كتب الدكتور. محمد العربي ولد خليفة عن أداء الصحافة العربية باللغة العربية، وتساءل في مقالاته من أسئلة جهورية تجسد مظاهر الأداء الإعلامي العربي باللغة العربية، وانطلق من تساؤلات هامة منها: ما هو مستوى الأداء في صحافتنا الصادرة بالعربية؟ ما هي خصائص الصحافة المكتوبة؟ ما هي مستويات الخطاب الموجه لجمهور متنوع في اهتماماته ومستوياته الثقافية؟ ما هو دور التكوين والاختصاص في إتقان لغة التبليغ الإعلامي المكتوب؟ كيف تعالج الصحافة الأخطاء الشائعة وظواهر التهجين اللساني المتزايد في مجتمعنا؟ هذه بعض الأسئلة التي تجتهد هذه الورقة في الإجابة عنها، من موقع الملاحظ المشارك لعدة سنوات في صحافتنا في عهديها قبل التعددية وبعدها، وبدافع الحرص على التجانس الثقافي والمجتمعي الذي لا يستغني عن لغة جامعة وموحّدة، ولا شك أن العربية باعتبارها لغة وثقافة وليست عرقا أو سلالة، قد قامت بهذا الدور في الماضي وهو مطلوب منها الآن وفي المستقبل.
بدون أن نخوض في الجدل حول العلاقة بين اللغة والفكر وقضايا التثاقف والتواصل بين الجمهور ونخبه، فإننا نشير إلى ما انتهى إليه الأستاذ محمد حربي في تقديمه لدراسة "غ. بيرفييلي" عن الطلبة الجزائريين في فرنسا 1880 ,1962 ومؤدى مقولته المسبوقة بحرف الشرط ما يلي: "إذا ظهرت مجموعة وطنية واحدة فإن لغتها المشتركة لن تكون سوى العربية". للصحافة المنشورة بلغة الضاد جمهور واسع، حيث تجاوز عددها ثمانين صحيفة، ويمثل قراؤها المواظبون أو المحتملون ثلثي المجتمع الجزائري من خريجي المدارس والمعاهد بعدما يزيد على ربع قرن من إقرار العربية لغة للتعليم في كل مراحل المنظومة التربوية، وتخرج العديد من الدفعات التي تكونت في معاهد الآداب والاتصال والإعلام ومن كليات العلوم الاجتماعية المنتشرة عبر الوطن.
لست من المختصّين في شؤون وشجون الصّحافة المكتوبة، وإن كنت من المساهمين في صفحاتها منذ أمد بعيد، ومن الدارسين لواحد من أقرب الاختصاصات إليها، وهو علم النّفس الاجتماعي ومن مباحثه الهامة قياسات الرأي العام وأثر الإدراكيّة (apperception) على نقل الواقعة الخبريّة وتأثير اتجاهات ومواقف الشخص الفكريّة وما يسمى شخصيته القاعديّة (Basic personality) على التعامل مع الوقائع وطريقة التعبير عنها والتعليق عليها. إذا تعلّق الأمر بالصّحافة فإنّ تلك العوامل كلّها تشكّل الإطار العام الذي يستفيد منه الباحث في المضمون الإعلامي المكتوب في منهج دراسة الحالة وتحليل المضمون وتوصيف معطيات حقبة من الماضي، فالصحافة سِجل مفتوح، ومادّة خام لما يُسمّى التاريخ المباشر وبمرور الزمن يصبح عند الباحثين من المصادر الصّالحة لتشخيص واقع حقبة من حياة الأمة.
لقد أصبحت وسائط الإعلام والاتصال وفي مقدّمتها الصحافة المكتوبة، من العناوين الأولى للاتصال منذ مطبعة غوتنبرغ إلى الصحافة الإلكترونية وهي علم قائم بذاته يسمّى الميديولوجيا، وهو عنوان الدّراسة التي نشرها سنة2001 ريجيس دوبراي R.Debray بعنوان دروس في الميديولوجيا (Cours de medeologie) تنبأ فيها بأن تبقى الصّحافة خزّان الثروة اللّغويّة، ونصح بأن تستخدم نصوصها الجيّدة في الكتب المدرسيّة وفي الامتحانات والمسابقات.
الصحافة الوطنية مسيرة وتجربة تتطوّر
في السّنوات الأولى بعد التحرير وفي وقت كانت صحافتنا الناشئة باللغتين، تبدأ خطواتها الأولى من ناحية التكوين والتجهيز، والأميّة تخيّم على نسبة عالية من الجزائريين، في تلك الحقبة واجهت صحافتنا الصادرة بالعربيّة منافسة غير متكافئة، تتمثّل في قوّة وتأثير نظيرتها الصادرة بالفرنسية خارج الوطن، فقد كانت توزع مجانا على عدد من الإطارات في الإدارات المركزية والمحلية، وتعتبر تحقيقاتها ومقالاتها من المصادر الموثوقة وقد يستشهد البعض بما كتبه بول بالطا أو إريك رولو وهما على أي حال من المختصين في الشأن الجزائري، وعلى صلة بمصادر المعلومة، فكم عدد الصحفيين عندنا المختصين اليوم في الشأن الفرنسي أو حتى في شؤون جوارنا القريب؟ روى أحد شيوخنا القصة التالية: أنه كان يقرأ صحيفة الشعب في أواسط الستينات من القرن الماضي (وللعلم فإن صحيفة الشعب مع المجاهد الأسبوعي كانتا المدرسة الأساسية لأجيال من الصحافيين) أقول كان يقرأ تلك الصحيفة الأم في مقهى "كافيتيريا" المقابل للجامعة المركزية يوسف بن خدة، تقدم منه بعض الشباب وقالوا بصيغة الإثبات أنت مصري، فقال لا أنا جزائري، ولكن ماذا تطلبون؟ فأجابوه، لا شيء فقط لأنك تقرأ بالعربية! أذكر هذه الحادثة للتذكير بأين كنا؟ وما وصلت إليه مقروئية صحافتنا اليوم من انتشار في القطاعين العام والخاص، ويظهر الأخير تنافسا بين صحفه في المهنية والجرأة والصياغات الخبرية والأقلام الفكرية والأدبية. الحقيقة أن للصحافة في بلادنا تقاليد قديمة تزامنت مع إرهاصات النهضة في بلاد الشام ومصر التي قام بها رواد كثيرون وخاصة منهم المسيحيون العرب، وفي الجزائر انتعشت الصحافة المكتوبة أثناء الحركة الوطنية، بفصيليها الأكثر حضورا وتأثيرا، وهما: حزب الشعب ـ الانتصار وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وكانت تلك الصحف في تلك الفترة أشبه بالمناشير السرية ومطالعتها من دلائل الوطنية والاختلاف عن الجالية الأوروبية التي كانت لها صحافتها الكولونيالية.
كما كانت الصحافة وخاصة منها المكتوبة بالعربية أثناء ثورة التحرير ممارسة مبكرة للسيادة الوطنية ووسيلة فعالة للتعبئة ورفع الروح المعنوية.
لا أشير هنا إلى التطور الكمي والكيفي الذي عرفته صحفنا الوطنية في العقود الأخيرة، وخاصة بعد إقرار التعددية وظهور الصحافة الخاصة والانفتاح على منابر الرأي بما تزخر به من مقالات تحليلية وافتتاحيات أصبحت من مميزات الإعلام المكتوب الذي تستشهد به صحف ومحطات فضائية عربية وأجنبية، بدون أن تشير إلى أنه ممارسة عادية للديمقراطية في الجزائر، قلما يتعرض صاحبها إلى التضييق، إذا لم يكن في كتاباته تجريح أو تحريض على الفتنة.
الصحافة امتداد للمدرسة، يجد القارئ في خطابها المكتوب اللغة الوسطى الحديثة التي تساعد على تكوين ثقافة عامّة في مختلف المجالات العلمية والفنية والأدبية، تصبح مفرداتها وتعابيرها أشبه بالعملة المتداولة بين الناس، تثري قاموسهم اليومي تغذي مطالعة مقالاتها الإلمام بقضايا الساعة وحب الاستطلاع وقد تدفع كتاباتها إلى الردّ والتعليق وهو حوار مكتوب بين الأفكار والاتجاهات من المفروض أن لا يفسد للودّ قضيّة، إنّ الاختلاف في الرأي في وسائط الإعلام يمكن أن يكون مرصدا أو مؤشرا على درجة حرارة المناخ الديمقراطي.
لا تستغني الصحافة عن مدققين أكفاء ومتمكنين من قواعد اللغة وإلى كتّاب متخصّصين في مجالات الكتابة الصحفية، وإلى مترجمين يتقنون العربية ولغة أو لغات أخرى، ومن الأفضل أن يكونوا من المتخصصين في المجال الذي يترجمون منه، مثل شؤون المال والأعمال والمسرح والسينما والبيئة والفلاحة والرياضة التي ابتكر المعلّقون عليها العديد من المصطلحات التي شاع تداولها وراء الحدود إلخ...
الحقيقة أن الأخطاء في الكتابة الصحفية شائعة عندنا وفي الصحافة العربية بوجه عام، خصص لها الباحث اللّبناني نسيم الخوري أطروحة دكتوراه في جامعة السوربون بعنوان: الإعلام العربي وانهيار السّلطات اللّغويّة، نشرها مركز دراسات الوحدة العربيّة سنة ,2005 يقول في خاتمة دراسته ص 478 ما يمكن اختصاره في الفقرة التالية: إنّ الخوف من زحف العاميات وتجاهل الفصحى في وسائط الإعلام ينبئ بوجود خطر محدق بلغة الضاد، بسبب ما تتعرّض له من تهشيم، ومن الواجب العلمي والقومي قرع ناقوس الخطر حرصا على العربيّة ودفاعا عن مستقبلها.
مستوى الخطاب والعلاقة بين المرسل والمتلقي في الداخل والخارج
إننا نرى أن لغة الصحافة تقترن بالمضمون المراد تبليغه وبمستوى الخطاب الذي يوجه عادة إلى أغلبية القراء، كما أنه من المطلوب أن يكون لكل صحيفة أسلوبها في الكتابة تعرف به بين قرائها، وكما تعرف الصحيفة بأسلوبها تعرف كذلك بالمفكرين والأدباء والعلماء والمحققين (Reporters) الذين يكتبون فيها مثل ما كان الحال بالنسبة لإرنست هيمنغواي وطه حسين وابن باديس والإبراهيمي والعقاد ونجيب محفوظ، ومن الجزائريين هناك قائمة طويلة من المعاصرين لمعوا في العقد الأخير وقدموا لصحافتنا الوطنيّة قيمة مضافة فكريّة ومهنيّة وجماليّة، وبعضهم من الباحثين المرموقين والمبدعين في فنون القصّة والرّواية والشعر. نتوقّع أن تتمكّن صحافتنا الصّادرة بالعربيّة من إصدار ملاحق أسبوعيّة أو شهريّة في الأمد المنظور، وأن تسمح لها إمكانياتها من الاستعانة بمجموعات من أهل الفكر والذكر والإبداع وأن تساهم في توطين أساسيات المعرفة العلميّة بين الجمهور من قرائها، فالعربيّة لغة علميّة وهيّ من أقرب اللّغات إلى الرياضيات، كما عرّفها ن.تشومسكي عالم اللّسانيات الأمريكي المعاصر.
لم تتقلص الصحافة بعد زحف الثورة الرقمية وطوفان تكنولوجيا المعلومات في الغرب والشرق، فصحيفة شمبون اليابانية تجاوز سحبها اليومي في السنة الماضية المليون نسخة في نشرتها الصباحية وما يقارب ذلك الرقم في نشرتها المسائية، وصحيفة هيرالد تريبيون يطالعها الناس في حوالي ثمانين بلدا في العالم، وفي بريطانيا يصنّف المواطنون في اليمين أو اليسار حسب الجريدة التي يقتنونها، وفي الجزائر تجاوز السحب الإجمالي للصحف بالعربية بمختلف مواعيدها وتخصصاتها ومكان إصدارها مئات الآلاف، وبعضها سجل رقما قياسيا مقارنة بالجيران والدول الإفريقية، أي أضعاف ما كان عليه الأمر قبل عقد واحد.
اللّغة سلاح ذو حدّين
من المفيد أن تكون لنا صحافة بالفرنسية موجهة إلى الخارج، كما هو الحال في عدد من بلاد العالم، لولا الانشطار اللساني في صفوف النخبة وشرائح من الجمهور، وقد كرّس ذلك الانشطار ثنائية لسانية ظهرت بوادرها في أواسط القرن التاسع عشر وتوسعت اليوم أكثر من الأمس القريب، وعلى الرغم من أن اللغة ليست العلامة الوحيدة على الوطنيّة، فمن ناحية المضمون قد نجد تحليلا أو تعليقا أو وجهة نظر بالفرنسيّة أو الإنكليزية أقرب إلى الحقيقة وأكثر عمقا وأثرا في القارئ من بعض ما ينشر في صحافتنا الصادرة بالعربيّة، ولا يرجع ذلك إلى لغة الضاد وإنّما لمستوى أداء الصحفي وكفاءته المهنيّة، وما تتوفّر عليه الصحيفة من أرشيف وتوثيق منظّم ومحيّن.
لقد كانت للقيادات المؤسسة للحركة الوطنية والثورة مناشير وصحافة ومؤلفات باللغة الفرنسية، نشرت بالأمس وتنشر اليوم في صورة مذكّرات، غير أنه لا بد من ملاحظة أن اللغة ليست محايدة عند أهلها الأصليين فهي لا تنفصل عن مرجعيتها التاريخية، وفي تلك المرجعية جرح عميق في الذاكرة الجماعيّة لأجيال من الجزائريين تعلّم القليل منهم في مدرسة الأنديجان.
ليس من السهل أن يندمل ذلك الجرح، فهو سرعان ما ينزف كلما حدث استفزاز أو تحرش من وراء البحر، فالجزائري الأصيل لا يحقد ولكنه لا ينسى، ومن المعروف كذلك أن اللغة لا تنفصل عن حمولتها الثقافية السياسية، وبالتالي فهي سلاح ذو حدين، فليكن حدها المفيد لصالحنا، فهل تكفي استعارة لغة أخرى لتوطين الحداثة؟ لو كان ذلك صحيحا لكانت اللغة الوطنية لليابان وكوريا الجنوبية والصين هي الإنكليزية الأمريكية.
وقد يتساءل البعض من قراء الصحافة بوجه عام والصادرة بالفرنسيّة بوجه خاص عن عدد الذين تستضيفهم صحفنا وتستطلع آراءهم في شؤون الجزائر وتفسح لهم أعمدتها للدفاع عن سياسات بلادهم، وقد يتساءل البعض الآخر عن عدد الجزائريين الذين تسمح لهم صحف بلدان أخرى بعرض وجهة نظرهم، وخاصّة إذا كانت معارضة لاستراتيجيّة ومصالح تلك البلدان الأجنبيّة؟ قد نجد بعض عناصر الجواب في علاقة دولتنا بالنخبة الوطنيّة، ومدى وضوح الرؤيا والتمييز بين الدولة أعظم مكاسب الجزائر الحديثة وبين السلطة وأشخاص فيها قد نتفق وقد نختلف مع ما يقولون ويفعلون، ونجد عناصر أخرى للجواب في لعبة ورهانات الإعلام القوي وسلطاته ومصداقيته النسبية هناك وراء المتوسط والأطلسي، وعن تأثيره هنا، وفي العالمين الثاني والثالث، فما ينشر في صحف مثل الواشنطن بوست أو الفايننشال تايمز أو لوموند قد يكون له وقع يساوي حجم ونفوذ البلد الذي يصدر منه لدى خاصّة الناس وعامتهم.
خلاصة
يمكن النظر إلى الصحافة باعتبارها جزءا من منظومة إعلامية تتغذى من عدة جداول وهذه المنظومة أشبه ببحيرة بمياه متجددة، إذا انعدم فيها الحراك تحنطت وفقدت اللون والمذاق، وحراكها هو الاتفاق والاختلاف، فلا يوجد مجتمع يتفق فيه الناس على كل شيء إلا إذا كانوا في عداد الموتى، أو يختلفون على كل شيء، وفي هذه الحالة لا يعتبرون مجتمعا أصلا. مهما كانت توجهات الإعلام بكل وسائطه ومدى حرصها على سلامة اللغة العربية وخصائصها التعبيرية، حسب مقولة لكل مقام مقال، فهي إلى جانب دورها في تعميم استعمال العربية وتنقيتها من التهجين ونشر الفصحى الوسطى وتهذيب العامية، فإنها وسائط تساهم في الرقابة، إذا نأت بنفسها عن الإثارة والإشهار الغرائبي exotique، والتشهير المغرض، وهي بذلك تكمل مهمات المؤسسات الأخرى، بما فيها وزارات التربية والثقافة والدفاع والخارجية... إنها سلطة ليست فوق ولا تحت السلطات الأخرى، إنها فيها جميعها.
التعليقات (0)