انتهز حارس التفتيش الإسرائيلي على البوابة الخارجية لمعتقل "هداريم" شرقي مدينة يافا العربية، خطأ عارضاً في نفي شقيقتي وفاء وجود جهازي الخليوي مغلقاً، دون علمها، في حقيبة لأغراضنا الشخصية. استدعى الحارس على الفور ضابط الأمن الذي فتش الحقيبة، وحجز جهازي الخليوي بحجة محاولة "تهريبه" إلى شقيقي الأسير عاصم!؟ استدعى على وجه السرعة، ظهيرة الثلاثاء في الثاني عشر من آذار الفائت، شرطة الاحتلال من مركز كفرسابا لتفتح تحقيقاً بمحاولة "التهريب"! يا لدقة هذا "الأمن" المذعور من كل شيء، يا لقدرته العجيبة على توظيف شكوكه، بوحشية نادرة، من أجل اعادة جدولة الوقائع لتنسجم قسراً مع متطلباته!.
اتخذت إدارة "هداريم" قرارا بمنع زيارة وفاء، ولم تفلح كل محاولاتي لاقناعهم بأن الخليوي المستعمل لي شخصياً ويحمل أرقامي، وبشريحة فلسطينية لا تعمل داخل الاراضي المحتلة عام 1948، ولا يُعقل "تهريبه" إلى معتقل يخضع لاجراءات "أمن" معقدة؟.
إجراءات الأمن العدوانية قادت وفاء إلى شرطة كفرسابا وحرمتها من الزيارة التي كانت تنتظرها منذ سنوات. دوّن المحقق في مركز شرطة الاحتلال تفاصيل "الجريمة"، ثم أمر بنقل وفاء إلى حاجز قلقيلية العسكري. استقبلتها زوجة أحد الأصدقاء في بيتها، حتى وصلتُ المدينة برفقة شقيقي عصام وزوجها محمود، وعادت وفاء ليلا إلى بلاطة برفقتنا حزينة لحرمانها من زيارة انتظرتها بشغف، وقلقة من قرار للاحتلال يحجب عنها زيارة عاصم لفترة طويلة بذريعة تافهة.
خَطفتْ وقائع مسخرة "تهريب" الموبايل معظم وقت الزيارة والحديث مع عاصم، المعتقل منذ عشر سنوات يطويها في سجون الاحتلال في الرابع والعشرين من نيسان الجاري. روى شقيقي، المحكوم بالسجن الفعلي 18 سنة بتهمة المقاومة اليسارية المسلحة، أن ضابط الأمن في المعتقل أعلمه باحباط محاولة "التهريب"!. أبدى عاصم سخريته من كذب الوقائع التي سَردها ضباط الاحتلال، ورفض رجاء المسؤول "الأمني" للتوسط من أجل زيارة شقيقته، التي لم تشاهده منذ وقت بعيد، وواجهه بكبرياء مقاتل: "خذ ما تريد من اجراءات، لكن لا تنتظر مني نظرة رجاء".
صَمتَ عاصم قليلا خلف زجاج الزيارة قبل أن ينفجر بابتسامة ساخرة، على وقع قصص لا تصدق في مواجهة إدارة المعتقل، كاشفاً سر أغلى حلاقة في التاريخ:"أطلقتُ منذ فترة بعيدة لحيتي، وقد باتت طويلة تستدرج شغف المقص. عندما حان موعد الصورة التذكارية للأسرى، من حقهم ثلاث صور جماعية سنويا مدفوعة الثمن، قررتُ ترتيب طول الشعر في ذقني، ربما احتراما للمشهد الجماعي النادر للرفاق تحت عدسة الديجيتال. إدارة معتقل هداريم اعتبرت الأمر غير قانوني، لأني لم أطلب إذناً لتهذيب شعر لحيتي. عقد الجلادون محكمة صورية، واتخذوا قرارا بتغريمي أربعمائة شاقل، وحجزي انفراديا لمدة أسبوع"!
دقق النظر في ملامحي من خلف الزجاج، لالتقاط حجم المفاجأة تقفز من عيّني، لكنه لم يمنح حواسي فرصة التعبير عن مستوى الدهشة، فانفجر ضاحكا يردد: بربك ما بستحق أدخل غينيس للأرقام القياسية بأغلى حلاقة في التاريخ؟".
في نطاق حقل الصور الفوتوغرافية، كشفَ عاصم أن الصورة الجماعية التي التقطها برفقة والده ووالدته، استدعت عقد اجتماعات متكررة لإدارة المعتقل لاتخاذ قرار بشأن تسليمها له، وشرح ذرائع حجبها:"بعد نضال مرير في مواجهة إدارة السجون، تمكن الأسرى من انتزاع حق بالتقاط صورة واحدة مع الوالد والوالدة كل خمس سنوات. زارني الوالد منذ أشهر بعيدة والتقط معي صورة، ثم زارتني والدتي بعد تعافيها صحياً، والتقطتُ برفقتها صورة إلى جانب والدي. اكتشفتْ الادارة "جريمة" الصور بحصول والدي على صورتين خلال أشهر قليلة؛ واحدة منفردة برفقتي وأخرى ثلاثية مع والدتي. علقت الإدارة قرارها بتسليمي الصورة، وبعد أشهر من مفاوضات طاقم الإدارة بين بعضهم، قرر المسؤول حجبها عني بذريعة نجاحي "بخداع" الإدارة وحصول والدي على صورتين، مع أنه وقف أمام العدسة بموافقة مصور الاحتلال. إذاً بات من حق والدتي التقاط صورة منفردة معي، وأتمنى لها شفاء عاجلا لتتمكن من نيل حقها بصورة تَصّلب الزمن في سنوات سجني".
تابع ساخراً سرد حكاية أخرى تكشف هَلّوسات إدارة المعتقل:"لاحظ ضابط أمن سلكاً قصيرا جدا لراديو يطل من شباك غرفتنا الضيقة، داهم زنزانة الاحتجاز. سأل عن صاحب الراديو، فأجبته أنه لي مع أنه لرفيقي. قرر على الفور فتح ملف بالقضية وعقد محكمة صورية داخل المعتقل، حكمت بغرامة قدرها 250 شاقلا وحجز انفرادي لمدة أسبوع، بذريعة مَدّ سلك للراديو خارج الشباك لالتقاط موجات إذاعية!"
غادرتُ مع الفوج الأخير لزيارة الأسرى، ومع انطلاق حافلات "الصليب" إلى حواجز طولكرم وقلقيلية وجنين، كان صراخ الطاقم الإداري الأمني لموظفي وموظفات معتقل "هداريم" يخبو بالتدريج، كلما ابتعدنا شرقاً عن محيط المعتقل. لا أمتلكُ تفسيرا لهذا الصراخ الوظيفي الذي لا ينقطع أبداً، سواء على حاجز الطيبة العسكري أو في محيط معتقل "هداريم". أحد الأسرى المحررين أسعفني بتفسير منطقي؛ بتعاقد الاحتلال مع شركات حراسة "أمنية"، لتنفيذ مهمات وظيفية نيابة عن المحتل، فيحرص فيها المستخدم على استمرار صراخه طوال فترة مناوبته.
على المقعد الأخير لحافلة "الصليب" التي تشق طريقها بهدوء في قرى المثلث الفلسطيني المحتل نحو الحاجز العسكري الملاصق لمدينة طولكرم، استعدتُ تفاصيل المسخرة بحظر زيارة وفاء وغضبها الشديد وتمردها على السجّان، وقلقها من النتائج؛ بمنعها من الزيارة لفترة طويلة. واستعدتُ أيضا تاريخ عاصم وقد تحرر من بطن والدته، لترتفع صرخته الأولى تحت سماء عالية في مخيم بلاطة فجر اليوم الأول للعام 1978 ويواجه قيّد الاحتلال فوق وطنه. قبل أن يُكمل الثالثة من عمره، أقدم الاحتلال على ابعاده مدة أسبوعين مع أفراد عائلته إلى مخيم عقبة جبر قرب أريحا في أيار العام 1980، بذريعة النشاط المسلح لشقيقه أحمد. عاد الطفل إلى بلاطه بلقبه الجديد "أبو جبر"، وشبّ الفتى سريعا عندما التحق مقاتلا في صفوف الخلايا اليسارية المسلحة مع اندلاع انتفاضة القدس عام 2000، ليتعرض إلى مطاردة أجهزة الاحتلال طوال ثلاث سنوات، قبل اعتقاله في الرابع والعشرين من نيسان العام 2003، وينال حكماً تعسفياً بالسجن الفعلي لمدة ثمانية عشر عاما. بدأ رحلة صموده في سجون الاحتلال واضراباته الطويلة والمتعددة عن الطعام، بينما تجدد عناء والدته في الركض خلفه من معتقل إلى آخر، بعدما طاردت طويلا أبناءها الأسرى في سجون الاحتلال، وبخاصة نجلها أحمد الذي قضى 15 سنة فعلية، على مرحلتين، منذ التاسع من أيار العام 1980.
التعليقات (0)