كنت قد انتهيت في المقال السابق الى القول أن تطبيق المنهجيات الحديثة المنقولة من أوروبا لم يصب التراث في العمق ولم يؤد إلى تأثير حاسم على كيفية فهم التراث الديني الإسلامي . ولو أنه فعل ذلك لما انفجرت الحركات الأصولية الحالية بمثل هذه القوة والعنف . ولو أن التراث التراث العربي - الإسلامي تعرض لمسح تاريخي شامل ولإضاءة نقدية – تاريخية شاملة لما حصل ما حصل لاحقا . هذه بديهة ينبغي أن يتأمل فيها المثقفون العرب المعاصرون وكنت قلت أيضا إن المحاولات الخجوله التي بشر بها الطلائعيين من المثقفين العرب لم تكن بالمستوى المعرفي الرصين بحيث تؤدي الى التغيير المنشود او تخلق حالة تنويرة او قفزة معرفية على المستوى الاجتماعي والثقافي .
ذلك انه لو نجحت حركة التنوير الإسلامي هذه وكانت أكثر جديدة واغراقا في البحث والتأمل ، لما ظهرت الأصولية وملأت الشارع والبيت والمدرسة والجامعات وكل شيء … لو أن الحداثة الفكرية – حتى في صيغتها التاريخية– استطاعت أن تفكك أطر الفكر التقليدي لما شهدنا انتشار هذه الممارسات المتطرفة والخطابات العتيقة! والدليل على ذلك أن المسيحية الأوروبية عاجزة عن توليد حركات أصولية بمثل هذا الحجم والضخامة . لماذا ؟ لأن عقل التنوير مر من هنا ، ولأن منهجية النقد التاريخي أصابت المسيحية في العمق وعزلتها ونفضت عنها ركام القرون . وهذا ما لم يستطع النهوضويون العرب أو المسلمون أن يفعلوه بالنسبة للتراث الإسلامي حتى الآن . أقول ذلك على الرغم من احترامي لجهودهم وجهد شخصية كبرى مثل طه حسين . وبالتالي فالتنوير لا يزال أمامنا وليس خلفنا . ينبغي أن أضيف هنا أنه بعد ظهور حركة الأخوان المسلمين في الثلاثينات من هذا القرن ، فإن المثقفين الحداثيين خافوا وتراجعوا . وراحوا يقدمون التنازلات للتيار التبجيلي التقليدي الذي أخذ يكتسح الشارع . هذا ما تجلى في كتابات العقاد بل وحتى في كتابات طه حسين .
هذا ما حصل في عصر النهضة الممتد من القرن التاسع عشر وحتى منتصف هذا الماضي تقريبا. هذا ما حصل بعد عام 1945 ، أي بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة ؟ حصل أن حركات التحرر الوطني السياسية استطاعت أن تجير لصالحها القوة التعبوية أو التجييشية الهائلة للإسلام ، في الوقت الذي حافظت على قشرة سطحية من التوجه العلماني والتحديثي والاشتراكي . لماذا حافظت على هذه القشرة ؟ لأنه كان يوجد في صفوفها مناضلون شيوعيون أو ليبراليون متأثرون بالفلسفة السياسية للجمهورية الثالثة في فرنسا ( نذكر من بينهم بورقيبة مثلا وفرحات عباس وتلامذتهما …) . ثم استخدمت حركات التحرر الوطني قوة الإسلام التعبوية من أجل التخلص من الاستعمار عسكريا وسياسيا . ولكن الأولوية التي أعطيت للتحرر الوطني والسياسي من الاستعمار ، وكذلك استراتيجيات القوى العظمى الطامعة في ضم هذه الأمم الناشئة إلى معسكرها ، قد نجحت في تحجيم دور النضالية الإسلامية أو التيار الإسلامي ، وقلصته إلى مجرد دور ثانوي أو مساعد . ولكن الأمور لن تدوم على هذا النحو إلى الأبد فبعد هزيمة الجيوش العربية عام 1967 ، وبعد فشل عبد الناصر وموته عام 1970 ، وبعد ظهور أول العلامات على انحسار الهيمنة السوفييتية ، وبعد الازدياد الهائل في عدد السكان ، وبعد انكشاف محدودية سلاح البترول ، وبعد تراجع الفرحة بالاستقلال وتقلص مشروعية الأنظمة " الوطنية " إلى أقصى حد ، بعد كل ذلك أصبحت الساحة فارغة ومهيأة تماما لكي تدخل الحركات الأصولية إلى حلبة المسرح . هذا هو سبب نجاح الحركات الأصولية . فهذه العوامل السلبية كلها أدت إلى تقلص الأطر الاجتماعية للمعرفة في كل البلدان العربية والإسلامية . بمعنى أن المجتمع نتيجة أزماته وفقرة للفكر الأصولي التقليدي الموروث أبا عن جد . هذا هو السبب الذي أدى إلى نجاح الأصوليين ، وليس عبقريتهم أو إكتشافاتهم العلمية الخارقة في مجال الفكر الإسلامي !
وقد أخذت هذه الأصولية تحقق الانتصارات الصارخة عن طريق الاستيلاء على السلطة في إيران وتواصل زحفها في مناطق أخرى من العالم العربي والإسلامي حاظية بالقليل أو بالكثير من النجاح حسب الظروف والبلدان . إنها تواصل نضالها الهزيل والعالمي والشرعي والبطولي والمرعب والتراجيدي في آن معا ! إنها تواصله ضد عدو أكبر منها بما لا يقاس ، عدو واثق من انتصاره عليها في نهاية المطاف . ولكن الثمن البشري الباهظ لهذا الانتصار أخذ ( لحسن الحظ ) يدفع كبار المسؤولين في الغرب إلى إدراك خطورة مواصلة التصعيد أو الرد بالتصعيد على التصعيد على طول الخط . لقد هالهم عدد الضحايا المتساقطة والدمار الكبير الحاصل ، فهل يفكرون بانتهاج سياسة أخرى تجاه الأصولية ؟.
ينبغي أن نعلم أن الإسلام المعاصر قد تزامن صعوده مع نهاية الأيديولوجيات التبشيرية العلمانية في الغرب ( كالأيديولوجيا الماركسية أو الشيوعية مثلا ) . كما وتزامن مع ما يدعوه العالم البلجيكي الشهير إيليا بريغوجين : نهاية اليقينيات حتى في مجال العلم البحث . فالحضارة تعيش أزمة قيم على المستوى العالمي . والحداثة الغربية لم تعد واثقة من نفسها كما عليه الأمر في الماضي . في مثل هذا الجو انطلقت الحركات الأصولية وازدهرت . إننا نشهد الآن تزعزع مشروعية الدولة القومية الحديثة التي تشكلت في أوروبا في القرن التاسع عشر . كما ونشهد في الوقت ذاته استيقاظ الشعوب والأقليات العرقية – الثقافية والجماعات الإقليمية التي همشت زمنا طويلا . كما وقمعت من قبل الدولة المركزية سواء أكانت دينية أم علمانية . إن الإسلام المعاصر يعرف أن قيمة الأخلاقية والفقهية – القانونية التي كان يرتكز عليها النظام السياسي والاجتماعي للدولة الإسلامية ( و لا أقول الكلاسيكية) أقول إن هذه القيم قد أصبحت مهاجمة ومرفوضة في كل مكان وذلك لأنها تبدو عتيقة وغير ملائمة لهذا العصر . ولذا فإن المسلمين أخذوا يتخلون عنها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، وذلك بسبب ضغط العالم الحديث من حولهم . ولكن ، وعلى الرغم من كل هذه التكذيبات التي يكبدها التاريخ لمبادئة وأصوله وبرنامج عمله ، فإنه ( أي الإسلام الأصولي ) يظل قادرا على تجييش أنصار عديدين جدا . وهم في الغالب شباب حديثو السن ، مفعمون بالحماسة ، ومؤمنون بشكل لا مشروط بصلاحية خياراته، وتفوقه على النظام الغربي ، وأبدية رؤياه للعالم . هنا يكمن أحد الأسباب المحيرة لنجاح الحركات الأصولية .
ولهذا السبب فإننا نفضل التحدث عن ا؟لإسلام الأقنومي ، بمعنى أن المسلمين قد حولو بأي شيء !… وحولته وسائل الإعلام الغربية إلى " بعبع " مخيف لم يتغير بمقدار شعرة واحدة منذ محمد وحتى اليوم خاصة بعد ضرب البرجين وما يحصل في العراق في هذا الحين … هذا التصور التجريدي المضخم عن الإسلام يختلف عن التصور التاريخي الواقعي. ينبغي أن نعلم أن الإسلام ، كأي عقيدة دينية أو غير دينية ، هو نتاج القوى المحسوسة التي تشكله عقائديا وأيديولوجيا . وهذه القوى تدعى اليوم بالقوى الشعبوية. لماذا قلنا الشعبوية ؛ لأنها تجيش الشعب عن طرائق الغرائز والعواطف والعصبيات ، فلا يعود يفكر بعقله تقريبا . نقول ذلك وبخاصة أن التزايد السكاني الهائل قد زاد من ضخامة الظاهرة الشعبوية التي جيشها الأصوليون . فالدولة أو المجتمع عاجزان عن تلبية حاجات هذا السيل المتدفق من الأجيال الشابة ، فيصبحون بالتالي فريسة سهلة للدعاية الأصولية . عن الظاهرة الشعبوية ناتجة عن التزايد السكاني ـ، واقتلاع الفلاحين والبدو من جذورهم وهجرتهم إلى ضواحي المدن الكبرى لكي يشكلوا أحزمة البؤس ومدن الصفيح حولها . كما أنها ناتجة عن تفكك أو انحلال الأوساط الحضرية التجارية والمثقفة ( بمعنى الثقافة العالمية والمكتوبة ) ، وليس الثقافة الشفهية …
كيف يمكن في مثل هذه الحالة ألا تقوى الحركات الشعبوية والأيديولوجيا الأصولية المتطرفة التي تناسبها ؟ إن هذه الحالة مناسبة لتشكيل مخيال التمرد والانتفاضة ، أي لتشكيل جو مناسب للإنفجار . وقد فضلت أن أستخدم مصطلح التمرد لا مصطلح الثورة لأني أود أن أحصر هذه الأخيرة بالحركات الشعبية الحقيقية والمدعومة من قبل أيديولوجيا تقدمية ، مستقبلية ، تحمل في طياتها تحرير البشر ونقلهم إلى حالة إيجابية أفضل . إن هذه الأيديولوجيا المستقبلية هي التي تخلع المشروعية على الثورات الكبرى التي حصلت في التاريخ البعيد والقريب . أقول ذلك وأنا أستخدم كلمة أيديولوجيا بالمعنى الإيجابي للكلمة وليس بالمعنى السلبي الشائع . وهذا ما ينطبق على الخطاب القرآني الذي حول العمل التنظيمي والسياسي المحسوس لمحمد إلى نموذج أعلى يتجاوز التاريخ أو يخترق التاريخ . وكل ذلك عن طريق البلاغة المجازية التي يتميّز بها هذا الخطاب في اللغة العربية .
التعليقات (0)