مازالت ردهات بعض المستشفيات والمصحات الخاصة تشهد جملة من الأخطاء الطبية، إذ يدخل المريض إلى المستشفى أو المصحة قصد العلاج، فيخرج منها جثة هامدة أو مصابا بعاهة مستديمة أو بضرر أكبر من الضرر الذي رغب في تداويه. وإذا كان قلة قليلة من ضحايا الأخطاء الطبية أو ذويهم قد تيسّر لهم إقامة دعاوى قضائية ضد الأطباء المتسببين في الخطأ، فإن أغلب حالات الأخطاء الطبية، سيما الخطيرة منها، ظلت محاطة بجدار كثيف من السرية والتستر.
مرضى من مختلف الأعمار والشرائح الاجتماعية وضعوا ثقتهم في أطباء يمارسون في القطاع العام أو الخاص، لكنهم عرضة لأخطاء طبية، بعضهم فقد حياته والبعض الآخر فقد عضو حيوي من جسده.
وتتجلى فظاعة الخطأ الطبي الناتجة خصوصا عن التقصير والإهمال اللذين يتعرض لهما "الزبون"، لأن المريض في عيون المصحات الخاصة يعتبر زبونا، وتتجرد من الطابع الإنساني الذي يميز الممارسة الطبية، وترتدي ثوب التجارة، وبذلك وجب التعامل مع أخطائها الطبية بقدر من الصرامة يتماشى مع العقلية التجارية، حسب الكثيرين من المتتبعين.
تنامي الأخطاء الطبية
من الصعب جدا الإقرار بوضعية الأخطاء الطبية بالمغرب، سيما في ظل غياب تام لإحصائيات رسمية تكشف عدد حالات الأخطاء الطبية بالمغرب، من السهل التستر على ما يقع منها في بعض المستشفيات والمصحات الخاصة بالمغرب، ومنها ما تفضي إلى عاهات أو أضرار جسدية أو إلى وفيات أحيانا.
كما أن المواطن بالأمس القريب لم يكن يولي الأهمية الواعية لهذا النوع من الأخطاء بفعل الإيمان القوي بالقدر. فإن الإيمان الكبير الشائع بين المغاربة بالقدَر و"المكتوب" يحول دون الوصول إلى إحصائيات دقيقة لعدد الأخطاء الطبية المقترفة حقا بالبلاد، لكون العديد يرى أن الخطأ الطبي قدَر منزل من الله ولا جدوى لمتابعة المتسببين فيه. وبالتالي غالبا ما لا يتم التفكير في إمكانية مقاضاة المسؤولين عن الخطأ الطبي، ولو أودى بحياة المريض.
إلا أنه لوحظ في السنوات الأخيرة تنامي الإعلان عن الأخطاء الطبية بالمغرب بعد أن أضحى المواطن المغربي يمتلك نزرا من الوعي القانوني بهذه الأمور، وأصبح يطالب بجودة الخدمات العلاجية وليس الاقتصار على حق الولوج إليها والاستفادة منها، أي عندما بات أكثر إلحاحا في مسألة تلقيه العلاج بالشكل الذي يرضيه ولا يؤذيه.
من أسباب الأخطاء الطبية
يعتبر أهل الدار أن من أبرز أسباب الوقوع في الأخطاء الطبية بالمغرب، الإهمال والسرعة التي تنتج عن تنقل بعض الأطباء بين المصحات الخاصة بغية جني المال الوفير، وعدم القيام بالواجب المهني على الوجه الأكمل.
يقول أحد الأطباء العارف بخبايا الأمور، إن من مسببات الأخطاء الطبية عندنا اللهث وراء الربح المادي بأي ثمن. فهناك أطباء يتناوبون بين المصحة الخاصة والمستشفى العمومي، وقد تتم المناداة على أحدهم في آخر لحظة ويذهب إلى المصحة الخاصة على حين غرة ليعالج مريضا أو يقوم بتدخل جراحي على وجه السرعة، وهذا من شأنه أن يوفر شروط الوقوع في خطأ طبي قد تكون نتائجه وخيمة. وغالبا ما يكون سبب حدوث الأخطاء الطبية عدم التزام بعض الأطباء بواجباتهم المهنية، سيما وأن منظومتنا الصحية أضحت تتوجه حاليا نحو الممارسة في القطع الخاص، أكثر من القطاع العمومي، لأنه يدر الأرباح على ممارسي الطب. علاوة على أن هناك أطباء موظفين تابعين للدولة يمارسون مهنتهم أيضا في القطاع الخاص في عيادات ومصحات خاصة، مستغلين عدم وجود نص قانوني يمنع هذه الازدواجية بصريح العبارة. فكيف يمكن لطبيب يعمل في مؤسسة علاجية عمومية وله انشغالات كثيرة في مصحات وعيادات خاصة، أن يولي اهتمامه كله لمريض يحتاج رعاية خاصة ومتابعة أو تدخلا جراحيا دقيقا؟
يأتي الخطأ الطبي بسبب إخلال الطبيب المعالج بمهمته الرئيسة والتي تتمثل في متابعة المريض والاهتمام به وقت الحرج، وذلك بفعل انشغالاته الأخرى، لأن الخطأ الطبي في أغلب حالاته ينتج عن عدم القيام بالواجب تمام القيام، كما قد يكون ناتجا عن خطأ في الإجراءات المتخذة أو في تقدير الأدوية أو اختيار جرعة التخدير...
وتشكل حالات الأخطاء التخديرية من أبرز الأخطاء الطبية، سيما الجرعات الزائدة نتيجة سوء تقدير طبيب التخدير.
ويؤكد أحد المحامين المتخصصين في الدفاع عن ضحايا الأخطاء الطبية أن من أكبر عامل يتسبب في الأخطاء الطبية هو عدم الانتباه والسرعة التي تنتج عن تنقل بعض الأطباء بين المصحات الخاصة سعيا وراء جني المزيد من المال ، دون اعتبار لقداسة المهنة ونبلها ولا لقَسَم أبقراط الذي أدوه.
المسؤولية الطبية
يعتبر المشرع المغربي العلاقة بين المريض والطبيب المعالج علاقة تعاقدية بالوسيلة وليس بالنتيجة، أي أن الطبيب لا يضمن شفاء المريض، وإنما عليه أن يعمل كل ما في وسعه للسعي لشفاء المريض طبقا لما ينص عليه العلم والطب والخبرة والتجربة. أي أن الطبيب ليس مُطالبا بتحقيق نتيجة محددة، وليس ملزما بشفاء المريض، غير أنه ملزم بتقديم الخدمات الطبية الضرورية للمريض الذي يحتاج منه رعايته وفق ما توصل إليه العلم الحديث.
ويأخذ المشرع المغربي بأساس التعويض على الخطأ الطبي المقترف عند وقوعه ، دون الاهتمام بمسؤولية الطبيب، لكن يجب أن يُثبت المريض المتضرر الخطأ. والحالة هذه، فكيف لمواطن عادي أن يثبت الخطأ الطبي اعتمادا على وسائله الخاصة؟ هذه هي المعضلة التي تزداد تعقيدا بفعل غياب أي جهة مفوضة لمساعدته، ماعدا الجمعية المغربية لضحايا الأخطاء الطبية التي يلتحق بها الضحايا وذوو الحقوق، والتي تأسست منذ أكثر من سنة، وشكل تأسيسها بارقة أمل بالنسبة لهم. سيما وأن إن هناك فراغا قانونيا فظيعا في ما يتعلق بالملف الطبي إذ لا وجود لوسائل قانونية توفر إمكانية الولوج لهذا الملف، وليس هناك قانون خاص ينظم هذا الأمر باستثناء القانون 94-10 المتعلق بمزاولة مهنة الطب الذي ينص على أن "الطب مهنة إنسانية".
وهناك جملة من الإشكالات القانونية والعملية التي تصاحب الخطأ الطبي، حيث لا وجود بالمغرب لنصوص قانونية خاصة تجرم مرتكب هذا النوع من الأخطاء المقترفة، فكل ما هناك، نصوص قانونية متفرقة في القانون الجنائي والمدني.
فالمواد القانونية التي تؤطر الأخطاء الطبية هي تلك التي تجرم جرائم الإيذاء العمد أو إحداث ضرر للغير بسبب عدم التبصر أو الإهمال، أو إلحاق عاهات مستديمة مثل إتلاف رحم المرأة على سبيل المثال.
وإذا كان الخطأ الطبي وارد، كما هو الحال حتى في الدول الغربية المتقدمة، ولا يوجد تشريع يمنع مثل هذه الأخطاء، فإن على الدولة سن قوانين زجرية صارمة لمعاقبة المهملين من الأطباء عديمي الضمير المهني. كما أنه من المشينة التي لا تليق بمهنة الطب، التكتم على الخطأ الطبي ومحاولة إيهام المريض بأن شيئا لم يقع.
من العوائق الكبرى
مازال هناك جبال من العوائق أمام ضحايا الأخطاء الطبية ببلادنا تجعل أن ضحاياها غالبا يضيع حقهم وتقبر القضية وتفلت المسؤول عن الخطأ من المسائلة والمحاسبة.
علما، إن ملفات ونوازل الأخطاء الطبية تتولاها أساسا الهيئة الوطنية للأطباء بالمغرب التي تضم جميع الأطباء بمختلف تخصصاتهم، باعتبارها المؤسسة المنظمة لمهنة الطب وطبيعة التعاملات بين الطبيب ومرضاه. وفي نوازل حدوث وفاة أو عاهة بسبب خطأ طبي، تضطلع هذه الهيئة بالنظر في القضية وإتباع المسلك القانوني بعد إجراء خبرة خاصة على المتضرر. وفي هذا المضمار يقول أحد ضحايا الأخطاء الطبية : "كيف يعقل أن تلجأ الضحية إلى هيئة الأطباء لإثبات أنه متضرر جراء خطأ طبي، إنه أشبه بمن يؤمن الذئب على حراسة الغنم".
كما أنه لا نكاد نعثر على طبيب يقبل تقديم شهادة طبية مضادة موضوعية في حق زميله في المهنة اقترف خطأ طبيا أفضى لموت أو عاهة.
ومن العوائق الكبرى التي ترافق وقوع خطأ طبي، أن التقارير التي تقدمها اللجنة الطبية المختصة في النظر في النازلة تكون غير مبنية على أسس علمية، وغالبا ما تتضمن نوعا من المحاباة والتضامن "السلبي" مع زملائهم الأطباء مقترفي الخطأ الطبي. كما هناك من الأطباء المعالجين من لا يستجيبون للقضاء في ما يخص طلب خبرة متخصصة، كي يقوم القاضي بتحديد مسؤولية الطبيب من عدمها وتحديد نسبة الضرر لدى المريض الضحية وتعيين مقدار التعويض المنصف اللازم لفائدته.
وقد سبق لجمعية المغربية لضحايا الأخطاء الطبية أن أقرّت أنه حين يتم اللجوء إلى المحاكم بغرض الاستعانة بالخبرة الطبية، يلاحظ أن هناك نوع من "التضامن بين الخبراء والأطباء "، في حين أن جل المتضررين لا دراية لهم بالمساطر ولا يكون بجانبهم أطباء كي يقدموا لهم الاستشارات اللازمة ويبصروهم بمحتوى الملف وفحوى التقرير الطبي. كما أنه ثمة لبس يعتري المسؤولية المدنية في ما يتعلق بالأطباء، ففترة التقادم تدوم عادة ما بين 15 و20 سنة، والناس يجهلون هذا المعطى ويظنون أنه بانصرام سنة ينقضى الأمر ولا يحق لهم بعد ذلك رفع أي دعوى، وتصبح النازلة في خبر كان.
ويزيد الطين بلة إذا علمنا أن الكثيرة من المصحات غير مؤمنة على المسؤولية المدنية المهنية، ولا وجود لنص قانوني ينص على إلزامية هذا التأمين.
ومن المعوقات، حرمان الضحايا من حيازة ملفاتهم الطبية، وهذه مسألة وجب النظر فيها قانونيا لتمكين المتضررين من هذه الملفات لتكريس حقهم المشروع في متابعة من يعتبرونهم جناة ألحقوا بهم ضررا، لأن الملف الطبي من الوثائق الحاسمة في إدارة معركتهم ضد مقترفي الأخطاء الطبية. علما أن الكثير من المصحات الخاصة دأبت على رفض تسليم هذه الملفات لأصحابها. أما بخصوص المستشفيات العمومية من المستحيل العثور على مثل هذه الملفات ، ناهيك المطالبة بها.
كما يلاحظ أن هناك شبه غياب التقارير الجراحية بعد إجراء العمليات الجراحية.
كل هذا يحدث في غياب قضاة مختصين في مجال الخطأ والمسؤولية المدنية للطبيب، على عكس ما هو معمول به في العديد من الدول . كما أنه في المغرب لا يملك جل الأطباء الجرأة للاعتراف بحدوث خطأ طبي عندما يتعلق الأمر بإدلائهم بالشهادة ويحملون المريض المسؤولية أو يرجعون سبب الضرر الملحق بالضحية إلى سوء التدبير من طرف إدارة المصحة. وكل الملفات المعروضة على القضاء والتي أفضت إلى إدانة مقترفي الأخطاء الطبية،وكان مآلها لصالح المرضى، رجع الفضل في ذلك إلى دعم الجمعية المغربية لضحايا الأخطاء الطبية واجتهاد المحامين الذين تمكنوا من العثور على ثغرات في الملف الطبي الخاص بالضحية تدين الطبيب بشكل مباشر.
جرائم البزات البيضاء في حق الأطفال
من أشهر الحالات التي تداولها الإعلام بالمغرب حالة الطفل أشرف الذي أتى إلى مركز العلاج في حيه لتلقيحه ضد مرض الكبد، لكنه تعرض لتدمير خلايا النخاع الشوكي بسبب خطإ طبي فظيع، جعله يعاني من شلل كلي على مستوى أعضائه أفقده الحركة كليا، وهناك حالة زهير رضوان الذي دخل المستشفى بالدار البيضاء سالما لاستئصال اللوزتين التي كان يعاني منهما بين الفينة والأخرى، غير أنه خرج مشلولا ومصابا بالصرع وتنتابه الغيبوبة في فترات متقطعة.
ومن هذه النوازل حالة الطفلة زبيدة أبوسيف ذات السبع سنوات التي توفيت بالمستشفى الإقليمي ابن زهر نتيجة الإهمال الصارخ من طرف الطبيب المداوم ومعاونيه، والتي تم إهمال ملفها والعمل على إقباره ونسيانه و تركه بيد الزمان ليتم دفنه كما دفنت صاحبته نهائيا، رغم أن عائلتها أودعت شكاية في الموضوع لدى الشرطة القضائية .
ومن ضحايا الأخطاء الطبية في القطاع الخاص ، ما حصل للرضيع "أيوب"، حيث خضع لإجراء عملية جراحية بإحدى المصحات الخاصة بفاس، بعد التأكد من إصابته بالفتق، كان من نتائجها إصابة الرضيع بالعمى وبشلل حركي في أطرافه السفلى والعليا، نتيجة خطأ طبي ناجم، حسب الخبرة الطبية المنجزة في الموضوع والشواهد الطبية المرفقة، عن "الإفراط في تخديره أثناء العمليات الجراحية وعدم تمكينه من كمية كافية من الأكسجين عند نقله على وجه الاستعجال من فاس إلى مستشفى "ابن سينا" بالرباط، وبعد سنة ونصف من الترقب والانتظار بفعل التأخر في الإعلان عن نتائج التحقيقات، قضت المحكمة الابتدائية بإدانة الطاقم الطبي الذي كان وراء الخطأ الطبي، وبأداء شركة التأمين مبلغ 150 مليون سنتيم تعويضا للضحية. وصار أيوب بفعل هذا الخطأ الطبي طفلا معاقا للأبد محروما من نعمتي البصر والحركة.
من ضحايا الأخطاء الطبية الطفل "فؤاد" الذي تعرض لكسر في يده اليسرى وتم عرضه على طبيب مختص في العظام والمفاصل بمصحة خاصة، حيث أجريت له عملية جراحية لم تتكلل بالنجاح، بفعل "سوء تقدير الحالة الصحية للطفل وعدم تقديم الإسعافات اللازمة له أثناء مكوثه بالمصحة لأكثر من "شهر"، والده . فبعدما استفحلت وضعية الطفل الصحية ، نتيجة استحالة علاجه بالمصحة، قررت أسرته إخراجه وإحالته على قسم جراحة العظام والمفاصل بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني، وهناك أعلن الطبيب المعالج لوالد الطفل بأن الكسر"لن يعالج" بسبب تقادم مدة العلاج وانتشار الورم، والحل هو بتر يد الطفل على مستوى المرفق كي لا يمتد الورم إلى أنحاء أخرى من جسمه، مؤكدا في شهادته، أن الوضعية التي آل إليها فؤاد ناجمة عن "الإهمال وسوء التقدير والتأخير في العلاج"، علما أن تكبدت استنزافا ماديا سعيا وراء علاجه وكانت النتيجة عاهة مستدامة.
خلاصة القول: خيانة القسم
إن القاسم المشترك للأطباء مقترفي الأخطاء الطبية أنهم خانوا الثقة التي وضعها فيهم مرضاهم، وحولوا حياتهم إلى جحيم، كما خانوا قسم أبقراط والقسم الطبي حسب المؤتمر الأول للطب الإسلامي والذي مضمونه:
" بسم الله الرحمن الرحيم. أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي. وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلا وسعي في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عوراتهم، وأكتم سرّهم. وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، الصالح والطالح، والصديق والعدو. وأن أثابر على طلب العلم، أسخِّره لنفع الإنسان لا لأذاه. وأن أوقر من علمني، وأعلّم من يصغرني، وأكون أخًا لكل زميل في المهنة الطبية في نطاق البر والتقوى. وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقيًا مما يشينني أمام الله ورسوله والمؤمنين. والله على ما أقول شهيد."
خان عدد من الأطباء الثقة التي وضعها فيهم مرضاهم، وحولوا حياتهم إلى جحيم
التعليقات (0)