الرجل الذي درَس " طب التاريخ " بدل طبِّ الأسنان ، فعشق الأول وعاش معه مساكنة مشروعة ، وأفلح فيه .. فيما تجنب الثاني بكل ما له وما عليه وما فيه ..
ومع ذلك ، ما تزال أسنانه ـ حفظه الله ورعاه ـ كما أفكاره ، منضدة تامة ناصعة مذ خلقت واكتملت ، يتزيّن بها وجهه النضير المكلثم الأشقر ، الذي لم تخلـِّف فيه السنون كثيرًا من وعثائها ..
وتحت جبين واسع وشامخ ، ثمة عينان وقادتان زرقاوان لم تنل منهما " الماء البيضاء " ، ولا أخذت منهما سنواتُ الغربة والسفرُ البري ، شيئا من زرقتهما البحرية الآسرة ..
أيا تكن ، يُشعركَ أنكَ جالسٌ معه ، وليس أمامه ، فتحس أنه جالس مع أخيه وصديقه ومعلمه وسميره ونجيّه ..
هو التواضع واللباقة والأناقة .. هو " المشنغب " ، ذو الظل الخفيف ، والنكتة اللحظية الحاضرة المتكئة على إحساس ناعم وشفاف ، وبديهةٍ أسرع من سرعة الضوء ..
فإذا ضحك ، تخيَّلتَ طفولة العالم تضحك أمامك ..
وإذا اكفهرّ صار رأسه شوندرة قانية اللون ، تلسعك حرارته ، ولا تستطيع لكراته صدًّا .. فهي صائبة حتما ، وقد تمزق الشباك لتطال مَنْ وراء المرمى ..
حليم بالقدر الذي لا تتصوره .. فلا يضخم أمرا ، ولا يستهين بغيره ..
يَحْمِلكَ حلمُه على التمادي ، فيدع لكَ الحبل على الغارب ، حتى تلفه بنفسك حول عنقك ..
ثم يفاجئكَ بردة فعل تقذف بأوهامك بعيدا عن " فضائه الحرام " ..
ولن يستخدمَ معكَ مبضعه قبل أن يخدّرَكَ و " يحذرَك " من غضب الحليم ..
فإذا غضب ، فغضبته " مضرية بدوية " نزقة كالشهب ..
وصبره " أيوبي " طويل لا ينتهي ، كليل امرئ القيس ..
فلا يأخذك على حين غِرة ، ولا يسحب يدَه من يدك ..
وأجزم أنه لم يحمل في يده غير الوردة العطِرة طيلة حياته ، يقدمها للجميع مع ابتسامة ودودة وحييةٍ أحيانا ..
حريص على الوفاء بما يلتزم أو يعد به .. فإذا أخلف لعذر طارئ ، اعتذر منكَ فورا ، ولا يثنيه فارق السن ، ولا المكانة الاجتماعية عن الاعتذار ممن يجب عليه الاعتذار منه ..
وفي غير ذلك ، فإن الثريا أقرب ..
ـ يعرف قدْر نفسه ، فلا يسفُّ ولا ينحدر .. ويحفظ للآخرين مكانتهم وقدْرَهم بلا أي خلفية أو اعتبار بعيد عن الإنسانية والمحبة ..
إن إنسانا يحمل في كينونته : القلب الأنصع ، والسريرة الأنقى ، والعقل الأرجح ، والعاطفة الأصدق ، والنبل الأرفع ، لا يمكن أن يكون إلا : رجلا .. نبيلا .. عزيزا .. كريما .. أنِفا .. وفيا .. أبيا ..
عرَفته ـ أول ما عرَفته ـ أستاذا " محاربا " فوق الحلبة ، و " فنانا " أمام السبورة ..
كنت في نهاية المرحلة الثانوية ، وقد مرت بي ، وبنا ، أحداث وأحداث ، منحتني شيئا من " الفذلكة " التي أرسل بها بين الحين والآخر ، تعليقا على زميل أو موقف ما ، داخل الصف .. وكان " أستاذ التاريخ الحديث " يستجيب ويضحك ويرد معلقا تارة ، وتارة يرد لي الصاع صاعين ، ومع ذلك ، لم يخدش جلدي مرة ، ولم يتركني أسير هواجسي .. ويبدو أنه راهن على اصطفافي بجانبه أمام حملات بعض الطلبة المشاغبين " خِلقة " ونحن في مدرسة خاصة ، وكانت لي دالـَّة أدبية على أكثرهم خروجًا على القانون العام ، وهو المرحوم الصديق " يوسف محمود الهزاع " ، فألزمته أن ينصت كما أنصت أنا ، لأن هذه الحصة وأستاذها يعنيان لي كثيرا ..
فاستجاب صديقي وغيرُه ، ولمس أستاذنا مدى العلاقة والتأثير مع هؤلاء ، فحفظها لي ، وخصّني بمودة مميزة بين زملائي ، ساهمتْ في تعميق العُرى بيننا ، وقوّاها أكثر ، حين عرَف أني أخو طالبه الشهيد فتح الله .. وهو يكنّ له محبة وإعجابا كبيرين .. فمحضني جزءا منهما لا أستحق غيره فعلا ..
ودعاني إلي بيته في حي السبيل بحلب " وما زال هو بيته " ، فلبيت شاكرا .. كما تفضل بزيارتي مرارا مصطحبا معه أصدقاء آخرين ، يأتون وفي نفوسهم تهيُّبٌ " ما " مني ، لم أدركه بداية ، لكني اكتشفت فيما بعد ، أن أستاذي " مُبالِغ " ـ كعادته ـ في مديحي أمامهم ، كما يمدح غيري أمامي ..
من هنا كانت بدايتنا ، واستمرت محكومة بظروف كلينا ، لكنها لم تنقطع أبدا منذ نهاية عام 1972 ..
لطيف المعشر ، شفاف ، عميق ، وعتيق مُعَتَّق ..
لكنه " يعترف " للجميع ، ودوما ، أنه لا يملك القوة ولا القدرة على المواجهة أمام " لسان " اثنين ممن عرَفهم في حياته كلها .. أنا العبد الفقير لله تعالى ، واحد منهما ..
وإن كنت أجد في تلك شهادةً أعتز بها من أستاذي وصديقي ، كون لساني " سليطا بمودة وحق " ـ كما أزعم ـ ، وليس متجنيا ولا ظالما ، فإنني أرى أنها شهادة " مجروحة ومُبالَغ " فيها أمام اتقاد أستاذي ومعلمي ذكاءً وفطنة ، وروحًا نقية مرحة ..
فهي شهادة مجروحة ، لكونها مدحا وبأسلوب المدح حصريا ، وليست العكس ، وهي من أستاذ وصديق محِبٍّ أنحني له ..
وهي مُبالغ فيها لأنني مازلت " تلميذه " الذي كنته أمامه في المقعد الأول من مقاعد الصف ، وأنا أنكز ـ حقيقة وليس فيسبوكيا ـ صديقي يوسف الهزاع ليكفَّ عن إزعاجاته " الرائعة " ، لكن ليس في هذه الحصة ..
إنني ، حقا ، أشعر بالعجز أمام روعته ودماثته وتواضعه وسعة صدره واعتداله .. إذ يعطي كل شيء ، وكل ذي حق حقه ، ولا يعيش حياته على حساب آخرته ، وليس مستعجلا عليها ، فالآمال عريضة ، والقادم " أبهى وأجمل وأكثر عطاء " ..
ولأن العمر ـ مهما امتد ـ محدود بالأجل المحتوم ، وبعد العمر الطويل إن شاء الله ، أتمنى له العيش واقفا ، والموتَ واقفا .. كما الكرام والأبطال والأشجار .. وهو خير من يستحقها ..
الاسم : محمد يحيى ابن الشيخ محمد راغب الطباخ ..
يقول : "" اكتسبنا شهرة " الطباخ " من المهنة التي مارسها أجدادي ، حيث كانوا يطبخون أصباغ المادة الكيماوية التي يصبغون بها المناديل ، ثم يبصمون عليها رسوما تزيينة ملونة ، باستخدامهم قطعا خشبية محفورة برسوم متنوعة " كالأختام الكبيرة " ..
(( وتسمى هذه المناديل بـ " الهـِبْرية " ، وهي عبارة عن قطعة قماش تعصبُ المرأةُ بها رأسَها فوق الغطاء )) ..
"" ويقال أيضا : بأن أحد أجدادي كان يستأجر حلة ليقوم بنفسه وعلى نفقته ، بإيقاد النار تحتها وسلق القمح مجانا لتصنيع البرغل للآخرين " حِسبة لله تعالى " ..
ميلادي الحقيقي : أواخر 1934 ، والرسمي 02/07/1934 .
الطفولة والدراسة :
يقع بيت العائلة الأساسي في حي الجلوم بحلب ، وشهد هذا البيت الواسع الكبير ، عددا من " النزوحات " خارجه ..
وحين انفصل جدي محمود عن والده ، اشترى بيتا آخر واسعا جدا في حي باب قنسرين بجوار بيمارستان الأرغوني ..
ومثلما استقل جدي ببيته ، انفصل أيضا عن والده ـ بإذن منه ـ في مهنته التي كانت تسمى " صناعة البَصْم " أي : الطباعة على المناديل .. وحين كبر أبناء عمي عبد القادر وإخوتي ، باع أبي حصته من البيت لعمي ، واستأجرنا بيتا في حي العقبة ، ثم انتقلنا للجلوم الصغرى قرب " حمّام المالحة " ، ثم بنى دارا في حي " جنينة الفريق " ( السفاحية ) عام 1934 ، حيث كنت أول من ولد فيها ..
أعمامي أربعة ، وإخوتي ثماني بنات وثلاثة أولاد ..
إخوتي من أبي " من زوجته الأولى " ثلاث بنات وولد ، وحين توفيت أمهم تزوج من أمي فأنجبت خمس بنات وولدين أنا وأخي المهندس توفيق ..
وتوفي أخي البكر " محمد " بعد عدة أيام من الإفراج عنه من سجن الفرنسيين ، وقد أمضى أسبوعا فيه بسبب طبعه ـ في المطبعة العلمية التابعة لوالدي ـ منشورا للكتلة الوطنية التي طالبت الشعب السوري بمقاطعة الانتخابات عام 1926 .. وكان أبي قد أسس المطبعة العلمية عام 1922 ، وشاركه فيها المحامي عبد الغفور المسوتي ، وهي دار للنشر أيضا ، أصدرت بين عامي 1922/1947 ما يزيد على سبعين كتابا ، ومنها كتابان لوالدي الشيخ راغب :
" إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء " ..
و" الأنوار الجلية في الإثباتات الحلبية " ..
في عام 1932 استقل والدي بالمطبعة ..
وفي عام 1947 ، باعها إلى أحد العاملين فيها وهو محمد بكري قطاع وأبناء عبد الودود كيالي ، وذلك بعد أن رفضت أنا العمل في المهنة ، وكانت المطبعة في حلب ، شارع البيلوني ، ما بين العقبة وقسطل الحجارين ..
ينتهي نسبنا ـ كما يقول والدي رحمه الله ـ " بأغلب ظنه " إلى الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ، فحين أصاب حلبَ زلزالٌ أطاح بإحدى غرف البيت ومحتوياتها في حي قلعة الشريف ، تلِفتْ لفافة شجرة النسب من جملة ما تلف ..
بين الثالثة من عمري والرابعة قرأت " جزء عمّ " على الشيخ محمد الحجار ، ثم تابعت عند الشيخ اسبير في جامع الظاهرية أمام قلعة حلب " ..
والظاهرية : نسبة إلى الملك الظاهر ابن صلاح الدين " ..
درست الابتدائية في مدرسة العرفان ، بين عامي 1940/1945 ، وكان الصف الخامس نهاية المرحلة الابتدائية ..
ودرست الصف السادس في المدرسة الثانوية الثانية التي تقع في بيت العادلي قرب سوق القطن ..
في عام 1947 التحقت بالثانوية الشرعية بحلب ، وتخرجت فيها عام 1952 ..
وفي نفس العام والوقت ، نلت الشهادة الثانوية العامة الموحدة .. وكان ممكنا التقدم لامتحانات الشهادتين ..
انتسبت إلى جامعة دمشق ـ كلية الآداب ـ قسم التاريخ ..
ورغم أني حاصل على الشهادة الثانوية العامة الموحدة التي تسمح لي بالانتساب إلى كلية طب الأسنان ، إلا أني درَست التاريخ حبا به ، وممارسة لهوايتي ، وفضلته على طب الأسنان ..
كانت رسالة تخرجي في الجامعة بعنوان :
الشيخ محمد راغب الطباخ : حياته ، آثاره ..
بإشراف الدكتور عمر فروخ ..
تخرجت في جامعة دمشق عام 1957 ، ودخلت مسابقة لاختيار مدرسين في وزارة التربية ، ونجحت ، وعُيِّنت في ثانوية الرشيد بالرقة ..
مكثت فيها ثلاث سنوات حتى استدعيت لخدمة العلم ، وكانت بين عامي 1960/1962 ، متزامنة مع الوحدة بين سورية ومصر ، ومع الانفصال الذي وقع بعدها ..
وفي ثانوية الكواكبي بحلب 1962/1963 ، حللت بدل الأستاذ محمد خير فارس كمدرس للتاريخ ، فخصّصتُ حصة أسبوعية يقوم فيها ـ طوعا ـ طالبان بالإعداد لإعطاء الدرس ، فأكلفهما بتحضيره ، وأزودهما بالمصادر اللازمة ، بحيث يشرح أحدهما الدرس ، والآخر يناقش فقراته ، ويبدي الملاحظات المحفزة للنقاش مع بقية الطلاب ، وكان الطالب فتح الله رشيد أشد الطلاب نباهة في الشرح والمناقشة ..
في العام الدراسي 1963/1964 ، ذهبت إلى السعودية مدرسا مُعارًا ، وبقيت أربعة أعوام حتى عام 1967 ..
وبالتزامن مع عدوان الصهاينة على العرب في عام 1967 ، كنت مدرسا في ثانوية إبراهيم هنانو ، فاستدعيت لخدمة الاحتياط في الجيش ضمن التعبئة العامة التي جاءت إبان العدوان ، لكن المدة لم تطل أكثر من شهر واحد ..
في عام 1969 انتقلت إلى ثانوية المأمون فثانوية المتنبي ..
وخلال الفترة الممتدة بين عامي 1967/1975 كنت مندوبا لوزارة التربية مكلفا بالإشراف على امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية في عدد من المحافظات ( إدلب وطرطوس واللاذقية ودير الزور والحسكة ، إضافة إلى حلب ) ..
انتـُدِبتُ في عام 1970 مديرا للثانوية السورية ( الأرمنية ) الخاصة المختلطة لمدة عام واحد ، ثم آثرت العودة إلى التدريس ..
في عام 1975 ، حصلت على استيداع من العمل " إجازة بلا راتب " ، وسافرت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة .. عينت مدرسا في مدينة " العين "، ودرّست في مدرسة زايد الأول والمعهد العربي الإسلامي .. وكان من بين طلابي خمسة من أبناء رئيس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ..
في المواقف السياسية خلال الجامعة :
ـ الحزب القومي السوري :
دُعيت للانتساب إلى الحزب القومي السوري ، فأجبتهم باختصار :
أنا عروبي ، رضعت العروبة من والدتي .. لن أصدق أسطورة اسمها " سورية " ..
ـ الحزب الشيوعي السوري :
ثمة صديق لي ، دعاني للانتساب للحزب الشيوعي السوري ، فأجبته :
إني معجب بالماركسية كمذهب اقتصادي لأنها تحقق العدالة الاجتماعية ، لكني أرفض أيديولوجيتها بشكل قاطع ..
ـ حزب البعث العربي الاشتراكي :
كما دعيت لأكون عضوا في حزب البعث ، من قبل أحد طلابي ، وكان أمينا لفرع من فروع الحزب ، ويثق بي وبنزاهة أفكاري .. فقلت له :
أنا رجل وحدوي .. حقِّقوا " الكلمة الأولى من شعاركم " ( وحدة حرية اشتراكية ) بوحدة مع العراق ، وقتها ، سأكون منكم ومعكم .. وإن رفضتموني سأكون الجندي المجهول ..
فأجابني : " منطير من مراكزنا " ..
ـ الإخوان المسلمون :
أنا نشأت في أسرة متدينة ، وكان والدي ـ الشيخ راغب الطباخ رحمه الله ـ رئيس جمعية " البر والأخلاق الإسلامية " ، وله صداقات مع جمعية " الأرقم " ، وكان بعض طلابه من أعضائها .. ولما تحولت جمعية الأرقم إلى تنظيم باسم " الإخوان المسلمون " ، طلبوا من والدي اندماج الجمعية التي يرأسها بهم ، فرفض قائلا :
" لكم مجالكم ولنا مجالنا " ..
وقد رفضت أنا أن أكون عضوا في تنظيم " الإخوان المسلمون " في المرحلة الثانوية رغم أني كنت أمارس الرياضة في مقرهم أنا والسيد " أديب النحوي " ..
وكلانا لم نكن منظمَيْن في حزبهم ..
وكرروا عليّ الطلب بالانتساب لحزبهم في سنوات الدراسة في جامعة دمشق ، فقلت لهم :
" عندما أبلغ سن الأربعين سأفكر في العمل السياسي ، وأنتم لا تصلحون للسياسة .. أنتم لا تصلحون إلا كجمعية خيرية " ..
وهكذا ..
كان شعوري بالعروبة وبالحضارة الإسلامية هو الذي صرفني عن الحزبية ..
أم خليل :
في مدينة الرقة حين كنت مدرسا هناك ، استأجرت غرفة في بيت تسكن فيه أم خليل وحيدةً ، وهي امرأة عجوز وتدخن بشراهة ونهم ..
وكانت عادة التدخين متفشية في أوساط المجتمع والطلاب معا ، وحاولت ـ ما استطعت ـ أن أبين لهم مضاره لعل بعضهم يقلع عنها ..
" لكني لم أفلح ، بل كدت أنا أن أدخن " ..
ولم أجد وسيلة مع أم خليل هذه تجعلها تخفف التدخين على الأقل ، ومع ذلك ، لم تكن تكف عن دعوتي للتدخين ، على أساس : " لو أنه ضار لما عاشت حتى هذا العمر وهي مدخنة منذ خمسين عاما " ..
كنت جالسا في غرفتها ، فألحّت عليّ أن أجرّب هذه السيكارة " البافرا " ، وقد لفتها بأصابعها المعروقة بعناية ، ولم تبلل طرف الورقة بريق لسانها ، حرصا منها على ألا يلامسَ ريقـُها شفتيَّ إذا وَضعْتُ السيكارة في فمي ..
ونزولا عند إلحاحها ،أخذت اللفافة ، وقلت لها : سأضعها في فمي ، لكني لن أشعلها ..
في هذه اللحظة تماما ، دخل علينا أحد طلابي المدخنين ، وكانت هي عمته ، ورأى السيكارة بين شفتي ، فلم يصدق أنه ضبطني بالجرم المشهود ، وقال لي مباشرة :
" يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون " ؟! ..
الأبحاث والدراسات :
ـ بحث عن ( آقِ سنقر ) حاكم حلب الأتابكي التركي ..
ـ بحث عن الاتحاد الألماني .
ـ أبحاث عن معركة نهاوند ، ومعركة اليرموك ، وفتوح مصر .. " هذه كتبت خلال أدائي خدمة العلم " ..
ـ بحث بعنوان : حرب 1973 .
ـ الإدارة في دولة الإمارات ..
وأيضا في مرحلة وجودي في الإمارات ، مارست كتابة القصة القصيرة ، وانضممت إلى الملتقى الأدبي في مدينة العين ..
ومن القصص التي كتبتها :
" وداع ـ الخيط المائل ـ بائع اللبن ـ الوظيفة الجديدة ـ الحافلة والحمال " ..
ـ أقوم حاليا بإعادة كتابة رسالتي الجامعية ، بعد أن توفرت لي وثائق كثيرة عن والدي الشيخ محمد راغب رحمه الله ..
منها :
وثائق تتعلق بمراسلاته مع بعض المستشرقين ، مثل :
( ريتر ، ماير ، مار جليوس ، كارل سوس هاين ، أفرميد الكرنكوي ، وهو ألماني عاش في لندن وحين أسلم سمى نفسه سالم الكرنكوي )
واستهدفت هذه المراسلات تبادل الخبرات ، والتعرف على المخطوطات الموجودة في مكتبات أوربا والهند ..
ـ وقد راسَلَ أيضا عددا من العلماء العرب :
شكيب أرسلان .. اسكندر معلوف ، محسن الأمين العاملي ، أحمد زكي باشا ، داوود جلبي ، عبد الحي الكناني ، محمد ناصيف ...) ..
عوامل أثرت في شخصيتي :
فلقد كان والدي قدوتي .. واتسمت علاقتي به منذ صغري بالوضوح ..
فكان يختار الوسطية في جميع الأمور ، ولهذا اتبعت خطاه ..
وكنت أسأله عن أي استفهام في التاريخ أو العقيدة الإسلامية ..
سألته مرة : بمَ تشبهُ الإسلامَ ؟؟
قال : كالماء العذب للإنسان ..
فإن كان نهرا فليكرع منه ما يشاء ..
وإن كان بئرا ، فللمريد أن يغترف منه حسب طاقته ..
وهو جواب رمزي وذو دلالة :
فالنهر : للسلفيين " جماعة الحديث " ..
والبئر : للمتصوفة ..
وكان والدي وسطا بينهما ..
ـ المطالعة في الموسوعات العلمية ، وخاصة فيما يتعلق في الكون ..
ـ يداخلني شك أحيانا في كل شيء ، فتجلت في هذه عظمة الله تعالى في نظري ، فكانت المطالعة والتلفاز ، فقطعت الشك باليقين ..
ـ أدمنت مطالعة التاريخ الحديث ، لأن بعض مناهجنا تجانب الحقيقة ..
ولم أتوقف عن المطالعة إلا في الأسبوع الأول من زواجي ..
وتوقفت شهرا إبان نكسة حزيران 1967 ..
من وثائقي :
ـ مناشير للموالاة والمعارضة الوطنية :
من الموالين للفرنسيين : شاكر نعمت وكان ضابطا في الجيش التركي ..
ومن المعارضة الوطنية المعادية للفرنسيين :
إبراهيم هنانو ، وسعد الله الجابري ، وعبد الرحمن الكيالي ، ورشدي الكيخيا ، وناظم القدسي " ..
ورشدي الكيخيا ، هو الرجل الوحيد الذي رفض أن يوقع على منشور الانفصال رغم عداوته الشديدة للرئيس جمال عبد الناصر .. وقال : نحن طلاب وحدة ولسنا انفصاليين ..
أما ناظم القدسي ، فقال مقولته المشهورة : أن نتعاون مع الانفصاليين ، أفضل من أن تضيع البلد .. كما رفض أن يعطي أوامر للجيش بالتصدي لأنصار ثورة عام 1963 ..
مواقف :
ـ ما زلت حريصا على وطني ، ولا أقبل ديمقراطية أمريكا الزائفة ومؤامراتها على سورية ..
وأرغب أن يتم إصلاح الفساد الموجود في سورية ، بأيد سورية وطنية ، سواء كانت مؤيدة لنظام الحكم أو معارضة له ، لكن ، يجب أن يكون عملها لخدمة الوطن فقط ..
ـ أنا مع الوطن .. أرى المؤامرة الأمريكية الصهيونية واضحة على بلادنا تحت عنوان " الفوضى الخلاقة " ..
ـ ما جرى في تونس ومصر ، استغلته أمريكا لصالح مشاريعها ، وكان لا بد من التدخل الأمريكي لإنهاء دور حسني مبارك ، بعد أن سقطت كل أوراقه ..
ـ ثمانون مليون أمريكي يدينون بالمسيحية التوراتية ، ويؤمنون بأن المسيح لن ينزل على الأرض إلا إذا قامت " مملكة إسرائيل " ..
وجورج بوش كان توراتيا .. خرج علينا بـ " الفوضى الخلاقة " لمساعدة الصهاينة ، فنفذت الخطة في عهد أوباما ، وفشلت في سورية إن شاء الله ..
ـ نحن نحتاج إلى فقه جديد ، وتفسير جديد يتلاءم مع عصرنا الحاضر ، مع الاعتماد على الثوابت القطعية ، مستفيدا أيضا من فقه جميع المذاهب الإسلامية لصياغة القوانين الوضعية المناسبة للمجتمع ..
ـ عشت بعيدا عن السياسة ، فلم أنسجم معها ، لأني كنت أريد أن أفهم الحقيقة الخالصة ، فلم أجدها ، فابتعدت إلى العلم ..
ـ ابنتي هزار مخزن أسراري الأول ، وابني راغب ، الثاني ..
ولـ " هزار " مكانة أقرب إلي ، أجيبها على أدق الأسئلة ، ولها " دالة "على محيطها لا يحظى بها غيرها ..
ـ أنا من أنصار الزوجة الوحيدة ..
فـ " الغيرة ، كالملح في الطعام .. زيادته تصرفك عنه ، ونقصانه تفقدك نكهته " ..
في الإجراءات :
صادفتُ اسمها على صفحة الفيس بوك .. وحين استعرضت أسماء أفراد عائلتها وأصدقائها ، أيقنت أنها السيدة هزار بنت أبي راغب الطباخ ..
كتبت لها رسالة فيسبوكية معبرا عن رغبتي بالاطمئنان عن والدها والتواصل معه ..
كان ذلك ربما في الشهر الخامس ، فلم يتأخر الرد أبدا .. وجاءني " فورا " بعد قرابة ثلاثة أشهر ..
وحين كنت قريبا من بيتهم ذات صباح رمضاني ، اتصلت بأبي راغب ، فلم يتعرف صوتي ، ولم يكن في البيت ، واعتذر مني بأنه سيدخل بعد يومين المستشفى لإجراء جراحة لعينيه ..
بعدها لم يتسن لي لقاءه ، فبدأت أفكر بحل إجرائي للحصول على بعض المعلومات ، لأستطيع من خلاله أن أكتب هذا المقال ، الذي كتبت عنوانه على الملف ، وتركته ماثلا أمامي على سطح المكتب ..
فكرتُ في كتابة بعض الاستفسارات وإرسالها إلى السيدة هزار .. لتعرضها على والدها ، وليجيب على الأسئلة قبل إعادتها إلي .. فبدأت التحضير ببطء وتردد ..
لكن المفاجأة كانت أسرع منا ، تلقيت اتصالا من رقم محلي لا أعرفه ، لكني عرفت صاحب الصوت سريعا ، واتفقنا أن نلتقي في أي مكان من البلد ، وقريبا ..
وتم اللقاء في نفس المكان الذي أمضينا فيه وقتا ممتعا في صيف 1990 بعد أن تغيرت وتطورت كثير من ملامحه ..
التقينا لثلاث ساعات في منتزة " المُبَزَّرَة " في مدينة العين في دولة الإمارات ..
قلت له : أشعر أن الله سبحانه وتعالى قد أحاطني برعاية خاصة ، فحقق لي أمنيتي باللقاء هذا ، وبأسهل مما تخيلت ..
كنت أستمع وأكتب وأناقش وأستفسر وأحتسي القهوة والشاي ، بلا نرجيلة مع الأسف ..
كان أبو راغب متجليا ، يستحضر كل الماضي الذي أسأله عنه بكبسة زر .. لم يتلكأ .. ولم يتردد .. ولم يَبدُ عليه شيءٌ من الإعياء ، فأصر أن نذهب إلى الغداء معا .. ثم افترقنا على اتفاق بموافاتي بريديا ، ببعض الأوراق والمستندات والوثائق التي يمكن أن تضفي على المقال زخما تاريخيا ..
وحين استعرضت الصور التي التقطتها له خلال اللقاء ، لم ترق لي فنيا ..
سأنتظر فرصة أخرى ..
سلاما أبا راغب .. قبلة محبة على جبينك ..
وعذرا ـ أبا راغب ـ عن التقصير ..
الأربعاء ـ 19/10/2011
الأستاذ أبو راغب وتلميذه في منتزه العين الفايضة في مدينة العين بالإمارات 08/01/1993
الأستاذ يحيى وصديق التقاه صدفة في المنتزه ..
في ضيافة أبي راغب في مدينة العين .. 08/01/1993
أبو راغب في منتزه المبزرة في مدينة العين 15/10/2011
التعليقات (0)