رؤية جماعة الإخوان المسلمون ( للانتخابات) كانت ومازالت رؤية ضبابية مرتبكة غير واضحة كمثل ممارساتها الانتخابية على طول السنين ..
وهي رؤية تتطوع وتنصاع بحسب الظروف.. والمنحنيات ..والتحديات.. والمواجهات التي تمر بها الجماعة في مواجهة النظام حيث يعتبر كل منهما الآخر(الجماعة والنظام) عدوه اللدود الذي يمثل الخطر الأكبر والعقبة الكئود أمام مطامعه أو مطامحه ...
ورغم أنه من حق الجماعة أن تعيد صياغة مواقفها السياسية بحسب معطيات الظروف التي تمر بها .. بل إن ذلك من متطلبات السياسة عموماً ..
إلا أن الرداء الشرعي والصبغة الدينية (الثابتة) التي تسبغها الجماعة على مواقفها السياسية (المرنة والمتغيرة) هو ما يخلق هذا التناقض ويضرب مصداقية الجماعة في العمق ..
وهذا ما حدث من موقفين شديدي التناقض مرت بهما جماعة الأخوان المسلمون ..
أولهما .. في الانتخابات الرئاسية عام 2005 ..
وهي أول انتخابات رئاسية تجرى في تاريخ مصر بعد إلغاء نظام الاستفتاء .. فقد استشعرت المعارضة (كالعادة) بوادر النزوع إلى تزوير الانتخابات وغياب ضمانات النزاهة والحيدة منها ..
وأرادت المعارضة أن تتوحد وأن تتخذ موقفاً موحداً تحرج به الحكومة والنظام وذلك بإعلان مقاطعتها تلك الانتخابات .. مقاطعة مصحوبة باستقالات جماعية لجميع أعضاء مجلس الشعب من المعارضة .. وكانت جبهات المعارضة كلها في انتظار انضمام القوة الضاربة والكتلة المؤثرة (الأخوان المسلمون) إليها . .
إلا أن بياناً (ضعيفاً) صدر عن مكتب الإرشاد بالجماعة ضرب كلا الاتجاهين في مقتل .. ضرب أنصار المقاطعة بعدم الانضمام إليهم .. وضرب أنصار المشاركة بعدم التفاعل معهم ... بيان وقف على السلم .. أو في منتصف الطريق .. ولكنه في كل حال .. صب بجميع الفائدة في صالح النظام الذي سحب البساط من تحت أقدام المعارضة ومزق النظام شملهما معاً.."المعارضة .. والإخوان" ..
لم تتخذ جماعة الأخوان المسلمون موقفاً محدداً وحازماً من النظام الذي هو عدوها الظاهر الأوحد .. بل تركت الشعب يضرب أخماساً في أسداس .. مع توصية ظريفة لطيفة منها له بأن يختار الأصلح مع التمنيات له بحظ سعيد !..
ثم اختفت الجماعة في أحراش غابات التجاهل ..
وبالطبع كان الحظ السعيد كالعادة فوز النظام باكتساح ..
ثم اعقبتها الانتخابات البرلمانية التشريعية (مجلس الشعب) .. وهو الموقف الثاني المتناقض لدى الجماعة . فإذا بالجماعة تعود من أحراش غابات التجاهل لتنتشر بكل قوتها وكل قواها في عين الشعب ..وسمعه.. وبصره ..وفؤاده .. ووعيه .. تنتشر في كل مكان على الأرض وفي الشوارع وفي الإعلام وفي البيوت وفي الحوانيت تدعو الجميع إلى انتخابات البرلمان مع سيل جارف وشلال هادر من خطابات الترغيب والترهيب ..
وقد تجلى ذلك الخطاب عند الجماعة في بحث منسوب لها بعنوان (الرؤية الشرعية للانتخابات ) للدكتور عبد الرحمن البر والذي صار بعده عضواً بمكتب الإرشاد بالجماعة .. حيث وصف الدكتور البر الانتخابات بقوله :
(نعم هي جهاد أكبر؛ لأنها فريضة الوقت، فقضية الإسلام اليوم هي انحراف كثير من الحكومات عن دين الله تبارك وتعالى وعن شريعة الحق، وشيوع الفساد في كثير من الجوانب ومناحي الحياة على أيدي رجالات الدولة،)
ثم أردف قائلاً : (ولا شك أن المشاركة في الانتخابات هي الوسيلة المعاصرة الآمنة لذلك، وهي التي تدخل في حدود الاستطاعة.أما الذي لا يشارك في عمليات الانتخابات، فإنه يفوته القيام بهذا الواجب،)
ثم قال (( بل أقول: إن عدم الدخول في المجالس النيابية وعدم المشاركة فيها، وعدم القيام بهذا الأمر مع القدرة والاستطاعة؛ أشبه بالهروب من المسئولية والتولي يوم الزحف؛) ) ..
وهنا نتساءل عن مدى ملاءمة إنزال (حكم الهارب من معركة الجهاد أمام الكفار) على المواطن المتخلف أو المتكاسل أو المتعمد أو الممتنع عن المشاركة في (الإنتخابات البرلمانية ) ؟...
فإذا كانت هذه هي الرؤية الشرعية لجماعة الأخوان المسلمون في المشاركة الانتخابية البرلمانية ..
فلماذا لم تنسحب هذه الرؤية على الإنتخابات الرئاسية وهي أهم وأخطر ألف مرة من الأولى ؟!
ولماذا قصر الدكتور البر رؤيته الشرعية على انتخابات الشعب والشورى دون الرئاسة ؟!!
كما أن الانتخابات عموماً معروف عزوف غالبية الشعب عنها لغياب ضمانات الرقابة والإشراف والنزاهة والحيدة والشفافية علاوة على سيطرة التزوير عليها في جميع دوراتها ومراحلها ... فمقاطعة الناس لها إنما هي نوع من الاحتجاج السياسي الذي له مدلولاته في الحياة السياسية ... والمقاطعة نوع من أنواع الممارسة السياسية تجد لها مثلاُ تاريخياً في مقاطعة الزعيم الكبير (غاندي) السلمية المدنية ومن خلفه الشعب الهندي للتعامل مع الاحتلال الانجليزي .. وهي المقاطعة التي عجلت بإنهاء الاستعمار الانجليزي للهند ..
والغريب أن الدكتور البر وهو يعيب على المقاطعين للانتخابات قد أورد ما نصه:
((أُطمئن الذين يترددون عن المشاركة بزعم أن المشارك في مجالس لا تلتزم بأحكام الإسلام يُضطر إلى أن يقبل بأحكام تخالف شريعة الله؛ أقول أبدًا، إن المشاركة في المجالس النيابية لا تُلزم بقبول أي موقف تشريعي أو سياسي يُخالف الشريعة، بل للنائب أن يُعارض، وله أن يقدم البديل، وله أن ينتقد، وله أن يقاطع، وله أن ينسحب، وله أن يقدم المشروعات التي تتوافق وروح الشريعة السمحاء،)) ..
إذاً الدكتور " البر " قد أباح للنائب الأخواني أن يعارض وأن ينتقد كما أباح له أن يقاطع بل وأباح له أن ينسحب من مجلس لا يلتزم بأحكام الإسلام ...
فلماذا يحرم على الناس أن تعارض وأن تنتقد وأن تقاطع وأن تنسحب من عملية انتخابية هزيلة ومزيفة ومعلوم أولها وآخرها ونتيجتها من قبل دخولها ؟!!
كما أنه إذا كانت جماعة الأخوان المسلمون بحجمها الضخم وممارساتها السياسية والدينية قد إرتأت أن تنأى بنفسها عن انتخابات الرئاسة ترشحاً ومشاركة فلماذا تحرم على الشعب أن يفعل ذات فعلتها وأن ينأى بنفسه عن الانتخابات البرلمانية التي تشارك هي أيضاً فيها ؟!!
كما أن الشعب قد فقد مصداقيته في غالبية المشهد ..
كما فقد الشعور بالاطمئنان إلى فئة كي يناصرها ..
كما فقد الثقة في قيادة ليزحف خلفها ويوليها أمره كبديل عن قيادة يزحف أمامها ويوليها دبره .
كما فقد المصداقية في ثمة تيار ليسلمه قياده ..
لذا كانت المقاطعة ..
وكان الامتناع عن المشاركة في أي انتخابات برلمانية أو رئاسية ..
حكومية أو أخوانية ..
سواء كانت بزحف .. أو من غير زحف ... !!!!
التعليقات (0)