في الحقيقة لنفهم كيف افترقت الأمة لا بد أن نفهم ماذا حصل في عهد الخليفة الراشدي الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ، حيث مهدت هذه الحوادث الطريق لافتراق الأمة فيما بعد
على صعيد السياسة كان الفاروق رضي الله عنه شديدا حازما على الناس وكان على أهله أشد منه على الناس وكان لا يولي ذا قرابة ولو كان كفؤا للولاية ، بينما كان سيدنا عثمان لينا للناس وشديد الحب لأقاربه وأرحامه ، وكان رضي الله عنه يرى في توليتهم صلة للرحم
في الواقع لم تشهد السنة الأولى أية تغيير في الولاة تنفيذا لوصية الفاروق رضي الله عنه للخليفة الجديد بأن يبقي على ولاته عاما بعد وفاته خشية تغيير مستعجل تضطرب له أمور المسلمين ، وكان يرى أن تتوقف الفتوحات ريثما يتم تأهيل الداخلين الجدد في الإسلام ومن ثم المتابعة ، ولذلك فقد أمر الفاروق عمرو بن العاص أن لا يسير في إفريقية ولا يزيد الحمل حتى يقوى الظهر
ولكن بعد ذلك كان لسيدنا عثمان رأي آخر فكان يرى أن يولي أقرباءه تقربا لهم وصلة لرحمه ، ففي عام 26هـ عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة وولى عليها أخوه لأمه الوليد بن عقبة، ولكن الوليد كان قد نزل ذمه في القرآن بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا..) وكان الوليد هو المقصود ، كما كان لا يرتدع عن شرب الخمر حتى نقم الناس عليه وشكوه لأمير المؤمنين فاستقدمه وأقام عليه الحد سنة 30هـ ، وولى مكانه سعيد بن العاص
وفي عام 27هـ عزل عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها أخوه لأمه عبد الله بن سعد بن أبي سراح ، وقد كان عبد الله طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان كاتبا للوحي ثم ارتد وكفر بالقرآن الكريم ، فأباح الرسول دمه حتى شفع فيه عثمان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وأعاده ، وكان لهذا أثرا في نفوس الكثير من الناس كما سنذكر لاحقا
وفي عام 29هـ عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وولى عليها ابن خاله عبد الله بن عامر وجمع له الجند وهو ابن خمسة وعشرون سنة ، وكان لهذا أيضا أثرا كبيرا في نفوس الناس
وفي عام 33هـ حدثت مشكلة كبيرة في الكوفة عندما قال واليها سعيد بن العاص لكبار أهل الكوفة : إنما السواد بستان قريش -أي أن العراق ملك قريش- فغضبوا غضبا شديدا وقالوا له : إنما السواد فيء أفاءه الله علينا وما نصيب قريش منه إلا كنصيب غيرها من المسلمين ، فغضب صاحب الشرطة على ردهم وتشاجر الطرفان واشتبكوا بالأيدي وقد كانت هذه المشكلة أول الشرر وبداية الفتنة
أما في السياسة المالية فكان لسيدنا عثمان رأي آخر أيضا ونظرة تختلف عن نظرة الفاروق رضي الله عنهما ، فقد كان عمر رضي الله عنه لا يميز في العطاء إلا على أساس السبق في الإسلام ، فكان لا يعطي من شهد بدرا كمن أسلم بعد الفتح ، ولكن في عهد سيدنا عثمان كان الفتح عظيم والفيء كثير ، ولذلك فكان لا يرى مانعا في اجزال العطاء ، وكان شديد الكرم على أرحامه وأقاربه
فقد أعطى سيدنا عثمان لابن عمه مروان بن الحكم خمس ما غنمه المسلمون في أرض إفريقية (20%) ، علما أن الحكم والده مروان كان قد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وأمره بأن لا يرجع فعاش مروان مع أبيه في المنفى 14 عاما ولم يردهما الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، حتى صارت الخلافة إلى سيدنا عثمان فردهما وجعل مروان بن الحكم كاتبه
كما أعطى عمه الحكم وابنه الحارث 300 ألف درهم ومثلها لعبد الله بن خالد بن أسيد الأموي ، وأعطى الزبير بن عوام رضي الله عنه 600 ألف درهم ، و100 ألف لسيدنا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ، وأعطى سعيد بن العاص 100 ألف درهم وغيرهم وقد اعتذر سيدنا عثمان رضي الله عنه لسيدنا علي رضي الله عنه عندما راجعه في ذلك بأن كثير من العطايا كانت من ماله الخاص
ولكن ذلك كان ذلك سببا في نقمة الكثير حتى استقال عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه عن بيت المال ورفض تنفيذ الأوامر ، وأجازه سيدنا عثمان على 300 الف درهم فرفض أن يقبلها ، واستقال كذلك سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن بيت المال في الكوفة
وفي عام 30هـ وقع خلاف كبير بين سيدنا أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان ، حيث أنكر الأول على الثاني اقتناء المال واتخاذ القصور فنهاه معاوية عن ذلك فلم يمتنع ، فشكاه معاوية إلى الخليفة فاستقدمه إلى المدينة ولامه واسترجعه فلم يرجع فنفاه إلى الربذة شرقي المدينة المنورة ، ولقد كان لهذه الحادثة دور كبير في حدوث الخلافات كما سنذكر لاحقا
ورغم كل ذلك فإن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه هو الخليفة وأمير المؤمنين وطاعته من طاعة الله ورسوله ، ولكن هذه الأحداث كان لها الأثر في نفوس الكثير ومهدت كثيرا لحدوث خلافات كبيرة ، بعضها حدث بين الصحابة أنفسهم وبعضها بين العامة وولاتهم ولكن أخطرها كان تطاول العامة على الخليفة نفسه وتدخل الخبثاء من اليهود لصناعة شرخ في جسد الأمة ، وهذا ما سنتحدث عنه في المقالة القادمة إن شاء الله تعالى
التعليقات (0)