كلّما طرحنا مصطلح الآخر يتبادر إلى الذّهن،للوهلة الأولى،أننا نقصد تحالف الأقوياء المهيمن على حضارة العصر،ذلك أنّ "الأنا" في هذا السّياق تأخذ مفهوم المستضعَف،النّامي،المهيمَن عليه،المتخلّف...وعليه وجب التوضيح أنّ الآخر الذي نقصده،هنا،هو العالم النّامي إزاء "الأنا"التي نعني بها دول العالم العربيّ المصنَّفة ضمنه والتي تشكّل هويّة قومية لغة وتاريخا وفضاء جغرافيا متّصلا...
دعنا نقول،أيضا،أنّ المقصود،هنا، هو التعاون جنوب-جنوب،وتحديدا،بين "الأنا العربيّ" و"الأنا غير العربيّ المتخلّف" الذي أهملناه وتعمّدنا تجاهله.
إنّنا مشغولون ومفتونون ومتيّمون بالآخر الذي استحوذ علينا بتقدّمه وتفوّقه،نبذل من أجل إرضائه ما استطعنا وما لا نتحمّله ونُبيح لدوله،مؤسسات وأفرادا، أن ترتع وتعربد وتتصعلك كما يطيب لها في بلداننا وبيوتنا ومقدّساتنا،وحتى إن أمعنت في إيذائنا فإنّ تذمّرنا منها أو احتجاجنا عليها لا يعدو أن يكون عتاب المحبّ الذي لا يُلحق ضررا بمعشوقه،في الوقت الذي نشيح بوجهنا باستعلاء وتأفّف عن الآخر المستضعف ونستخفّ بحاجته إلينا ورغبته في التّواصل معنا ونُغلق دونه قلوبنا وحدودنا.
أنْ يفتتن التابع بالمتبوع ويسعى إلى الاستفادة منه ويتطلّع للأخذ بأسباب تفوّقه فذلك أمر مطلوب ومشروع ومبرّر حتى إن اضطرّ لقبول ما يكرهه منه.أمّا أن لا يرى في العالم غيره أو لا يراه إلا من خلال أوامره فتلك حالة استلاب مروّعة لا نودّ الاستسلام لها.
لقائل أن يقول أننا نتصرّف-مع بعضنا البعض كعرب- بالطريقة نفسها التي نتصرّف بها مع غيرنا "المتخلّف"،وهذه حقيقة لا ننكرها واقعا نعيشه ونتجرّع مرارته ،لكنّ ذات الحال لا يجوز أن نتعلّل بها لصرف النّظر عن فداحة إهمالنا لغيرنا المتخلّف.إنّ المستضعف أقلّ أو أكثر منا أو مثلنا هو حليفنا الموضوعيّ الذي إذ نغيّبه ونُفرّط فيه إنّما نمعن في إيذاء أنفسنا بالنّظر إلى ما يترتّب عن الاستهانة به من تعميق إحساسه بالغربة عنا،وبالتّالي تشريعه لإتيانه ما لا يسرّنا وخلط أوراقنا،كلّما كانت الفرصة متاحة له - وهو ما تُدلّل عليه أحداث ووقائع كثيرة في حاضرنا.
عجبا،كيف لا نقدر على التعاون مع أنفسنا بل نستنكف من ذلك ؟
في إفريقيا،مثلا،حيث تتداخل جغرافيّتها مع جغرافية دول عربيّة كثيرة(عربية إفريقية)،نقف اليوم على أوضاع مأساوية نتيجة آفات معلومة في العديد من بلدانها،وهي بلدان ليست فاقدة لأسباب النهضة والتّقدّم بالنّظر إلى ثرواتها الطبيعيّة والبشرية الظاهر منها والكامن.وإزاء أوضاعها الصعبة نكاد لا نفعل شيئا تجاهها تقوى به على ضعفها فيُساعدها على تجاوز محنها،بالنّظر لما لدينا من إمكانات إفادة ومساعدة مؤثّرة،رغم فتور إرادتنا على حسن توظيفها.
مع إدراكنا للرّوابط التاريخيّة والجغرافية والثقافية التي تجمع بين الشعوب العربية والإفريقيّة وقناعة العارفين منا بما تمثّله إفريقيا لنا من عمق استراتيجي بالغ الأهمّيّة،فإنّ الانطلاقة الجادّة للتضامن والتّكامل التي بشّرت بها قمة القادة العرب والأفارقة المنعقدة سنة 1977 لم تصمد طويلا في استجابتها للآمال والتحدّيات وإن كان المنجز منها،على تواضعه،بإمكانه أن يُشكّل حافزا لمزيد الإثراء والتطوير تنويعا لمجالات التّعاون البينيّة وتكثيفا لفرصه في ظلّ التّحوّلات العالميّة الرّهيبة التي فرضت التّكتلات والتحالفات الإقليمية والدولية...لقد كان للعرب حضور بإفريقيا،قبل أكثر من عشرين سنة مضت، أفضل بكثير من حضورهم اليوم،وهو الحضور الذي دلّت عليه دور العلم والعبادة والمرافق الصحّيّة وغيرها التي أنجزوها بخبراتهم وأموالهم،فكان من نتائجها أن انحازت إفريقيا لنصرة القضايا العربية وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينيّة وانتشرت اللغة العربية في العديد من دولها وتأسست الكثير من الهياكل المشتركة ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وأدّت وظائف،على تواضعها،يُعدَ مردودها إيجابيّا مقارنة بما آلت إليه الأوضاع،حاضرا،من انكماش وجمود أدّى،فيما أدّى إليه،إلى أن ضيّعنا سندنا الإفريقي .إنّ إفريقيا المتخلّفة المستضعفة تضمّ،اليوم،دولا قد شقّت طريقها بنجاح على درب التقدّم والديمقراطيّة دون فضل منّا عليها،أما بلدانها الأخرى التي ما تزال تفتك بشعوبها الحروب الأهلية والأوبئة والفقر المدقع والجهل علّمتها تجاربها أنّ العرب،غالبا،ما يعدون بما لا يفعلون...فانصرفت عنهم إلى غيرهم(بعد أن كان بعضها يتوسّل الانضمام إلى جامعة الدول العربية) تنشد مخرجا لن يكون بلا ضرر يتأذّى منه العرب،عرب منهم شعوب يتهدّدها الموت عطشا إن توقّف تدفّق المياه إليها من منابعها في أدغال إفريقيا و تداهمها أوبئة فتاّكة أو نزوح أو عصابات مخدّرات وعنف وإرهاب تتسلّل إليها من دول الصحراء الإفريقيّة الشاسعة التي تحوّلت إلى بُؤر حاضنة لتلك الآفات المدمّرة وغيرها ...فضلا عن انخراط دول إفريقية وإثنيات وطوائف-اضطرارا أو اختيارا-في تحالفات مع أعداء العرب المعلنين أو المحتملين...
ولكي لا نُعدم الأمل في استفاقة عربية حتى إن جاءت متأخّرة توسّمنا خيرا في قمّة القادة العرب والأفارقة التي طال انتظارها منذ يتيمة القرن الماضي سنة 1977 والتي احتضنتها ليبيا الشهر المنصرم (أكتوبر 2010).إلا أنّه- ودون نوايا مغرضة- لم تسفر(قمة القرن 21) لدى أكثر المراقبين تفاؤلا على غير ديباجة النوايا الطيّبة وتوصيات لا ترقى إلى مستوى خطورة ودقة المرحلة.
ولئن كانت إفريقيا بكلّ هذا الثّقل من التأثير في جوانب حساسة من المصير العربي فإنّ الحال مشابه لـ"الآخر" المتخلّف أو النامي أو الصاعد الذي نتجاهله في آسيا وحتى في أميركا اللاتينية،فلا نُقدّر أنّ تحالف المستضعفين ضرورة وجودٍ دونها يكون الأكثر استهدافا منهم فريسة سهلة ينقضّ عليها الأقوياء،والعرب،كما هو جليّ،في مقدّمة المستهدفين لتدجينهم وتقطيع أوصالهم وتشريدهم والنيل من شرفهم وقطع أرزاقهم ونهب ثرواتهم.
ماذا أيضا ؟..
فجأة استفقنا اليوم على الآخر الذي سمّيناه اصطلاحا دول الجوار ...والسّؤال : تُرى هل أنّ جيراننا الذين نريد دفع بلائهم نزلوا علينا من السماء أم أننا كنا نتجاهلهم وهم يتغيّرون في حين كنّا نتقهقر؟..
ما أكثر عيوبنا وما أقلّ حسناتنا تجاه أنفسنا وتجاه "الآخر/الأنا"...
التعليقات (0)