الآم الغربة تمحوها السنين
بقلم: أنس سلمان
تلك هي اللحظات الغريبة التي تنتابنا جميعاً، لحظةُ الخوف من المجهول، والخوف من المعلوم، فما أن تبدأ عجلات الطائرة بالإقلاع معلنة عن بداية هذه المغامرة الخرافية حتى تبدأ الأفكار والمشاعر تختال صدورنا وعقولنا، تذهب بنا بعيداً، وتأتي بنا على حيث أدراجُ الرياح التي تسبقنا إلى مصيرنا القريب، وقدرنا المحتوم.
تضطربُ المشاعر و تتشابك الأفكار وتبدأ ملامح المرحلة الجديدة بالبروز، نستطيع لمسها أحياناً وأحياناً تلمسنا هي بأناملها المتعجرفة، تقيدنا بقيودها المُحكمة وتصدر حكمها النهائي بهذه القضية الجديدة، وتبدأ بعدها فصولٌ من المعاناة المغموسة بالأم والمغلفة بالنجاح والتميز.
إنها الغربة بِحُلوِها ومُرّها، بخيرها وشرها، بألآمها وآمالِها، تفتح صفحة من الآلام والمعاناة تبدأ بالشعور بالبعد عن الأهل والأصدقاء، والبعد عن أماكن الذكريات، عندما نحس بالوحدة والتيه، نَحّن للأحباب فلا نجدهم، نُنادي فلا نَسمع المُجيب، عقاربُ الساعة بطيئة أو تكاد لا تتحرك، وجوه غريبة، وملامح عجيبة، وتضاريس رهيبة، ولغة جديدة.
لا يستطيع الفرد أن ينكر الآم الغربة في بداياتها، فهو إحساس يصاحب الجميع أينما حل أو ارتحل، يصاحبه لانتقال الجسد من مكان لآخر، هذه هي الكينونة البشرية التي يصعب عليها نسيان الماضي والحنين والشوق له، يصعب عليها نسيان الأوطان التي تغربنا عنها طوعاً أو كُرهاً.
تتعد أسباب الاغتراب والأهداف التي تدفع الفرد لنقل جسده من مكان لآخر، وتتشابه عوامل النجاح والفشل أيضاً خلال هذه التجربة، وتتكامل أحياناً لتشكل هذا الوجه المشرق التي تعتمد عليه المجتمعات لنهوضها وتنميتها من خلال استغلالها لهذه الطاقات البشرية التي تغربت لأهداف ومصالح معينة.
بعد مرور السنين وتتابعها، يبدأ الفرد بتذوق ما أقدم عليه سابقاً، وتبدأ علامات النجاح ظاهرةً على مُحياه، فهذه السنين من الآلام محاها موسم الحصاد، فأنتج منتوجأ يضاهي به الجميع ، ويفتخر به بين أقرانه، ويبني مستقبله بإيمانه برسالته، ويحقق أمنه وما لجأ إليه.
ولتجعل من غُربتك قصة نجاح تُقرأ، وحكاية تُحكي، عش الحياة وأطلق إمكانياتك ومواهبك، تعرف على الوجه الجميل المشرق للحياة، مارس هوياتك وأطلق لها العنان، صاحب الجميع واختار الصديق منهم، كن كالقمر يصفك الجميع بأخلاقك ويحسدوك عليها، هذه فرصتك لتكن مميز ولتكن ما يريده والديك، اجعل ابتسامتك دائمة ولا تبخل بها، غربتك هي من أيام حياتك ومحسوبة عليك، فإما أن تعيشها بحب وسلام أو تقتلها متعمداً.
أيام أو سنين الغربة ستصبح جزء من ذكرياتك وماضيك، فلا تجعلها حسرة وندامة، بل اجعلها كخطوة أولى نحو عالمك الجديد، واجعلها محطة للذكريات الجميلة، والرفقة الحسنة، واجعلها أيضاً منارة تهدي بها من بعدك من أجيال، كن نبراساً للخير ومتراساً للشر.
بعد كل هذا هناك غربة لا تمحوها الأيام ولا السنين، ولا تسقط بالتقادم، الا وهي الغربة القسرية وما أصعبها من غربة، بأن تترك كل ما تحب مُرغماً، وتغادر وطنك حزيناً بدون أهداف، فما أصعبها من غربة، وما أقساه من شعور.
ومن أجمل ما قيل عن فضائل الغربة والسفر ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
تغرب عن الأوطان في طلب العلى......وسافر ففي الأسفار خمس فوائـد
التعليقات (0)