القرآن/كتاب ربكم الحق و اكفروا بطواغيت/ فراعنة الأرض جميعا.. فهؤلاء الجهلة لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا و لا لأنفسهم.. إنهم يستغلون جهلكم بشرع ربكم ليسخروكم لمصلحتهم و مصلحة المتاجرين بآيات الله ... و تكاتفوا لإقامة دولة التوحيد في العالم .. دولة الرب الحقيقي .. حتى نسعد جميعا برحمة الله.. دنيا و آخرة ...!
أيها الأحبة أيها المسلمون أيتها المسلمات
لقد اخترتم أن تكونوا من أتباع من أرسله ربه " رحمة للعالمين " و لقد أحياكم ربكم و جعل لكم نورا تمشون به بين الناس بعدما كنتم "أمواتا" فما الذي أزرى بحالكم و حولكم إلى جثث هامدة تابعة إلى أنظمة و حكومات علمانية لقيطة و تابعة لأنظمة الغرب الإستعماري ألإستكباري تتبع أهواءها في سن القوانين و التشريعات الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية و لا تقيم أي وزن لشريعة الله المفصلة تفصيلا بينا في كتابه العزيز !؟
ما سبب قبولكم أن تكونوا عبيدا و خدما و جنودا في جيوش فراعنة العصر الحديث الذين تنكروا لربوبية الله خالق الكون و الإنسان و الحياة و ادعت لنفسها الربوبية بتحكمها في خلق الله طبقا لقوانين و تشريعات وضعية يستنونها حسب أهوائهم و قد أعلنوا عداءهم لكل ما هو رباني مسلم ؟!
أيها الأحبة أيها المسلمون أيتها المسلمات
لقد استبيحت أرضكم و أعراضكم من قبل مشركين نجس و انتهبت ثرواتكم ممن يعلن العداء لله و لرسوله و للمؤمنين و أنتم صامتون أو متواطئون أو منغمسون في جمع فتات موائد هؤلاء الأنجاس الذين قد حولوا أرضكم إلى فيء منتهب من قبل قوى الإستعمار و الإستكبار العالمي... !!؟؟
أيها الأحبة أيها المسلمون أيتها المسلمات
بماذا ستجيبون ربكم القوي العزيز يوم تقفون بين يديه للحساب.. و قد وعدكم بالنصر الأكيد إن أنتم نصرتم دينه و أقمتم حدوده واتبعتم منهجه؟؟؟
أيها الأحبة أيها المسلمون أيتها المسلمات
إن ربكم واحد و قرآنكم واحد و رسولكم واحد فلماذا انقسمتم إلى أمم متفرقة و نحل متنافرة و أحزاب متقاتلة مما حولكم إلى اضعف الأمم و أذلها.. بأسها بينها شديد و قد قال ربكم " و لا تتفرقوا فتذهب ريحكم "!!!؟
أيها الأحبة أيها المسلمون أيتها المسلمات
لقد بنى نبيكم محمد صلى الله عليه و سلم – قدوة كل المؤمنين في العالم - الإنسان المؤمن الموحد لله رب العالمين و الخاضع لأوامر الله و نواهيه خلال ما اصطلح على تسميته بالفترة المكية ثم بحث عن النصرة لدين الله فوجدها بالمدينة المنورة أين أقام دولة الإسلام على ضوء القرآن المدني الذي رسم له و للمؤمنين كل تفاصيل و معالم المجتمع الإسلامي إجتماعيا و اقتصاديا و سياسيا.. و أنتم لا تزالون راضين بأن تكونوا تابعين لأنظمة بشرية مشركة بالله.. تعيش في ظلمات بعضها فوق بعض.. و ليسوا بخارجين منها إلا بالقطيعة التامة معها مهما كانت مسمياتها.. : ( ملكية.. إستبدادية.. ديمقراطية... حداثية أو غيرها ).
أيها الأحبة أيها المسلمون أيتها المسلمات
لقد أهلك الله من قبل من هو أشد قوة من أمريكا و إنكلترا و روسيا و فرنسا.. و أغرق فرعون و هامان و جنودها و خسف بقارون و بداره الأرض... لما وجدت الفئة المؤمنة الموحدة لله رب العالمين... فهل تنتظرون أن يهلك الله هؤلاء المستكبرين في الأرض و أنتم قد أصبحتم جزءا لا يتجزأ من شعوبهم تؤمنون بأنظمتهم الوضعية و تطبقون قوانينهم المكرسة للجريمة بمختلف أشكالها – لاحظوا نسبة العود إلى السجون في مختلف أنحاء العالم- و تخضعون لها بملء إرادتكم و تستمسكون بأخلاقهم .. و تتبعون أهواءكم .. و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله !؟
أيها الأحبة أيها المسلمون أيتها المسلمات
تخافون أمريكا و إسرائيل و أنظمة لقيطة.. و لا تخافون الواحد الأحد القوي العزيز الجبار.. تعملون ألف حساب لأنظمة لقيطة تابعة و لا تخافون من الملك الديان.. مالك الملك.. ثم تزعمون أنكم مسلمون ؟!! تتعهدون و انتم واقفون بين يدي الله - للصلاة- بطاعته و الخضوع لشريعته ثم تنكصون على أعقابكم في جميع تفاصيل حياتكم و تنتهكون حدود الله و حرماته ظاهرا و باطنا .. فكيف ينصركم الله ؟؟!
أيها الأحبة أيها المسلمون أيتها المسلمات
ثوبوا إلى رشدكم و انصروا دين الله لينصركم الله و يمكن لكم في الأرض كما مكن لأسلافكم لما صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. و السلام على من اتبع الهدى .
نداء إلى قادة حركة حماس
لقد أرسل الله محمدا صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين.. و لقد استطاع هذا النبي الأمي خلال 23 سنة من بعثته أن يحول الأميين في جزيرة العرب إلى خير امة أخرجت للناس في التاريخ البشري كله.. فلماذا تحولت حركتكم إلى نقمة على الشعب الفلسطيني – شعب الجبارين- و أنتم تحملون نفس ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم!؟
و الجواب بكل بساطة ووضوح:" لأن محمدا قد بنى شعبا بدءا من بناء الإنسان المؤمن، و أنتم قد بنيتم سلطة انطلاقا من شعب ورث الإسلام..!!"
لقد اتبع محمد صلى الله عليه و سلم ما أوحي إليه من ربه خطوة بخطوة لأنه يعلم علم اليقين أن ما أنزله الله عليه من آيات بينات هو النور الذي يضيء له دروب الحياة المدلهمة و يحميه من السقوط في متاهاتها الكثيرة.. لأنه من عند الله العزيز الحكيم الذي يعلم غيب السماوات و الأرض و يعرف حقيقة هذه الحياة.
لقد قام محمد صلى الله عليه و سلم ببناء الإنسان المؤمنالذي يؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله.. و غير مفاهيمه عن الكون و الإنسان و الحياة بمفاهيم القرآن المكي الذي يكشف للمؤمن حقائق الوجود.. و أفرغ ذهنه من المعتقدات الباطلة التي لا صلة لها بحقائق الوجود.. و ملأ عقله بمفاهيم الإيمان الصحيح و ما يترتب عن هذا الإيمان من سلوك قويم في مختلف ميادين الحياة الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية.. حتى إذا ما اكتمل له بناء الإنسان المؤمن الذي يستنير في حياته كلها بآيات الذكر الحكيم كلفه ربه بالهجرة إلى المدينة التي احتضنت المؤمنين بدعوته صلى الله عليه و سلم و تكوين السلطة /الدولة التي تحتكم إلى شرع الله داخليا و خارجيا.. و في كل ميادين الحياة..
و في المدينة / الدولة سعى الرسول / القدوة صلى الله عليه و سلم إلى تأسيس جيش قوامه "مؤمنون" باعوا أنفسهم و أموالهم و كل ما يملكون لله رب العالمين مقابل الفوز برضوانه يوم لقاه :" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقا في التوراة و الإنجيل و القرآن و من أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم و ذلك هو الفوز العظيم" (سورة التوبة الآية 111 ).
أما أنتم في حركة حماس فقد سعيتم منذ بداية تأسيس حركتكم إلى تكوين " مجاهدين" يجتهدون في معصية الله و مخالفة أوامره.. بقتل أنفسهم في سبيل القدس و ليس في سبيل الله مع أن الرسول /القدوة صلى الله عليه و سلم لم يسع يوما إلى تكوين مجاهدين يقاتلون في سبيل البيت الحرام- و قد كانت بأيدي المشركين- رغم أنها اشرف عند الله من بيت المقدس.. و الله يقول:"و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما" ( سورة النساء الآية 29). كما نهى الله عز و جل عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق و أنتم تقتلون - في الغالب الأعم – أناس أبرياء لا صلة لهم بالحرب الوهمية التي تخوضونها ضد إسرائيل !
كما ترشح قادة حركتكم إلى المجلس التشريعي الفلسطيني وهو مؤسسة تشريعية لا تحكم بما أنزل الله:"و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ( سورة المائدة الآية 44 ). : "و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلكم امة واحدة و لكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم فيما كنتم فيه تختلفون. و أن أحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم و إن كثيرا من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " ( سورة المائدة الآيات 48 و49 و50 ).
فالمؤمنون أبدا لم و لن يكونوا في حاجة لمجلس تشريعي لأن الله هو المشرع الوحيد في الإسلام – لذلك سمي بدين التوحيد (وحدانية المشرع)- و المؤمنون ملزمون جميعا بما فيهم الأنبياء عليهم السلام بالإحتكام إلى شريعة الله المفصلة تفصيلا في القرآن المدني و الخضوع التام لها.
و هكذا تكون حركة حماس و إن رفعت الإسلام شعارا لها فهي لا تخضع لأوامر الله و نواهيه في حركتها و نضالاتها و اختياراتها.. بقتل ناشطيها لأنفسهم في عمليات انتحارية قصد قتل أناس أبرياء في الغالب الأعم نهى الله عن قتلهم ، و قد حرم الله الجنة عن قاتل نفسه أو قاتل نفس بريئة عمدا !
إن منهج الإسلام واضح في تأسيس السلطة الإسلامية /الدولة.. تبتدئ بإيجاد المؤمنين بالله ...المستمسكين بالوحي.. الخاضعين لشريعة الله و تنتهي بإنشاء الهياكل التي تسهر على رعاية شؤون المسلمين طبقا لشريعة الله و ثوابته و إنزال آيات الله /الثوابت في الواقع المعيش للناس حتى تعمهم الرحمة التي بعث من أجلها الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم... و كل الأنبياء من قبله .. ثم إيجاد الجيش الذي يحمي الدولة الإسلامية من المعتدين... و الظالمين .
لذلك أهيب بالعقلاء من أبناء حركة حماس أن يعتزلوا العمل في الحكومة الفلسطينية التي تسببت في محرقة غزة و يعملوا على تكوين المؤمنين الصادقين قبل التفكير في إيجاد سلطة لا تحكم بشريعة الله... عندها ستعود فلسطين /كل فلسطين إلى أهلها /
محمد سالم بن عمر
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
http:islam3mille.blogspot.com
محمد سالم بن عمر، كاتب و ناقد تونسي ، عضو باتحاد الكتاب التونسيين .
أصيل سيدي بوعلي ولاية سوسة، متزوج و له شيماء و نصير الله.و أمة الله
متحصل على شهادة الأستاذية في التنشيط الثقافي منذ 1992، وقد عمل مديرا لدور الثقافة بتونس .
له مساهمات عديدة في النقد و الإبداع و المقال الفكري الحضاري...
صدر له كتاب :" اللسان العربي و تحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي عام 1995"
كما صدر له كتاب :" نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه عام 2009"
و قد نشرت له جل الصحف و المجلات الوطنية مقالات فكرية و نقدية و قصص قصيرة وقصائد .. كما نشرت له بعض المجلات و الصحف العربية .. مقالات فكرية وحضارية..
له مخطوطات عديدة أهمها :
ذكريات زمن مضى (رواية) نحو إعادة تشكيل الفكر العربي الإسلامي في العصر الحديث ﴿مقالات فكرية / حضارية﴾ ...
اللغة العربية و الإبداع الحضاري
محمد سالم بن عمر
المقدمة
قبل أن تصبح اللغة العربية غريبة بيننا!
تعتبر اللغة من أهمّ مقوّمات الشعوب. فهي ترجمان فكرها وعواطفها ومختلف مظاهر الحضارة والتمدّن فيها ،ولقد أدركت مختلف الأمم و الشعوب هذه الأهمية للغة، قديما وحديثا، فلم تتوان أيّ منها عن دراسة لغتها، والإهتمام بها، والحرص على نشرها وتعليمها للآخرين وتحبيبها إليهم.
ولقد بحث الإغريق في طبيعة اللغة ونشأتها، وتضافرت جهودهم في سبيل وضع قواعد للغتهم ابتداء من القرن الثاني قبل الميلاد. وشارك الفلاسفة اللغويين فكانت أبحاث أفلاطون في أصل الكلمة، ومشكلة المعنى كما درس العلاقة بين الأشياء والكلمات. وتابعهم في ذلك الرومان، فدرسوا اللاتينية ولما كان الإغريق قد اقتصروا على دراسة لغتهم فقط ، فقد فعل الرّومان مثلهم فلم يدرسوا قواعد أيّة لغة غير لاتينية، كأنّهم أرادوا أن تصبح هذه القواعد قوانين عامة تصلح لجميع اللغات، وهي نظرة سادت في أوروبا ، وظلت آثارها إلى سنوات قليلة مضت قائمة ، إذ حاول اللغويّون هناك تطبيق قواعد اللغتين اليونانية واللاتينية على اللغات التي انحدرت منها غاضين النظر عن مسافة الخلف بين هذه اللغات الحديثة وتينك اللغتين الميتتين.
ولقد انصبّ اهتمام الإغريق والرومان على وضع قواعد لما يمكن أن يقابل اللغة الفصحى أو النموذجية، وهي لغة لم تكن متحدثة آنذاك وانشغلوا بوضع قواعد وضوابط ومعايير محدّدة لهذه اللغة سميت بالقواعد "المعيارية" وهي لا تتغير بمرور الزمن.
أما في الهند فقد كان للكتاب الذي ألفه "بانيني" في القرن الرّابع الميلادي، الأثر البارز في توضيح قواعد اللغة السنسكريتية مبيّنا فيه وواصفا النظام الصوتي والصرفي والنحوي لتلك اللغة وصفا دقيقا.
و لا تزال الأمم و الشعوب في العصر الحديث تولي أهمية بالغة للحفاظ على لغاتها و تطويرها و نشرها، من ذلك إقدام الدولة الفرنسية على التدخل في الواقع اللغوي عبر قوانين أصدرتها في سنوات 1490 و1510 و 1539 م ، و هذا الأخير هو الأشهر و المعروف بقانون فيلي كوتري، و قد سعت هذه القوانين إلى إبعاد اللاتينية و الإسبانية و الإيطالية من الساحة الفرنسية .
كما أبعدت لغات فرنسا و لهجاتها الأصلية التي تعد بالعشرات ، و من بينها اللغة الباسكية ، و اللغة الكاتالانية و اللغة البروطانية ، إلى جانب ما يعتبره ﴿ كلود هاجيج ) في كتابه : ﴿﴿ الفرنسية و القرون )) بلهجات فرنسا ، كاللهجة الفلامانيكية المنتمية إلى اللغة الهولندية ، و اللهجة الألزاسية المنتمية إلى اللغة الألمانية و اللهجة الكورسيكية المنتمية إلى اللغة الإيطالية
و قد قامت فرنسا بواسطة قانون ﴿ توبون ) ، سنة 1994 م بمنع استعمال اللغات الأجنبية خصوصا الأنجليزية في كل شيء بما في ذلك الإشهار. و وصل هذا القانون قمته عندما أراد ﴿ توبون ) ، وزير الفرانكفونية ، إزالة كلمات أنجليزية مترسخة في القاموس اللغوي منذ قرون .
و في العصر الحديث أدركت المجتمعات الراقية أهمية اللغة في حياتها وحياة الشعوب التي تريد غزوها ، وبسط الهيمنة عليها فأخذت تنفق "الأموال الطائلة" من أجل تصنيع الثقافة بلغاتها وتصديرها إلى جميع أصقاع العالم ، تصرف بها وجوه الناس إليها وتغزوهم في عقر دارهم عن طريق القنوات المرئية والإذاعات المسموعة والمجلات والكتب والصحف و الشبكات العنكبوتية وغيرها من وسائل الإتصال الحديثة ... تفرض عليهم - من حيث يشعرون أو لا يشعرون - نمط حياتهم وطريقة عيشهم، وأسلوب تفكيرهم، وتقدم لهم الحلول لمختلف المشكلات التي تهم حياتهم السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
وفي خضم هذا الواقع الذي تتصارع فيه مختلف الأمم والشعوب من أجل الحفاظ على لغاتها ونشرها وتطويرها ننظر بعين الحسرة و الألم إلى المستوى المنحدر الذي آلت إليه اللغة العربية، لغة القرآن ، وقد ساهم كل منّا بقسطه في هذا الإنحدار الرهيب ، وجنينا جناية بالغة في حق أبناء هذا الجيل والأجيال المقبلة بل في حق اللغة العربية. يقول الأستاذ فاروق جويدة تحت عنوان ﴿﴿قبل أن تصبح اللغة العربية غريبة بيننا)) :
﴿ اللغة العربية في محنة هذه حقيقة نكاد ندركها ونلمسها جميعا، ولكننا للأسف الشديد نقف أمامها مكتوفي الأيدي كمن يشاهد ابنه يصارع أمواج البحر ولا يحاول إنقاذه، ومحنة اللغة العربية ظاهرة يتصاعد دخانها أمام أعيننا منذ سنوات طويلة حتى وصلت الأحوال بها إلى درجة توشك فيها أن تصبح غريبة بيننا).
و سعيا منا إلى إنقاذ اللغة العربية و المساهمة و بلبنة بسيطة في مزيد إشعاع هذه اللغة الجميلة و إيلاؤها الأهمية التي تستحقها بوصفها تمثل هويتنا الوطنية و رصيدنا الحضاري حاضرا و مستقبلا ، سنسعى – قدر المستطاع – إلى إبراز :
1 – الظروف التاريخية لتقدم اللغة و الخط العربي و تطورهما وانتشارهما ؟
2 – خصائص اللغة و الخط العربي و مدى تميزهما عن بقية لغات العالم ؟
3 – المخاطر المحدقة باللغة العربية سواء أكان ذلك من قبل ﴿ العرب ) أنفسهم أو من قبل أعداء اللغة العربية و المتربصين بها ؟.
و نختم هذا الباب بالحديث عن البدائل التي يطرحها أعداء اللغة العربية و مدى تفاهة ما يطرحون ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تسهل علينا كشف النقاب عن :
4 – كيفية النهوض باللغة العربية و مزيد نشرها و تطويرها ... ؟ و قد ختمنا بحثنا بتوجيه التماسا إلى المشرفين على وسائل إعلامنا و إلى المهاجرين من أبنائنا باحترام لغتنا الأم لأن في احترام لغتنا هو احترام لهويتنا و كينونتنا الحضارية.
الباب الأول
الظروف التاريخية لتطور اللغة العربية و انتشارها
لقد أحب العرب القدامى ، قبل مجيء الإسلام ، لغتهم و تباروا في إتقانها و تجويدها واستعملوها في حلهم و ترحالهم، و في خطبهم و أشعارهم ... و شهدت منطقة الجزيرة العربية أسواقا أدبية عديدة من أشهرها : عكاظ و مجنة و ذو المجاز و غيرها .. و كان عكاظ أشهرها جميعا، فكانت تنتقى فيه القصائد العصماء التي اشتهرت باسم ﴿﴿ المعلقات )﴾ لتعليقها عند الكعبة بعد تمحيصها و خضوعها لإشراف و نقد دقيق وضعت نظمه قريش .
و بعد مجيء الإسلام ترقت بلاغة العرب بسبب نزول القرآن ﴿بلسان عربي مبين ﴾. فأصبح كلام المسلمين من العرب أعلى طبقة في البلاغة و أذواقها من كلام أهل الجاهلية في نثرهم و نظمهم ، فنجد شعر حسان بن ثابت و عمر بن أبي ربيعة و الحطيئة و جرير و الفرزدق ... ثم كلام الشعراء في الدولة الأموية و صدر الدولة العباسية ارفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة و عنترة وابن كلثوم، و زهير و علقمة و طرفة و من كلام أهل الجاهلية، لأن هؤلاء قد سمعوا و حفظوا القرآن "وهو من خلق الله الواحد و إبداعه المتفرد" و الذي عجز الجن و الإنس عن الإتيان بمثله ، فنشأت على أساليبه نفوسهم ،فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية.
و لقد انطلق آباؤنا المسلمون من الجزيرة العربية زاحفين إلى أقاصي الأرض ، متجاوزين الآفاق البعيدة التي لم يحلموا بالوصول إليها من قبل ، ليؤدوا الأمانة الكبرى التي اختارهم الله لها دون غيرهم من سائر الأمم، و حمل رسالة الإسلام ونواميسه الفطرية الأزلية الخالدة إلى كل شعوب الدنيا . و قد كانوا في الوقت نفسه حملة للغة العربية، لغة الإسلام . فبها وحدها يستطيعون نقل تعاليم الإسلام الحقيقية و آياته البينات إلى الآخرين،و بها وحدها يستطيع المسلم الجديد أن يكون مسلما حقيقيا ، مستوعبا ومستجيبا لكل أوامر الله و نواهيه في القرآن، ألم يقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ﴿ تعلموا اللغة العربية فإنها من دينكم ﴾. و يقول أبو إسحاق ألشاطبي ﴿﴿ في الموافقات﴾) : ﴿إن هذه الشريعة المباركة عربية فمن أراد تفهمها فمن وجهة لسان العرب و لا سبيل إلى تطلب فهمها من غير هذه الجهة﴾.
فالدين الإسلامي لم يكن مجرد عقيدة و تشريع و مبادئ يعتنقها المسلم فحسب، بل هو معجزة فنية ، لغوية و فكرية، معنى و مبنى، بعث الله بها إلى الأرض لتصغي إليها قلوب تحجرت فتلين ، و تتعلق بها عيون جفت فيها المشاعر فتتفجر بالدموع ، و عقول تراكم فوقها غبار القرون ، فانجلت و تجددت و اهتدت بنور الله وهي تستيقظ على هذا الصوت الرباني الذي جاء يتحداها فيما تحدت به من قبل كل البشر : البيان و البلاغة ، - معنى و مبنى - و بذلك ارتكز المسلمون الأوائل الأكثر تعبيرا عن حقيقة الإسلام و مراميه ، على ازدواجية الدعوة لدى الشعوب المفتوحة : دعوة القلوب إلى الإيمان و الألسنة إلى التعريب . فدخل الناس في دين الله، و الألسنة في لغة القرآن أفواجا ، فصنعوا حضارة لا تزال معالمها إلى اليوم شاهدة عليهم .
و لقد مر الحرف العربي وصولا إلى ما هو عليه بمراحل تحسينية عديدة ،عبر سنواته الطوال ، بدءا بالحرف غير المنقط ، و قد كان يقرأ غير منقط و غير مشكول دون خطإ حتى من الصبية لأنهم رضعوا الكلام الصافي من المنهل الذي نهل منه آباؤهم فجاء كلامهم فصيحا.
فلما جاء الإسلام و أنار الدنيا بتعاليمه ، دخل الأعاجم فيه و اختلطوا بالعرب و تعلموا لغتهم ليفهموا تعاليم الإسلام و يحملوا مع إخوانهم أمانته ، فظهرت حينها أخطاء القراءة و الكلام ، فاجتهد أبو الأسود الدؤلي لمعالجة الموقف، فقام بوضع أول علامات لشكل اللغة العربية حيث طبقت لأول مرة على القرآن الكريم .
ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي مكتشف بحور الشعر العروضية و واضعها ، فزاد اللغة تحسينا و تجميلا آخر ، حيث طور حركات أبي الأسود الدؤلي بحركات أكمل وضوحا ، وهي نفس الحركات التي نستعملها اليوم .
و في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عهد إلى نصر بن عاصم و يحيى بن يعمر إيجاد حل للتفريق بين الحروف المتشابهة كالباء والتاء و الجيم و الحاء و الخاء ... حيث قاما بوضع النقاط على الحروف المتشابهة ، و كانت هذه المرحلة أتم المراحل في تزيين الحروف العربية مما جعلها أكثر بهاء و بريقا و حماية للألسن من الخطإ .
و لقد تواصل اهتمام المسلمين بلغة القرآن الكريم ، و كانوا يعتزون بها و يفخرون ، حتى راحوا يذبون عنها كل شائبة ، و يبينون خصائصها ، و جمالها ... فازدهرت العلوم اللغوية على أيديهم أيما ازدهار ، و برزت في سماء العلم أسماء رجال أجلاء عرفهم العالم و شهد لهم العلماء من جميع أصقاعه نذكر منهم بالإضافة إلى أبي الأسود الدؤلي و الخليل بن أحمد : سيبويه ، و أبي علي الفارسي ، وابن جني و ابن فارس ، و الثعالبي و السيوطي و الأصمعي و الجرجاني و قوافل أخرى ممن خلفوا لنا تراثا تفوق فخامته ما أتى به غيرهم و استوفت اللغة جميع جوانبها النحوية و الصرفية و الصوتية و المعجمية و البلاغية . و لقد تملك كل هؤلاء حب اللغة الفصحى، و أخلصوا للغة القرآن ، و ظلوا على ذلك حتى استوت علوم اللغة العربية و اكتملت فروعها . و عندئذ أضافوا استطردات مبسوطة وافتراضات كثيرة ، و طرقوا مسائل وهمية ، تخيلوها و كدوا أذهانهم في حلها .
كما برع الخطاطون المسلمون في رسم اللغة العربية ، و أبدعوا خطوطا جديدة زينتها بحلة قشيبة لا تزال تحتفظ بها و تنبض جمالا يأخذ بالألباب ، ذلك لأن الخط الجميل يزيد الحق وضوحا كما يؤكد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
إن جمالية الحرف العربي ، و مرونته الساحرة و رشاقته الخاصة بما له من أشكال متعددة ، متصلة و منفصلة و لا سيما إمكانية كتابة عبارة واحدة بأشكال عديدة ، و بصياغات جمالية متنوعة ، فتح الباب أمام فناني الحرف للتنافس في تجميله و تزويقه و تطويره جماليا باستمرار ، و لقد أولاه الدين الإسلامي الحنيف كل اهتمام ، من ذلك أن العديد من فواتح السور القرآنية تبتدئ ببعض الحروف : ألم ، ألمر، كهيعص، ق ، طه ، يس، ن ... ، و هل من تكريم للحرف أعظم من القسم به ، كما في سورة ﴿﴿ القلم )) : ﴿ ن ، و القلم و ما يسطرون) فالحرف يدل على ما في اللفظ ، و ما في اللفظ يدل على ما في الفكر ، و ما في الفكر يدل على الروح و الروح تدل على عظمة الله خالقها و العالم بأسرارها ، من هنا جاء الإهتمام بتجميل الحرف تفصيلا و جملة ، فظهر في العمارة ، و كأنه اللآلئ، مزينا المساجد و المآذن و القصور من الخارج و الداخل بآيات الذكر الحكيم ، و العبارات المأثورة من أقوال الرسول صلى الله عليه و سلم و الحكم و غيرها .
لقد زين الرسامون المسلمون المساجد و المنازل و القصور في مختلف البلاد الإسلامية و جملوا الأثاث و السجاد و الملابس و المباني على اختلاف أنواعها و الآلات كلها حتى المدافع و الكتب بتلك الحروف النورانية التي تكون مع بعضها البعض كتاب الله الخالد و الأزلي و المعجز ، و هناك من اللوحات البديعة التي لا تزال محفوظة في المتاحف و البيوت .
لقد انطلق المبدعون و جالوا و تفننوا في صياغة الحرف العربي و تركيبه ، في أنحاء العالم الإسلامي ، فدرس الفنان تراكيب مختلفة ، مراعيا العلاقات التكوينية في دراسة الفراغات ، فكان همه استمرارية ابتكار التكوينات التي تتآلف من انسجام الحروف و كأنها أصوات موسيقية مرئية ، تسمع بعينك و بروحك صوت اللآلئ المرصوفة ، حاملة الألفاظ القرآنية المباركة ، و كانت غاية الفنان أن يبدع في تراكيب و تآليف يغور فيها الناظر ، و يرتع مكحلا عينيه بجمالها .
و هذا الإهتمام بالحرف العربي نتجت عنه أنواع كثيرة من الخطوط ، اللينة و المزواة ، و أصبح الخط فنا جماليا ، و ارتبط كليا بالحضارة الإسلامية ، و ساد على باقي الفنون، و قد اشتهر من الخطوط : النسخ و الرقعة و الكوفي و الثلث و الفارسي و الديواني و تفرعت من هذه الخطوط خطوط كثيرة ، لقيت من الجميع الرعاية ، فأقدموا على دراستها و خاصة المسئولون من حكام و سلاطين و أمراء ، قال أحد الشعراء :
يخطط مولانا خطوط ابن مقلة فينظمها نظم اللآلئ في السلك
فهذا عليه بهجة الخط وحدها و ذاك عليه بهجة الخط و الملك
و الوزير ابن مقلة السالف ذكره في بيت الشعر هو من وضع الأسس و الأنظمة الهندسية للحرف ، ثم ابن البواب، ثم ياقوت المستعصي الذي أصبح قبلة الكتاب في عصره ، ثم ابن الصايغ ثم شفيق ، و حقي و ماجد الزهدي و حسين حسني ، و عبد العزيز الرفاعي ، و حامد الآمدي و سيد إبراهيم و هاشم البغدادي و غيرهم . و لقد انفرد بأسلوب التعليق الفارسي ، مير علي التبريزي ، و مير علي الهروي ، و مالك الديلمي و مير عماد الحسني و أسعد يساري و غيرهم .
لقد بذل هؤلاء الرسامون جهودا مضنية للارتقاء بالحرف العربي و ساهموا بقسط لا يستهان به في تحقيق مجد اللغة العربية و الخط العربي حتى أن ﴿ بيكاسو ) عبر عن إعجابه بالخط العربي قائلا : " إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن التصوير وجدت الخط لعربي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد ".
كما نسب للإمام علي كرم الله وجهه قوله: " الخط مخفي في تعليم الأستاذ، و قوامه على كثرة ألمشق، و دوامه على دين الإسلام ".فهو بحر واسع إلا أن معرفة أسراره وحدها دون التمرن المستمر على ألمشق لا تكفي ! و ماذا نحن فاعلون – حكومات و شعوب و مفكرون و مبدعون – للحفاظ على رمز هويتنا الحضارية و تنميتها ؟؟
الباب الثاني
خصائص اللغة العربية و مميزاتها
تمثل اللغة العربية إحدى اللغات العريقة ذات الماضي الأصيل ، و التاريخ الحافل ، وهي لغة ثرية بأبجديتها الوافية التي تضم من الحروف ما لا يوجد كلا أو بعضا في لغات أخرى كالثاء و الحاء و الذال و الضاء و العين و الغين و غيرها ، فضلا عن حرف الضاد الذي تنفرد به دون سائر لغات العالم .
و القارئ للعربية يجد العجائب و الغرائب في أصواتها و حروفها و إملائها و بلاغتها ، في شعرها و نثرها ، فشعرها عقد منظوم تتلألأ منه أنغام الماضي و الحاضر و المستقبل ، بألحان مختلفة يلبي جميع الأهواء ، و نثرها جوهر منثور يزخر بألوان زاهية من البيان الساحر الأخاذ الذي لا يشبع نهم المشتاق و يشفي غليل الطراق ، وهي تفي بالقليل عن الكثير ، و تمج الغث و تعج بالسمين ، تترقرق من أفواهنا كماء الغدير تريح النفس بعذوبتها و تهدر كالبحر الهائج فتثير النفس و تشمخ بها نحو القمم ، و قديما قيل :" كلم اللسان أنكى من كلم السنان " فكم من شخص لقي حتفه بكلمة و آخر نجا من الموت بكلمة ، و كم كلمة رفعت صاحبها و أخرى أذلته .
و لقد مثلت اللغة العربية و لا تزال هوية الأمة الإسلامية ، و لسانها الناطق ، و قلبها النابض و عقلها الواعي الذي يحوي تراثها و ثقافتها و مجدها و رمز وحدتها ، و منذ مجيء الإسلام استطاعت اللغة العربية أن تؤدي رسالتها كاملة ، فتنشر الدين الإسلامي في جميع الآفاق ، و أن تستوعب بوفاء و أمانة علوم الأمم الأخرى و ثقافتهم ،و هاهي اليوم تواصل رسالتها في الحفاظ على وحدة مجتمعاتنا الإسلامية بغير كلل أو إعياء . يقول المستشرق الألماني " بروكلمان " : " بفضل القرآن بلغت العربية من الإتساع مدى لا تكاد تعرفه أية لغة أخرى من لغات الدنيا. و المسلمون جميعا مؤمنون، بأن اللغة العربية هي وحدها اللسان الذي أحل لهم أن يستعملوه في صلواتهم، و بهذا اكتسبت العربية من زمان طويل مكانة رفيعة فاقت جميع لغات الدنيا الأخرى".
لقد نص الله تعالى في كتابه الكريم على أنه أنزل " قرآنا عربيا " و " بلسان عربي مبين " ملقيا بذلك المسؤولية في حمل الرسالة المحمدية إلى البشر على كواهل هذه اللغة الشريفة ، لأن الله قد شرفها بأن اختارها ، لأول مرة و لآخر مرة ، ليخاطب بها بني آدم عبر كتاب معجز حوى نصوصا حرفية من كلامه المعجز عز و جل ، توجه بها إلى الناس كافة معلنا لهم دينه الذي ارتضاه لهم ، و واضعا لدنياهم و لآخرتهم القواعد و الأسس الفطرية التي تصلح أن يستقيموا عليها و إلى الأبد . فهذه ميزة تنفرد بها اللغة العربية ، و تتربع على عرش اللغات جميعا لأنها لغة القرآن الكريم الذي نزل به الروح الأمين على سيد الخلق ، خاتم الأنبياء و المرسلين محمد صلى الله عليه و سلم : " و إنه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين " ( سورة الشعراء الآيات 192 – 195 ) .
و هذا التكريم الذي خص الله به اللغة العربية جعل منها لغة عالمية لأن محمدا صلى الله عليه و سلم أرسل إلى الناس كافة ، كما جعل منها لغة باقية بما جاء به من تشريع أزلي يتماشى و فطرة الإنسان و خلقته صالح لكل زمان و مكان ،و ارتقى بها بما اشتمل عليه من عقيدة سليمة ، و مثل سامية ، و قيم رفيعة سامقة تتمثل في تحرير العقول من السفه و من كل المعوقات الفكرية التي قد تحجب عنها حقائق الوجود ، و تحرير القلوب من العمى و الدروشة ، و في الدعوة إلى الإيثار ، و التضحية ، و الحب و التسامح ، و الرحمة ،و الحق و العدل ، و التنفير من الرذيلة في أي مكان و أي زمان . و كل هذا يجعل من اللغة العربية ضرورة حتمية لفهم القرآن و مدلولاته الدقيقة و في ذلك يقول الشافعي : ( فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به بأن لا إلاه إلا الله و أن محمدا رسول الله و يتلو به كتاب الله و ينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير و التسبيح و التشهد و غير ذلك . و مهما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته و أنزل به آخر كتابه كان خيرا له ).
و يضيف ابن تيمية رحمه الله : ( فإن نفس اللغة العربية من الدين و معرفتها فرض وواجب فإن كتاب الله و السنة فرض و لا يفهم إلا بفهم اللغة العربية ، و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
و يتابعه في ذلك أبو منصور الثعالبي في مقدمة كتابه : ( فقه اللغة و أسرار العربية ): " من أحب الله أحب رسوله المصطفى صلى الله عليه و سلم ، و من أحب النبي العربي أحب العرب ، و من أحب العرب أحب اللغة العربية التي تنزل بها أفضل الكتب على أفضل العجم و العرب ". و قبل هؤلاء جميعا أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى العلاقة الوثيقة و المتينة بين الدين الإسلامي الذي جعله الله سبب صلاح بني آدم دنيا و آخرة و بين اللغة العربية لغة أهل الجنة فقال: ( تعلموا العربية فإنها من دينكم ) . فأي مسلم هذا الذي يتنكر للغة العربية لغة القرآن و لغة الرسول الأكرم صلى الله عليه و سلم !؟
إن اللغة العربية خصبة باشتقاقها و سهولته ، ثرية بكثرة ألفاظها و تصريفها ، مما يكسبها مرونة خاصة ، و يمنحها عطاء متجددا ، و يجعلها أقدر اللغات على التعبير في كافة العلوم و الفنون و مختلف المجالات الحياتية ، يقول المستشرق " جوبيوم " في مقدمة كتابه (تراث الإسلام ): "إن اللغة العربية لغة عبقرية لا تدانيها لغة في مرونتها و اشتقاقها و خاصة ما يتصل بالفعل و الإسم . فمثلا مادة الفعل "دار" يشتق منها : أدار، و دوّر، و تدوّر،و تداور، و داور ، واستدار ، و دوْر ، و دوران و دوار، و داره و دوّار، و مدار و مدارة ،و مدير،وهكذا .."
كما أن للعربية قدرة على التجريد و النزوع إلى الكلية و الشمول حيث تتلاقى كلماتها في الغالب على أصول تجمع بينها و تتجلى فيها ، فعلى سبيل المثال نجد الكلمات ذات الأصول من السين و اللام و الميم تلتقي عند أصل يجمع بينها وهو التعري عن الآفات الظاهرة و الباطنة ، فيتمثل معنى التعري عن الآفات الظاهرة في قوله تعالى في سورة البقرة آية 71 : (إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض و لا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها ). فكلمة مسلمة تشير إلى أن الله قد سلم البقرة المطلوبة من العيوب أو سلمها أهلها من العمل. و يتمثل معنى التعري عن الآفات الباطنة في قوله تعالى في سورة الشعراء الآية 88 و 89 : ( يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). فالقلب السليم هو الخالي من الدغل واستبطان الحقد و العداوة أو السالم من الدنس و الشرك بالله أو السالم من البدعة المطمئن إلى سنن الله . و لقد صور لنا القرآن الكريم ما يعتري نفوس البشر و حالاتهم في المواقف المختلفة ، أدق تصوير ، بكلمات دقيقة تحمل كل منها معناها حتى و لو كان الإختلاف بين الكلمات في حرف واحد كما في كلمتي اهطاع و اهراع و قد ورد في لسان العرب قولهم : " لا يقال للإسراع في السير إهطاع إلا إذا كان معه خوف ، و لا إهراع إلا إذا كان معه رعدة . و يلاحظ أن هذا الإختلاف في المعنى في قوله تعالى : ( خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر ، مهطعين إلى ألداع يقول الكافرون هذا يوم عسير) سورة القمر آية 7- 8. مقارنة بقوله تعالى : (ثم إن مرجعهم لا إلى الجحيم . إنهم ألفوا آباءهم ضالين، فهم على آثارهم يهرعون، و لقد ضل قبلهم أكثر الأولين ) سورة الصافات الآيات 68 -71. هذا بالإضافة إلى أنها اللغة ذات الصوت الواضح المميز ، و ذلك راجع إلى دقة مخارج حروفها ،و إلى التأكيد على إظهار هذه الحروف ، و لا سيما ما يحتاج منها في نطقه إلى ضغط أو نبرة معينة كحروف القلقلة ، و الحروف التي تخرج من بين الثنايا ، و غيرها بعكس ما هو ملحوظ في بعض اللغات الأخرى التي لا تحفل بذلك ، فلا يكاد الحرف فيها يبين ، أو تكثر بكلماتها الحروف الساكتة ، أو التي يتلاشى بعضها في بعض أثناء النطق . هذه الخصوصيات التي تتميز بها اللغة العربية يجعلها تقبل عن جدارة الإعجاز البياني و ضروبه مما لا يتوافر في الكثير من اللغات الأخرى لكون ذلك طبيعيا فيها بفضل جزالتها و دقة أوضاعها و إحكام نظمها واجتماعها على تأليف صوتي يكون موسيقيا محضا في التركيب و التناسب بين أجراس الحروف و الملائمة بين طبيعة المعنى مما يجعلها قريبة من نفس كل إنسان لاتفاقها مع فطرته . و قد أدى كل ذلك إلى وجود كلمات ليس لها مقابل في اللغات الأخرى من ناحية الدلالة مثل : الحق – الرحمة – الرحمان – العالمين ... يقول الدكتور محمد جمال الدين الأفندي في الفصل الرابع من كتابه : ( الإسلام و قوانين الوجود ) : " و لا أظن أن هناك لغة تستطيع أن تعبر عن كثير من ألفاظ القرآن ، أو تستوعب معانيه غير العربية .. فقد كنت ضمن لجنة لترجمة معاني القرآن، - و لا أقول ألفاظ القرآن أو القرآن نفسه فهذا أمر مستحيل – و وقفنا طويلا أمام بعض الكلمات لا نجد لها مقابلا مثل كلمة " الرحمان" و كلمة " الله " و حتى كلمة "رب " ليس معناها DOG المستعملة عادة في الترجمات و كلمة " العالمين " ليس معناها الكون و "عباد" ليست بمعنى عبيد و لا حتى خدم ".
إن هذا الإعجاز البياني يجعل من طواعية العربية الفصحى و مرونتها و قدرتها على مطالب النفس الإنسانية بمشاعرها و انفعالاتها لا تدانى ، و اللغة العربية مع هذا تمتلك من مقومات الجمال ما تستحق به عن جدارة أن يطلق عليها لغة الجمال ، يتجلى ذلك فيما حوته من روائع الكتاب و السنة ، و فيما زخرت به من حكم و أمثال و في خطها العربي بأنواعه المختلفة ( النسخ ، و الرقعة ، و الثلث و الفارسي ، والديواني .. ) و غيرها مما لا تضارعها فيه لغة أخرى ، و في موسيقاها النابضة المعبرة الشجية الملونة التي تجد مجالها فسيحا في التنوين ، و الإدغام و المد ، و الإمالة ، و السجع ، و غيره ، و في ألوان البديع ، و في بعض بحور الشعر كالمتقارب و المتدارك ، و الهزج ، و الرجز ، و مجزوء بعض البحور كالوافر و الكامل و غيرهما .
إن هذه الخصوصيات الكثيرة التي تميزت بها اللغة العربية و جعلتها تتربع على عرش اللغات جميعا بما احتوت عليه من ضروب البيان و البلاغة و الإعجاز و سهولة الإشتقاق منها ، و قدرتها العجيبة على التعبير عن كل خلجات النفس البشرية في أفراحها ، و أتراحها ، في هزلها و جدها ، في علومها و أدبها ، مما رشحها للتعبير عن كلمات الله التي تحدت الإنس و الجن أن يأتوا بمثلها فعجزوا : ( و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ، فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة أعدت للكافرين) سورة البقرة الآيات 23- 24 .
كل هذا التميز لم يشفع لها من التراجع و الإنحدار إلى مستوى لم تعد تحسد عليه ، و أصبحت هذه اللغة الجميلة الرائعة تعيش محنة تذيب قلوب العاشقين لها حسرة و كمدا، أمام ما يتهددها من أخطار و مكائد تحاك لها من قبل الناطقين بها و غير الناطقين سواء وعوا بذلك أو لم يعوا.
الباب الثالث
المخاطر المحدقة باللغة العربية في العصر الحديث ؟
صلة وثيقة و متينة ربطت اللغة العربية الفصحى بالدين الإسلامي الحنيف،منذ نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه و سلم ، مما حدا بالمسلمين إلى اعتبار اللغة العربية من الدين و أس من أسسه " و إنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين " (سورة الشعراء الآيات 192 - 195) . وقد كان النبي محمد صلى الله عليه و سلم يفخر و يفرح كل الفرح بالإفصاح و يأبى اللحن و يقول : "و إن من البيان لسحرا "، مما نتج عنه اهتمام علماء المسلمين بها و كانوا يفخرون بها و يعتزون، كما راحوا يذبون عنها كل شائبة، و يفردون لها المصنفات العديدة التي تبين خصائصها و تميزها، و جمالها... فازدهرت العلوم اللغوية على أيديهم أيما ازدهار و نشروها حيثما حلوا وارتحلوا...،
و منذ بدايات العصر الحديث ،أخذت الرابطة الإسلامية تتراجع كشكل من أشكال ضمانات البناء السياسي القائم و تحصينه ، أمام ضربات الإستعمار الغربي الموجعة وتقطيعه لأجزاء عديدة من الخلافة العثمانية و سقوط البلاد العربية الواحدة تلو الأخرى في براثن الإستعمار الغربي المقيت بدءا بالجزائر عام 1830م و تونس عام 1881م و مصر عام 1882م ... بالإضافة إلى اشتداد السياسة الإستبدادية التي سلكها السلاطين العثمانيون المتأخرون ، كل هذه العوامل أدت إلى درجة قصوى من التخلف و الإنحطاط و الجهل ، فلم يعد هناك علماء و مفكرون إلا قليلون ، و قلت الرغبة في البحث و التنقيب عن الحقائق في مختلف الميادين العلمية و اللغوية و الحضارية ، لأن الدولة لا تشجعها ، فليس إلا ترديد بعض الكتب الفقهية و النحوية و الصرفية و نحوها ، حتى قال السائح الفرنسي "ميسيو فولني" الذي زار مصر و بلاد المشرق العربي و خاصة الشام : (إن الجهل في هذه البلاد عام شامل ، مثلها في ذلك مثل سائر البلاد التركية ، يشمل الجهل كل طبقاتها ، و يتجلى في كل جوانبها الثقافية ، من أدب و فن ...) . هذا التراجع الحضاري نجم عنه ركود في كل الميادين العلمية و اللغوية، فبقدر ما كان المد الحضاري الإسلامي يتراجع كان اللسان العربي يتقلص، لأن الإسلام هو الذي حافظ عليها، و صانها، و رسم لها الحدود النهائية التي استمرت عليها حتى الآن.
إن هذا التهلهل الحضاري الذي أصاب الناطقين بالضاد استغله الجاهليون و الوثنيون الجدد ليطعنوا في لغة القرآن و يرمونها بالقصور حينا ، و بالجمود أحيانا أخرى ، و بذلوا و يبذلون جهودا جبارة لمحاربة الفصحى ، و تحريك الأقلام المأجورة ضدها . لقد أدرك أعداء أمتنا الإرتباط الوثيق بين اللغة العربية و الدين الإسلامي و بين الدين الإسلامي و مجد و وحدة المسلمين ، فعملوا جاهدين على ترويج الدعاوي التي تتهم اللغة العربية الفصحى بالعقم و البداوة و ألقوا عليها مسؤولية تخلفنا رافعين شعار " من أراد التقدم و الرقي فلا يتكلم العربية "زاعمين بعدم استجابة الفصحى للحضارة الحديثة و أنها لا تستوعبها وهي عسيرة على من يتعلمها !؟
إن محاربة اللغة العربية الفصحى قد تشكلت في أشكال مختلفة وارتدت الأقنعة المتنوعة ، و تلونت بحسب الظرف الزماني و المكاني لأعداء أمتنا و لغتنا ، و إن اتفقت جميعها على استبدال اللغة العربية الفصحى بلغات المستعمرين أو باللهجات الدارجة للدول الناطقة بالضاد أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية لمسخها و القضاء على صحة النطق بها ، أو تغيير الأساليب البيانية و البلاغية للغة الفصحى ...
فقد شنت فرنسا منذ احتلالها للجزائر يوم 5 جويلية 1830م حربا لا هوادة فيها ضد اللغة العربية ، فأغلقت المدارس التي كانت مزدهرة قبل الإحتلال ، ثم اعتبرت اللغة العربية أجنبية حرم استعمالها في مصالح الحكومة ، و كانت فرنسا تعاقب كل من ينشئ مدرسة لتعليم اللغة العربية . أما المدارس التي أنشأها الفرنسيون فكانت كلها مدارس فرنسية ، و كانت الجامعة الجزائرية التي أنشئت عام 1887جامعة فرنسية أيضا ، و لا يدخلها من الجزائريين إلا من تكون له حظوة لدى المحتلين . كما بذل الفرنسيون جهودا كبيرة و قاموا بأعمال مستمرة لتنصير بعض أبناء القرى الجزائرية ، و هدم المساجد و تحويلها إلى كنائس . و في يوم 8 مارس 1938م أصدر ميسيو " شوطان " الفرنسي قرارا يقضي باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر ،و كان القرار – في حقيقته – امتدادا للقانون السابق صدوره في 24 ديسمبر 1904م ، و الذي يمنع تعليم العربية في جميع مدارس الجزائر ...
و في مصر دعا اللورد " دفرين " البريطاني سنة 1883م إلى محاربة العربية و الإهتمام باللهجات العامية ، و سار على نفس النهج " ولييم ديلكوكس " سنة 1892م ، و كان " ديلكوكس " هذا يعمل مهندسا للري في مصر ، فقام بترجمة الإنجيل إلى ما أسماه باللغة المصرية . و تبعه القاضي الإنكليزي "ولمور" الذي عاش في مصر و ألف سنة 1902م كتابا باسم ( لغة القاهرة ) واقترح فيه قواعد نصح باتخاذها للعلم و الأدب ، كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية . و كان الهدف من بذل كل هذه المجهودات هو القضاء على لغة القرآن ، لغة الإسلام الوحيدة و تحقيق حلم " ولييم جيفور دبلجراف " الذي قال : ( متى توارى القرآن و مدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في قبول الحضارة المسيحية التي لم يبعده عنها إلا محمد و كتابه ) !؟
و على نفس هذا النسق سارت بقية الدول الإستعمارية الأخرى في مختلف البلاد العربية و الإسلامية ، ساعية جهدها إلى قبر اللغة العربية و من ثم قبر الهوية الإسلامية لشعوبنا . و واصل هذه المجهودات الإستعمارية الجبارة في وأد اللغة العربية مجموعة هامة من حلفاء الإستعمار و الذين باعوا أنفسهم للشيطان ضد مصالح أمتهم العربية و الإسلامية و على رأس هؤلاء و أخطرهم يأتي سلامة موسى في كتابه ( البلاغة العصرية و اللغة العربية ) فقد تناول هذا الأخير في كتابه مخطط الهجوم على اللغة العربية و انتقاصها و الدعوة إلى العامية لتكون مصدر البلاغة العصرية زاعما أن الفصحى لا تستطيع التعبير عما تستطيع العامية أن تعبر عنه . ؟! فدعا إلى الأسلوب التلغرافي و مهاجمة الأسلوب البياني ، و إلغاء الحرم و العرض من اللغة بدعوى أنه تراث لغوي قديم يحمل عقدة اجتماعية يجب أن نكافحها ، كما دعا إلى الكتابة بالحروف اللاتينية و إدخال الكلمات الأعجمية دون قيد ، و هو بهذه الدعوة أراد في الحقيقة أن يكون الأسلوب خاليا من الروعة و البراعة و الجمال و الموسيقى التي تميز اللغة العربية ، فلا يمتاز عن أسلوب الخطاب المعتاد المتداول في الشؤون اليومية ، متعمدا تجاهل أن الأديب شاعرا كان أو كاتبا ، إنما يفتن القلوب و يسحر العقول بألفاظه . و ليس اللفظ رمزا يشير إلى فكرة و معنى فحسب، بل هو مجموعة من صور و مشاعر أنتجتها التجربة الإنسانية و بثها اللفظ ، فزادت خصبا و حيوية ، فالألفاظ تصدر عن الأديب مشحونة بعواطفه و تجاربه و تحمل مكنونه الذي اختزنه على مر العصور في خصائصها و سماتها ، و الأسلوب التلغرافي الذي دعا إليه سلامة موسى لا يحقق شيئا من ذلك لأنه قائم على النفع وحده لا على الجمال . و لو أن الأسلوب لا قيمة له إلا أن يكون تلغرافيا يسفر بين الناس بالمنفعة وحدها ما حرص الأدباء على تجويد أساليبهم في اللغات كلها و لاستوت العبقرية و التفاهة ، و القدرة و العجز ، بل هي مؤامرة على اللغة العربية لاجتثاثها من النفوس و إرباك عشاقها بتفاهات ما كان ينبغي أن تصدر عن الدكتور سلامة موسى الذي يدعي في العلم معرفة ؟! و يبقى أكبر دليل على كذب هذا الرجل، و وهمه و خبث طويته، أنه كان يدعو إلى العامية مستخدما في ذلك الفصحى، يدعو إلى العامية وهو يتكلم الفصحى ... إنه لم يستطع أن يتخلص من لغة أمته الفصحى فكيف تعجز الفصحى عن التعبير عما زعم !!؟ و قد واصل مجهوده سعيد عقل اللبناني داعيا إلى استخدام اللهجة العامية و كتابتها بالحروف اللاتينية قائلا : "من أراد لغة القرآن فليذهب إلى أرض القرآن " . و رصد جوائز عديدة لمن يكتب ديوانا للشعر باللغة العامية ، و كتب ديوان ( يارا) بلغة عربية في أحرف لاتينية وهو (رجل حراس الأرز) الذين جعلوا شعارهم قتل الغرباء ( أي قتل المسلمين). و تقدم عبد العزيز فهمي عضو المجمع العلمي المصري سنة 1942م باقتراح يقضي باستبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية و شغل المجمع العلمي ببحث اقتراحه ثلاث سنوات. و لعل التاريخ لن ينسى مجرما لم يكتف بالدعوة إلى ذلك بل دخل بنفسه المدارس معلما الحروف الجديدة للمدرسين و الطلاب...؟! إنه ذلك اللقيط الذي حارب المسلمين و أسقط الخلافة الإسلامية ( كمال أتاتورك ).
و في سنة 1973م انعقد في لبنان مؤتمر ضم عددا من أساتذة الجامعات في أمريكا و أوروبا و البلاد العربية و بحث فيه اقتراح فرنسي قدمه "جاك بيول " و "أندريه رومان "و " رولان مانييه " باستعمال اللهجات العامية الدارجة و ذلك بحجة أن الإستعمال هو السيد الذي يفرض نفسه !
و تنوعت دعاوي هؤلاء الإمعة و تبريراتهم ، فمنهم من حاول إقناع الجماهير بأن اصطناع اللغة العامية في الأدب و الصحافة إنما اعتراف بحق الجماهير في العلم و التأثير فيه ، و منهم من زعم أن للعامية قدرة على الوفاء بحاجات البشرية و قدرة على التعبير عن مطالب الحياة العصرية ، و أنها وسيلة ميسرة لتثقيف الجماهير الشعبية و تقريب الثقافة منهم ...إلخ .
إن أية دعوة تحاول النيل من اللغة العربية في قليل أو كثير ، مهما لبست من أقنعة ، و زخرفت من قول إنما هي دعوة مسمومة مفضوحة يريد بها أصحابها أن يطفئوا نور الله ، و يخربوا هوية الأمة الإسلامية حتى يسهل لهم بعد ذلك تذويبها و تركيعها لأطروحاتهم المعادية لمصالح امتنا . إن هذه الدعوات المشبوهة تريد أن تطمس شخصيتنا و تميزنا الحضاري ، و تسعى إلى دمجنا و صهرنا إلى حد الذوبان في " الآخر العدو" لتحيلنا في النهاية إلى أذناب ليس لهم حول و لا قوة . و لكن هيهات ... هيهات !! فاللغة العربية خالدة، لأنها لغة القرآن، و القرآن خالد ما دامت السماوات و الأرض ... يقول عز و جل: (( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظن ) ) سورة الحجر الآية 9.
إن اللهجة العامية التي يريدها أعداء امتنا بديلا عن اللغة العربية الفصحى تمثل ألفاظا مهلهلة من لهجات تختلف من بلد إلى آخر كما تختلف في البلد الواحد باختلاف مناطقه و أجيال أبنائه، وهي فقيرة كل الفقر في مفرداتها ، مضطربة في قواعدها و أساليبها حتى أن العربي يخاطب أخاه على لسان غير مبين فلا يكاد يفهمه ، كما أنها لا تقوى على الشؤون الدقيقة و روح الإنسانية ، لان الفكر إذا لم تسعفه وسيلة قوية و أداة مواتية في التعبير عنه خمدت جذوته و ضعف شأنه و حينئذ يضيق نطاقه . و هذا من شأنه أن يخمد الثقافة العربية الإسلامية و ينكص بها إلى الوراء . إن الدعوة إلى استعمال الدارجة و القائلة بتقريب الثقافة من الجمهور لهي دعوة كاذبة و ساذجة ، إذ الأحسن من ذلك هو الإرتقاء بذوق القارئ ، و لا ننسى أنه بنفس هذا المنطق يمكن أن يروج للفن الهابط و الذوق السمج و الأخلاق الهابطة بدعوى أنها من "إبداع "الجماهير ، يقول العقاد : (( اللغة العامية لغة الجهل و الجهلاء و ليست بلغة الشعبيين ، و لا من يحبون الخير للشعوب ، لأن الغني الجاهل يتكلم العامية و لا يقرأ اللغة الفصحى و لا يمتاز بفهمها على الفقراء )).
أما الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية ، فيعتبر مسخا لها و قضاء على صحة النطق بها. فعلى سبيل المثال يعبر بالحرف : D عن كل من حرفي الدال و الضاد مما يؤدي إلى الخلط بين حرفي الدال و الضاد و وضع كل منهما مكان الآخر . و كذلك الحال بالنسبة للتعبير عن حرفي العين و الهمزة بالحرف اللاتيني A. كما يعبر عن حرفي الهاء و الحاء بالحرف اللاتيني H ، و قس على ذلك العديد من الحروف الأخرى .
لقد قامت فرنسا الإستعمارية برسم مشروع منفرد أطلق عليه مشروع الفرانكفونية يهدف إلى { فرنسة } كل دول إفريقيا و دول جنوبي شرق آسيا الفقيرة منها على الخصوص "فيتنام "مثلا ، و أوروبا الشرقية و بعض الدول الأمريكية انطلاقا من "كيبك "الكندية ، و هذا المشروع الفرانكفوني له عشرات الأنشطة و المؤسسات التي تخدمه . و يبقى الهدف الرئيسي لفرنسا الإستعمارية هو توطيد الفرنسية في المغرب العربي و شمال إفريقيا .. فماذا فعلنا نحن لمواجهة هذا الغزو الحضاري و حماية لغتنا من الإنحدار الرهيب الذي تعيشه لغتنا الوطنية حتى صارت غريبة بيننا ؟! إنه لشيء مخجل حقا أن نعلم أن كثيرا من الدول العربية تشارك في مؤتمرات القمم الفرانكفونية أو في إحدى المؤسسات الفرانكفونية (كتونس ، المغرب ، لبنان ...) مع العلم أن هذه الدول العربية ليست بدول فرانكفونية ،و إنما توجد بها أقلية فرانكفونية ، غالبا ما تكون من الطبقة الموسرة التي تسيطر على أغلب الوظائف العليا في الدولة . و نعود لنتساءل : ماذا يدفع هذه الدول إلى التهافت من أجل المشاركة في المؤسسات الفرانكفونية و الإصرار على الحديث بلغة من استعمرنا بالأمس القريب و أهلك حرثنا و نسلنا و يسعى جاهدا لقبر هويتنا العربية الإسلامية؟!
إن الجواب يكمن في أن الفرانكفوني العربي – رمز التخلف و الإنبتات الحضاري – عنده عقدة المتخلفين ألا وهي عقدة الشعور بالنقص. فعندما يتكلم اللغة الفرنسية يحس بأنه ترقى إلى أعلى مستويات التقدم الفكري بينما ينظر إلى اللغة العربية كأنها لغة المتخلفين و رعاع الناس ، و الحقيقة الساطعة تفند هذه المزاعم ، فلقد مثلت اللغة العربية و لا تزال لغة التقدم و الحضارة باستطاعتها أن تستوعب كل ما تنتجه الحضارة البشرية في مختلف الفنون و العلوم ، و قد برهنت على ذلك عندما نقل المسلمون فلسفة و علوم اليونان و الرومان و الفرس و الهنود ، و حولت كل ذلك إلى ثقافة واحدة ، وهي الثقافة الإسلامية . لقد دخلت في الإسلام شعوب و شعوب ، و لو قدر لهذه الشعوب جميعا أن تمتلك اللغة العربية ألسنتها كما امتلك الإسلام قلوبها ، لما كانت هناك اليوم مشكلة تواجه لغتنا رمز هويتنا و فكرنا و وحدتنا ، أما و قد انقسم المسلمون و أصبح كل حزب بما لديهم فرحين .. و سيطرت على كثير من الشعوب الإسلامية حالة "اللامسؤولية " تجاه اللغة العربية التي أصبحت بفضل القرآن لغة إسلامية عالمية ، واستغنوا عن القرآن بشروحه المترجمة ، القاصرة لطبيعتها البشرية .. و أنى لهذه الترجمات أن تنقل لأولئك إعجاز البيان القرآني ، بل إعجاز الفكر القرآني الذي لا يمكن أن تنقله كاملا ترجمة للنصوص و لا ترجمة لمعاني النصوص : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي و لو جئنا بمثله مددا ) سورة الكهف الآية 109.
إن السبيل الوحيد لبناء المسلم الحقيقي على الأرض في أي زمان و أي مكان هو إتقانه للغة الإسلام الوحيدة ، اللغة العربية ، لأن المسلم الذي لم يتمكن المسلمون المتأخرون من تبشيره بالعربية بعد أن بشروه بالإسلام لم يعد قادرا على أن يكون مسلما حقيقيا : مسلما يقرأ القرآن فيتدبره و يؤدي الصلاة فيخشع لمعانيها ، و يردد الأذكار و الأدعية فيطمئن قلبه لما فيها ... هذا المسلم لن يكون صورة حقيقية عن الإسلام لأن الإنفصال بين المسلم و العربية ينتج حتما الإنفصال بين المسلم و الإسلام القرآني الصحيح ، ذلك لان اللغة العربية وحدها استطاعت أن تعبر عن كلمات الله بدقة و إلا لما كان هناك داعيا لأن يختارها الله من بين جميع لغات العالم مؤكدا على قدرة اللغة العربية على الإبانة و التوضيح ( بلسان عربي مبين). لذلك تبقى اللغة العربية الوحيدة التي يمكن للمسلمين في جميع مشارق الأرض و مغاربها أن يجتمعوا عليها ، فيتناقلوا فيما بينهم مؤثراتها الفكرية و الجمالية .
لقد مثلت اللغة العربية و لا تزال لغة حضارة خالدة أولت الجانبين المادي و الروحي معا اهتمامها ، و حققت الإعتدال و الوسطية ، وهي ليست تلك اللغة اللاهوتية التي تحاط بهالة من التقديس تحجبها عن تلبية حياة المجتمع ، و تتركها قصية عن القيام بدورها في الحياة ، وهي ليست أيضا تطرح الدين جانبا لتنساق مع تيار يعجل بها إلى التذويب و فقد الهوية ، و أنى لها المقدرة على إبعاد الدين ، و إقصاء القرآن الكريم ، و التنكر لفكر المسلمين وهي التي استمدت من كل هذه الأسباب القوة و المنعة و طول العهد و العالمية . وهي ليست كذلك تلك اللغة المرتبطة بفترة زمنية قصيرة هدفها إشباع حاجات مادية أو علمية مؤقتة ، بل لقد عبرت اللغة العربية قديما و حديثا بحق و بصدق عن المفاهيم و المشاعر و المعاني التي توصل إليها المسلمون في مختلف ميادين الحياة و دروبها ، تقوى و تينع بقوة المسلمين و عزتهم و تضعف بضعف المسلمين و تخلفهم. فلا مجال لأن تتهم اللغة الفصحى بالعجز أو القصور بل الأصح أن نتهم نحن بالتخلي عن دورنا الحضاري في قيادة الشعوب و بلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا. ولنكن متأكدين أن اللغة العربية لن تضن علينا حينئذ بمفرداتها و تراكيبها و بلاغتها التي تؤدي بدقة عجيبة ما بلغناه من رقي حضاري و نماء ذوقي و اتساع معرفي و تمدن . فهي قد حوت واتسعت معاني القرآن المعجزة ، و نقلت لنا حضارة المسلمين في الطب و الهندسة و الجغرافيا و الحساب و التاريخ و التفسير و الشعر و الأدب و غيرها من العلوم و المعارف ، فكيف نقبل اتهامها اليوم بالعجز عن حمل المعارف العصرية و التعبير عنها و لا نتهم أنفسنا بالعجز و الكسل و التفريط فيمن جعلها الله لغة أهل الجنة في الجنة ؟! اللهم إلا أن تكون هذه اللغة الجميلة الجليلة قد استحيت من حمل تخلفنا و عجزنا و ركوننا إلى الذلة و المسكنة ، و قبولنا لأعداء الأمس و اليوم أن يكونوا علينا سادة و نجعل لهم علينا سلطانا مبينا بعدما كنا لهم قدوة و أسيادا ، و خير أمة أخرجت للناس .
الخاتمة
اقتراحات للنهوض باللغة العربية
إن استقراءنا التاريخ اللغوي يدعونا لأن نزعم بأن اللغة – أية لغة – لا يمكن أن تتطور و تزداد مفرداتها و تينع تراكيبها و يترسخ جمالها و تنتشر بين الناس إلا إذا تراكمت المعارف الجديدة و المعاني الجليلة ، و كثرت الإكتشافات و الإختراعات ، و أبدع الناس في كل المجالات الحياتية و المعرفية و التكنولوجية ، حينئذ تأتي اللغة لتعبر عن هذا التطور و الرقي و الإزدهار عن طواعية ، و تسلم قيادها للمبدعين ، فالإنسان إذا ما أبدع أو ابتكر معنى جديدا أو اكتشف شيئا لم يسبقه إليه أحد فإن لغته التي يستعملها لا يمكن أن تضن عليه باللفظ و التركيب الجميل الذي يعبر له و بصدق عما أراد تبليغه للناس ، و عندئذ يجد الآخرون أنفسهم مجبرين على تبني اللفظ الذي عبر به ذلك الإنسان المبدع عن إحدى بنات أفكاره ، إما حرفيا و إما مترجما بصورة لا يمكن أن تكون مطابقة تطابقا كليا مع اللفظ الذي وقعت ترجمته ، ولنأخذ مثلا الشاعر الفيلسوف "محمد إقبال " ، فهو علم فذ من شعراء الإسلام ، خسر الناطقون بغير الأوردية أو الفارسية شعره لأنه لم يكتب بلغة الإسلام ، اللغة العربية ، اللغة التي يمكن للمسلمين جميعا أن يجتمعوا عليها . و إذا ما علمنا أن الشعر في أحدث تعريف له هو : ( الجزء الذي نفقده عند الترجمة ) عرفنا أن إقبال لم يكتب للمسلمين جميعا ، بل لجزء من المسلمين فحسب ، و لو كتب محمد إقبال باللغة الإسلامية ، لغة المسلمين جميعا ، لغة القرآن الكريم ، لكان هو الشعر الإسلامي . و هكذا ، فكلما ازداد المبدعون الذين ينتمون إلى أمة كلما تطورت لغة تلك الأمة واتسع قاموسها اللغوي و كثرت المعاني الجميلة بها ،و أقبل عليها الناس واستعملوها في حلهم و ترحالهم .. في أحاديثهم و خطبهم و كتاباتهم و مختلف إبداعاتهم. لذلك يبقى الشرط الأساسي لتطور لغتنا العربية ، و تحقيق الإنتشار اللازم الذي نطمح إليه : أن تستعمل من قبل المبدعين العرب و المسلمين في شتى صنوف المعرفة بحسب تخصصاتهم المختلفة ، فلا يكتب الشاعر المسلم إلا بلغة القرآن مهما كانت الأرض التي يقيم بها . و كذلك يقتضي واجب الأديب المسلم و الفيزيائي المسلم و الطبيب المسلم و رائد الفضاء المسلم و كل صاحب اختصاص أن يكتب بلغة الإسلام الوحيدة كي تكون إبداعاته و اكتشافاته واختراعاته... تنتمي كلها إلى الحضارة الإسلامية التي يجب أن تسود العالم مرة أخرى بعدما أفلست الحضارة الغربية و بان عوارها في كل مكان .إن الإستعمال الصحيح للغة الفصحى من قبل أهل الإختصاص هو الذي يحييها ، و يوقظ ما أهمل من ألفاظها ، و يقوم من تراكيبها ، وهي وسيلتنا جميعا للإفادة بما في القرآن و التراث الإسلامي من كنوز ، كما أنها أداة تفكيرنا للتقدم في ظل عقيدتنا التي تحثنا على التسامح و النضال من أجل التقدم و الرقي و البحث العلمي و التطور الإجتماعي .. وهي لساننا و لغة قرآننا و أمانة لأبنائنا وجب علينا أن نهبها ألبابنا و نرعاها حتى تنمو و تينع و تتفتح و تنتشر. يقول أحد الشعراء :
لا تلمني في هواها أنا لا أهوى سواها
و في انتظار أن يتحقق هذا الحلم لا بد أن نعجل بخطوات عملية – شعوب و حكومات – تقرب لنا ساعة الإنفراج و التحرر الفكري لإزالة آثار الغزو الحضاري للغرب الإستعماري الذي يسعى دائما لمسخ شخصيتنا و أصالتنا الإسلامية :
1 – ضرورة أن تكون الأحاديث في الإذاعة و التلفزة و مختلف وسائل إعلامنا الحديثة باللغة العربية السليمة ، و كذلك الأغنيات الشعبية، و التمثيليات ، و المسرح ... فكل هذه الوسائل ذات تأثير لا يجهل أحد قيمته و أن تترجم الأشرطة أو المسلسلات الأجنبية إلى العربية السهلة مباشرة أو عبر الدبلجة و نفس الشيء بالنسبة للإشهار .
2 – يتعين فتح الأقسام الليلية لتعليم العربية للكبار و الصغار ، نساء و رجالا ، و الإستعانة بجهازي الإذاعة و التلفزة يبث المختصون من خلالهما البرامج التي تعلم أفراد الأسرة كلها كيف يكتبون و ينطقون لغتهم الأصلية .
3 – الإكثار من الكتاتيب العصرية (إستعمال الحواسيب و التقنيات السمعية البصرية) التي تحفظ القرآن الكريم للناشئة و ترك الفرصة للمتطوعين و الخواص من أصحاب الشهادات العليا ليقوموا بذلك .
4 – إصدار قرارات لتعريب كل اللافتات التي تدل على مكان أو محل أو مؤسسة أو مصلحة أو شركة عمومية أو خاصة أو شارع ... و لكي يتم تنفيذ ذلك بيسر و نجاعة لا بد من تجنيد نخبة ممتازة من الأساتذة و المعلمين و الخطاطين و المناضلين لخدمة هذه القضية ، و يتم التنفيذ بعملية محو الحرف اللاتيني أينما وجد ، واستبداله بلغة عربية سليمة .
5 – إصدار قرارات تقضي بجعل اللغة العربية وحيدة الإستعمال في ميدان الإدارات العمومية و الجمعيات ، و المقاولات و المؤسسات و الصحافة و التعليم ما عدا في أقسام تعلم اللغات الأجنبية .
كل هذه الإقتراحات سهلة التنفيذ إذا صدقنا العزم في الحفاظ على هوية الأمة و لسانها الناطق و قلبها النابض و عقلها الواعي . فهل من مجيب ؟
ملحق
لغتنا الفصحى... واقع و آفاق !
في وطننا العربي هناك من يتمعش بهويتنا الحضارية ، يغامر بلغتنا العربية ، يزعم بأن اللهجة الدارجة المحلية أفضل و أنجع من لغة القرآن ، اللغة التي كتب بها الجاحظ و المعري وابن سينا وابن خلدون ... و غيرهم من جهابذة الحضارة الإسلامية و لسان حاله يقول بفجاجة: " من أراد التقدم و الرقي و اللحاق بركب الحضارة الغربية، فلا يتكلم العربية الفصحى "!؟ ، وأما حجته في ذلك ، فهي أن الإستعمال هو السيد الذي يفرض نفسه، واستعمال اللهجة الدارجة لكل بلد هو إعتراف بحق الجماهير في العلم و التأثير !!؟ و هنا يتبادر إلى الذهن، أي علم سنكتبه بلهجات تفتقر إلى المصطلحات العلمية و الأدبية و حتى الإنسانية البسيطة التي تشتمل عليها اللغة العربية الفصحى، بالإضافة إلى اختلافها من بلد إلى آخر ، كما تختلف في البلد الواحد باختلاف مناطقه و أجيال أبنائه !! لقد استنبطت الشعوب هذه اللهجات المحلية لتيسير التعامل اليومي بينها و قضاء الحاجات اليومية البسيطة، فكيف نسمح باتخاذها للتعبير عن حضارتنا و تمددننا و إبداعاتنا و ابتكارات أبنائنا ؟
و إني أتحدى كل من تحدثه نفسه باتخاذ اللهجات الدارجة بديلا عن اللغة الفصحى أن يكتب مقالا بلهجة دارجة عن نظرية ابن خلدون مثلا في العمران البشري أو ابن سينا و الرازي في الطب أو غيرها من النظريات العلمية أو الأدبية قديمة كانت أو حديثة .
أيها السادة يا من تحملون على عاتقكم مسؤولية الإعلام ، ارفقوا بنا و بلغتنا / لغتكم ، و حاولوا أن ترتقوا بمواطنيكم باختيار لغة فصيحة بسيطة و سهلة دون تقعر، عوضا عن لهجة دارجة ركيكة ركاكة من يتبناها ، تزيد الذوق تدنيا بحكم اشتمالها على ألفاظ سوقية مستهجنة نزعم أنكم أربأ من الإنحطاط إلى مستواها .؟
أيها السادة اقرؤوا التاريخ و راقبوا الأمم المتقدمة كيف تحافظ على لغاتها المعيارية (الفصحى) لأن اللغة وحدها تعكس ما بلغته الشعوب من رقي و تقدم في كافة مجالات الحياة. إن توقف اللغة العربية الفصحى عن الإشعاع الحضاري الذي بلغته من قبل مرده تخلفنا الحضاري و تبعيتنا المهينة للغرب و ليس عجز اللغة العربية أو تخلفها و عجزها . فهي مرآتنا في الحضارة و التمدن !
أيها السادة ثقوا كل الثقة أنكم متى اعتززتم بأنفسكم و حضارتكم و لغتكم رمز هويتكم ، و سرتم على درب البحث و التنقيب و الكد في كافة ميادين الحياة لتقوية أمتكم و حماية هويتها من الأعداء فلن تضن عليكم هذه اللغة الجميلة بكل غال و نفيس لفظا و تركيبا و معنى ، مبنى و معنى ، فعلينا أن نهبها ألبابنا و نرعاها بمهجنا حتى تنمو و تينع و تتفتح و تنتشر .
رفقا بلغتنا أيها المهاجرون !!
من الظواهر التي أصبحت تلفت الإنتباه إليها و تعبر عن بعد من أبعاد أزمتنا الحضارية في العصر الحديث ، هو تخلي الجيل الجديد من جاليتنا بالخارج عن لهجتنا الدارجة المستمدة أساسا من لغتنا العربية الفصحى!؟ فأصبحنا نرى و نسمع في شوارعنا أطفالا و شبابا تونسيين يتحاورون باللغة الفرنسية ، بل و فيهم من يحرص كل الحرص على أن يسمعك صوته عاليا وهو يتخاطب مع أبيه أو أمه أو أخيه ... بلغة فرنسية غير سليمة في الغالب الأعم، مستهترين بكل قيمنا و سماتنا الحضارية التي تعتبر اللغة العربية أسا من أسسها. بل إن ما يبعث على الدهشة حقا أن ترى أما تكلم طفلها- فلذة كبدها - بلغة فرنسية ساعية جهدها لتعليمه كيفية التخاطب بلغة من استعمرنا بالأمس القريب و خرب حرثنا و نسلنا و لا يزال يسعى جاهدا لقبر هويتنا الحضارية. و إذا سألت أحدهم : لم هذا الحرص على إنكار جذورك؟ صمت و لم ينبس ببنت شفة ، فتفهم أنه يقلد تقليدا أعمى لا يعرف هو نفسه مآله و مصيره . بل لعل هذه الظاهرة المرضية تكشف عن شعور بالنقص دفين لدى هؤلاء " المتفرنسين "و اعتقادهم الساذج أن في استعمالهم للغة من عاشوا بينهم لأسباب مهنية بحتة سترفع من قيمتهم بين أهلهم و ذويهم و تجعلهم في نفس المقام الذي بلغه المجتمع الفرنسي مثلا .؟!
و هذا لعمري خطأ فادح لأن فرنسا لم تصل إلى ما وصلت من تمدن حضاري و تقدم إلا باحترامها لقيمها و أصالتها الحضارية و على رأس كل ذلك يأتي احترام المواطن الفرنسي للغته الأم ، و إني أتحدى أي تونسي – يعيش على الأرض الفرنسية – أن يرى فرنسيين يتخاطبان باللغة العربية مثلا أو باللغة الألمانية ... بل إن السلطات الفرنسية اتخذت قرارا يقضي بأن يغرم الفرنسي الذي يستعمل مصطلحا غير فرنسي له ما يقابله في اللغة الفرنسية، مما ينم عن وعي هؤلاء بقيمة اللغة في الحفاظ على هويتهم الحضارية ، و من فقد هويته أنى له أن يبني حضارة أو يصنع تمدنا ؟؟!
فرفقا بنا و بلغتنا أيها المهاجرون و احترمونا كما نحترمكم و نجلكم !!
المحتــــــــــــــــــــــــوى
المقدمة : قبل أن تصبح اللغة العربية غريبة بيننا 3
الباب الأول: الظروف التاريخية لتطور اللغة العربية وانتشارها 7
الباب الثاني : خصائص اللغة العربية 14
الباب الثالث : المخاطر المحدقة باللغة العربية في العصر الحديث 21
الخاتمة : اقتراحات للنهوض باللغة العربية 32
ملحق
لغتنا الفصحى ... واقع و آفاق 36
رفقا بلغتنا أيها المهاجرون 38
الأحزاب الدينية والمشهد السياسي
في تونس ؟
الكاتب
محمد سالم بن عمر
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
http:islam3mille.blogspot.com
محمد سالم بن عمر، كاتب و ناقد تونسي ، عضو اتحاد الكتاب التونسيين .
أصيل سيدي بوعلي ولاية سوسة، متزوج و له شيماء و نصير الله.و أمة الله
متحصل على شهادة الأستاذية في التنشيط الثقافي منذ 1992، وقد عمل مديرا لدور الثقافة بتونس.
له مساهمات عديدة في النقد و الإبداع و المقال الفكري الحضاري...
صدر له كتاب:" اللسان العربي و تحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي عام 1995"
كما صدر له كتاب : " نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه عام 2009 "
و قد نشرت له جل الصحف و المجلات الوطنية مقالات فكرية و نقدية و قصص قصيرة وقصائد .. كما نشرت له بعض المجلات و الصحف العربية .. مقالات فكرية وحضارية..
له مخطوطات عديدة أهمها :
ذكريات زمن مضى (رواية) نحو إعادة تشكيل الفكر العربي الإسلامي في العصر الحديث ﴿مقالات فكرية / حضارية﴾ .
المحتوى
-1الأحزاب الدينية والمشهد السياسي في تونس ؟
-2الإعلام العربي و تكريس واقع التخلف
مفارقات عجيبة-3
-4حياة أنعام!؟
-5أمة الإسلام... أمة الشهادة على الناس ؟
-6بقايا الإستعمار في ديار الإسلام
-7أنظمة حكم فاسدة ؟
-8مصطلحات مضللة
-9ردا على الدكتور محمد عمارة :
إِنَهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارَ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوب !
حصوننا تتهاوى من الداخل !؟-10
وعــي زائــف !؟-11
دعوة الحق العالمية -12
-13خطاب إلى الهاربين من ديارهم ؟!
-14الأدب إبداع و ليس إتباع
-15النقد الأدبي ضرورة حضارية
16- كلنا خائنون
17 – مفارقات عجيبة
الأحزاب الدينية والمشهد السياسي في تونس ؟
يؤكد لنا التاريخ أن تونس الخضراء قد صارت منارة إسلامية علمية وجهادية في كيان الأمة الإسلامية منذ الفتح الإسلامي لأفريقية سنة 27 هـ/467 م وما جامع عقبة بالقيروان و جامع الزيتونة بالعاصمة وفتح إسبانيا على يد طارق بن زياد إلا براهين على عراقة و تجذر الإسلام في ربوع بلادنا التونسية ... أما ما يسمّى "بالاتجاه الإسلامي" و النهضة لاحقا فهو" نبت دخيل" على بلادنا ولا تربطه بمبادئ الإسلام كبير صلة إلا صلة الزي بصاحبه ، لذلك كان هذا "الاتجاه" يغير من اتجاهاته وتوجهاته في كل آن وحين منذ أكثر من عقدين !؟.. بينما مبادئ الإسلام وشريعته الغراء ثابتة مكينة ثبات مسميات الأشياء وحقائقها في الكون والإنسان والحياة... لأنها تمثل فطرة الله التي فطر الناس عليها . كما أنه قد أمضى على ما يسمى بالميثاق الوطني ، معتبرا مجلة الأحوال الشخصية المبنية على أسس لائكية و علمانية "إجتهادا إسلاميا" !!؟
تنقسم "النخبة التونسية" حول "منح حزب ديني رخصة العمل السياسي" !؟ في الحقيقة هذا حق لمن لا يملكه ولا يمكن له أن يملكه، لأن صاحب الأمر والنهي الحقيقي في هذا الوجود ، الله عز وجل ، قد أمر وأمره نافذ لا محالة طوعا أو كرها بتكوين : " أمة " تبلغ شريعته للناس كافة و تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر المفصل في القرآن الكريم ، ليحيى من حيي عن بينة و يهلك من هلك عن بينة ، وإنك يا قارئي لن تجد وسيلة إعلام واحدة في تونس أو في العالم – حتى تلك التي تكن عداوة كبيرة للإسلام و أهله - لا تذكر بمبادئ الإسلام وشريعته و ثوابته الأزلية المركونة في نفوس البشر جميعا التي فطرهم الله عليها منذ بداية الخلق حتى و إن خالفت "أفعال" المذكرين بهذه الثوابت الأزلية من أئمة السوء ، أقوالهم ... وما إذاعة الزيتونة للقرآن الكريم عنا ببعيد (رغم تبني المشرفين عليها لنشر فكر الدراويش و تخدير الشعب بمقولات دينية لا تمت للإسلام الصحيح بأية صلة) .. ! فحجة الله قائمة علينا جميعا و ليس للناس على الله حجة بعد الرسل، و تنزيل القرآن الكريم = الكتاب الذي تحدى و لا يزال يتحدى الجن و الإنس و الملائكة أن يأتوا بحديث مثله فعجزوا .
أما القول بأن "الواقع التونسي أو العالمي لا يحتمل تطبيق الشريعة الإسلامية التي سنت قوانينها منذ 14 قرنا فهو قول مرفوض ومردود على أصحابه شكلا ومضمونا، و دليل جهل كبير بالشريعة الإسلامية و الثوابت الربانية : أما الشكل فالشريعة قد سنت و اكتملت كل معالمها منذ خلق آدم عليه السلام وتعليمه "الأسماء كلها" وما بعثة محمد صلى الله عليه وسلم والمرسلين من قبله عليهم السلام جميعا إلا تذكيرا بها لا غير : لذلك كثيرا ما ذكَر القرآن بني آدم بأن الله قد : " شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه..." (سورة الشورى الآية 13). فالشريعة بهذا المعنى لم تسن منذ 14قرنا فقط بل سنت منذ آلاف السنين، ولا أعتقد أن أي مبصر يجهل هذه الحقائق المكتوبة بين دفتي كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه منذ 15 قرنا. لقد حد "بديع السماوات و الأرض" منذ خلقه الخلق حدودا معلومة و ضبط سننا أزلية ثابتة لجميع مخلوقاته .. تحيى بمقتضى السير على هداها كل الكائنات و تضمن بها لنفسها صيرورة سالكة و حياة طبيعية هانئة . إن خروج أين من هذه الكائنات عن حدود الله و نظامه البديع وسننه الدقيقة في الكون والحياة، الذي أبدعه الله بقدرته الفائقة و حكمته الأزلية .. : يعني حتما فقدان هذه الكائنات الضعيفة في أصل خلقتها لتوازنها الحيوي واندثارها أو موتها و هلاكها.. فخروج كوكب الشمس عن مداره الذي خلق له يعني حتمية احتراق الكون برمته.. كاحتراق القطار الذي يحيد عن سكته.. أو تحطم السيارة أو الشاحنة الجانفة عن الطريق المعبدة لسيرها ..!؟ كذا تضطرب حياة بني آدم و تنتابهم شتى الأمراض والمهالك و العلل والوساوس و الأمراض المستعصية على قدراتهم المحدودة ( السيدا، جنون البقر ، أنفلونزا الطيور و الخنازير و غيرها ...) إن هم حادوا قليلا أو كثيرا عن ﴿الصراط المستقيم ﴾المعبد لهم للسير فيه منذ الأزل، و قد فصلت لهم معالمه تفصيلا بينا في كل الكتب الإلاهية التي لم تطلها يد التحريف أو التأويل أو التشويه.. و قد عمل كل الأنبياء عليهم السلام على تذكير أقوامهم – و ليس تعليم - بمختلف معالم هذا ﴿الصراط المستقيم﴾ منذ نوح عليه السلام و انتهاء بمحمد صلى الله عليه و سلم .
إن الزيغ عن قوانين الله الأزلية و سننه الفطرية التي فطر الناس عليها يعني حتمية نيلهم الخزي و الشقاء في الدنيا و خلودهم في عذاب جهنم يوم يقوم الناس لرب العالمين .
فالله عز وجل قد أبان للإنسان المنهج الحق والشريعة الحق التي لا يصلح غيرها لتنظيم حياة الإنسان في أدق تفاصيلها و جزئياتها (النكاح ، الممارسة السليمة للجنس ، الرضاعة ، تقسيم الإرث بنسب مدققة ...) منذ خلق آدم عليه السلام ، لذلك نجده عز وجل يخاطب عبده آدم عليه السلام قائلا: ﴿إهبطوا منها جميعا – الجنة بسبب المعصية التي ارتكبها آدم و إبليس- فمن تبع هداي(الطريق المستقيم الذي عبده الله لبني آدم) فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. و الذين كفروا وكذبوا بآياتنا (حادوا قليلا أو كثيرا عن شرع الله) أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾(سورة البقرة الآيتين 38 و39 ). كما نجد الله عز وجل يذكر المسلمين دائما بأن القرآن هو كتاب الله الخالد الذي جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل وكل الكتب الإلاهية السابقة له:﴿إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى﴾(سورة الأعلى الآيتين 18و19) وعندما يخاطب الله بني إسرائيل يقول لهم :﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون﴾ (سورة البقرة الآيتين 40 و41). كما أن عقيدة المؤمن مبنية أساسا على الإيمان بالله وجميع كتبه ورسله... يقول الله عز وجل : ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾ (سورة البقرة الآية 285 ). وعندما يأمر الله عز وجل المؤمنين بصيام شهر رمضان يذكرهم بأن فريضة الصيام قد فرضت على المؤمنين من أتباع الرسل السابقين أيضا : يقول الله تبارك وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾(سورة البقرة الآية 183). وكثيرا ما ذكر القرآن المؤمنين أنه يريد أن يهديهم ﴿سنن الذين من قبلهم = القوانين التي خضع لها الأنبياء و أتباعهم من قبل ﴾ من عباد الله الصالحين .. والحاصل أن شريعة الله مكتملة منذ خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وقرر أن يجعله خليفة في الأرض و ليس كما يزعم المبطلون من قومنا = "وثنيو العصر الحديث "، فأوامر الله ونواهيه ثابتة لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان أو المكان، وكانت المهمة الأساسية لرسل الله عليهم السلام تذكير أقوامهم بها ليسير على هديها من شاء، ويكفر بها من شاء، والمتبعون لها يسميهم الله : « المؤمنون والمهتدون وأولو الألباب وأولو العلم...» وغير المتبعين لتعاليم الله يسميهم الله بـ :« المشركين والكفار والمنافقين والعصاة والظالمين والذين لا يعقلون والجاهلين لافتقادهم إلى بديهيات العقل السليم .. كما يشبههم الله عز وجل بالأنعام﴿ بل هم أضل﴾... وبالتالي لم يترك الله إمكانية للإجتهاد البشري في الدين و التشريع على عكس ما يعتقد الإسلاميون ، ولو كان هذا المجتهد نبيا أو رسولا. فالتشريع و تحديد المعايير للسلوك البشري .. قد اختص الله به دون سائر البشر، وكل ما يحتاجه المؤمن في حياته الدنيا قد فصل الله فيه القول تفصيلا..! وقد أعلمنا الله عز وجل أنه :﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ و﴿ وكل شيء فصلناه تفصيلا﴾. وهذا الإخبار القرآني باكتمال شريعة الله وتفصيل كل دقائقها ينزع عن المجتهدين في الدين و الفقهاء الإسلاميين أي مشروعية، بل إن الله يعتبر أن أتباع هؤلاء المجتهدين في الدين قد : ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم﴾ كما فعل اليهود والنصارى من قبل، وبالتالي فان المجتهدين في الدين و المشرعين باسم الإجتهاد وأتباعهم هم كفار ومشركون في المفهوم القرآني / الرباني !؟ فالمؤمن بالله حق الإيمان المقتنع بربوبية الله عز وجل لا يحتاج لانتهاج السلوك القويم إلاّ لكتاب الله الذي أنزل( الكتاب و الميزان﴾ آيات بينات/ بصائر إلاهية استطاع محمد صلى الله عليه وسلم - قدوة جميع المؤمنين- وأنصاره من الأميين المؤمنين فهمها واستيعابها بحسب معطيات عصرهم الحضارية لأنها آيات بينات، وإقامة دولة إسلامية قوية على أساسها .. أوصلت تعاليم الله و شريعته و معاييره و قرآنه إلى أقاصي الأرض.! و منها بلادنا بلاد عقبة بن نافع و طارق بن زياد وليست بلاد المتاجرين بالدين و السياسة المقيمين في نزل خمسة نجوم في بلاد العدو .
كما أن حدود الله وشريعته مطبقة تطبيقا غاية في الدقة لا يدركها الجاهلون بنواميس الكون ،عميان البصيرة ، مطلقا ، في تونس وفي العالم كله منذ خلق الإنسان: "عصيان آدم لله في الجنة أنزله إلى دنيا التعب والكدح والشقاء، عصيان الله في الدنيا ينتج عنه حتما : المعيشة الضنك والتعب النفسي والبدني كلّ حسب جريمته وظلمه وجهله بقوانين الله الأزلية في الكون و الحياة و هذا ما تعيشه كل السلطات المعرضة عن قوانين الله في العالم اليوم معارضة و أحزابا حاكمة لأنها دول و شعوب لا تحتكم إلى ما أنزل الله في كتابه العزيز من قوانين لا يحيد عنها إلا جاهل أو مريد للإنتحار المادي و المعنوي ... = قاتل نفس بغير حق "يُقْتل" ولو بعد حين : "فرعون وجنده لما همّوا بقتل موسى ومن معه ظلما و عدوانا ، أغرقوا جميعا ... الشيخ ياسين لما شجع على قتل الأبرياء قُُّتِل... ألزرقاوي و غيره ممن يقتلون الأبرياء من خلق الله، يقتلون أو يعيشون معذبين إلى أن تأخذهم المنية و يردون إلى أشد العذاب الأخروي و هذا قانون إلهي أزلي مطبق في الدنيا و سيطبق يوم يقوم الناس لرب العالمين على جميع الخلق.../ يوسف عليه السلام لما "همَّ" بامرأة العزيز سجن بضع سنين .. "اللصوص قطعت أيديهم في جميع "دول التوحيد" و في الدولة الإسلامية، أو شلت أبدانهم في كل زمان ومكان أو ماتوا بأمراض مزمنة في قلوبهم وأدمغتهم... وانتابتهم شتى الأمراض المزمنة و المهلكة : "شارون"... "ياسر عرفات"... إلخ . لأن القانون الإلاهي يفرض على جميع الخلق : " و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " و" كل نفس بما كسبت رهينة" صدق الله العظيم أي " كل شاة معلقة من كراعيها كما جاء في لغتنا العامية .
لقد عبرت المعارضة دائما عن تخوفها "من فكرة وجود حزب ديني سياسي" في تونس ودعت إلى "ضرورة التمييز بين حزب ديني سياسي وحزب سياسي ديني ورفض الخلط بين الوظيفة الدينية والوظيفة السياسية"!!؟ و هذا القول يحمل بين طياته منتهى البلاهة و الجهل و التخبط في الظلامية و العمى الفكري و الحضاري ، لأن الإسلام ما جاء و القرآن ما تنزل على محمد صلى الله عليه و سلم إلا ليحيا به الناس في أدق تفاصيل حياتهم ... و ما الدولة التي بناها محمد صلى الله عليه و سلم بالمدينة المنورة بعد ثلاثة عشرة سنة من الدعوة للتوحيد ،إلا برهانا ساطعا على أن الإسلام ما جاء إلا ليحيى به الناس ، دون الإرتهان لتجارب الآباء أو الأقدمون بدعوى" المحافظة على التراث " و التخلف %
الإعلام العربي
وتكريس واقع التخلف ؟!
لشدّ ما تقلقني تلك التحاليل التي ترجع كل مآسينا الحضارية كالقهر والتسلط وهيمنة الخطاب الواحد على وسائل إعلامنا إلى عنصر واحد أو فرد واحد ألا وهو القائد أو الزعيم/ الصنم المعبود.؟
وسبب قلقي أن مثل هذه التحاليل من شأنها أن تغطي على مواطن الخلل في مجتمعنا ولا تعالجها بكيفية ناجعة، لآن شرط العلاج الصحيح هو التشخيص السليم والشامل لأسباب الخلل، إذ لا يعقل مثلا الزعم بأن التخلف الذي يهيمن على وسائل الإتصال عندنا مرده الولاء لقائد سياسي أو لنظام حُكم معين، فالقائد السياسي لا يزيد عن كونه يمثل رمزا لقوى اقتصادية واجتماعية وسياسية تختفي وراءه هذه القوى حتى لا يطالها النقد والتجريح و يفتضح أمرها. لذلك فهي في سعي دائب لتكريس واقع التخلف و النهب و الظلم باحتكارها لوسائل الإتصال الجماهيرية، حتى لا توظف هذه الوسائل في توعية أفراد الأمة بحقوقهم في الإنتفاع بثروات الوطن، ومشاركة هذه الشرذمة في الثروات والخيرات التي اغتصبوها ظلما وعدوانا من عرق جبين الأمة و حقوقها المسلوبة . وخير وسيلة تتبعها هذه الشرذمة المستبدة بكل حظوظ الوطن ، تتمثل في صناعة "صنم بشري"Ÿ تضعه في الواجهة لتحقيق مآربها و الحفاظ على مصالحها، وتحيك حوله الأساطير وتنشط في تزييف الحقائق لإقناع الناس بضرورة الصبر و الخضوع لصروف الدهر لأن القائد الأوحد/ الصنم المعبود، بصدد حل جميع مشكلاتهم، وهكذا يخلقون الأمل الزائف تلو الأمل ليبقى الناس يتضورون جوعا وفقرا وبطالة وقهرا ومرضا .. صابرين، واهمين ، وهم في شوق ليوم قادم لن يأتي أبدا.
إن هذه القوى المحتكرة لثروات الأمة و المشرفة على كل حظوظها الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية .. لا يمكنها أن تعيش و تستكرش و تتمدد جذورها ، إلا في ظل واقع مريض و مستنقع انتشرت فيه كل أنواع الجراثيم الفتاكة،و سترت عورته الميوعة و الإنحراف ولفه الإستحمار الفكري و الديني لفا ... مما يوفر لها أسباب الإستمرار و التمدد في احتكار الثروة والمسؤولية . والشرط الأساسي لاستمرار هذا المرض العضال و الإستبداد المقيت الجاثم على قلب الوطن، يتمثل في احتكار وسائل الإتصال الجماهيرية لأن انفلات هذه الوسائل من أيدي هؤلاء المحتكرين/ المجرمين يعني بروز رجال صادقين ينصحون الأمة ويكشفون لها الزيف والنفاق ويحاربون الظلم و الإحتكار وهذا من شأنه أن يفقد هؤلاء الأوغاد هيبتهم المصطنعة وثروتهم التي بنوها على جماجم الفقراء والمضطهدين و المستضعفين من الرجال و الولدان و النساء.%
مفارقات عجيبة!! ؟
واعجبي من أمة أنزل عليها القرآن لإخراج الناس من الظلمات إلى النور وهي لا تزال تعيش في ليل حالك الظلمة منذ قرون و لا تدري!
واعجبي من حركات و حكومات " إسلامية " تنادي بالديمقراطية الغربية و تتبنى نظم وضعية لائكية ظالمة و لا تنادي بتطبيق قوانين الله المفصلة في الذكر الحكيم !! ؟
إن المرء ليعجب و إن النفس لتحنق من تلك الدول و الحكومات و الحركات الإسلامية التي تزعم أنها تنتهج منهجا ربانيا في كل تحركاتها و تعاملها مع الأحداث المختلفة ، و واقعها يشي بمخالفات جسيمة و تجاوزات رهيبة لكل مبادئ الإسلام و ثوابته و بصائره التي لا تخطئها العين أبدا :
إنها تنادي بالديمقراطية علنا و تعتمدها منهجا لحل المعضلات و تفخر بذلك و تزايد و تقدم التضحيات الجسام و" الشهداء الأبرار" لتعلن في النهاية أنها لا تزال تتمسك بمبادئ الديمقراطية و جبروتها و لن تتخلى عنها مهما أصابها من عنت لاعتقادها الجازم بأنها المخرج الوحيد و الطريق الأمثل لتحقيق طموحات المسلمين و تطبيق شريعة الإسلام !! ؟
و السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو : كيف يجمع هؤلاء الخونة لله و لرسوله ، بين متناقضات ، بين منهج رباني فطري قد فطر الناس عليه منذ خلقهم الأول ، منهج رباني يدرك إدراكا تاما و مطلقا حقيقة الإنسان و الكون و الحياة ، فأنزل من الثوابت ما يلاءم حياة الإنسان و يفي له بكل أشواقه الروحية و المادية و يلبي جميع حاجياته الظاهرة و الباطنة ، و بين منهج إنساني نسبي لا يزال يتخبط خبطا عشوائيا في ظلمات بعضها فوق بعض و يتسبب في مآسي إنسانية لا تحصى و لا تعد ، و قد عجز عجزا تاما و مزمنا حتى عن تلبية أشواق الإنسان الغربي الذي قد انحرف عن فطرة الله منذ أمد بعيد ، فما بالك بأشواق الإنسان المسلم الذي تفتحت عيناه على نور الله و هدايته !! ؟ لقد عجزت الديمقراطيات المختلفة عن إيجاد سلم بين أبناء الوطن الواحد وهي لا تزال تتسبب يوميا في سفك الدماء بغير حق، و انتهاك الحقوق و سحق الإنسان أينما كان، و تشريد الأطفال و النساء و المتاجرة بأعراضهن في أسواق النخاسة... فكيف تصبح هذه الديمقراطية العمياء بديلا عن منهج رباني يرى أن قتل نفس واحدة بغير حق كقتل الناس جميعا !! ؟ منهج يرفض رفضا قاطعا أن يكون أي فرد فيه عاطلا و غير مسئول في بلده و حمل الأمانة التي كلفه ربه بحملها ، لأن العطالة في مفهوم الإسلام تعني الموت ، يقول الرسول الأكرم : (كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته ) ، بينما أقصى ما تطمح إليه الديمقراطية الغربية أن تخلق صنفين من الناس : سادة و عبيد، سادة يتحكمون في مصائر الناس و يتولون مختلف المسئوليات و عبيد يصوتون لفائدة هذا أو ذاك ، ليحالوا بعد ذلك على التقاعد و العطالة التاريخية !! ؟ و هذه العطالة ليست بسبب نقص في مداركهم العقلية أو بسبب مرض في أبدانهم ، و لكنها بسبب نقص المال في جيوبهم !! ؟
إني لأعجب كل العجب من مسلمين يسمعون آيات الله تتلى عليم آناء الليل و أطراف النهار تأمرهم بالخضوع لشرع الله و الحكم فيما بينهم بما أنزل الله في القرآن ، و تكفر بألفاظ واضحة كل من لا يحتكم لشرع الله ، ثم لا يجدون غضاضة في الإنتماء لأحزاب و حكومات علمانية لائكية لا تعترف أصلا بالشريعة الإسلامية ، ثم يمنون النفس برضا الله عنهم يوم يقوم الناس لرب العالمين !! ؟
حياة أنعام!؟
يمكن بسهولة أن نلاحظ أن جل ما صار ينجز في وطننا العربي يصب في اتجاه واحد، ألا وهو تهيئة الناس في وطني وتشكيلهم ماديا وفكريا و ذوقيا لخدمة الإنسان الغربي وضمان رفاهيته ومتعته، فلا الأرض بقيت أرضنا ولا الثروات عادت إلينا منافعها ، ولا الإنسان تحرر ليكون سيد نفسه دون وصاية، "فهم السادة ونحن العبيد و الخدم فوق أرضنا"، ورضاهم عنّا غاية ما نطمح إليه ونطلبه : شواطئنا ننظفها ونتعهدها ليرضى عنا السائح الغربي، خيراتنا ننتقيها ونقطفها لترسل إلى بلاد الغرب، وأماكن إقامته، بناتنا، نساؤنا نعريهن، نبيعهن في سوق النخاسة ، حتى صرن كاسيات عاريات، مشاغبات لمواكبة تقليعات السيدة الغربية، مشاريعنا ، قناطرنا ننجزها حتى نكون أهلا لمشاركة السيد الغربي فتات موائده و نيسر له طرق استغلال ثروات بلادنا، أينما وليت وجهك لمحت سعيا لإرضاء الغرب أو مشاركته أو (الدعوة الفارغة من المضمون) للحاق بركبه الحضاري والعلمي، فقدنا كل شيء ولم نملك أي شيء! ؟
ومنذ خروج المستعمر الغربي من ديارنا عملت بعض القوى الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية و الدينية التي خلفته على إذلال المواطن العربي وإخضاعه وتهيئته لتقبل النهب والإستغلال برضا تام لأن كل ما يصيبه " هو قضاء من السماء و ليس له إلا الصبر و الرضا"!؟ وقد استطاعت هذه القوى الدينية و السياسية و الإقتصادية المجرمة... جمع ثروات طائلة بفضل ما نهبته وسرقته من عرق جبين العمال العرب ظلما واعتسافا، ونتيجة لما يلقونه من حماية من حماة الإستبداد : ظلموا الناس وأذلوهم واغتصبوا حقوقهم وأكلوا أرزاقهم حتى تنكسر شوكة هؤلاء العمال فيكثر أنينهم وتستفحل أسقامهم، فيعجزون عن مقاومة الإستغلال والظلم المسلط عليهم .
لقد توهمنا أن خروج المستعمر الغربي من ديارنا سيمكننا من التحرر وتحقيق سيادتنا على أرضنا، فإذا الواقع يلطمنا بشدة وعنف وينزع عنا هذا الوهم!؟ إي مهزلة صرنا نعيشها في بلادنا العربية؟! الناس صاروا يكرعون من المذلة والهوان أصنافا، لا أحد راض عن حاله، الكل يشكو والكل يتألم في صمت، والكل صار يعيش ليأكل ويلبس (يأكل في القوت و يستنى في الموت)، والسعيد السعيد من صار له مرتب شهري يفي له بحاجياته اليومية، وبدون أي حرج أقدم بعض ضعاف النفوس على بيع أعز ما يملكون من عزة وكرامة ليحصلوا على كفايتهم من المأكل والملبس و تبوء المناصب الخدماتية، ولم يعد يهمهم ما ينجزونه في حياتهم في سبيل تقدم وطنهم وازدهاره و نموه، لأنهم صاروا يحسون أن الوطن لم يعد وطنهم ولا الأرض أرضهم، ولا من يحكمونهم من بني جلدتهم بل هم ألدّ أعدائهم وسبب تعاستهم.
إن أول شروط الوعي المطلوب للتحرر من كل هذا :أن يضع الإنسان العربي في حسبانه أن هذه الأرض التي يرويها بعرق جبينه هي ملك له ولكافة أبناء وطنه ولا يحق لأي كان أن يحتكر ثروات هذا الوطن العزيز – تحت أية مسميات - ، و لا يحق لأي كان أن يحتكر حب هذا الوطن الغالي ، فكلنا نشترك في حب وطننا و نعشق كل ذرة فيه ، و لكل مواطن الحق في أن يحصل على نصيب وافر من ثروات بلاده الكثيرة و المتنوعة، ولا أقل من أن يحصل على موازنة بين مجهوده في العمل وبين ما يقبضه من مقابل مادي بشرط أن يوفر له ولأسرته حياة كريمة حتى ينعم بخيرات هذا الوطن المعطاء، ويذود عنه ويحمي استقلاله إذا ما تكالب عليه الأعداء، أما أن يعيش عبدا و خادما في ركب الفراعنة طوال حياته، يتعب ويشقى و يعمل في شركات متعددة الجنسيات ما قدمت من وراء البحار إلا لنهب ثرواتنا و استغلال سواعد عمالنا وفروج بناتنا ... ثم يعاني من ويلات الحرمان والخصاصة فهذا ما لا يرضاه أحد ولا حتى العبيد، فكيف بسيد على أرضه، وأرض أجداده ومستقبل أبنائه!؟
أمة الإسلام... أمة الشهادة على الناس ؟
خلق بديع السماوات و الأرض الكون .. و ملأه بمخلوقات شتى .. و عوالم مختلفة.. متنوعة في أجناسها و متكاملة في أدوارها لحفظ نظام الكون في صيرورته .. و استخلف بني آدم لعمارة هذا الكون و صناعة الحضارة و المدنية دون سائر المخلوقات.. و أنزل الأمطار و جعل الليل و النهار خلفة لمن أراد أن يتذكر من بني آدم أو أراد شكورا .. و لقد حد بديع السماوات و الأرض حدودا وضبط سننا أزلية ثابتة لجميع مخلوقاته .. لا تحيد عنها .. – طوعا و كرها - تحيى بمقتضى السير على هداها كل الكائنات و تضمن بها لنفسها صيرورة سالكة و طبيعية و حياة هانئة .. طيبة..
إن خروج أين من هذه الكائنات عن حدود الله و نظامه و سننه الأزلية الدقيقة في الكون الذي أبدعه بقدرته الفائقة و حكمته الأزلية يعني حتما فقدان هذه الكائنات الضعيفة في أصل خلقتها .. لتوازنها الحيوي و اندثارها .. أو موتها و هلاكها : فخروج كوكب الشمس عن مداره الذي خلق له و اقتراب الشمس و لو قليلا من الأرض يعني حتمية احتراق الكون برمته كاحتراق القطار الذي يحيد عن سكته، أو تحطم السيارة الجانفة عن الطريق المعبدة لسيرها.. كذا تضطرب حياة الإنسان و تنتابه شتى الأمراض و المهالك و تتقاذفه الوساوس إن حاد قليلا أو كثيرا عن ( الصراط المستقيم) المعبدة له منذ الأزل ، و قد فصلت له معالمها تفصيلا بينا في كل الكتب السماوية التي أوحى الله بها إلى كل أنبيائه عليهم السلام ، حتى يبلغوها إلى أقوامهم بألسنتهم عبر مختلف الأزمنة و الأمكنة التي استعمروها .. و عمروها .
إن قوانين الله و سننه في الكون و الإنسان و الحياة – إذن- هي قوانين أزلية /أبدية ثابتة خلقت مع خلق كل هذه العوالم .. و كانت مهمة كل الأنبياء عليهم السلام ، منذ أقدم العصور تقضي بأن ‹‹ يذكروا أقوامهم بحتمية الإصطباغ و السير طبقا لهذه القوانين الأزلية إذا ما أرادوا الأمن و السلام و العيش الطيب الرغيد في الدنيا و الفوز برضوان الله و جنته في الآخرة ... أما الزيغ عن هذه القوانين و السنن الفطرية التي فطر الله الناس عليها منذ خلقهم : فيعني حتمية نيلهم الخزي و الشقاء في الدنيا و خلودهم في عذاب جهنم يوم يقوم الناس لرب العالمين. ›› .
إن قراءة متبصرة لآيات القرآن الكريم لا تلفها الأهواء و التأويلات المغرضة ... تكشف لنا عن كل القوانين و السنن التي تحكم جميع العوالم التي خلقها الله و الخاضعة طوعا أو كرها لمشيئته عز و جل لا تحيد عنها منذ الأزل .. كما تحتوي هذه الآيات - وخاصة الآيات المدنية - على كل سنن أمة الإسلام الأبدية التي قد سار على هديها الصالحون من عباد الله و الأنبياء منذ أقدم العصور ، و ملخصها : ( أعبدوا الله مالكم من الاه غيره)، والتي تكررت على ألسنة كل الأنبياء عليهم السلام . فتوحيد الله و خضوع الإنسان لشرع الله و قيمه الثابتة التي فطر الناس عليها في الأسرة و المجتمع و كل علاقات الإنسان بنفسه و بربه و بأخيه الإنسان ... كانت و لا تزال جوهر كل الرسالات السماوية .... و لذلك وهبت الأمة المستمسكة بهذه القوانين الأزلية الثابتة المفصلة في كتاب الله:"الشهادة على الناس أجمعين ".
إن تشبث أمة الإسلام بقوانين الله و سننه الأزلية الثابتة يخضع في التطبيق للنسبية التي يخضع لها سائر عمل بني آدم القابع في إطار زماني و مكاني محدودين في حياته الدنيوية .. إن خضوع المؤمن في أي عمل يكتسبه هو عمل نسبي لا شك في ذلك لأنه يتم في مكان و زمان محدودين حتما .. فما ارتآه الرسول الكريم و صحابته في الخضوع لشرع الله و تشكيل مختلف الأجهزة التنفيذية في الميادين الأمنية و العسكرية و الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية و غيرها .... لتسيير و تيسير حياة المسلمين في إطار دولتهم الفتية آنذاك .. قد تختلف اختلافا جذريا عن تلك التي يرتئيها المسلمون في العصر الحديث لبعث "دولة الإسلام" – دولة توحيد الله - القادرة على لمّ شعث المسلمين و تفرقهم .. و توحيدهم في كيان واحد و قوي ، قادر على نصرة المسلمين و حماية مصالحهم المادية و المعنوية و كل المستضعفين في الأرض و نصرة دين الله .
إن تغير العصر و تطور أساليب الحياة فيه و تقدم منتجات الحضارة.. لا يعني مطلقا تغيير المسلمين لصراط الله المستقيم و سننه الأزلية التي فصلها الله في كتابه العزيز.. بل يعني فقط الأخذ بأسباب الحداثة المادية في الخضوع لكل هذه السنن و كيفية تطبيقها التطبيق الأمثل و الإجتهاد في تنفيذ "الأحكام القرآنية" قدر المستطاع .. إذ لا بد من الأخذ بأحدث الأساليب الأمنية و العسكرية و الجهادية والإقتصادية و غيرها لحماية كيان الدولة والأمة الإسلامية من الأعداء المتربصين ... و لا بد لاستحداث الوسائل و الآليات و الأجهزة التنفيذية المناسبة الكفيلة بتوزيع ثروات المسلمين في أرض الإسلام بأقصى درجات العدالة و الأخوة الإسلامية و مراقبة الله التي تجمع المسلمين حكاما و محكومين .. و لا بد من استغلال منتجات الحضارة المعاصرة لاستنباط كل قوانين الله المفصلة في الذكر الحكيم .. حذرين من الوقوع في استنباط قوانين متضاربة متناقضة لأن الإختلاف في "استنباط الأحكام الشرعية" برهان قوي عن زيغنا عن الطريق المستقيم الذي سطره الله في كتابه العزيز، لأن الله قد أخبرنا "أنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، كما هو شأن المدارس الفقهية الإسلامية التي تتضارب الأحكام فيما بينها و تتناقض و تختلف باختلاف المجتهدين مما يبرهن بقوة عن انحراف كل هذه المذاهب الفقهية و المدارس الإجتهادية عن الإسلام الصحيح %.
بقايا الإستعمار في ديار الإسلام
منذ انجلاء الإستعمار العسكري الغربي عن أرض العروبة والإسلام نشطت قوى الردة من بقايا هذا الإستعمار بكثافة لضرب مقومات أمتنا الإسلامية و تقزيمها وطمس هويتها الحضارية وتكريس واقع التخلف و"حياة الأنعام" لدى المواطن العربي وكل ما من شأنه أن يؤبد تبعيتنا الحضارية واستكانتنا للعبودية و الإستغلال و التخلف ، ومن ثمة يسهل إلحاق هذه الأمة العظيمة ذليلة محطمة بمصاصي دماء الشعوب.! وقد تنوعت أنشطة هذه القوى السياسية و الدينية و الإقتصادية و الثقافية و تكاثفت في العشرية الأخيرة !؟ حتى شملت كافة الميادين المؤثرة تقريبا، وسأكتفي بذكر بعض النماذج من التخريب الذي أحدثته قوى الردة و التغريب في تونس الخضراء ، بلاد عقبة بن نافع و طارق بن زياد .
ففي ميدان الشاشة الصغيرة نجد عديد المسلسلات التي تكرس العقلية الخرافية لدى المواطن العربي التونسي وتقترح عليه حلولا وهمية للمشكلات الكثيرة التي يعاني منها كمشكلة الفقر والبطالة ، فتحلها له هذه المسلسلات بالعثور المفاجئ على كنز مدفون، أو أن يمن عليه الملك/ الإله ، بثروة تقلب حياته رأسا على عقب، أو يزوجه ابنته الوحيدة فيصبح ذلك الفقير المعدم وزيرا يتكلم فيطاع!!؟ وجماع هذه المسلسلات نجدها في حكايات "عبد العزيز العروي" الذي لا تزال حكاياته المسجلة إذاعيا و تلفزيا ، تبث ويعاد بثها المرات العديدة منذ حصول تونس على "استقلالها" وإلى اليوم .
ولمحاربة فكرة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" المتأصلة في ديننا الإسلامي ، نجد مسلسلات يعاد بثها باستمرار حتى ترسخ في وعي المواطن، من قبيل "مسلسل الحاج كلوف" تنفر الناس من التدخل في شؤون أفراد المجتمع وتصور الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر "بهلوانيا" لا يجلب سوى الإشمئزاز أو الضحكة، وقد صارت المقولة السائدة عندنا في تونس "الحاج كلوف يستأهل عشرة كفوف" (أي عشرة صفعات).
وفي السنوات الأخيرة لم يعد هم السينما التونسية التي تدعمها وزارة الثقافة و المحافظة على التراث بالمليارات من مليماتنا ، سوى محاربة القيم العربية الأصيلة، و رسم ملامح حضارية لا تمت لقيمنا الإسلامية بصلة فيصبح المجتمع في شريط "عصفور السطح" لفريد بوغدير لا يعرف أفراده سوى الجري وراء تلبية غرائزهم الجنسية الملتهبة بكل السبل ، وتتحول المرأة إلى جسد عار لا يعرف الإحتشام إليها سبيلا، بل وتصبح الفتاة التونسية في شريط "صيف حلق الوادي" تلهث وراء من يَفتض لها بكارتها ، متحدية جميع القيم المجتمعية السامقة ، ولا يهمها من يكون خدينها يهوديا أو نصرانيا أو "مسلما"!؟ ويتحرر المجتمع من كل ثوابته وقيمه فيغلب على الأفراد شرب الخمرة والتسكع في الشوارع ومراودة الفتيات واختلاط الحابل بالنابل في مناسبات الفرح ، واتخاذ العشاق وبيع الذمم وتفضيل معاشرة الأسر اليهودية والمسيحية و التماهي كلية مع تقاليد المجتمع الغربي والولاء لكل ماهو غربي وكل ذلك رمز على تقدم الوطن وتحرره! " لأن التحرر الجنسي هو بداية لتحرير المجتمع !؟
أما مهمة الثقافة في بلادنا فقد صارت " المحافظة على التراث " !!؟ و ياله من تراث ؟ التراث : هو لباس تقليدي يحول التونسي و التونسية إلى موضوع فرجة و "كركوز" في خدمة السياحة ... !!؟ أما المشاريع الهامة فتسمى بأسماء ذات مرجعية وثنية قديمة : من قبيل قرطاج و عليسة و حنبعل ...! لفك الإرتباط النفسي و الفكري بين أمتنا الإسلامية و مجتمعنا التونسي ذو المرجعية العربية الإسلامية ، وقد ارتفعت في مجال العمران – النزل السياحية والبنوك عاليا في سماء مدننا وقرانا لتأخذ بذلك مكان الصومعة والمسجد ( المغلق كامل اليوم إلا خلال توقيت أداء فريضة الصلاة !؟) و المؤسسات العلمية، وكل ذلك من شأنه أن يعطي انطباعا عاما بأن الرفعة والولاء قد تحول من الولاء لله ولدينه ولقرآنه و للأمة الإسلامية ، ليصبح الولاء "للدينار وللغرب"!؟ وقد صارت البيوت والمنازل مكشوفة، وتبنى بطريقة لا يراعى فيها الحياء ولا أسرار الناس وبيوتهم ولا كون المرأة عرضا يجب أن يحفظ ويصان كما أمر رب العزة .
أما اللغة الفصحى فهناك من أصبح يتمعش بمحاربتها ويزعم أن اللهجة الدارجة المحلية أفضل وأنجع من لغة القرآن، اللغة التي كتب بها الجاحظ والمعري وابن سينا وابن خلدون ... وغيرهم من جهابذة الحضارة الإسلامية، ولسان حاله يقول بفجاجة: "من أراد التقدم والرقي واللحاق بركب الحضارة الغربية فلا يتكلم العربية الفصحى!" وقد صدرت حتى الآن – على حد علمي- صحيفتان أسبوعيتان ناطقتان كليا أو جزئيا باللهجة الدارجة وهما "الصريح" و"الأخبار" وقد صرح رئيس تحرير "الأخبار" نجيب الخويلدي ( أصبح يعمل مع أسبوعية أخبار الجمهورية المروجة للعرافة و العرافين و الدراويش و محاربة كل نفس إسلامي ) منذ مدة على الفضائية (تونس7) بأن اللغة الفصحى قد صارت في العصر الحديث عاجزة عن التعبير عن كل مشاغل الإنسان! وهنا يتبادر إلى الذهن، أي علم سنكتبه بلهجات تفتقد إلى المصطلحات العلمية والأدبية التي تشتمل عليها اللغة الفصحى بالإضافة إلى اختلاف هذه اللهجات من بلد إلى آخر، كما تختلف في البلد الواحد باختلاف مناطقه وأجيال أبنائه!! لقد استنبطت الشعوب هذه اللهجات الدارجة لتيسير التعامل اليومي فيما بين أفرادها وقضاء الحاجات اليومية البسيطة فكيف نسمح باتخاذها بديلا عن اللغة الفصحى للتعبير عن حضارتنا وإبداعاتنا وابتكاراتنا؟! وإني أتحدى كل من تحدثه نفسه باتخاذ اللهجات الدارجة بديلا عن لغتنا القومية ، أن يكتب مقالا بلهجة دارجة عن نظرية ابن خلدون مثلا في علم العمران البشري أو ابن سينا والرازي في الطب أو غيرهما من النظريات العلمية أو الأدبية!
أما مهرجاناتنا فقد صارت مناسبات لممارسة العهر السياسي و الثقافي و الفني و ضرب كل القيم النبيلة النابعة من قيم ديننا الإسلامي الحنيف و الترويج للذوق السمج و دعم العهر و الميوعة ماديا و إعلاميا باسم التفتح على الثقافات العالمية .
هذا بعض ما فعلته قوى الردة و التغريب في تونسنا العزيزة ولا تزال تخطط وتجتهد وتتحرك في كل المجالات الثقافية والتعليمية والسياسية و الدينية لتكريس واقع جديد يقضي على ما تبقى من هوية هذه الأمة العربية المسلمة، لتقضي بذلك على أي أمل يمكن أن يراود هذه الأمة العظيمة للنهوض مرة أخرى من كبوتها والتحرر من براثن الإستعمار و الإستبداد والتخلف و التبعية الحضارية المهينة % .
أنظمة حكم فاسدة ؟
لعل أبرز انجازات حرب غزة الأخيرة أنها كشفت – بما لا يدع مجالا للشك - سبب تخلف وانحطاط أمتنا العربية و الإسلامية : "خير أمة أخرجت للناس" في العصر الحديث، فهذه الأمة العظيمة قد ابتلاها الله بأنظمة حكم فاسدة جعلت همها الرئيس تكبيل أفراد الأمة ومنعهم من إنجاز أي عمل حضاري من شأنه أن يعيد للأمة القوة والإزدهار، حتى تتمكن من أداء المهمة المناطة بعهدتها... وهي : (الشهادة على الناس وقيادة مسيرة الشعوب نحو التآخي والتعارف والرحمة و الحياة الحقة ) ، تبعا لقوله تعالى: "و كذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس .." وقوله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه و سلم "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "...
لقد برهنت الأنظمة الحاكمة لبلاد العرب والمسلمين أنها وريثة للإستعمار الغربي .. وأن الغرب الإستعماري قد بوأها مكانته إبان استعماره المباشر لديارنا، حتى تنجز المهمة التي من أجلها استعمر ديارنا .. والمتمثلة أساسا في نهب ثرواتنا والخيرات التي رزقنا الله بها في أرض الإسلام .. وتكبيل القوى الحية للمجتمع لإدامة تخلفنا وتبعيتنا المهينة للمستعمر الغربي حتى يواصل هيمنته علينا سياسيا و حضاريا و عسكريا... وبذلك تتحقق مقولة "السيادة والعبودية" التي يؤمن بها فلاسفة الغرب منذ عهد اليونان .. ! فهم "السادة" ونحن "العبيد" و " الخدم " كأننا ما خلقنا إلا لتحقيق سيادة الرجل الغربي على شعوب العالم والسهر على رفاهيته.. وهكذا تصبح رفاهية الغرب الإستعماري لا تتحقق إلا بفقرنا نحن وفقرنا هو وليد رفاهية الغرب الناهب لثرواتنا و المهيمن على قادتنا أعانهم الله...؟!
لقد مثلت الحركة الإسلامية الفلسطينية طلائع هذه الأمة المجاهدة .. فكان لابد من "تأديبها" بل تصفيتها.. فأوكلت هذه المهمة القذرة لقاعدة الإستعمار الأولى المتمثلة في الكيان الصهيوني اللقيط ، بمساعدة أنظمة لقيطة ، منصبة تنصيبا من قبل أجهزة المخابرات الغربية ، لا دخل للشعوب بها و لا بعمالتها و إجرامها في حق القوى الحية ببلداننا . !!
إن المساندة القذرة للصهيونية المقيتة في محاصرة الشعب الفلسطيني قد جاءت من قبل نُظُمٌ قطرية متخلفة أغلقت الحدود أمام شرفاء الأمة والتنكيل بكل من سوّلت له نفسه دعم طلائع هذه الأمة المجاهدة و المتمثلة في الحركة الإسلامية الفلسطينية المجاهدة.
فالغرب الإستعماري تفتقت ذهنيته الإجرامية إبان استعماره لديارنا على زرع غدّة سرطانية في قلب الأمة وأمدها بالمال والسلاح وكافة أنواع الدّعم و الحياة ...! وساند و دعم لتولي الحكم و المسؤولية في ديار الإسلام مجموعة أشربت ثقافته وفلسفته للكون و الإنسان والحياة، تولت الحكم وتسيير بقية أعضاء هذه الأمة ... مما حكم على جسد الأمة بالمرض والهزال والتخلف..! ؟
لذلك لا يمكن الحديث عن زوال هذه الغدة السرطانية ، وهي الكيان الصهيوني اللقيط المنغرس في قلب أمتنا ،إلا بزوال أنظمة قطرية لقيطة ، فاسدة لا ترى مانعا من التوحد إلى حد التماهي مع هذه الغدة السرطانية ، وهي أولى الخطوات لتحرير أمتنا من براثن التخلف والإستعمار والنهب وعودة أمتنا الإسلامية الواحدة للفعل الحضاري وقيادة الشعوب لما فيه خيري الدنيا والآخرة ورحمة الله .
مصطلحات مضللة
درجت جل صحفنا ومجلاتنا الوطنية والقومية على استعمال مصطلحات غريبة، منبتة عن قيمنا الحضارية، تؤذي الذوق العام وتساهم في تكريس مفاهيم يبتهج لسماعها العدو و تثلج صدره وتعينه على تعميق الهوة التي صارت سحيقة بين مفاهيمنا وقيمنا الحضارية و معاييرنا الإسلامية ، وبين ما يظهر من استعمالات اصطلاحية في المراسلات والتحاليل السياسية خاصة. والخطورة تكمن في أن هذه المصطلحات وقع تبنيها من قبل صحف ومجلات جديرة بكل احترام، والتي أصبحت تعكس بحق ما يختلج في صدور أبناء هذه الأمة العظيمة، وسأضرب لذلك أمثلة وقع استعمالها مرات عدّة في صحيفة القدس العربي.
"عملية انتحارية" تعبير تستعمله كل صحفنا تقريبا إثر كل عملية استشهادية يقوم بها أبناء الحركة الإسلامية في فلسطين، واستعمال هذا المفهوم يكشف عن غياب مفهوم الإسلام الذي يحرم الإنتحار وقتل النفس ويعتبره من الكبائر التي تحرم على مرتكبه دخول الجنة، أما الشهادة أو الاستشهاد – فهو من أكبر القربات إلى الله عز وجل ،لأنه يأتي استجابة لأوامر الله بالقتال في سبيله ويضحى بالنفس و المال و الأهل لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق وكل القضايا العادلة و إعلاء كلمة الله و التمكين لشريعته العادلة في الأرض ، ومن استشهد في سبيل الله لإخراج العدو من أرض مغتصبة ونصرة المستضعفين من الرجال و الولدان و النساء ... في الأرض من الظلم المسلط عليهم فهو حي لا يموت بفعل حضوره الدّائم في الذاكرة الجماعية وتحفيزه لقوى الأمة على مزيد التضحية والنضال و الجهاد من أجل استرجاع الحقوق المغتصبة.
"التطرف، الإرهاب، متشددين.." هذه تسميات تطلق على جميع الإسلاميين في العالم مهما اختلفت مفاهيمهم و طرق عملهم وأساليبهم، ولا أعرف ماهو مرجعنا في هذه التسميات؟ هل هي مبادئ الإسلام وقيمه و معاييره أو مبادئ الغرب وضلالاته! فالله قد خص هذه الأمة الإسلامية لتكون هي الشاهدة على الناس بحكم ما تملكه من قرآن كريم يحتوي على كل المعايير الفطرية للسلوك البشري ( ما فرطنا في الكتاب من شيء) مما يكسب هذه الأمة القدرة على معرفة الحق من الباطل والغث من السمين ، والفصل في القضايا الخلافية، فالأمة الإسلامية هي أمة وسط أي أمة العدل و القسطاس المستقيم ، إذا التزمت بتطبيق الإسلام و شريعته العادلة، عادلة لا تبخس حقوق الآخرين أبدا .
وها نحن ندرك اليوم الظلم والطغيان والقهر المسلط على جميع شعوب الأرض – بما فيها شعوب الغرب نفسه - في ظل هيمنة مقاييس الغرب وقيمه و معاييره الخاطئة و الظالمة و المنحرفة عن سواء السبيل!.. فهل يعقل بعد ذلك أن نعتمد مقاييس هذا الغرب في إطلاق تسميات غير محايدة بل متفجرة وتحمل طابع مفاهيم الغرب وتصنيفاته الظالمة!
بقي أن ألاحظ شيئا هاما جدا يخص تحليل الخبر وهو ما أسميه بـ " المكيافيلية " في التحليل السياسي، كأن نعتبر مثلا إعلان دولة عربية عن عدم حضورها "قمة ما" عملا قوميا جليلا متناسين حقائق هذه الدولة التاريخية وعمالتها للصهيونية والإمبريالية الأمريكية بشكل مؤكد و دائم، فكيف نسمح لأنفسنا بإقناع القراء – الذين هم مسؤولية في رقابنا - أن مجرد الإعلان عن عدم الحضور للقمة يمثل حدثا بارزا يحسب لهذه الدولة أو تلك مما يوقعنا في التناقض والتحاليل القاصرة لنفاجأ بعد حين أن هذا الإعلان ماهو إلا مجرد تكتيك سياسي وليس حقيقة قابلة للتطبيق! إن تاريخ الأفراد والدول له أهمية قصوى في تحديد صدق توجهاتهم المستقبلية . فقراءتنا لتاريخ الصهيونية والأسلوب الذي اتبعته لاغتصاب فلسطين من أهلها ، يجنبنا الوقوع في أحابيلها وإضاعة الوقت فيما لا فائدة فيه : كأن نصدّق إمكانية إرجاعها الحقوق إلى أصحابها دون قتال كبير وجهاد متواصل!! و محاربتها الند للند أي مقارعتها بدولة تملك من الإمكانات أكثر مما تملك ماديا و معنويا ، فالمجرم يبقى مجرما حتى وإن لبس زي النساك والمتنسكين%
ردا على الدكتور محمد عمارة :
إِنَهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارَ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوب !
سئل الدكتور محمد عمارة من قبل إحدى المجلات الأدبية الأسئلة التالية و سنعتمد إجاباته على أسئلة هذه المجلة منطلقا لردنا على أطروحاته في تفكيك المجتمع العربي الإسلامي .
- يتحدث البعض عن موت الأمة الإسلامية، ترى ما مفهوم الأمة .. وما مقومات وجودها ؟
يحدد الدكتور محمد عمارة مفهوم "الأمة" فيقول:"المسلمون أمة بمعنى جماعة .. تربطها وتجمع بينها وتوحدها عقيدة واحدة، وشريعة واحدة، حضارة واحدة .. وهناك عنصر آخر هو دار الإسلام أو الوطن، هذه ثلاثة جوامع .. على أساسها تكونت أمة إسلامية، وهي لا تزال موجودة إلى الآن بكل مكوناتها ومظاهرها منذ أن كونها الإسلام...!!؟
يلاحظ بادئ ذي بدء أن هناك خلطا فضيعا في ذهن الدكتور محمد عمارة بين مفهوم الأمة ومقوماتها وبين حضارة الأمة وإبداعاتها، فالإسلام بما هو "دين الله وشريعته" قد دعا على لسان كل الأنبياء والمرسلين عليهم السلام إلى عبادة الله وحده دون شريك وإفراده بالطاعة والخضوع :"اعُبُدُوا الله مَا لَكُم مِنْ إِلاَهً غَيْرَهُ" وقد لبث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (13) سنة كاملة يدعو قومه إلى وحدانية الله وإفراده بالربوبية والطاعة وكانت المحصلة (86) سورة مكية لغرس عقيدة التوحيد في نفوس المؤمنين بالله حتى إذا ما تم له ذلك كوّن عليه السلام "أمة إسلامية" بالمدينة يتبع أفرادها الشريعة الإسلامية في علاقات بعضهم ببعض في جميع ميادين الحياة حتى كانت المحصلة (28) سورة مدنية محدّدة وضابطة لشريعة "الأمة الإسلامية" وبذلك يكون مفهوم الأمة في الإسلام يعني:"مؤمنون بالله ربا وخالقا وهاديا ومشرعا واحدا لا شريك له، تصطبغ كل مفاهيمهم عن الكون والإنسان والحياة بصبغة مفاهيم القرآن المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم".
فالأمة الإسلامية كائن حيّ فاعل ومنتج يشبه إلى حدّ بعيد الشجرة المباركة الطيبة أصلها ثابت لا يتغير (وحدانية الله وربوبيته ) وفرعها في السماء (الشريعة المنبثقة عن الله وكلماته) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها (إنتاج الحضارة والمدنية) و بهذا المفهوم تكون حضارة الأمة الإسلامية هي نتاج مقوماتها الربانية الثابتة وليس جزءا من الشريعة أو العقيدة، فالعقيدة والشريعة الإسلامية قد اكتملت معالمها منذ اكتمال نزول الوحي"اليَومَ أَكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا " (المائدة الآية 3) وتتلخص في "آمَنَ الرَسُولُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِهِ والمُؤْمِنُونَ كُلٌَ أمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبَهُ وَرُسُلَهَ لاَ نُفَرِقُ بَينَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ" (البقرة الآية 285). وهي ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان لدى كل من أسلم وجهه للحي القيوم ، ومعلومة علما يقينيا كي "يخضع المؤمن لضوابطها ومعانيها بملء إرادته.."
أما الحضارة فهي متغيرة ومتطورة لأنّها نتاج الأمة الإسلامية و إبداعاتها عبر مختلف العصور و كل ما أبدعه بنوها في مختلف ميادين العمران البشري كالطب والجراحة والهندسة والفلاحة وعلم التاريخ والجغرافيا وتكنولوجيا الإتصال والتعليم والحرب .. كما أن الحضارة تأتي نتيجة تراكمات معرفية وتجريبية وإنسانية في مختلف ميادين الحياة والعيش وتفاعل الإنسان مع مختلف العوالم المخلوقة لله ربّ العالمين . كما أنها قاسم مشترك بين كل البشر مهما كانت أديانهم وشرائعهم.
إن من بديهيات معنى توحيد الله أن يحيا الإنسان المؤمن والأمة المسلمة في أرض الله وتنتظم حياتهم في الأسرة والمجتمع طبقا لما يرضى الله. وما يرضي الله مفصّل في كتاب الله تفصيلا بينا، والتعامي على هذه الحقيقة تحول الإنسان مهما علا شأنه ، إلى أعمى لا يبصر وأصم لا يسمع وجاهل لا يعلم من حقائق الحياة شيئا ، فيعيش الإنسان في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها وإن رآها يراها على غير حقيقتها، فتدلهم السبل أمامه وتقلب كل مفاهيم الحياة في ذهنه رأسا على عقب، ولا عجب بعد ذلك أن يرى مؤلف أكثر من 200 كتاب في فكر التجديد الإسلامي أن الأمة الإسلامية التي كونها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا تزال "إلى الآن موجودة بكل مكوناتها ومظاهرها"! ! ؟؟ واعجبي أين هي ؟ لعله يقصد مصر حليفة إسرائيل !!!؟
لقد أقام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم سلطته على أرض المدينة المنورة/ أرض أنصار الله التي آمن جل سكانها بوحدانية الله خالق الكون والإنسان والحياة.. كما آمنوا بربوبية الله للمجتمع المسلم فهو المشرع الوحيد ، وهو مدبر الأمر كله ، وهو الحاكم لا معقب لحكمه ، وقد خلع المسلمون عنهم آنذاك رداء الجاهلية عقيدة وأخلاقا وعادات ومعاملات.. وقالوا لخالقهم ومدبر أمرهم بإيمان ويقين "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرَ" وكانوا "يوفون بالنذر" و"يُؤْثِرُونَ عَلىَ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٍ" مما شكل منهم "خَيْرُ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" "تَأمُرُ بِالمَعْرُوفِ المُفَصَلِ فِي الذِكْرِ الحَكِيمِ وتنْهَى عَنْ المُنْكَرِ المذكور في القرآن ، وتؤمن بالله ربّ كل شيء الذي أمرها بالجهاد في سبيل إيصال كلماته وبصائره للناس كافة ومن ثم وراثة الأرض/كل الأرض التي وعدها الله عباده المتقين /الصالحين. فالوطن لم يشكل في أي يوم جامع من جوامع الإسلام كما يزعم الدكتور محمد عمارة وإلا لما وصلت تعاليم الإسلام مصر أو شمال إفريقيا .. أو غيرها ، فالأرض في المفهوم الإسلامي كلها لله عزّ وجلّ وهي وقف على عباده الصالحين الذين يحتكمون إلى شرع الله عزّ وجلّ في كل صغيرة وكبيرة.. والأمة الإسلامية مطالبة - إذا ما وجدت - بالجهاد والقتال في سبيل الله حتى يكون الدين كله لله وتعم شريعته ورحمته أرض الله كلها.
إن العمى الفكري وغياب البصيرة القرآنية جعل الدكتور محمد عمارة يرى "أن الاختلاف سنة من سنن الله سبحانه وتعالى" وأن الأمة الإسلامية فيها "تنوع ديني .. شرائع وملل.." وكما ألمحتُ من قبل فإن شريعة الله واحدة لا تتغير ولا تتبدل لأنها مبنية على حقائق الكون والإنسان والحياة و فطرته التي فطر الناس عليها ، والحقائق لا تتغير ولا تتبدل "أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَطِيفُ الخَبِيرُ"
لقد علّم الله آدم الأسماء كلها وحقائق الأشياء ومعانيها منذ خلقه ، وشرّع لأمة الإسلام ما وصى به كلّ الأنبياء عليهم السلام من قبل "شَرّعَ لَكُمْ مِنْ الدِينِ مَا وَصَى به نُوحًا وَالذِينَ أَوْحَينا إليكَ وَمَا وَصَيْنَا به إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أقٍيمُوا الدِيْنَ وَلاَ تتََفَرَقُوا فِيهِ"(سورة الشورى الآية 13). إن أوامر الله ونواهيه ثابتة لا تتبدل ولا تتغير وبالتالي ليس هناك إمكانية للإجتهاد في الدين لأن الإجتهاد معناه استنباط أحكام جديدة تختلف باختلاف المجتهد و باختلاف الزمان و المكان ، كما أن الإجتهاد معناه الطعن في قول الله عزّ وجلّ "وَنَزَلْنَا عَليك الكِتًابَ تِبْيَانًا لِكُلِ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٍ وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (سورة النحل الآية 89) وقوله عز وجل "وَمَا اخْتلَفُتُمْ فِيهِ مِنْ شَيءٍ فَحُكْمُهُ إلىَ الله" (سورة الشورى الآية10 ) . فالحلال بين والحرام بين ولا يعبد الله إلا بما شرّع ، واجتهاد الإنسان المؤمن يجب أن يقتصر على ما من شأنه أن يرتقي بنوعية حياته الإجتماعية والإقتصادية و السياسية والعلمية و غيرها... كاستنباط طرق ووسائل حديثة ومتطورة في ميدان الفلاحة والصناعة وتيسير تنقل الإنسان والمعرفة... وإحداث وسائل جديدة لطلب العلم والمعرفة... و أيجاد المؤسسات الكفيلة بتطوير الإقتصاد و الإرتقاء بالأداء السياسي و الحكم الرشيد و تجسيد عدالة الإسلام في كافة ميادين الحياة : ما سئل رسول الله (صلى الله عليه و سلم) في أمر يهمّ عقيدة المسلمين وشريعتهم في الأسرة والمجتمع والحياة إلا وكانت الإجابة قاطعة من الله عزّ وجلّ : "يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلاَلَةِ" (النساء الآية 176) "وَيَسْتَفْْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللهُُ يُفْتِيكُمْ فِيهُنَّ" (النساء 127) "قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنَ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ ولاَ أقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إَنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ" (الأنعام 50) "اتّبِعْ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إلاَهَ إلاَّ هُوَ وأعْرَضْ عَنِ المُشْرِكِينَ" (الأنعام 106)، فإذا كان الأنبياء عليهم السّلام مأمورون بإتباع الوحي مع أتباعهم و الخضوع التام لشريعة الله المفصلة بالوحي وعدم أعمال العقل في أي مسالة تخصّ حياة المؤمنين لأنّ كتاب الله قد فصل القول في كلّ صغيرة وكبيرة.. فإنّ ألأوْلى بالمؤمنين عدم الاجتهاد في أي مسالة تخصّ حياة المؤمنين الإجتماعية والإقتصادية والسياسية مادام كتاب الله قد فصل فيها القول تفصيلا...
لقد كان لهذه الفكرة الخاطئة "الإجتهاد في الدين" و ظهور المدارس الفقهية ... دور أساسي في ظهور الفرق والطوائف الدينية عبر مختلف أحقاب التاريخ الإسلامي...! وقد ساهمت هذه الفكرة في تمزيق وحدة الأمة الإسلامية وتشرذمها إلى ملل ونحل متقاتلة.. متعادية مما حول "أمة الإسلام" إلى لقمة سائغة بيد "المغول والمستكبرين في الأرض و الفراعنة المتألهين" قديما وحديثا.
إن الأمة التي يدعو إليها الدكتور محمد عمارة بل يقر بأنها لا تزال موجودة منذ أن كونها الرسول الكريم (صلى الله عليه و سلم) أمة قد تبرأ منها الرسول الكريم نفسه وكل الأنبياء من قبله :"إِنَ الذِينَ فَرّقوُا دِينَهُم وَكَانُوا شِيعًا لَسْتُ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللهِ ثُّمَ ينبئهم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ"(الأنبياء الآية 159) .
أخرجت معصية واحدة أبانا أدام من الجنة، فما بالك بمن يقدمون للناس مفاهيم مغايرة تماما لما قد فصّله الله في كتابه العزيز في آيات بيّنات لا يخطئ إدراكها وفهم معانيها من خلص عمله لله رب العالمين : إن مخالفة المعاني الواردة في كتاب الله قد أنتج "أُمَةٌ ميتة مزقوها إربا إربا باجتهادات ضالة عن هداية الله ، وأمة مزقوا وحدتها حتى صارت تحارب بعضها بعضا.. أمة حُرُماتها قد انتهكت من قبل أبنائها .. أمة انتهكت حرماتها من قبل مفكرين صمّ بكم عمي شرّعوا للعصبيات والقوميات.. خلعوا لباس الإسلام على حُكّام لا يحكمون بما أنزل الله .. شرّعوا للعنف والقتل بدعوى "الجهاد" شرعوا للإصطفاف وراء ظلمة لشعوبهم .. خاضعين تابعين للهيمنة الغربية.. فهل يطمع أي مسلم صادق بأن يكون مفكرا مسلما دون تقصّي مفاهيم القرآن و اتباع مفاهيمه في كل صغيرة وكبيرة خاصة وأن الله قد أخبر المؤمن أنه "مَا فَرَطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ" و"كُلَ شَيءٍ فََصَلْنَاهُ تَفْصِيلاً""وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَلْنَاهُ عَلَى عِلْمِ هُدًى وَرَحْمَةٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوُنَ" (الأعراف الآية 52). ثوبوا إلى رشدكم أيها المتاجرون بالدين يرحمكم الله !!؟
حصوننا تتهاوى من الداخل !؟
إن المرء لتعتصره الآلام ألوانا كلما تأمل أحوال أمتنا و رأى حصوننا تتهاوى من الداخل منذ أن استبدل الغزاة و المستعمرون غزوهم العسكري لديارنا بغزو العقول ، و قد نشطوا لغزو الإنسان في عقيدته ، و في لغته ، و في نمط معيشته ، من خلال إحلال نماذج معينة من التفكير و النظر إلى الحياة و السلوك ، محل النمط السائد و النابع من روح شعبنا العربي المسلم ، ، من قيمه و تقاليده و عاداته و أخلاقه ... و لقد نجح الغزو الحضاري الغربي في زرع أبناء جلدتنا ممن يتكلمون لغتنا ، و يتبنون نظرته لحضارتنا و يحملون أفكاره و قيمه إلى حد التماهي التام معه !
من ذلك نجد مثلا أن السينما العربية ترتكز في كل الأفلام التي تنتجها على فلسفة قوامها اتخاذ الواقع المادي للحياة البشرية مصدرا وحيدا لاستنباط القيم ، و الأخلاق و الحلول التي يسير على هداها الإنسان ، لمواجهة مشكلات الحياة المختلفة ، و أبعدت تماما فكرة استلهام ثوابتنا الإسلامية و بصائرنا القرآنية و قيمنا الحضارية للإستعانة بها على حل مشكلات المجتمع الفردية و الأسرية و الجماعية، بل واستجمعت كل الحجج " الشرعية " و "الدنيوية" من قبل المفكرين و رجال الإعلام العرب لإقناعنا بمشروعية " الأسوة الغربية "، ليتخذ بذلك شرط الإزدهار الحضاري معنى التماهي مع الغرب الإستعماري الداعي إلى وجوب اعتماد التنظيمات و المؤسسات العصرية الأوربية .
من ذلك أن فيلم " المصير "للمرحوم يوسف شاهين و الذي شكل حدثا بارزا خلال بدايات عرضه ، يوحي بادئ ذي بدء بعجز اللغة العربية الفصحى عن التعبير عن رموز حضارتنا الإسلامية و أفكارها عندما أنطق المرحوم أبطال فيلمه و من بينهم ابن رشد ( نور الشريف ) باللهجة المصرية الدارجة ، مستجيبا بذلك لدعوات رموز الإستعمار مثل (ولمور) الذي ناشد الحكومة المصرية مرارا أن تمد يد المساعدة" للعامية" ، : ( لتخليص الطبقات المثقفة – حسب زعم "ولككس" – من السخرية العقلية التي دامت أربعة ألاف من السنين ): ( المرجع : تاريخ الدعوة إلى العامية ، نفوسة زكرياء ص 28 - 41- 42) . كما مضى هذا الفلم " المصير "
قدما في الإيحاء بأن هناك تعارضا تاما بين حرية البحث العلمي و بهجة الحياة، و بين ما تغرسه مفاهيم الإسلام و آيات القرآن في نفوس المسلمين من تزمت و إرهاب !! ؟ و يقترح علينا الفيلم في لقطة معبرة بين ابنة رشد و يوسف الشاب اليافع أن نتعلم أصول الحب و أحواله من هذا الأخير رمز الحضارة الغربية !؟
أما سياستنا الرعناء في مواجهة قضايا العصر فقد غيبت عنها تماما فكرة الأحوال الثابتة في ميدان السياسة الإسلامية الرشيدة التي أنزل الله في شأنها آيات بينات نبراسا للحاكم العادل و الناجح في خدمة أمته ، كوجوب الشورى ، و تشريك كل المواطنين في تحمل المسؤولية في إدارة شؤون المجتمع ، و تكوين " أمة " تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر " و تذكر بقوانين الله الفطرية في الأسرة و المجتمع ... و لو عن طريق وسائل الإعلام المختلفة ، و الرجوع إلى كتاب الله لفض النزاعات التي تحدث بيننا حكاما و محكومين ، و نصرة المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان .. بل أصبح في عرفنا السياسي أن هؤلاء المستضعفين أولى ضحايا الصراع على السلطة ، و ضحية يسهل تقديمها كبش فداء للفوز بكراسي الحكم و المسؤولية ، مثلما حدث في فلسطين مؤخرا ، و ا لتي لا تزال تنزف و لا من مجيب ، كما أصبح الولاء للغرب و ديمقراطيته المتوحشة ، لافتة لكل السياسات العربية ، معارضة و حكومات رغم كل المساوئ التي بانت للعيان ، و قد نسي قادتنا و زعماؤنا : أن هؤلاء يرضوننا بأفواههم و تأبى قلوبهم إلا الحقد و الكراهية لكل ما يمت لهذه الأمة العظيمة بصلة . فمتى نعود إلى رشدنا ؟! %
وعــي زائــف !؟
من المخجل حقا أن يتصدّى لقيادة هذه الأمة الإسلامية العظيمة ، أشخاص لا يعرفون حقيقتها ولا يدركون عناصر القوة في هويتها الحضارية ، ولا أسباب الضعف و التخلف فيها ، فيساهمون من غير قصد في تأبيد تخلفنا وتبعيتنا المطلقة لعدو همه الوحيد إذلالنا والنكاية بنا واستغلال ثرواتنا والإستحواذ عليها و تسخيرنا لخدمته و رفاهية شعوبه .
إن من جملة ما ابتليت به هذه الأمة الإسلامية ، تذبذب أبنائها المخلصين بين مناهج مختلفة ومتضاربة في تحليلهم لمجمل قضايانا الحيوية ، أو غياب المفهوم الصحيح و المعيار السليم في أحايين كثيرة مما يوقعهم في غموض الفكرة وقصورها وهذا قد يوصلنا إلى التهلكة مكرهين : فهناك كتاب ومفكرون و محللون سياسيون كثر ، تغيب عن أذهانهم فكرة أن الشعب الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية ووحدة أهدافها وكل من يمس الشعب الفلسطيني من قريب أو بعيد يهز كيان الأمة الإسلامية جميعا ويضربها في العمق، بل ويفترض أن تهب كل أحزاب هذه الأمة – جيوشا وأفرادا و حكومات - لنجدته إذا ما تعرض لسوء عملا بقوله عز وجل " وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ". إن الوعي الزائف الذي غرسه الإستعمار ولا يزال يقوم بغرسه عملاؤه وبقايا قوى الردة في بلادنا الإسلامية ، القائل بأن لكل شعب من شعوبنا شأنه الخاص الذي يغنيه عن الإلتفات لكل آلام الأمة العربية و الإسلامية لهو السبب المباشر في كل هزائمنا تقريبا، فهذا الشعور الزائف و المفهوم الخاطئ ، هو الذي أضعفنا ومكن قوى الإستكبار العالمي من الإستفراد بنا كل على حدة : " فالولايات المتحدة تحارب العراق لأنها ضامنة استفرادهم وإسرائيل تفتك بالفلسطينيين لأنها ضامنة استفرادهم ... لم يحدث أن حارب أحد العرب كلهم "
أما من نصبوا أنفسهم الممثلين الشرعيين والوحيدين للشعب الفلسطيني فيتجاهلون أن كل الشعب الفلسطيني "بمتطرفيه ومعتدليه، بحمائمه وصقوره" تجب حمايتهم من العدو الصهيوني وحفظ أرواحهم وممتلكاتهم ولا يتذكرون هذه الحقيقة إلا تحت ظروف قاهرة ولأسباب تكتيكية بحتة !!؟ بل و يتحالفون مع الصهيونية المقيتة للقضاء على مواطنيهم في غزة و حتى في الضفة الغربية ،علهم يفوزون بمنصب قيادي لوطنهم المحتل تحت ظل الإحتلال !؟
ولقد أصبح هم بعض قادتنا – حفظهم الله - محاربة شعوبهم ورعاياهم تحت لافتات التطرف والإرهاب أو باسم الديمقراطية التي أشربوها فعرفوا أن بعض مواطنيهم لا ينتمون إلى عالم البشر!!؟ بل وصاروا يرددون مصطلحات اختلقها أعداؤنا لمحاصرة أي شعلة نور يمكن أن تبزغ في سماء هذه الأمة العظيمة التي ابتعثها الله لتكون رحمة للعالمين%
دعوة الحق العالمية
تؤكد دعوة الحق العالمية على :
أزلية كلمات الله و ثباتها و ديمومة صلاحها و فاعليتها لجميع البشر في أي زمان و أي مكان .. و كلمات الله التي أوحى الله بها إلى النبي محمد (صلى الله عليه و سلم) هي نفس الكلمات التي أوحى الله بها إلى كل أنبيائه عليهم السلام من قبل بعثة محمد (صلى الله عليه و سلم) ، كما نؤكد على نسبية أقوال الرسول محمد (صلى الله عليه و سلم) - بوصفه بشرا و ليس إلاها- و كل أحاديثه المنقولة إلينا عبر كتب الحديث و الفقه .. و محدوديتها زمانا و مكانا ، و كل أقوال الرسل من قبله هي أقوال نسبية و محدودة الفاعلية زمانا و مكانا .. و قد كانت هذه الأقوال و الخطابات صالحة لأتباع هؤلاء الرسل و حواريهم في أزمانهم و أمكنتهم لا غير.. و لم تعد صالحة لنا في عصرنا الحاضر و أمكنتنا المختلفة إلا ما ورد منها في كتاب الله المبين و المعجز، كقول القرآن الكريم على لسان الرسول (صلى الله عليه و سلم) : ( و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) سورة الفرقان الآية 30 ، لكن تبقى لنا سيرة هؤلاء الرسل عليهم السلام قدوة عملية في كيفية إتباعهم للوحي و استمساكهم بكل كلمات الله الأزلية / الثابتة و إنزالها إلى دنياهم و دنيا أتباعهم، و خاصة في ميدان العبادات، و ليس في ميدان المعاملات لأن المعاملات متغيرة و معيارها الوحيد (صحة و خطأ) يوجد في آيات الذكر الحكيم لا غير .
إن إتباع / إحياء المسلمين قديما و حديثا لأقوال الرسول محمد (صلى الله عليه و سلم) النسبية المحدودة الفاعلية زمانا و مكانا و هجرهم للقرآن / كلمات الله الأزلية الصالحة لكل زمان و مكان قد حولهم إلى دراويش يحيون خارج أزمنتهم و أمكنتهم بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه و سلم) بحوالي 30 سنة أي منذ استيلاء معاوية ابن أبي سفيان على الخلافة الإسلامية بالقوة و قيامه بتصفية أنصار علي بن أبي طالب، و منذ ذلك الحين بدأ المسلمون في التشتت و الإنقسام إلى ملل و نحل متفرقة متناحرة مما ولد ضعفهم و انهزامهم أمام التتار و المغول و الحملات الصليبية و الإستعمار قديما و حديثا.
شكل رجال الدين و الفقهاء في التاريخ الإسلامي – كما في التاريخ الأوربي - و لا يزالون أكبر عائق معرفي أمام التقدم المدني والإنساني ، كما شكلوا و لا يزالون يشكلون أكبر داعم للباطل و الظلم و حكم الطواغيت و المتألهين من بني آدم ، و إلباس الحق بالباطل، و تكريس الطبقية و الإستغلال و خدمة الإستبداد و المستبدين .. باسم الدين : فهم الذين قد شرعوا للطريقة العنيفة التي توخاها معاوية للإستيلاء على الحكم بالقوة و برروها شرعيا و فقهيا ( ومنذ ذلك الحين بدأت المدونات الفقهية في الظهور) .. و هم الذين شرعوا للمذاهب الفقهية المتناقضة في أحكامها و المتضاربة في اجتهاداتها في التاريخ الإسلامي قديما و حديثا و التي فرقت المسلمين و قسمتهم إلى ملل و نحل متنافرة متناحرة، و هم الذين شرعوا لمذاهب السنة و الشيعة و لمذاهب الإرهابيين / السلفيين الجهاديين، و هم الذين شرعوا للحركات الإسلامية المنادية بالديمقراطية الغربية والإعراض عن قوانين الله الأزلية المفصلة في القرآن العظيم و المحددة لكل أدوار المسلمين في الحياة نساء و رجالا / حكاما و محكومين، و هم الذين يشرعون للأنظمة العلمانية اللقيطة المستبدة التي تحكم العالم الإسلامي اليوم : لذلك وجب على دعاة دعوة الحق العالمية تذكير هؤلاء الغافلين بالعمل معا من أجل بعث دولة التوحيد = دولة قانون القرآنتشريعيا، و دولة الولايات الإسلامية المتحدة جغرافيا، في العالم الإسلامي حتى تعود للمسلمين هيبتهم عزتهم و رسالتهم في الحياة.
ينبذ دعاة الحق العنف و الإرهاب و التمييز العنصري و الجنسي بمختلف أشكاله و يجرمون مرتكبيه مهما كانت المبررات.. كما نعتقد أن القتال في سبيل الله لا يمكن أن يتم إلا تحت راية دولة التوحيد بعد قيامها ، دولة جميع المؤمنين الموحدين لمحاربة المعتدين و لنصرة المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان في الأرض مهما كانت ديانتهم ..!
أحكامنا و تقييماتنا لأعمال الأفراد و الجماعات و مختلف الحكومات و الهيئات و الأعراق و ومكتسباتهم هي تقييمات نسبية .. محدودة زمانا و مكانا.. لذلك فنحن لا نكفر أحدا من العالمين.. ! بل يعد فعل التكفير فعل إجرامي في حق الأفراد و الجماعات و تطاول على دين الله... ! نحن فقط ندين الأعمال الآثمة انطلاقا من معاييرنا القرآنية و ميزاننا الإسلامي ، و نمتدح ما وافق منها دعوتنا و مفاهيم القرآن و معاييره الإلاهية .
المرأة هي شريك لنا في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و السعي الجاد لإقامة دولة التوحيد على أرض الإسلام التي يحكمها فراعنة قطريون في العصر الحديث ، وهي ملتزمة التزاما إراديا بكل أوامر الله و نواهيه في حقها و لا تقوم إلا بالأعمال التي توافق فطرتها كأنثى في صلب مجتمع إسلامي متعاون .
يؤمن دعاة الحق إيمانا قطعيا أن قوانين الله و نواميسه العادلة هي التي تحكم هذا العالم منذ خلقه الله عز و جل ، و إلا لما أغرق فرعون و جنده لما هموا بقتل موسى و من معه ظلما و عدوانا ... و لما خسف بقارون و بداره الأرض ... و لما ضرب "تسونا مي" والزلازل عديد المدن الأمريكية في عهد بوش المجرم و حكومته ... و لمات" شارون" المجرم ميتة طبيعية... و لمات عيسى عليه السلام مصلوبا ... و لاغتيل محمد صلى الله عليه و سلم من قبل مشركي قريش ... و لاندثر القرآن الكريم منذ زمن... !
كما نؤمن يقينا أن جميع البشر مهما علت مراتبهم العلمية و الإجتماعية و الإقتصادية و الدينية ... عاجزون لطبيعة خلقتهم عن استنباط المبادئ أو ابتكارها لأن المبادئ هي معايير تستوجب معرفة الغيب واطلاعا على المستقبل اطلاعا يقينيا وهو ما يفتقده كل البشر .. و بالتالي فقد تفرد الله وحده بخلق المبادئ و خلق القرآن /الفرقان للتفريق بين غث العمل البشري من سمينه.
المسلم الحق هو الذي يخضع خضوعا إراديا لكل أوامر الله و نواهيه المفصلة في القرآن ، في السر و العلن : فلا يزني الزاني وهو مؤمن ... و لا تتبرج المرأة تبرج الجاهلية الأولى لغير محارمها مهما كانت المبررات وهي مؤمنة، و لا يتحالف الحاكم المسلم مع أعداء الله و أعداء المؤمنين وهو مؤمن ... إن انسلاخ المسلم عن آية واحدة من آيات الله يعني انسلاخا عن الإيمان الحق .. و أن يبوء المرء و المجتمع المنسلخ عن شريعة الله المفصلة في القرآن بخزي الله دنيا و آخرة .
تسعى دعوة الحق العالمية إلى توحيد جميع المسلمين تحت راية القرآن: المصدر الوحيد للتشريع في الإسلام و من ثم إقامة: دولة التوحيد على أرض الإسلام و توحيد جميع المسلمين فيما يسمى بــــ:( الولايات الإسلامية المتحدة ).
إن خطابنا هذا موجه إلى كل الناس : يهودا و نصارى و مسلمين و كل من يؤمن بالله رب العالمين . كما نرجو من جميع العقلاء أن يعملوا على نشر الأسس الفكرية لبعث دولة التوحيد في العالم و يبشروا بها أنفسهم و أهاليهم و أقوامهم بكل السبل السلمية الممكنة حتى يخلصوا العالم من أزماته السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية والثقافية ... بسبب حكم الطواغيت و فراعنة العصر الحديث و قوانينهم الوضعية الظالمة، و دساتيرهم التي ما حبرها سحرتهم و كهنتهم إلا لنهب ثروات الشعوب و تكريس الظلم و استغلال المستضعفين من الرجال و الولدان و النساء.. و التحيز إلى مصالح هؤلاء السماسرة و الفراعنة المتألهين / المستبدين .
كما ندعو جميع الحكام و المتنفذين في بلاد الإسلام و كافة القوى الحية في العالم العربي و الإسلامي ... إلى تبني فكرة بعث دولة التوحيد – في العالم الإسلامي - و الإعتماد على قدراتنا و إمكانياتنا الذاتية و ثرواتنا لتشكيل مختلف الأجهزة التشريعية و التنفيذية المكونة لدولة الوحدة و التوحيد و التحرر من سياسات الغرب الإستعماري و اقتصادياته و التي ثبت فشلها و بان عوارها في أكثر من مناسبة .. لأن القوانين الوضعية المشكلة خارج ثوابت الرحمان و قوانينه الأزلية تبقى عاجزة عن حل مشاكل خلق الله و السير بهم نحو طريق الأمن و السلم و الإستقرار و السعادة و رحمة الله التي دعا إليها نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد عليهم السلام .. منذ أقدم العصور.
كما نذكر شعوبنا الإسلامية بأن كل ثروات بلاد الإسلام هي حق لجميع المسلمين في العالم و لا يحق لأي كان أن يهدر هذه الثروات أو ينفقها في غير صالح المسلمين و وحدتهم و أمنهم و رفاهيتهم و الشهادة على الناس لأن مالك هذه الثروات الحقيقي هو الله الواحد الأحد و ما دمنا جميعا عباده فنحن جميعا مستخلفون في كل ثروات بلداننا الإسلامية وهي ليست ملكا للفهود أو الديوك أو الرؤساء و الطغاة..!!
كل من سيقف ضد تحرير المسلمين من أغلال القوانين الوضعية الظالمة و المجرمة بطبعها ؟! و توحيدهم تحت راية دولة التوحيد سيبوء بالخسران المبين :(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم . إنما وليكم الله و رسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون . و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) سورة المائدة الآيات 54 و55 و 56.
دعوتنا دعوة مجانية و يحجر على دعاة الحق قبول أي أجر على دعوتهم .
سيدتي ، آنستي ، سيدي ، لقد عشنا زمنا عبيدا لأهوائنا و شهواتنا ، و جنودا لأبالسة الجن و الإنس و الفراعنة المتألهين من حكامنا و حكوماتنا اللائكية ، أفلا نحاول أن ننخرط في دعوة الحق العالمية اقتداء برسولنا الكريم صلى الله عليه و سلم ، حتى نكون جنودا بحق لله رب العالمين خالقنا و رازقنا و نحرر أنفسنا و مجتمعاتنا من أغلال القوانين الوضعية الظالمة و التي أهوت بنا جميعا في مكان سحيق من التخلف و ضنك العيش و البطالة و خدمة رفاهية الغرب و مؤسساته ، و نخضع بملء إرادتنا لقوانين الفطرة التي فطرنا الله عليها رجالا و نساء ، فنفوز فوزا عظيما و نسعد و يسعد أهلنا دنيا و آخرة %
خطاب إلى الهاربين من ديارهم ؟!
هذا خطاب أردت أن أوجهه إلى إخواني " المغتربين" من النخبة المثقفة، والتي تملأ كتاباتها الصحف والمجلات التي تصدر هناك في ديار الغربة وعلى رأسها صحيفة "القدس العربي" و العرب العالمية " " و الحياة ".
ما يمكن ملاحظته بادئ ذي بدء أن هذه النخبة المحترمة تعالج في جلها قضايا نظرية لا تمت بكبير صلة إلى واقع المواطن العربي، ذاك المواطن المسحوق في بلده ، والذي يعاني من الذل ألوانا، ومن الإضطهاد أصنافا ، بل يقتل في اليوم الواحد ألف مرّة، فهل يعتقد هؤلاء "المغتربون" المساكين أنهم بتلك المقالات والكتابات المنددة بالسلطان في ديارهم التي هربوا منها، سيحلون مشكلات وطنهم ويخلصونه من الذل والمهانة والتخلف الحضاري والإستبداد الإجتماعي و السياسي؟! وهل يعتقدون حقا أنهم سيحررون أوطانهم بمقالات نارية متشنجة تتوهم الثورة والتغيير و الإنقلاب على أوضاع بلدانهم المزرية ؟! إن هؤلاء يعتبرون نكرة بالنسبة إلى أوطانهم و مواطنيهم ، فهل يحسبون الناس يتأثرون بنكرة تفتقد إلى رؤى واضحة في مجمل مشكلات أوطانهم !؟ وهل يعقل أن يقدر على التغيير من عجز عن تغيير نفسه ؟! إن البداهة تقول "فاقد الشيء لا يعطيه" ؟!
لقد فكر هؤلاء "المغتربون" في مصالحهم الخاصة لما هربوا من أوطانهم وتركوها لقمة سائغة في أياد غير أمينة تتعيش على بيع الأوطان وإذلال الإنسان وسحقه ، إذ لو صدق هؤلاء المغتربون الهاربون لبقوا في أوطانهم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم وفكرهم في سبيل تحرير الإنسان العربي من الذل والعبودية ، وتقديم القدوة العملية في النضال والصمود ، ولتعاونوا مع أشراف هذه الأمة من مثقفين وحكام ومسئولين لرفعة وطنهم وتقدمه وازدهاره و تحرره . إن هروب هؤلاء يجعلهم عرضة للنقمة والكراهية من قبل أحرار هذه الأمة وكل الفئات المسحوقة والمحرومة في هذا الوطن العزيز، لأنهم فكروا في الخلاص الفردي ولم يفكروا حقيقة في خلاص أوطانهم وشعوبهم المضطهدة . ولعل المبكي المضحك في حالة هؤلاء الفارين التجاءهم إلى بلدان غربية كبريطانيا وأمريكا و فرنسا ساهمت ولا تزال تساهم – وهم يعلمون ذلك جيدا- في الإبقاء على الأنظمة اللقيطة التي يزعمون أنهم يحاربونها ويلقون عليها اللوم لتكريسها التخلف والإضطهاد و الإستبداد ! بل إن بريطانيا هي التي مكنت للصهيونية العالمية من احتلال فلسطين وتشريد أهلها... ؟! وأمريكا نفسها أصبحت متصهينة أكثر من الصهاينة أنفسهم بما تقدمه لهم من دعم مادي و عسكري و سياسي .. لإذلال العرب فاق كل التصورات .. !!؟ فهل يعقل بعد ذلك أن نصدق هؤلاء الفارين إلى بلاد الغرب أنهم يناضلون ضد الصهيونية وضد التخلف والإستبداد في أوطانهم و هم يقيمون في نزل خمسة نجوم ؟!
وختاما أنصح هؤلاء بالرجوع إلى أوطانهم فالموت في الوطن أكرم لهم من التسكع في شوارع الغرب وحاناته ، إن كانوا حقا يعتقدون في عدالة القضايا التي يحملون و عدالة قوانين الله التي يهيمن بها على تسيير عوالم الكون و الإنسان و الحياة . إذ لم نسمع بنبي انتصر للحق وهو يجاهد من وراء البحار لتغيير واقع الظلم و الباطل و الجبروت كما يفعل هؤلاء %
الأدب إبداع و ليس إتباع
إنه من الخطورة بمكان أن يقتنع بعض المبدعين في ديارنا الإسلامية بتفوق الثقافة الغربية على ثقافتنا الإسلامية فيلجئون تبعا لهذه القناعة إلى اتخاذ الغرب قدوة ومثالا، ويستبطنون مدارسه الإبداعية المختلفة، ومفاهيمه عن الحياة ، يقيسون بها إبداعاتنا ونتاجاتنا الفنية ، إن مثل هذا العمل يسقطهم أولا وأخرا في التقليد الذي يتنافى تماما مع العملية الإبداعية، لأن التقليد يمثل العدو الأول للإبداع، كما أن استحضار مفاهيم الغرب و معاييره في كل خطواتنا واعتباره سباقا في كل المجالات الحياتية يضعف من همتنا، ويميت تحفزنا للإبداع واختراق الآفاق، لأن المرء إذا ما أدرك أن هناك من سبقه إلى درب من دروب الحياة واعتقد بعدم إمكانية الإتيان بشيء جديد، يفتر عزمه، ويتلاشى حزمه في تقديم التضحيات الكافية لبلوغ ذلك الدرب المقصود، على عكس ما إذا كان سباقا لاكتشاف جواهر مطمورة، ولآلئ مكنوزة، وتحف لم تر العين مثلها من قبل، فان نفسه تكون في توق، وقلبه في شوق، لتقديم كل غال ونفيس ليفوز بقصب السبق في الإكتشاف الجديد وبلوغ الهدف المراد ونيل كل عجيب متسام، ولقد أدرك أجدادنا من المسلمين هذا السر في الإبداع فصنعوا المعجزات فكرا واكتشافات و إبداعات، وبهروا نفوسا كرعت من ينابيعهم الثرة وبحارهم العميقة المليئة بكل رائع وجميل ومؤثر عجيب، وانتقلت آدابهم إلى أوروبا عبر الدردنيل والأندلس وصقلية وغيرها ، وعلى ورثة هؤلاء الأفذاذ أن يواصلوا مسيرتهم في البناء والتشييد والإبداع : من ذلك أن (المعراج الإسلامي ) نجده يؤثر في القصص الأوربية ، كما تمثله " الكوميديا الإلاهية "لدانتي الأجيري " الإيطالي و التي كتبها في القرن الرابع عشر الميلادي .فقد صورت هذه القصيدة الحياة الأخرى بشقائها و نعيمها ، بحيث أسهم هذا التصور في ثقافة الناس في أوروبا لما بعد الموت حتى مطلع القرن الماضي ، و اعترف المستشرق الإسباني : "أسين بلاثيوس "سنة 1919 أن "دانني" متأثر بالمعراج الإسلامي تأثرا كبيرا ، يكشف عنه التماثل في دقة التفاصيل بين "الكوميديا الإلاهية " و (المعراج الإسلامي ) و ما يتصل به من قصص إسلامي كما ورد عند ابن مسرة و تلميذه ابن عربي الأندلسي في (الفتوحات المكية ) و في رسالة الغفران لأبي علاء المعري بالإضافة إلى تفسيرات علماء الإسلام للقصة و تعليقاتهم عليها . كما أثرت قصة "حي بن يقضان " للأديب الفيلسوف ابن طفيل الأندلسي في آداب الغرب ، إذ تعالج قصة ابن طفيل فكرة الإهتداء إلى الله و معرفته عن طريق العقل و التجربة معا خلال النظر في آيات الله و مخلوقاته ، و قد ترجمت هذه القصة إلى اللاتينية بعنوان : " الفيلسوف المعلم نفسه " في القرن السابع عشر الميلادي ، و من اللاتينية إلى الأنقليزية و تأثر بها الكاتب الإسباني "بلتاسار جراثيا " في قصة النقاد critiquons و قد قسمها صاحبها إلى ثلاثة أجزاء هي : في ربيع الطفولة ، ثم في خريف عهد الرجولة ثم في شتاء الشيخوخة : وهي نقد للعادات و التقاليد في عهد المؤلف .
و نجد " دانيال ديفو" في قصته " روبنسون كروز " يتأثر بقصة ابن طفيل لا سيما و قد انتهى بطلا القصتين إلى معرفة الله و الإهتداء إليه و إدراك هيمنته على الكون ، و قد ترجمت قصة حي بن يقضان إلى الفرنسية و الروسية في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي .
كما نلاحظ تماثلا كبيرا بين قصة " زرقاء اليمامة " المعروفة و مسرحية " ماكبث " لشكسبير ، ففي "رنات المثالث و المثاني " رأت زرقاء اليمامة شجرا يسير ، و ما كان هذا الشجر سوى أعداء قومها ، و قد حمل كل بطل شجرة قدر طاقته ، ليتخفى وراءها أثناء التوجه لغزو قوم زرقاء اليمامة ، الذين لم يصدقوا ما رأته زرقاء اليمامة و ما أخبرتهم به ، حتى فوجئوا بالأعداء كما وصفت زرقاؤهم و حلت بهم الهزيمة ، و قد وردت فكرة الغابة المتحركة في مسرحية " ماكبث " لشكسبير ، إذ بينما كان القائد "ماكبث" متحصنا بقلعته إذ بأحد الحراس يسرع إليه ليخبره بأن غابة " برنام " تتحرك ، و في الحقيقة لم تكن الغابة سوى جيش:"مالكولم" الذي جاء متقدما نحو القلعة و متسترا بأغصان الأشجار مما بدا للحارس كأنه غابة " برنام " تسير ، و من هنا أخذ " ماكبث " على حين غرة .
هذه عينات من بحر أجدادنا الزاخر بكل جميل و طريف مما جعل أوروبا تغرف من هذا البحر الغني باللآلئ ، نقدمه في زمن الجدب والقحط و التقليد الأعمى لمنتجات المدنية الغربية المتوحشة ، لعله يصيبنا منه بعض الطل فتنهمر المطر و تروى أراضينا القاحلة .
النقد الأدبي ضرورة حضارية
يشكل النقد الأدبي ركيزة مركزية في عملية تحديد الخطوط الأساسية للفن المنشود، فهو بمثابة الميزان الذي يحدد به غث العمل الفني من سمينه ، و مدى التصاقه بمشكلات الأمة و التزامه بقضاياها . فالناقد إذن له وظيفة مقدسة تتمثل في تربية الذوق الفني الصحيح و السليم لدى أفراد الأمة و الناشئة ، و إشراكهم في المتعة النظيفة و الغذاء الفكري و الروحي الذي من شأنه أن يرتقي بهم إلى مراتب عليا من السمو و الشفافية ، لذلك فهو يساهم بقسط كبير في تشكيل أذواق الناس و وجدانهم و أفكارهم ، و هذا ما يجعله يتحمل رسالة خطيرة في الحفاظ على قيم المجتمع و مبادئه لا أن يساعد على هدم ما تبقى في قلبه و عقله من أصالة و صدق و إيثار و تمسك بالمبادئ الفاضلة و القيم النبيلة ، تلك التي تورث القوة و العزة و التميز الحضاري و الإبداعي حتى نتمكن من الإقلاع الحضاري المنشود : إذ الحضارة إبداع و ليست تقليدا أو تماهيا مع الآخر – العدو.
و كلما كان الناقد واعيا بدوره في توجيه الجمهور و تعليمه ، كلما سهل عليه النزول من برجه العاجي و أمكنه القيام برسالته الحقيقية في المجتمع ، و عرف أكثر أن حصر النقد بين الخاصة أو أروقة الجامعات و المدارس و المحافل الأدبية هو إهدار كبير للنقد و للجمهور معا . و هذا يقتضي أن يكون أسلوب النقد مفهوما مبسطا بعيدا عن التكلف و التعقيد ، و بلغة عربية فصيحة ،حتى تستسيغه جمهرة المثقفين و يصل أثره إلى الناس كافة في كل موقع .
إن الإقتراب من نفسية الجمهور و جعله يتفاعل مع ما ينشر من إبداعات فنية مختلفة ، يقتضي أن يتحرر الناقد من سيطرة المدارس النقدية الغربية و قيودها ، يستفيد منها و لا يتقيد بها ، يأخذ ما يصلح منها ، و لا يتبناها ، و يترك لنفسه مطلق الحرية و المسؤولية في اكتشاف الأطر المناسبة لأدبنا و مجتمعنا، و كل هذا يتطلب أن يكون الناقد العربي المسلم قد كرع من ينابيع أمتنا الإسلامية و عطاءاتها التي لا تنضب ، واطلع على أصول ثقافتنا المجتمعية و مميزاتها ، غير مكتف بما يعرفه عامة الناس من المدارس ، و تشبع من ثقافة العصر و مكوناتها، مواكبا لكل ما يجد على الساحة الثقافية حتى لا يتيه في دياجير الظلمة و الضبابية و الإنغلاق %
باقة ورد للمرأة التونسية بمناسبة عيدها الوطني ؟
كـــلــنـا خــائـنــون !؟
الأستاذ محمد سالم بن عمر مؤسس دعوة الحق العالمية يقول في أول تصريح له:
دعوتنا تهدف بالأساس إلى عقلنة المؤسسات و الهياكل الدينية و السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية في المجتمع المدني في بلاد الإسلام و تحريرها من جاهلية الغرب و حيوانيته .../
علمانيون و إسلاميون حولوا تراث الإسلام و الغرب إلى صنم يتعبدونه من دون الله و لا سبيل إلى نجاة أمتنا الإسلامية إلا بالتحرر من كل هؤلاء الخونة لله و لرسوله .
الإعلام العربي يروج للصنمية / الوثنية البشرية ( عبادة الملوك و الرؤساء و المرأة ...) و الإعلام الغربي يروج للصنمية الفكرية ( الديمقراطية ، الحرية ، حقوق الإنسان ... ) و كل هذه الوثنيات على اختلاف مشاربها تحجب العقل البشري عن رؤية الحق أو اتباعه ! ؟ مما جعل العالم يعيش في ظلمات بعضها فوق بعض ، و تنتابه مختلف أنواع الأمراض المزمنة و الكوارث و الأوبئة المستعصية ...!!؟
النخبة في الوطن العربي الإسلامي عاجزة تماما عن تغيير مجتمعاتها نحو الأفضل أو تثويرها ، لانبتاتها عن ثوابت الإسلام و قيم المجتمع و افتقادها لآليات التغيير الفكري و النفسي ، و تبنيها لظلامية الفكر الغربي المأزوم ...
القوانين الوضعية العمياء و الظالمة التي تنتظم بها حياتنا في بلاد الإسلام ما هي إلا أغلال لتكريس الصنمية البشرية – عبادة الأشخاص – و تكبيل المواطن العربي بأثقال تدفعه إلى مكان سحيق من التخلف الفكري و الإنحطاط الأخلاقي و توسيع قابليته للنهب و الإستغلال المحلي و الدولي برضى تام حتى غدا فيئا سهلا لمختلف الجراثيم الفتاكة و الأمراض المزمنة... إن القوانين الوضعية المجرمة و المتعارضة مع الفطرة الإلاهية، قد أفسدت حياة الناس شرقا و غربا و تسببت في نشر الأمراض المستعصية والمزمنة و العجز الجنسي ، و ارتفاع نسب الطلاق و الخصام بين ركني المجتمع – المرأة و الرجل – كما تتسبب الأرض غير المعبدة في إهلاك و تحطيم السيارات التي تنتهجها و إهلاك الحرث و النسل ! لقد حولت هذه القوانين الوضعية العمياء حياتنا إلى جحيم لا يطاق .. و ضنك في العيش لا يدانى .. لأنها قوانين تتعارض و فطرة الخلق التي خلقنا ربنا عليها( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)، فأفقدت رجالنا رجولتهم و نساءنا أنوثتهن .. فاستشرى العجز الجنسي و مرض السكري و ضغط الدم و شتى الأمراض المزمنة و البطالة المهلكة و الإنحراف المهين لكرامة الإنسان ، كما ارتفعت نسبة الطلاق بسبب التظالم الذي صار بين الرجل و المرأة العربية .. و ضاع أبناؤنا في متاهات الطريق..! (أربعون في المائة من التونسيين 40%– مثلا - يعانون عجزا جنسيا متفاوتا.. و أن الأمراض المزمنة تتزايد في تونس من عام إلى آخر حسب ما جاء في جريدة القدس العربي ليوم 28 فيفري 2008). كما جاء في جريدة الصباح 8 أوت 2009 : تحتل تونس المركز الأول عربيا و الرابع عالميا في نسبة الطلاق بعد أن بلغت حالات الطلاق أرقاما قياسية ... تتسبب المشاكل الإجتماعية بنسبة 48.3% بحالات الطلاق و التي تشمل المعاملة السيئة و العنف و عدم الشعور بالمسؤولية و الإختلاف في المستوى الثقافي و التعليمي... إن حالات الطلاق لسنة 2008 بلغت 9127 حالة مقابل 16 ألف زواج لنفس السنة ، و تعتبر نسبة الطلاق الأعلى في المنطقة العربية حسبما جاء في الدراسة، والملفت للإنتباه في الدراسة أن أكثر من 50% من رافعي قضايا الطلاق من النساء سنة 2008 بينما كانت سنة 1960 لا تتجاوز 6%) هذا ما فعلته القوانين الوضعية العمياء بقطر عربي لا يزال يقدم نفسه على أنه رمز الحداثة و التقدم و تحرر المرأة و لائكية القوانين التي تسير هياكله الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية ... !!!؟؟؟
فلسطين لن تتحرر إلا بما تحرر به بنو إسرائيل من ظلم فرعون و جنده على عهد موسى عليه السلام : الإيمان الصادق بالله و الصبر و الإيمان بالكتاب كله ، و التنكب عن " البعضية " : ( الإيمان ببعض الكتاب و الكفر بالبعض الآخر) ، لأن شرط وراثة الأرض / قانون وراثة الأرض و تحريرها من الفراعنة المجرمين و امتلاكها : هو الصلاح وتقوى الله و الإلتزام بمنهجه و قوانينه الأزلية و الفطرية و ليس الإستمساك بالديمقراطية الغربية التي أوصلت حماس إلى السلطة وهي التي ستفنيها عن بكرة أبيها إذا ما واصلت الإستمساك بها .
كلنا خائنون لله و لرسوله فلنتحمل السحق والقتل و التنكيل و الخزي دنيا و آخرة على يد قتلة الأنبياء و عبدة العجل و الملعونين على ألسنة أنبيائهم و على يد الفراعنة المحدثين، ورثة الإستعمار في ديار الإسلام .
لنتذكر جميعا شعار الغرب في تحرير نفسه : أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس % و أنا أقول : أشنقوا آخر لائكي لا يؤمن بقوانين الله المفصلة في القرآن بأمعاء آخر رجل دين يحرف كلمات الله و يشرع للظلم و الباطل و مساندة الفراعنة المتألهين %
مفارقات عجيبة!! ؟
واعجبي من أمة أنزل عليها القرآن لإخراج الناس من الظلمات إلى النور وهي لا تزال تعيش في ليل حالك الظلمة منذ قرون و لا تدري!
واعجبي من حركات و حكومات " إسلامية " تنادي بالديمقراطية الغربية و تتبنى نظم وضعية لائكية ظالمة و لا تنادي بتطبيق قوانين الله ، قوانين الفطرة التي فطر الناس عليها المفصلة في الذكر الحكيم !! ؟
إن المرء ليعجب و إن النفس لتحنق من تلك الدول و الحكومات و الحركات الإسلامية التي تزعم أنها تنتهج منهجا ربانيا في كل تحركاتها و تعاملها مع الأحداث المختلفة ، و واقعها يشي بمخالفات جسيمة و تجاوزات رهيبة لكل مبادئ الإسلام و ثوابته و بصائره التي لا تخطئها العين أبدا :
إنها تنادي بالديمقراطية علنا و تعتمدها منهجا لحل المعضلات و تفخر بذلك و تزايد و تقدم التضحيات الجسام و" الشهداء الأبرار" لتعلن في النهاية أنها لا تزال تتمسك بمبادئ الديمقراطية و جبروتها و لن تتخلى عنها مهما أصابها من عنت لاعتقادها الجازم بأنها المخرج الوحيد و الطريق الأمثل لتحقيق طموحات المسلمين و تطبيق شريعة الإسلام !! ؟
و السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو : كيف يجمع هؤلاء الخونة لله و لرسوله ، بين متناقضات ، بين منهج رباني فطري قد فطر الناس عليه منذ خلقهم الأول ، منهج رباني يدرك إدراكا تاما و مطلقا حقيقة الإنسان و الكون و الحياة ، فأنزل من الثوابت ما يلاءم حياة الإنسان و يفي له بكل أشواقه الروحية و المادية و يلبي جميع حاجياته الظاهرة و الباطنة ، و بين منهج إنساني نسبي لا يزال يتخبط خبطا عشوائيا في ظلمات بعضها فوق بعض و يتسبب في مآسي إنسانية لا تحصى و لا تعد ، و قد عجز عجزا تاما و مزمنا حتى عن تلبية أشواق الإنسان الغربي الذي قد انحرف عن فطرة الله منذ أمد بعيد ، فما بالك بأشواق الإنسان المسلم الذي تفتحت عيناه على نور الله و هدايته !! ؟ لقد عجزت الديمقراطيات المختلفة عن إيجاد سلم بين أبناء الوطن الواحد وهي لا تزال تتسبب يوميا في سفك الدماء بغير حق، و انتهاك الحقوق و سحق الإنسان أينما كان، و تشريد الأطفال و النساء و المتاجرة بأعراضهن في أسواق النخاسة... فكيف تصبح هذه الديمقراطية العمياء بديلا عن منهج رباني يرى أن قتل نفس واحدة بغير حق كقتل الناس جميعا !! ؟ منهج يرفض رفضا قاطعا أن يكون أي فرد فيه عاطلا و غير مسئول في بلده و حمل الأمانة التي كلفه ربه بحملها ، لأن العطالة في مفهوم الإسلام تعني الموت ، يقول الرسول الأكرم : (كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته ) ، بينما أقصى ما تطمح إليه الديمقراطية الغربية أن تخلق صنفين من الناس : سادة و عبيد، سادة يتحكمون في مصائر الناس و يتولون مختلف المسئوليات و عبيد يصوتون لفائدة هذا أو ذاك ، ليحالوا بعد ذلك على التقاعد و العطالة التاريخية !! ؟ و هذه العطالة ليست بسبب نقص في مداركهم العقلية أو بسبب مرض في أبدانهم ، و لكنها بسبب نقص المال في جيوبهم !! ؟
إني لأعجب كل العجب من مسلمين يسمعون آيات الله تتلى عليم آناء الليل و أطراف النهار تأمرهم بالخضوع لشرع الله و الحكم فيما بينهم بما أنزل الله في القرآن ، و تكفر بألفاظ واضحة كل من لا يحتكم لشرع الله ، ثم لا يجدون غضاضة في الإنتماء لأحزاب و حكومات علمانية لائكية لا تعترف أصلا بالشريعة الإسلامية ، ثم يمنون النفس برضا الله عنهم يوم يقوم الناس لرب العالمين !! ؟
الماء أصل الحياة !
بقلم : محمد بن سالم بن عمر
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
http:islam3mille.blogspot.com
86، حي الليمون ، منزل بورقيبة 7050 / ص.ب :260 ولاية بنزرت – الجمهورية التونسية .
الهاتف : 93833734 (00216)
تمهيد
تتميز نظرة الإسلام إلى الماء بالواقعية والعمق والشمولية، أمّا النظرة الواقعية فتتمثل في احتلال الماء أهمية كبرى في نصوص القرآن الكريم باعتباره أصل الحياة ونعمة النعم التي منّ الله بها على بني آدم. وأمّا عمق هذه النظرة فتبرز خاصة في البرهنة بحجج دامغة وملموسة على أنّ الماء آية من آيات الله الدّالة على وحدانيته سبحانه وتعالى وعظيم قدرته على البعث والنشور وإحياء الموتى... وأما الشمولية فتتجسد أساسا في إحاطة الإسلام بكل منافع الماء وأدواره في هذه الدنيا وكذلك في الآخرة.
الماء وأصل الحياة :
أ‌- الماء أصل الحياة :
إنّ كون الماء يمثّل سرّ الحياة النضيرة الزاهية المخضرّة حقيقة كونية ووجوديّة لم يغفل عنها الإنسان في أيّ زمان وفي أي مكان، لذلك نجد القرآن الكريم يثبت هذه الحقيقة بكل وضوح ودقّة: يقول عزّ وجلّ في سورة الأنبياء " أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرٍض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" (أنبياء/30).
والمعنى: أو لم يعلم الكفار بالله والمشركون الذين أشركوا مع الله إلها آخر أنّ السماوات والأرض كانتا ملتصقتين شيئا واحدا، ففصلناهما وميزناهما عن بعضهما بكتلة الهواء، وخلقنا من الماء كلّ شيء: من حيوان ونبات وغيرهما أفلا يصدقون بقدرتي وتوحيدي؟
ب‌- الماء أصل خلق الإنسان :
إذا تأمّل الإنسان ونظر نظرة مستنيرة من أي شيء خلقه ربّه، فسيجد أنّه خلق من ماء (مني) مصبوب في الرّحم، ويخرج هذا الماء من بين ظهر الرجل وعظام صدر المرأة يقول عزّ وجلّ: " فلينظر الإنسان ممّ خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصّلب والترائب". (الطارق الآيات 5-7)
ويقول عزّ وجلّ: " ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون". (المرسلات الآيات 20-23)
"وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربّك قديرا". (الفرقان الآية54)
أ‌- الماء أصل خلق الدّواب :
إن كون كل من هبّ ودبّ على وجه الأرض قد خلق من ماء قانون إلهي ينطبق على كل المخلوقات بدون استثناء. يقول عزّ وجلّ: "والله خلق كلّ دابّة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إنّ الله على كلّ شيء قدير" (النور الآية 45)
نتيجة أولى:" الماء دليل على وحدانية الخالق"
إنّ وحدة العنصر الذي يرجع إليه أصل الحياة (وهو الماء) يبرهن بقوّة وبحجج دامغة على وحدانية الخالق وتفرّده بالخلق دون سواه، لأن إتباع نسق واحد في خلق السماوات والأرض وهندستها ورجوع أصل الحياة على اختلافها إلى شيء واحد ونظام واحد برهان قويّ وحجة ما بعدها حجّة على وحدانية الخالق وهو ليس كمثله شيء. فالله واحد في ذاته، لا شريك له، لم يلد ولم يولد من أحد، لأنّه قديم أزلي غير محدث فالله تبارك وتعالى هو خالق الكون وما فيه، وأنّه تعالى وحده المتصرّف فيه، وأن الجميع يخضعون لإرادته ومشيئته، إن وحدة الموجد لهذا الكون، ووحدة الموجودات في السماوات والأرضين ووحدة البشرية جميعا ووحدة القوانين التي تسير بمقتضاها الكائنات تنفي عبثية الكون وتدلّ على قدرة الله وترشد العباد إلى عظيم حكمة الله وتجنبهم الشّرك والكفر والضلال. إذ لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى غير الله لخربتا واختل نظام الكون وتضاربت نواميسه لاستبداد كل إله بتصرّف معيّن، فيقع التنازع والإختلاف. وبهذا يكون الماء آية تدلّ على أن الله واحد أحد لكونه أصل فريد لكلّ الكائنات الحيّة يقول سبحانه وتعالى في سورة الواقعة: " أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون" (الواقعةالآيات68-70)، أي أخبروني أيّها الناس عن الماء الذي تشربون منه لإرواء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحب أم نحن المنزلون له بإرادتنا وقدرتنا دون غيرنا؟
وبعد ما يثبت لنا القرآن العظيم وحدانية الخالق عزّ وجلّ وتنزهه عن الشريك في خلق السماوات والأرض والنّاس والدّواب والنبات، وتفرّده في تدبير الكون... يقدّم لنا الإسلام براهين ملموسة ومشاهدة على إمكانية البعث وإحياء الموتى يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
الماء وقضية البعث:
أ‌- بداية خلق الإنسان من تراب
تجمع عديد الآيات القرآنية على أن الله تجلت قدرته خلق الناس في الأصل من تراب بخلق أبيهم آدم عليه السّلام، ثم خلقهم من نطفة... يقول عزّ وجلّ: "ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا انتم بشر تنتشرون" (الرّوم/20). ويقول أيضا: "الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون" (السجدة الآيات 7-9).
ونجد أيضا هذه الآية: "هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفـّى من قبل ولتبلغوا أجلا غير مسمّى ولعلكم تعقلون" (غافرالآية67).
ب‌- إحياء الأرض الميتة بالماء:
تلفت عديد الآيات القرآنية انتباه الإنسان إلى التحوّل الذي يطرأ على الأرض الميّتة بعد نزول المطر عليها.. فهي تكون هامدة بين الحياة والموت فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت، وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجّلها الملاحظة العلمية بمئات السنين، فالتربة الجافة ينزل عليها الماء فتتحرّك حركة اهتزاز وهي تشرب وتنتفخ فتربو وتنبت من كلّ صنف نباتي نضير، يقول عزّ وجلّ: " ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون" (الرومالآية24). "أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجُرُز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون" (السجدةالآية27) ويقول أيضا: " وهو الذي أرسل الريح بُشرا بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماء طهورا، لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسيّ كثيرا" (الفرقان الآيات 48-49).
نتيجة ثانية:" الماء برهان على يوم البعث لأن إحياء الأرض الميّتة في الدنيا يضاهي إحياء الموتى يوم القيامة ".
إذا كان الإنسان يشترك مع الأرض في الأصل الواحد وهو التراب فإنّ إحياء الأرض بعد موتها برهان على استطاعة الله إحياء الموتى يوم القيامة فإذا كان الله بقدرته يحيي الأرض الميتة بقطرات من الماء فهل يعقل أن يعجز عن إحياء الإنسان بعد موته وهو الذي بدأ الله خلقه من تراب..؟؟! فالذي أحيا الأرض قادر ولا شكّ على إحياء الموتى بعد فنائهم وهو قادر على كلّ شيء فالماء كما برهن يقينيا على وحدانية الله فهو يبرهن بالملموس ويقرّب إلى الأذهان كيفيّة البعث والنشور. فكون أصل الإنسان من تراب فإحياء الأرض بعد موتها يتفق مع إمكانية إحياء الإنسان بعد الموت، وفيما يلي بعض الآيات التي تشرح هذه المعاني وتربط بين كيفية إحياء الأرض بالماء وكيفية إحياء الله عز وجل الموتى يوم القيامة، يقول عزّ وجلّ: " يا أيّها النّاس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى ثم نخرجكم طفلا ثمّ لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفـّى ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بانّ الله هو الحق وأنّه يحيي الموتى وأنّه على كل شيء قدير" (الحج الآيات 5-6)
" والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون" (الزخرف الآية11) ." ومن آياته أنّك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنّه على كلّ شيء قدير" (فصلت الآية39)" والله الذي أرسل الرّياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النّشوز" (فاطرالآية9)
فهذه الآيات تجمع على أن الله الذي أرسل الرّياح مبشرات بهطول الأمطار، فتحرّك سحابا وتدفعه إلى جهة ما فيسوق الله هذا السحاب المحمّل بالغيث إلى بلد مجدب قاحل غير منبت فيحيي بالمطر الأرض بإنبات النبات بعد يبسها وجدبها. وبمثل ذلك الإحياء يحيي الله العباد بعد الموت ، فهو " يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون" (الرّوم/19).
ولعلّ ما يبعث به نزول الغيث من أمل وبشرى في نفوس الناس بعد اليأس والقنوط عمليّة تقرّب من الأذهان كيفية الحياة بعد الموت أيضا لأنّ اليأس نوع من الموت، يقول عزّ وجلّ: "وهو الذي ينزّل الغيث من بعدما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد" (الشورىالآية28). فالله هو الذي ينزل المطر لإغاثة الناس بعد يأسهم من نزوله وتعمّ رحمته كلّ شيء، وتنشر منافع الغيث في كل مكان، وهو الذي يتولى الصّالحين من عباده بالإحسان المحمود على كلّ حال، المستحق للحمد والشّكر على نعمه الكثيرة فالمطر دائما يحمل البشرى بالخير والخصب، يقول الحق تبارك وتعالى: "الله الذي يرسل الرّياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين. فانظر إلى أثر رحمة ربّك كيف يحيي الأرض بعد موتها إنّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كلّ شيء قدير" (الروم الآيات 48-50)
الماء أصل كلّ الخيرات في الدّنيا والآخرة:
• في الدنيا
أ‌- طعام الإنسان أصله ماء
إذا ما نظر الإنسان نظرة تأمّل وتفكّر كيف أوجد الله له طعامه الذي هو سبب حياته فسيجد أنّ الله أنزل المطر إنزالا سخيا كثيرا، ثمّ شقّ الأرض حبّا كالحنطة والشعير، وأعناب وكلّ ما يقطع أخضر طريّا وأشجار زيتون ونخيل وبساتين كثيرة الأشجار.. وفاكهة مختلفة الألوان والأنواع وعشبا للدواب، خلقها الله منفعة للبشر ولجميع حيواناتهم يقول عزّ وجلّ: " فلينظر الإنسان إلى طعامه إنّا صببنا الماء صبّا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبًّا متاع لكم ولأنعامكم" (عبس الآيات 24-32). كما جاء قوله تعالى: "وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبّا ونباتا وجنات ألفافا" (النبأ الآيات 14-16).
فكل ما يمثل قوتا للعباد من بساتين مشجرة كثيرة، وزروع مختلفة ذات حبوب كالبر والشعير والنّخيل المتميّز بأشجار طوال عالية لها ثم منضد: كل هذه الخيرات أصلها المطر رمز الخير والبركة والمنفعة يقول عزّ وجلّ: " ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحَبَّ الحصيد، والنخل باسقات لها طلح نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج" (ق الآيات 9-11).
إنّ الرّبيع يبعث مع جريان الجداول، فتعمر المنتزهات الزاهية وتزدهي الطبيعة بكساء مزركش أخاذ، ويعبق الفضاء بنسيم نقي عاطر وترفرف البلابل والفراشات فتلقاها تجيء وتروح وتحوم وترقص... ويهنأ الناس بأشهى الثمار وأجمل الورود والياسمين. وكل هذه الخيرات التي ينعم بها البشر تسقى بماء واحد كما الرّب واحد. لكن لا يجب أن يغترّ المرء بهذه الخضرة والتنوّع لأنّ كلّ ذلك سييبس ويجف فتراه مصفرّا بعد خضرته، ثمّ يتفتّت ويتكسّر يقول الله في ذلك: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثمّ يهيج فتراه مصفرّا ثمّ يجعله حطاما إنّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب" (الزمرالآية21).
وهذه القوانين تنسحب على كل المخلوقات الكونية حتى يعلم الإنسان أن عبادة الله هي الغاية القصوى من خلقه فيسعى تبعا لذلك في هذه الحياة الدنيا مستفيدا مما سخره الله من الكائنات والخيرات كوسيلة لحفظ البدن الذاكر الشاكر المتفكّر...
ب‌- استخراج الزينة والحلي من البحر
يعتمد الإنسان في معاشه على ما يستخرجه من البحر أيضا كالسمك واللؤلؤ والمرجان، كما يستعمل السفن عابرات شاقات الماء يجريها فيه طلبا لرزق الله وفضله بالتجارة يقول عزّ وجلّ: " وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريّا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون".(فاطرالآية12)
ج‌- الماء فيه شفاء من بعض الأسقام:
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنّ النبي الصّابر أيّوب بن أموص بن أروم حين دعا ربّه متضرّعا بأنه أصيب بضرّ ومشقّة وألم أي مرض قال له الله: اضرب برجلك الأرض يخرج ينبوع من الماء البارد، كما أمر موسى بضرب الحجر، فضرب، فنبعت عين جارية، قيل له هذا ماء بارد مغتسل تغتسل به، وشراب تشرب منه، ففعل فبرئ مما أصابه، يقول الله تعالى في ذلك: " واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه إنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب" (ص الآيات 41 -42).
د- الماء إحدى المعجزات وحجة على الكفار:
فقد أوحى الله إلى موسى عليه السلام حين طلب قومه السقيا، لما أصابهم من العطش في صحراء التيه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت منه أثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط، فقد علم كل سبط منهم مكان شربهم، قال تعالى: " وأوحينا إلى موسى إذا استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه أثنتا عشر عينا قد علم كل أناس مشربهم" (الأعرافالآية160). وكان الماء من أبلغ الحجج التي قدّمها النبي نوح عليه السلام لقومه لكي يؤمنوا بالله ويوحدوه، قال عزّ وجلّ على لسان نوح: " فقلت استغفروا ربّكم أنّه كان غفّارا يرسل السّماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم أنهارا" (نوح الآيات 10-12). وكذلك ذكّر كل من هود وصالح عليهما السلام قومهم بنعمة الماء يقول عزّ وجلّ: " كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون... فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمدّكم بأنعام وبنين وجنات وعيون" (الشعراء الآيات 123-134).
وقال صالح عليه السلام لقومه ثمود: "إنّي لكم رسول أمين فاتّقوا الله وأطيعون... أتتركون في ما هاهنا آمنين في جنات وعيون" (الشعراء الآيات 143-147). كما كان الماء سببا في إنقاذ المؤمنين بنوح عليه السلام من الطّوفان في السّفينة التي تجري فوق الماء، وهي سفينة نوح يقول عزّ وجلّ: "..إنّا لما طغى الماء حملناكم في الجارية" (الحاقة الآية11). وجعل الله اليم منقذا لموسى من الموت المحتم على يد فرعون عليه لعنة الله. يقصّ القرآن ذلك فيقول: " وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين" (القصص الآية7).
ولمّا عرض زعماء قريش كأبي سفيان والنضر بن الحارث على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والجاه والشرف ليكفّ عن دعوته فأبى ذلك... فسانده الله على موقفه مبينا له أنّه لو شاء لجعل له خيرا ممّا اقترحوه، وهو بساتين تجري من تحت غرفها الأنهار ممّا يبرهن على أن الماء يحتل عند الله أعلى الدرجات من بين جميع الخيرات، يقول عزّ وجلا في ذلك: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنّات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا" (الفرقان الآية 10 )
• في الآخرة
أ‌- الماء مكوّن من مكوّنات الجنّة :
هذه بعض العينات للأهمية البالغة التي يحتلها الماء في حياة البشر من وجهة نظر إسلامية حاولنا أن تكون مدعّمة بآيات من القرآن الكريم، وهذه الأهمية التي يحتلها الماء في هذه الدّنيا ستزداد أهميتها يوم القيامة بالنسبة للمؤمنين الذين فازوا برضوان الله عزّ وجلّ وفيما يلي بعض الآيات القرآنية التي تصوّر لنا النعيم الذي سيمتع به الأبرار في الجنّة والذي سيكون الماء ركيزة من ركائزه يقول عزّ وجلّ: " إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير" (البروج الآية11).
"إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه من مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم، عينا يشرب بها المقرّبون" (المطففين الآيات 22-28). "إنّ المتقين في ظلال وعيون وفواكه ممّا يشتهون، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، إنّا كذلك نجزي المحسنين" (المرسلات الآيات 41-44). "إنّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا" (الإنسان الآيات 5-6).
" إنّ المتقين في مقام أمين في جنّات وعيون" (الدّخان الآيات51-52). " لكن الذين اتّقوا ربّهم لهم غرف من فوقها غرف مبنيّة تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد" (الزمر الآية 20 ).
"هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب، جنّات عدن مفتّحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب" (ص الآيات 49-51).
"إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرّمون، في جنّات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذّة للشاربين لا فيها غَوْل ولا هم عنها ينزفون" (الصافات الآيات 40-48).
فالمؤمن كما هو في الدّنيا خيّر نافع مثمر، فإنّ جزاءه يوم القيامة يكون الإقامة الدّائمة في بساتين مختلفة، وأنهار متنوّعة، وفي مكان لا لغو فيه ولا تأثيم، عند ملك قادر لا يعجزه شيء، يقول عزّ وجلّ: "إنّ المتّقين في جنّات ونَهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر" (القمر الآيات 54-55).
الماء وسيلة يعاقب الله بها الكفار:
• في الآخرة
إنّ آية الماء التي تبرهن على وحدانية الله وعظمته وتقرّب إلى الأذهان كيفية البعث والنشور وكانت أصلا لخيري الدّنيا والآخرة بما تبعثه من خيرات في كافة مرافق الحياة، شاءت حكمة الله أن يكون الماء أيضا أداة فعّالة في عقاب الكفار في الدّنيا ومجازاتهم يوم البعث، فعلى عكس الجنّة التي وعد الله بها المتّقين، فيها أنهار جارية من ماء غير متغيّر الرّائحة والطّعم، وأنهار من حليب لم يتغيّر طعمه أيضا وأنهار من خمر لذة للشاربين، غير مؤذية ولا كريهة الطعم كخمر الدّنيا، وأنهار من عسل مصفـّى من الشّوائب على عكس مصير هؤلاء المتّقين سيكون مصير الكفار الخلود في النّار وسيسقون ماء حارّا شديد الغليان، فيقطع أمعاءهم، لشدّة حرارته، يقول عزّ وجلّ: "مثل الجنة التي وعد المتقون فيها انهار من ماء غير آسن و انهار من لبن لم يتغيّر طعمه وانهار من خمر لذّة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربّهم كمن هو خالد في النّار وسقوا ماء حميما فقطّع أمعائهم" (محمد الآية 15).
• في الدنيا
إنّ هذه الحال التي سيكون عليها الكفّار يوم القيامة هناك صورة مصغّرة لها في هذه الدّنيا وفيما يلي بعض الأمثلة:
- غرق قوم نوح: كذبوا نبي الله نوحا عليه السلام وقالوا عنه مجنون وزجروه بشدّة فازدجر وكفّ عن دعوى الرّسالة فدعا ربّه بأنّه مغلوب على أمره ففتح الله أبواب السّماء بمطر غزير منصب بشدّة وتتابع وشقّ عيون الأرض بالمياه، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قضى به في الأزل وقدره الله وهو الطوفان على "أمر" وهو إغراقهم... يقول عزّ وجلّ: " كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربّه إنّي مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السّماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر" (القمر الآيات 9-12)، "قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين، قال ربّي إنّ قومي كذبون، فافتح بيني وبينهم فتحا ونجّني ومن معي من المؤمنين، فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون، ثم أغرقنا بعدُ الباقين، إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين" (الشعراء الآيات 116-121).
ويقول تعالى: " وقوم نوح لمّا كذبوا الرّسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما" (الفرقان/37).
فالله لما استنجد به نوح عليه السلام أوحى إليه أن اصنع السفينة بحفظه وعنايته وإرشاده وتعليمه إيّاه وأمره بأن يحمل في السّفينة من كلّ أنواع الحيوان صنفين: ذكر وأنثى، ليستمرّ توالد الحيوان وتبقى الحياة في الأرض ثمّ كتب على الذين ظلموا الغرق والموت.
- غرق فرعون وجنده وترك العيون والجنان: يقول عزّ وجلّ: " فدعا ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنّهم جند مغرقون، كم تركوا من جنّات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين" (الدخان الآيات 22-28). وقال الله تعالى في سورة الذاريات: " وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ وهو مُليم" (الذاريات الآيات 38-40). ويقول عز جلّ مبينا أن الإغراق كان بسبب الإفراط في العصيان والفساد وإغضاب الله : " فاستخفّ قومه فأطاعوه أنّهم كانوا قوما فاسقين فلمّا آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين" (الزخرف الآيات 54-55).
فعاقبة الظلم والكفر تكون دائما وخيمة بمقتضى النواميس الإلهية: "فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين". (القصص الآية 40 ).
الإسلام و تحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي!؟
بقلم : محمد بن سالم بن عمر
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
http:islam3mille.blogspot.com
86، حي الليمون ، منزل بورقيبة 7050 / ص.ب :260 ولاية بنزرت – الجمهورية التونسية .
الهاتف : 23038163 (00216)
إن العمى الفكري و التضليل و الدروشة التي صارت تروج لها النخبة و جل الحركات و الأحزاب الإسلامية و العلمانية في الوطن العربي ... حتمت علينا كتابة هذا المقال :
علمانيون و إسلاميون يروجون لثقافة الدروشة و يبيعون صكوك الغفران و يتمعشون من نشر الشذوذ الفكري و النفسي في بلاد الإسلام ..
في أواخر القرن التّاسع عشر الميلادي كانت حركات الإستعمار الكبرى للعالم الإسلامي تركز قواعدها في الهند ومصر والجزائر وتونس والسودان ... كحلقة أخيرة من حلقات تطويق العالم الإسلامي والإنقضاض على ثرواته و أراضيه و كل خيراته.. ونهبها..! وكان قد مهّد لإستعمار بلاد الإسلام بغزو حضاري و ثقافي نشيط، ابتدأه وألهب شرارته الأولى في ديار الإسلام ما يسمون عندنا « بزعماء الإصلاح العرب»!؟ وهكذا تراجعت الرّابطة الإسلامية كشكل من أشكال البناء السّياسي القائم .. أمام ضربات الإستعمار الموجعة .. وقد توّج ذلك بسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1924م على يد كمال أتاتورك..
لقد تمزقت الرابطة الإسلامية - التي وحدت المسلمين سياسيا و جغرافيا لقرون عديدة - خلال القرن العشرين وتنازعت الدّول الإستعمارية الكبرى ميراث الإسلام وثرواته و أراضيه ... وسيطرت على أضخم قواعده وقدراته .. واندفعت الحركة الصّهيونية العالميّة بدعم مباشر من الإستعمار الغربي ..!! تسيطر على فلسطين وتجعل من احتلال بريطانيا للقدس مقدمة لسيطرتها عليها بعد خمسين عاما...!!
ولقد قاوم "ورثة الإسلام" في معارك حاسمة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي في أفغانستان والقرم ومصر وسورية والجزائر والعراق وباكستان .. وحققوا بعض الإنتصارات.. وتحرّرت ديار الإسلام من نفوذ الإستعمار العسكري الغربي المباشر وانبعثت من قلبه « حركة تحرّرية و تنويرية » بعد طول سبات.
غير أن حركة التـّنوير والتـّحرر الفكري / الحضاري لم تلبث أن واجهت عقبات كأداء في العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية هذا القرن الجديد، فقد تحالف الإستعمار الغربي و الإستكبار العالمي والصّهيونية و أزلامهم.. من أجل ضرب حركة التـّنوير والتـّحرّر الإسلامية ودفعها دفعا للإنحراف عن ثوابتها الإسلامية و بصائرها القرآنيّة الأزلية المنزلة على محمد صلى الله عليه و سلم.." لتحرير البشرية من عبادة العباد لعبادة رب العباد و فك أسرها من الظلم و الطواغيت و الأغلال المختلفة...!؟.." ومن ثم فانّ أخطر التحدّيات التي تواجه "ورثة الأنبياء " - عليهم السلام - في السّنوات الأخيرة تتمثل أساسا في الحفاظ و الإستمساك الواعي بالهوية الإسلاميّة والثوابت القرآنية وحماية الهوية الثقافية والحضارية للشعوب الإسلامية، وتطوير هياكلها وتحرير الفكر الإسلامي من الجمود و التقليد والعمى الفكري/الحضاري و فكر الدروشة..! ومن الأخطار الفكرية الشاذة والمفاهيم الثقافية المغلوطة و المنحرفة عن هداية الله و بصائره الأزلية و قوانينه الأبدية المنظمة للأسرة و المجتمع و الحياة عامة.. ورعاية شؤون المسلمين في العصر الحديث طبقا للثوابت الإسلامية.. داخل أرض الإسلام
و خارجها ..! و تحصين﴿ أمة الإسلام ﴾ ضد المخاطر الثقافية والحضارية التي تلقى إليها عن طريق وسائل الإعلام والإتصال المختلفة.. وعبر التبشير.. والإستشراق المنحاز لضلالات رجال الدين اليهودي و المسيحي .. و ضد الشعوبية المتطرفة.. والقوميات المتعصبة.. وهي آليات
و مفاهيم منحرفة تلتقي جميعا على هدف : إذابة الهوية الحضارية و التشكيك في الثوابت الإلاهية لأمتنا الإسلامية.. بدعوى "الحداثة" و"العولمة" و"العلمانية" و" اللائكية " و الإجتهاد و مواكبة العصر..! و غيرها من بدع جاهلية الإنسان الغربي الحديث و حيوانيته و تخلف الإنسان العربي / المسلم و تبعيته و انهزامه الحضاري و انبتاته عن ثوابته القيمية الإسلامية و هجره للقرآن منذ أمد بعيد!!؟... وهي دعاوي وإن اختلفت مسمياتها وتنوعت مصادرها و اختلفت.. إلا أنّها تتّـفق على أن يترك المسلمون ثوابت دينهم الإسلامي ومفاهيم قرآنهم وقوانينه الأزلية المطابقة لحقائق الكون والحياة والإنسان و فطرته التي فطره الله عليها منذ خلقه للكون .. واستبدالها بفلسفات مريضة وتيّارات جانحة منحرفة من الفكر والثقافة والإعتقاد ونظرة خاطئة لحقيقة الألوهية والقدر و تأويل خاطئ للنصوص المقدسة ﴿ التوراة والإنجيل والقرآن ﴾ حتى يسهل للغرب الإستعماري و الإستكبار العالمي وأزلامهما من الأقوام التبع و ورثته من بني جلدتنا بعد ذلك السّيطرة على شعوبنا الإسلامية و استغلالها و إذلالها فكريا و حضاريا و سياسيا .. ونهب ثرواتنا .. واستغلال شعوبنا وتركيعها لسيادة الغرب الموهومة و ربوبيته المزعومة للعالم وإخضاعها لأطروحاته المعادية لكل مصالحنا و كل مصالح الشعوب المستضعفة..!!؟ هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهه المسلمون/ "ورثة القرآن" في بداية هذا القرن 21 !؟ فالقضاء على أصالة هذه الأمة وكيانها الفكري والروحي و الحضاري .. هو مقدمة الغرب ألإستكباري/ الإستعماري لتحقيق مآربه ومآرب الصهيونية اللقيطة في الإستيلاء على ما تبقى من أرض الإسلام وخيرات أراضيه الممتدة شرقا وغربا !!؟
إنّ كلّ هؤلاء "الأعداء" لا يخفون عداءهم لحملة﴿ الرّاية الإسلامية﴾: الذين اختاروا طريق الأنبياء والصّالحين للسير على منهجهم
و الإنتصار للحق وإعلاء كلمة الله والتّمكين لشريعته الأزلية التي فطر الناس عليها في الأرض.. ومن ثََََم: تحقيق الأمن و الإستقرار لشعوبنا الإسلامية و لكافة شعوب الأرض.. و تحقيق وحدة المسلمين و عزتهم تحت راية القرآن و كلماته الأزلية المعجزة لأنها كلمات﴿ الله العزيز الخبير﴾.. وهذا العداء للإسلام و أهله تتفق عليه مختلف مؤسسات هؤلاء الأعداء: الثقافية والسّياسيّة والعسكريّة وغيرها، وورثتهم
و أتباعهم في ديارنا الإسلامية، وخلاصة ما يسعى إليه الغرب الإستعماري/ ألإستكباري بمعية الصّهيونية العالميّــة اللقيطة و أزلامهما من بني جلدتنا ..: هو التدجين ومن ثم الإحتواء و الهيمنة..! ولعل أبرز التّحديات التي واجهت الشعوب الإسلامية لتدجينهم و من ثم احتوائهم والهيمنة عليهم عن طريق العملاء و التبع تتمثل في تحريف مفاهيم الإسلام وتشويهها أو تأويلها وإخراجها عن طابعها المتكامل الجامع بين الدنيا والآخرة : متّهمين شريعته بأنها سبب تخلف المسلمين و تقهقرهم الحضاري..!؟؟ و قد نادى هؤلاء الأعداء جميعا باستبعاد مبادئه الأزلية و قوانينه الفطرية الحقة وعزلها عن الحياة..!!؟؟ ودعوا إلى "اللائكية" و"العلمانية" بديلا عنه!؟ كما استغلوا جهل العامة والخاصة في ديارنا و غفلتهم عن أهمية الشريعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية في الحفاظ على مكتسبات الأمة المسلمة وحماية النفس البشرية والكيان الإجتماعي من السقوط والإنهيار، ونادوا بالتحلل منها واستبدالها بقوانين الغرب وشريعته العمياء - والتي حولت العالم كما حولت مجتمعاته الغربية نفسها .. إلى غابة وحوش ضارية يأكل القوي فيه الضعيف كما هو مشاهد اليوم!؟- رغم عدم انسجام هذه القوانين
و التشريعات الوضعية العمياء مع بصائرنا القرآنية و خصوصيتنا الحضارية وقيمنا الثقافية ومفاهيمنا الإسلامية و قناعات شعوبنا الإسلامية ومعاييرها الإلاهية ..!؟
ثم امتدت دعوة التغريب و الإنبتات .. فزيفت المفاهيم وحرفت الكلم عن مواضعه وشوهت المبادئ التي أقامت الحضارة الإسلامية وأوصلتها إلى أقاصي الأرض واستمد منها المسلمون القوة على الصمود والقدرة على الفعل وبناء القوة والعزة والحضارة ووراثة الأرض وامتلاك ناصية الأمم و الشعوب لردح طويل من الزمن.. وأهلتهم لأن يكونوا :﴿ خير أمة أخرجت للناس﴾..!
ويمكن حوصلة الهجمة الغربية – الصهيونية و أتباعهما على الإسلام في النقاط التالية:
محاربة الإسلام عن طريق نخبه المتغربة/المنبتة عن هوية أمتنا الإسلامية ... بنظريات زائفة كالتي تزعم "أن الدين ليس سوى الإنعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي": ( نظرية كارل ماركس/ ماركس محق إذا كان يقصد الدين اليهودي و الدين المسيحي المحرف و ليس دين التوحيد لموسى و عيسى و محمد عليهم السلام المفصل في التوراة و الإنجيل
و القرآن) المنزل﴿ من لدن عزيز حكيم﴾..!
كما شكلت مصنفات ما يسمون "بفلاسفة الأنوار" في القرن الثامن عشر ميلادي أرضية خصبة لمحاربة الدين عامة والفكر الإسلامي خاصة، من بعد ما تبنته نخبة هامة من "زعماء الإصلاح" في البلاد الإسلامية !!!؟- كما سبق و بينا خلال دراستنا لفكر عبد الرحمان الكواكبي – راجع كتاب : نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه ، الصادر بتونس 2009 ، ولم يع هؤلاء –"الزعماء"- أنهم كانوا يحفرون مقابرهم و مقابر حضارتهم الإسلامية بأيديهم!؟.
محاربة القيم والمبادئ والثوابت الإسلامية و اليهودية و المسيحية المشتركة وكل القيم الإنسانية النبيلة التي تنسجم مع فطرة الإنسان السوي، بدعوى أنها قيم نسبية ومتغيرة، ومرتبطة بالبيئات والعصور وتختلف باختلاف الحضارات!!؟ (التطبيقات البشرية للقيم الإلهية هي عملية نسبية لكن القيم و المعايير والموازين الإلاهية مطلقة و أزلية و صالحة لكل زمان و مكان )، والعالم كله يخضع طوعا و كرها لهذه القوانين الإلاهية ../
الدعوة إلى هدم الأسرة باعتبارها من مخلفات المجتمعات الإقطاعية وعصور الإنحطاط !!؟ والتشجيع على العلاقات المنحرفة و الشاذة كاللواط والسحاق-العلاقات المثلية - وهو ما تدعو إليه رمز الشذوذ الفكري و الجنسي في تونس ألفة يوسف !؟ - ... والإجهاض... كحل للمشكلات الأسرية و الإجتماعية و الشبابية ، وهي دعوة شيطانية لتغيير خلق الله و فطرته التي فطر الناس عليها.. و بسبب ذلك تحولت حياة الناس شرقا و غربا إلى جحيم لا يطاق – كما حارت سيدة الشذوذ الفكري في أمرها : ألفة يوسف، راجع كتابها حيرة مسلمة- و فقد الرجل و المرأة دورهما الطبيعي المحدد لهما في الحياة .. فاستشرت الأمراض المزمنة نتيجة لذلك وانتشرت السيدا و العجز الجنسي و الأمراض العصبية والذهانية و غيرها انتشارا مرعبا بين الناس كما نلاحظ اليوم بل طالت الأمراض المرعبة حتى الحيوانات بسبب فساد الإنسان و سوء تقديره لعواقب تغيير خلق الله :(جنون البقر و أنفلونزا الطيور و الخنازير )...!!؟
الدعوة إلى قيام العلاقات البشرية على أساس المصالح المادية والعرقية والإثنية وإثارة العصبيات الطائفية والعرقية كما يروج الأمريكان و أزلامهم في العراق منذ احتلاله عام 2003..!!؟ ﴿هذه الدعوة تتناقض حتى مع دعوتهم للديمقراطية و دولة القانون ! لأن القانون لا يفرق بين الناس عند تطبيقه : إنهم عميان البصيرة كالأنعام لا يعقلون بل هم أضل و يحسبون أنهم مهتدون !؟
إيجاد الأحزاب السياسية – علمانية و إسلامية - التي تتبنى مفاهيم الغرب و معاييره المزدوجة في ديارنا و رعايتها ماديا و لوجستيا..!!
محاربة اللغة العربية الفصحى، لغة الإسلام الأولى ولغة القرآن الكريم/ الكتاب الذي تحدى الجن و الإنس على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.. لإدراكهم الإرتباط الوثيق بين اللغة العربية والدين الإسلامي ومجد ووحدة المسلمين، وقد عملوا جاهدين على ترويج الدعاوى التي تتهم اللغة العربية الفصحى بالعقم والبداوة وألقوا عليها مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين ورفعوا شعار: « من أراد التقدم والرقي فلا يتكلم اللغة العربية »! زاعمين بعدم استجابة اللغة العربية الفصحى للحضارة الحديثة وأنها لا تستوعبها وهي عسيرة على من يتعلمها ؟! متعامين بذلك عن أن توقف اللغة العربية الفصحى عن الإشعاع الحضاري الذي بلغته من قبل مرده تخلفنا الحضاري و ليس عجز اللغة أو تخلفها كما يزعمون ..!؟﴿راجع كتاب : اللسان العربي و تحديات الخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي لمحمد بن سالم بن عمر الصادر بتونس 1995)
اعتماد مناهج تربوية من قبل الحكومات "العربية و الإسلامية" بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي في تربية الإنسان المسلم المثبت من الله ﴿ بالقول الثابت﴾ و القوانين الأزلية و التنويرية في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والمستضيء بنور الله و بصائره التي لا تخبو أبدا﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ﴾.
خلق مفهوم صراع الأجيال حتى يسهل بعد ذلك دفع الشباب إلى الإنهيار والتمزق في ظل فراغ نفسي وفكري وثقافي وعطش روحي
و دفعه للإنحراف و الشذوذ و تقديس الجنس و المخدرات و الإعتقاد الخاطئ في عبثية الحياة..!!؟
وقد تخفى هؤلاء المستكبرون عميان البصيرة .. وراء مذاهب ونظريات منحرفة مغرضة أثبت العلماء المحايدون جهالتها و تفاهتها
و تضاربها مع حقائق الوجود وعدم ارتكازها على حقائق علمية ثابتة وانبناؤها على الظن والتخمين .. وليس لها أية صلة بالواقع البشري
و حقائق العلم و المعرفة، بل وقدرة هذه النظريات الفائقة على تخريب عقول الناشئة وصنع "الرجال الجوف " حسب تعبير أحد شعرائهم!!؟
كل هذه الوقائع قد ساهمت بدورها في تبعية مجتمعاتنا الإسلامية و تأبيد تخلفها حتى بدا للعيان أن شفاءها قد صار متعذرا..؟!
إن مجابهة كل هذه التحديات الخطيرة وغيرها على مستقبل أمتنا الإسلامية: تبدأ بتجديد الثقافة الإسلامية التصحيحية المبنية على الثوابت الإلهية الحقة... مستمسكين بثوابتنا القيمية والحضارية ومفاهيمنا الإسلامية المبثوثة في ثنايا "الذكر الحكيم" ميزان المسلمين الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، و الذي اتخذه المسلمون﴿مهجورا﴾ منذ أمد بعيد..! إنطلاقا من إدراكنا ووعينا بنسبية الحضارة البشرية و نسبية فهم الأجداد و الآباء للثوابت القرآنية و المعايير الإلاهية و الموازين الربانية كل حسب أزمنتهم و أمكنتهم و أطرهم التاريخية و الحضارية، إذ لا يعقل بداهة أن نجابه مفاهيم الزيف الحداثي والعولمة و هذا الضياع لكل شعوب العالم بسبب القوانين الوضعية الظالمة بحكم قصور واضعوها عن إدراك متطلبات الحياة الكريمة لبني آدم و التي أهوت بنا جميعا في مكان سحيق من الفقر و البطالة و الأمراض المزمنة – راقبوا الأزمات الإقتصادية و الإجتماعية المتكررة لكل الأنظمة العلمانية مهما اختلفت مسمياتها .. وكل منجزات الحضارة المعاصرة و ما بلغته من تقنيات غاية في التطور و التقدم .. لا يعقل أن ننظر إليها بأعين أموات منذ قرون خلت أو بمفاهيم عصور الإنحطاط في تاريخنا الإسلامي أو بمفاهيم حضارتنا الإسلامية القديمة .. أو بمفاهيم الغزالي وابن تيمية وابن رشد و غيرهم!؟ و الذين عاشوا في زمن غير زماننا و في واقع حضاري و اجتماعي معيش غير واقعنا في العصر الحديث (القرآن كثيرا ما عاب على المشركين نظرتهم التقديسية لميراث الآباء و الأجداد بقولهم : إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مقتدون !؟ وهو ما يكرره عرب القرن 21؟؟؟ ).. ودون أن نطور مفاهيمنا – مرتكزين على بصائرنا القرآنية ومعطياتنا الحضارية الراهنة – ونصحح ما تآكل منها بمفعول الزمن و تقدم الحضارة البشرية .. ونجعلها تأخذ بالألباب كما أخذت بألباب رجال الجاهلية الأولى .. لارتكازها على الحق والنور الإلهي و ثوابته الأزلية و قوانينه السرمدية التي كلّفنا – نحن أمة الإسلام وورثة الأنبياء - بالإستمساك بها و تبشير العالم برحمتها ... حتى نكون شهداء على الناس كافة و نقود مسيرتهم و مسيرة شعوبنا الإسلامية نحو التقدم و النما و الخير و الرحمة و الجمال.. في الحياة الدنيا و في الآخرة... فنغنم و يغنموا.. و نسعد و يسعدوا.. بعدما أرهقتهم و أرهقتنا القوانين الوضعية العمياء الظالمة و الحضارة الغربية المتداعية للسقوط!!!؟
إن دراستنا لكيفية قيام الحضارات البشرية المختلفة قد كشفت لنا - بما لا يدع مجالا للشك - أن الحضارات الإنسانية تخضع في صيرورة نشوئها و انقراضها – على اختلاف منظوماتها الفكرية و القيمية - إلى ثوابت و نواميس كونية أزلية عامة و مشتركة بين جميع البشر مهما اختلفت أديانهم و تنوعت ايديولجيتهم وتفرقت أراضيهم و اختلفت أزمانهم ..، و إن إيجاد حضارة متطورة و متقدمة يبدأ بإيجاد الإنسان
الذي يتبنى الأفكار و المفاهيم الراقية والمتقدمة..، فالله لن يغير ما بقوم حتى﴿ يغيروا ما بأنفسهم﴾.. وان قانون تغيير ما بالنفوس البشرية لتغيير الواقع المادي والحضاري للشعوب .. قانون أزلي لم يشذ عنه حتى أتباع المادية التاريخية الذين ينظرون إلى المادة كونها أساس كل أمر في الحياة، وأن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط..!!؟ فالقوانين التي تتحكم حقيقة في أحداث التاريخ البشري
و مجرياته وتوجه مختلف تطوراته هي القوانين الكونية /الأزلية التي سطرها الله في القرآن العظيم و يحكم بمقتضاها موجوداته و سائر مخلوقاته كما تخضع لها سائر المخلوقات طوعا و كرها.. و ما على الإنسانية إلا العودة إلى كتاب ربها مباشرة بدون وسائط رجال الدين إذا ما أرادت أن تهتدي و تنتظم أوضاعها و ينصلح حالها، و ليس إلى كتب رجال الدين من الفقهاء و الأحبار والرهبان الذين تكون تفسيراتهم وتأويلاتهم للنصوص المقدسة محكومة بمصالحهم و مصالح الطبقات التي يمثلونها أو الضاغطة عليهم سياسيا واقتصاديا و اجتماعيا..! لقد شكل رجال الدين و مفاهيمهم - و ليس الدين نفسه- في التاريخ و الحضارة الغربية عقبات معرفية خطيرة وقفت في وجه تطور المجتمع الغربي و نهوضه و تحرره- لذلك تكاتفت جهود« فلاسفة الأنوار" وجهود الماركسيين على إزاحة هذه العقبة الكأداء، حتى كان شعار الثورة الفرنسية:( اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس).. وشعار الماركسيين:( الدين أفيون الشعوب) .. كما شكل رجال الدين و الفقهاء في التاريخ الإسلامي و لا يزالون اكبر داعم لحكم الطواغيت المتألهين و السماسرة المتاجرين بقضايا الشعوب ..، وإلباس الحق بالباطل و تفريق الأمة الإسلامية الواحدة إلى ملل و شيع متفرقة... متناحرة ، بأسها بينها شديد..!!؟ فمنذ استيلاء معاوية ابن أبي سفيان على الخلافة الإسلامية بالقوة و قيامه بتصفية أنصار علي بن أبي طالب بعد و فاة الرسول صلى الله عليه وسلم بحوالي 30 سنة.. شرﹼع الفقهاء المسلمون للطريقة العنيفة التي توخاها معاوية للإستيلاء على الحكم بالقوة و برروها شرعيا..!؟ كما شرﹼعوا باسم الإجتهاد– منذ ذلك الحين - للمذاهب الفقهية و المدارس الإجتهادية التي فرقت المسلمين
و قسمتهم إلى ملل و نحل متنافرة و متناحرة.. كل حزب بما لديهم فرحون!؟ و هم الذين شرعوا و يشرﹼعون لمذاهب السنة ومذاهب الشيعة و لمذاهب السلفيين الجهاديين قتلة الأبرياء من خلق الله..!؟ و هم الذين شرعوا و يشرعون للحركات الإسلامية المنادية بالديمقراطية الغربية و الإعراض عن قوانين الله و سننه الأزلية المفصلة في القرآن الكريم..!؟ و هم الذين يشرعون للأنظمة العلمانية اللقيطة التي تحكم العالم الإسلامي اليوم بتبريرات "دينية" و "فقهية" و"اجتهادية"..!!؟ لذلك أصبح "الفقهاء الإسلاميون" كما الحركات الإسلامية ( دراويش مجتمعاتنا الإسلامية في العصر الحديث) يشكلون – كما شكل رجال الدين المسيحي- عقبة كأداء وخطيرة جدا أمام تحرر مجتمعاتنا الإسلامية من ربقة الإستعمار الحضاري الغربي و من الأغلال الفقهية التي صارت تكبل المواطن العربي المسلم بأثقال تدفعه دفعا إلى مكان سحيق من التخلف الفكري و الحضاري والإنحطاط الأخلاقي وانتهاج الدروشة أسلوبا لحياته مما جعله يعيش خارج الزمان و المكان حتى صار أضحوكة العالم يمتهن كل ما من شأنه تسلية الإنسان الغربي ..!! بمبررات دينية و فقهية و اجتهادية ما أنزل الله بها من سلطان.!!؟ و توسيع قابلية المواطن العربي المسلم للنهب المحلي و الدولي والإستغلال المنظم برضى تام حتى غدا هذا المواطن فيئا يسيرا و أسيرا للجراثيم الفتاكة و كل الأمراض المزمنة ﴿كما تكشف الإحصاءات الطبية الرسمية)وافتقاد الرجولة و الكرامة و الخضوع للإستبداد و الإستحمار الفكري و الميوعة و الزندقة في العصر الحديث..!؟ ﴿ راجع نداءات حارة في مدونة محمد بن عمر:islam3mille.blogspot.com)
لقد ظلّ " المفكرون وزعماء الإصلاح و الزعامات السياسية " في البلاد الإسلامية يعتقدون ولا يزالون بأن الأنظمة والتشريعات السياسية والإجتماعية و الإقتصادية الغربية و غيرها .. هي التي ستنهض أمتهم الإسلامية من كبوتهم إذا ما اقتبسوها من المجتمعات الغربية المتقدمة، فاقتبسوا أنظمة الغرب وتشريعاته و لا يزالون، لكن دون جدوى...!؟ فالحال تزداد سوءا و انتكاسا على مر الأيام ..! وما دروا أنه على الرغم من تنوع الأنظمة والتشريعات لدى الشعوب المختلفة قامت الحضارات العديدة في التاريخ البشري.
إن القوانين والتشريعات ما هي إلا شكل من أشكال التنظم وتسهيل العلاقات الإنسانية في المجتمعات البشرية المختلفة، وتنبع عادة من حاجيات هذه المجتمعات وطموحاتها و تعبر عن إرادة أبنائها.. وتنبثق عن منظوماتها القيمية والفكرية و موازينها الدينية ومفاهيمها عن الكون والإنسان والحياة و معاييرها الدينية و الحضارية.. وليس هناك أي سند تاريخي أو واقعي يدل على أن الحضارة تبنى نتيجة لهذه القوانين والنظم والتشريعات البشرية و الوضعية..، وإنما هو إلتباس الأوضاع وضبابية الرؤيا.
لقد حد "بديع السماوات و الأرض" حدودا معلومة و قوانين راقية و ضبط سننا أزلية ثابتة لجميع مخلوقاته منذ خلقه للكون و الإنسان
و الحياة.. تحيى بمقتضى السير على هداها كل الكائنات الحية و تضمن بها لنفسها صيرورة سالكة و حياة طبيعية هانئة.. وإن خروج أين من هذه الكائنات عن حدود الله و قوانينه و نظامه البديع وسننه الدقيقة في الكون و الحياة ، الذي أبدعه الله بقدرته الفائقة و حكمته الأزلية .. = يعني حتما فقدان هذه الكائنات الضعيفة في أصل خلقتها لتوازنها الحيوي واندثارها أو موتها و هلاكها.. فخروج كوكب الشمس عن مداره الذي خلق له يعني حتمية احتراق الكون برمته .. كاحتراق القطار الذي يحيد عن سكته..أو تحطم السيارة أو الشاحنة الجانفة عن الطريق المعبدة لسيرها ..!؟ كذا تضطرب حياة بني آدم و تنتابهم شتى الأمراض والمهالك و العلل – كما هو حالهم اليوم في مختلف أنحاء العالم - إن هم حادوا قليلا أو كثيرا عن ﴿الصراط المستقيم ﴾المعبد لهم للسير فيه منذ الأزل، و قد فصلت لهم معالمه و دقائقه تفصيلا بينا في كل الكتب الإلاهية التي لم تطلها يد التحريف أو التأويل أو التشويه - كما هو شأن القرآن الكريم - .. و قد عمل كل الأنبياء عليهم السلام على تذكير أقوامهم بمختلف معالم هذا ﴿الصراط المستقيم﴾ منذ نوح عليه السلام و انتهاء بمحمد صلى الله عليه و سلم.
إن الزيغ عن قوانين الله الأزلية و سننه الفطرية التي فطر الناس عليها يعني حتمية نيلهم الخزي و الشقاء في الدنيا (من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) بحكم موت أرواحهم التي فصلوها عن خالقها – الذي نفخها فيهم - بكامل إرادتهم ... و خلودهم في عذاب جهنم يوم يقوم الناس لرب العالمين.فالله عز وجل قد أبان للإنسان المنهج الحق والشريعة الحق منذ خلق آدم عليه السلام، لذلك نجده عز وجل يخاطب عبده آدم عليه السلام منذ البداية قائلا: ﴿اهبطوا منها جميعا – الجنة- فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾(سورة البقرة الآيتين 38 و39 ). كما نجد الله عز وجل يذكر المسلمين دائما بأن القرآن هو كتاب الله الخالد الذي جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل وكل الكتب الإلاهية السابقة له:﴿إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى﴾(سورة الأعلى الآيتين 18و19) وعندما يخاطب الله بني إسرائيل يقول لهم :﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون﴾ (سورة البقرة الآيتين 40 و41). كما أن عقيدة المؤمن مبنية أساسا على الإيمان بالله وجميع كتبه ورسله لأنها في النهاية كتاب واحد و إن تعددت لغاته واختلف حاملوه ... يقول الله عز وجل:﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾ (سورة البقرة الآية 285 ). وعندما يأمر الله عز وجل المؤمنين بصيام شهر رمضان يذكرهم بأن فريضة الصيام قد فرضت على المؤمنين من أتباع الرسل السابقين أيضا: يقول الله تبارك وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾(سورة البقرة الآية 183). وكثيرا ما ذكر القرآن المؤمنين أنه يريد أن يهديهم ﴿سنن الذين من قبلهم﴾ من عباد الله الصالحين .. والحاصل أن شريعة الله و منهجه في الحياة مكتملة منذ خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وقرر أن يجعله خليفة في الأرض، فأوامر الله ونواهيه ثابتة لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان أو المكان، وكانت المهمة الأساسية لرسل الله عليهم السلام تذكير أقوامهم بها ليسير على هديها من شاء ويكفر بها من شاء، والمتبعون لها يسميهم الله:«المؤمنون والمهتدون وأولو الألباب وأولو العلم...» وغير المتبعين لتعاليم الله يسميهم الله :« المشركين والكفار والمنافقين والعصاة والظالمين والذين لا يعقلون والجاهلين و المفتقدين للعقل و العقلانية على عكس ما يتوهم إخواننا العلمانيون و اليساريون .. كما يشبههم الله عز وجل بالأنعام﴿ بل هم أضل﴾... وبالتالي لم يترك الله إمكانية للإجتهاد البشري في الدين ولو كان هذا المجتهد نبيا أو رسولا. فالتشريع و تحديد المعايير للسلوك البشري .. قد اختص الله به دون سائر البشر،وكل ما يحتاجه المؤمن في حياته الدنيا قد فصل الله فيه القول تفصيلا..! وقد أعلمنا الله عز وجل أنه:﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ و﴿ وكل شيء فصلناه تفصيلا﴾. وهذا الإخبار القرآني باكتمال شريعة الله وتفصيل كل دقائقها ينزع عن المجتهدين في الدين و الفقهاء الإسلاميين ( أصحاب العمائم و الدراويش بحكم انتهاجهم لأسلوب حياة لا يتلاءم مع عصرهم بدعوى اقتدائهم بالسلف الصالح ؟؟!!) أي مشروعية، بل إن الله يعتبر أن أتباع هؤلاء المجتهدين في الدين /الدراويش :﴿ قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم﴾ كما فعل اليهود والنصارى من قبل ،وبالتالي فان المجتهدين في الدين كالمذهب المالكي و المذهب الشافعي و مختلف المدارس الفقهية سنية كانت أو شيعية ... وأتباعهم هم كفار ومشركون في المفهوم القرآني بل يعيشون في ظلمات بعضها فوق بعض بسبب نظرتهم للحياة بعيون أموات و ليس بعيونهم التي أنعم الله بها عليهم! فالمؤمن بالله حق الإيمان المقتنع بربوبية الله عز وجل لا يحتاج لانتهاج السلوك القويم إلاّ لكتاب الله الذي أنزل( الكتاب و الميزان﴾ الذي هو آيات بينات / بصائر إلاهية قادرة على إنارة دروب المؤمنين في كل زمان و في كل مكان على عكس المقولات البشرية التي كثيرا ما تقف حاجبا عن رؤية الواقع و الحقائق الوجودية .../ و هذه البصائر الإلاهية استطاع محمد صلى الله عليه وسلم - قدوة جميع المؤمنين- وأنصاره من الأميين المؤمنين فهمها واستيعابها بحسب معطيات عصرهم الحضارية (أي فهما نسبيا بحكم بشريتهم)، وإقامة دولة إسلامية قوية على أساسها..أوصلت تعاليم الله و شريعته و معاييره و قرآنه إلى أقاصي الأرض.!
لقد بدأ الصراع بين الحق و الباطل منذ أن بدأت الحياة على الأرض..! و قد ألهب شرارة هذا الصراع إبنا آدم عليه السلام.. و بدأ الصراع بين متبع لهداية الله المفصلة في الكتاب المنزل وخائف من عقابه.. و بين متبع لهواه و أنانيته..! لا يهمه أرضي الله أم سخط ..! و لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، اقتضت حكمة الله أن يبعث رسلا من البشر- مبشرين و منذرين - يذكرون أقوامهم بتعاليم الله و ثوابته و قوانينه الأزلية في شتى مجالات الحياة الدنيا.. و قد اجتبى الله هؤلاء الرسل من بين الناس لما تحلوا به من طهر و عفة و رجاحة عقل مقارنة بمعاصريهم من ذوي الألباب .. إن مهمة هؤلاء الرسل عليهم السلام تتمثل أساسا في تذكير أقوامهم بآيات الله البينات و طريقه المستقيم و المتضمنة لكل تعاليم الله مبتدئا بنوح عليه السلام و مختتما بمحمد صلى الله عليه و سلم.
إن تعاليم الله التي ذكر بها نوح – عليه السلام – قومه هي نفسها التي أوحى الله بها إلى محمد صلى الله عليه و سلم في ﴿القرآن﴾ وهي نفسها التي ذكر بها موسى و عيسى عليهما السلام : ﴿في التوراة و الإنجيل﴾ و هي نفسها التي ذكر بها داوود و إبراهيم عليهما السلام في ﴿ألزبور و الصحف﴾ : وهي ثوابت صار على هديها كل الصالحين من عباد الله المخلصين عبر مختلف العصور و ألازمان و في كل مكان .. إن السير طبق تلك الثوابت الإلاهية ( آيات بينات ) ماضيا و حاضرا و مستقبلا .. و إلى أن يرث الله الأرض و من عليها هي الضامن الوحيد لرضوان الله و الفوز بجنته يوم يحشر الناس لرب العالمين... و هي الضامن الوحيد لوحدة الأمة الإسلامية في العصر الحاضر و العصور اللاحقة وهي الضامن الوحيد لقوة الأمة الإسلامية و وحدتها و عدم تشرذمها كما هو واقعها الآن بفعل هجرها للقرآن و لجميع ثوابته منذ زمن بعيد.
إن مبادئ الله و ثوابته في الكون و الإنسان و الحياة و المجتمع هي مبادئ عامة لكل البشر منذ خلق آدم عليه السلام وهي مفصلة تفصيلا دقيقا في كل الكتب السماوية قبل أن ينالها التحريف و التأويل و التشويه من قبل بعض أتباع الرسل السابقين على محمد صلى الله عليه و سلم .. لذلك اقتضت حكمة الله أن يكون الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه و سلم ﴿ القرآن﴾ معجزا و غير قابل للتحريف أو التأويل أو التشويه ... متحديا الإنس و الجن أن يأتوا بسورة من مثله لأن محمدا صلى الله عليه و سلم هو آخر المرسلين لبني البشر ، و كتابه ﴿ القرآن ﴾هو آخر الكتب السماوية المنزلة على بني آدم .. من اتبعها فقد هدي إلى الصراط المستقيم و من زاغ عنها بدعوى الحداثة و الإجتهاد و التأويل فقد ضل ضلالا مبينا..!!
إن قراءة متبصرة لآيات القرآن العظيم .. لا تلفها الأهواء و التأويلات المغرضة.. تكشف لنا عن كل القوانين والسنن الفطرية التي تتحكم في جميع العوالم التي خلقها الله و الخاضعة طوعا أو كرها لمشيئته عز وجل لا تحيد عنها منذ الأزل .. كما تحتوي هذه الآيات و خاصة الآيات المدنية منها على كل سنن و قوانين أمة الإسلام الأبدية في الأسرة و المجتمع .. و التي قد سار على هديها الصالحون من عباد الله منذ أقدم العصور، و ملخصها:﴿ اعبدوا الله مالكم من الاه غيره﴾ فتوحيد الله وخضوع الإنسان السوي المؤمن لشرع الله في الأسرة والمجتمع و كل علاقات الإنسان بنفسه و بربه و بأخيه الإنسان و بالطبيعة واستشعار الله و خشيته سرا و جهرا – على عكس خضوع الإنسان لقوانين وضعية المفتقدة لكل وسائل الردع و الرقابة -.. كانت و لا تزال جوهر كل الرسالات السماوية .. و لذلك جعل الله الأمة المستمسكة بهذه القوانين الأزلية المستشعرة لخشية الله في الخضوع لتعاليمها .. أمة الشهادة على الناس أجمعين: ﴿ و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا﴾ (سورة البقرة الآية 143).إن تشبث أمة الإسلام بقوانين الله و سننه الأزلية يخضع في التطبيق و التجسيد للنسبية التي يخضع لها سائر عمل بني آدم الذين يحيون في إطار زماني و مكاني محدودين .. فما ارتاه الرسول الكريم و صحابته استجابة لأوامر الله و نواهيه في المجال السياسي و الإقتصادي و الإجتماعي و في الحرب وفي السلم و تنزيل شرع الله في الحياة المدنية و تشكيل مختلف الأجهزة التنفيذية في المجال الأمني و العسكري و الإجتماعي و السياسي و غيره: أي في ميدان المعاملات و ليس في ميدان العبادات- قد يختلف اختلافا كليا عن ذلك الذي يرتئيه المسلمون في العصر الحديث لبعث دولة الإسلام دولـــــــــــة الــتـــــوحـــــيد القادرة لم شعث المسلمين و توحيدهم في كيان قوي .. نصرة لدين الله و للمسلمين في مشارق الأرض و مغاربها.. إن تغير العصر و تطور نوعية الحياة فيه و تقدم منتجات الحضارة الإنسانية.. لا يعني مطلقا تغيير المسلمين ﴿ لصراط الله المستقيم ﴾ و أحكامه و سننه الأزلية المفصلة في الذكر الحكيم.. بل يعني فقط الأخذ بأسباب الحداثة المادية و التقنية في الخضوع لكل قوانين الله و أحكامه في القرآن و الإجتهاد في تنفيذ الأحكام الشرعية المستمدة من القرآن بالأساليب و الوسائل الملائمة لحضارتنا في العصر الحديث قدر المستطاع ..
كما لا بد من استحداث الوسائل والآليات المناسبة و الأجهزة التنفيذية الملائمة و الكفيلة بتوزيع ثروات أرض الإسلام بأقصى درجات العدالة الإجتماعية و الأخوة الإسلامية و تقوى الله التي تجمع كل المسلمين برباط الإسلام حكاما محكومين ..!


راجع تفصيل ذلك في :
Islam3mille.blogspot.com
http://mohamedbenamor21.blogspot.com
Daawatalhak.blogspot.com
Almizenalislami.blogspot.com
http://islam3000-islamonegod.blogspot.com/2010/08/blog-post_31.html
http://www.elaphblog.com/daawatalhak
http://www.elaphblog.com/islam3000
http://www.elaphblog.com/islamonegod
http://islamonegod.canalblog.com/
news.maktoob.com/story_list/816369
http://www.banady.com/profile/174552
http://www.facebook.com/home.php?
http://www.facebook.com/home.php?#!/islam3000
http://Alwah.net/islamonegod
للتواصل مع الكاتب :
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
Portable :00216 93833734





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !