في النموذج الفرنسي (الجزء الأول).
عرضنا في المقال السابق لمحة عن النظام السياسي البريطاني والتحول البطيء والسلمي من البرلمانية الى الديمقراطية. والى الخصوصية البريطانية التي بسببها يعتبر حتى المتحمسون البريطانيون انفسهم لهذا النظام ان ليس هناك نموذج بريطاني يحتذى ويصلح للتطبيق في الدول الاوروبية الأخرى. وخاصة تلك التي تبحث في مسيرتها نحو الديمقراطية عن نموذج, او عناصر اساسية من نموذج, اثبتت التجارب الواقعية فعاليته في البناء الديمقراطي, ومرونته التي يمكن ان تتكيف مع الخصائص المحلية, وبالتالي يقود الى بناء نظام سياسي على اسس ديمقراطية سليمة قابلة للحياة والاستقرار والاستمرارية.
النموذج الفرنسي يختلف عن النموذج البريطاني (أو المثال البريطاني الذي لا يرقى الى درجة نموذج حسب العديد من الحقوقيين البريطانيين), فالملكية الدستورية على الطريقة البريطانية تختلف كليا عن الجمهورية على الطريقة الفرنسية, وهما الديمقراطيتان الاساسيتان في اوروبا.
تاريخيا اتبعت فرنسا طريق الثورة التي حملت المبادئ والمفاهيم الجديدة. فثورة 14 جويليه عام 1789 لم تبق على الملكية المطلقة التي رأت بأنها غير قادرة على التحول الى ملكية دستورية مقيدة, وبان وجودها يعيق تطبيق المبادئ والمفاهيم التي جاءت بها الثورة وطرحتها على انها مبادئ شاملة وعامة وصالحة للإنسانية جمعاء. وقامت, للقطع نهائيا مع النظام القديم, بإعدام الملك لويس السادس عشر والملكة ماري أنطوانيت.
كان الملك يجمع بين السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. ولم يكن هناك الا قيد واحد نظري يقع على سلطاته وهي "القوانين الاساسية للملكة" ولكن هذه القوانين ليست في الواقع الا قوانين عرفية. اي غير مكتوبة. ولا شيء يمكنه فرض احترامها. وكان الملك يعين وزراء لمساعدته وله حق عزلهم حين يشاء..
المجلس الوحيد ذو الصفة التمثيلية يتكون من مندوبين منتخبين من قبل 3 طبقات في الامة: رجال الدين. والنبلاء. والأخرون le tiers état ـ هؤلاء الاخرين عرفهم سييس بقوله من هم الاخرون ؟ هم الجميع. ماذا يملكون؟ لا شيء . ما الذي يطلبونه؟ ان يصبحوا شيئا ــ وهو مجلس استشاري يصدر استشارات غير ملزمة للملك. السلطة الوحيدة التي يملكها تتعلق بالضرائب. مجلس الاعيان يتكون من ممثلين من الطبقات الثلاثة المذكورة يسميهم الملك. لا يلجا الملك الى هذه المجالس الا اذا رغب في مساندة الراي العام له. اما المحاكم les parlements فتقوم بتسجيل المراسيم والاوامر الملكية ليمكن تطبيقها.
في 24 جوان 1789 اجتمع نواب états généraux في صالة العاب paume واقسموا بان لا يفترقوا, وان يجتمعوا في كل مكان حيث تقتضي الظروف الى ان يتم كتابة دستور للمملكة ويقام على اسس قوية.
تعاقب الانظمة السياسية وتعاقب الدساتير:
في 26 اب 1789 صدر اعلان حقوق الانسان والمواطن من قبل الجمعية الوطنية التأسيسية. ونصت مادته الثانية على ان حقوق الانسان هي: الحرية. الملكية. الامن. مقاومة الاضطهاد. ووضع مبدأين سياسيين رئيسيين هما: السيادة القومية la souveraineté nationale, وفصل السلطات séparation des pouvoirs .
وضع دستور 3 ديسمبر 1791 نظام ملكية دستورية, فالملك الذي يتصرف بالسلطة التنفيذية, يقسم على احترام الدستور. والى جانبه مجلس تشريعي وطني ينتخب لمدة سنتين بالاقتراع المباشر. في 10 اوت 1792 اثر اضطرابات باريس تم قلب الملكية , و أنشأت الجمعية مجلسا تنفيذيا مكون من 6 اعضاء كانت مهمته تنظيم اختيار جمعية تأسيسية une Convention حلت محله.
اعلنت الجمعية بمرسوم 21 سبتمبر 1792 الغاء الملكية وبداية الجمهورية الاولى . وبسبب الاضطرابات المتلاحقة والخلافات السياسية لم يتم اعداد دستور جديد الا في 24 جوان 1793, ولكنه لم يوضع موضع التطبيق. ــ في 21 جانفي 1793 تم اعدام الملك (مقالنا مرافعات في محاكمة لويس السادس عشر). ليحل محله دستور 1795.ــ
دستور 22 اب 1795 الذي اشتمل على 377 مادة هو أطول دستور في تاريخ فرنسا. جعل السلطة التنفيذية في هيئة جماعية مكونة من 5 اشخاص سميت حكومة المدراء le Directoire. والسلطة التشريعية يمارسها مجلس مكون من 500 عضو يُشرّع القوانين. ومجلس الشيوخ anciens يناقش القوانين ويصوت عليها.
في 9 نوفمبر 1799 اطاح انقلاب عسكري , اعده المدير سييس Sieyès ونفذه نابليون, بهذا النظام. وقام نظام القنصلية المكون من 3 قناصل : نابليون بونابرت و ايمنايل سييس و جان كابريار وقد استبدل هذين الاخرين ببيير ديكوس و جاك لوبران.
عين بونابرت نفسه قنصلا أولا. وعزز الدستور الجديد السلطة التنفيذية واضعف السلطة التشريعية. واصبح مجلس الشيوخ le Sénat حارس الدستور. وقامت هيئة سميت Tribunat تناقش القوانين. والجسم التشريعي يصوت عليها. وتم بواسطة قرارين sénatus-consultes(وهي أعمال يصوت عليها مجلس الشيوخ لها قيمة القانون في الامبراطورية الاولى والثانية). تحويل القنصلية الى امبراطورية. أعطى القرار الأول الصادر في 4 اوت 1802 القنصلية لنابليون لمدى الحياة. وسماه القرار الثاني الصادر في 18 ماي 1804 امبراطورا Empereur des Français.
في 14 افريل 1814 عادت الملكية الى فرنسا. ورفض لويس 18 الدستور المعد من قبل مجلس الشيوخ واستبدله بميثاق 4 جوان 1814 مؤكدا على المبادئ التي جاءت بها الثورة : الحريات الفردية والمساواة والعدالة... وسجل عودة النظام القديم. فالملك رئيس السلطة التنفيذية . والسلطة التشريعية تتولاها غرفة الاعيان يسمي الملك اعضاءها لمدى الحياة ,او لمدة محددة. وغرفة نواب ينُتخب اعضاؤها باقتراع دافعي الضرائب censitaire
بعد هروب لويس الثامن عشر الى بلجيكا وعودة نابليون الاول من جزيرة Elbre تم وضع دستور جديد, وهو عقد اضافي لدساتير الإمبراطورية في 22 افريل 1815, وقريب جدا من ميثاق 1814 فأنشأ جمعيتين تشريعيتين : غرفة الأعيان des pairs وغرفة الممثلين. بعد هزيمة واترلو تم خلع نابليون في 22 جوان 1815.
في عام واحد, من 1 افريل 1814 الى 3 جويليه 1815 , تعاقب على السلطة : الملكية الاولى première restauration e , الايام المئة. عودة الملكية الثانية تحت اسم ملكية جويليه/تموز واصبح لويس فيليب ملكا على الفرنسيين.
الملكية الثانية, ملكية جويليه, من 22 جوان 1830 الى 9 اوت 1848
عاد لويس الثامن عشر واعاد ميثاق 1814 .وبعد موته خلفه شارل العاشر. وأصدر امر سان كلود الذي علق حرية الصحافة, وحل غرفة النواب, واعاد تقليص حق الاقتراع. مما حرض على احداث باريس الثورية عام 1830وقلب الملكية. وفي 9 اوت 1830 تولى العرش لويس فيليب الاول ووضع ميثاقا جديدا. و لم تتغير المؤسسات. وولد النظام البرلماني.
الجمهورية الثانية 24 فيفري 1848 الى 2 ديسمبر 1852:
في 4 نوفمبر 1848 تم وضع دستور جديد. ونص للمرة الأولى في تاريخ فرنسا على الاقتراع العام للذكور البالغين 21 عاما والمتمتعين بالحقوق المدنية والسياسية. منحت السلطة التشريعية لجمعية واحدة دائمة ومنتخبة لأول مرة بالاقتراع العام المباشر لثلاثة اعوام. وانتخب لويس نابليون بونابرت اول رئيس لجمهورية فرنسية في تاريخ فرنسا. تم انتخابه بالاقتراع العام المباشر لمدة 4 سنوات. ودخلت في سلطاته تسمية الوزراء وعزلهم. وهؤلاء غير مسؤولين امام الجمعية. وكانت الكلمة العليا في كل مرة ينشب فيها نزاع او تبرز مشكلة, بين السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية , لهذه الاخيرة.
الإمبراطورية الثانية من 2 ديسمبر 1852 الى 4 سبتمبر 1870:
انقلب نابليون الثالث على نفسه قبل انتهاء ولايته كرئيس للجمهورية لينصب نفسه امبراطورا. وسجل دستور 14 جانفي 1852 العودة الى مؤسسات الامبراطورية, والوفاء لمبادئ الثورة الفرنسية. والاقتراع العام المباشر. وقد مارس نابليون الثالث الحكم بمساعدة الوزراء ومجلس الدولة والجسم التشريعي. وكان يملك ليس فقط السلطة التشريعية, ولكن اقتراح القوانين أيضا. يعين الوزراء ويعزلهم. تعود السلطة التشريعية الى مجلسين: مجلس الدولة, المكون من موظفين, يعد القوانين. والجسم التشريعي يناقشها ويصوت عليها. ومجلس الشيوخ يراقب دستوريتها. يسمي الامبراطور رئيس الجسم التشريعي المنتخب لمدة 6 سنوات. ويمكن للإمبراطور رفض القوانين حتى بعد اقرارها والتصويت عليها من قبل المشرع. انهارت الامبراطورية الثانية في 4 سبتمبر 1870 بعد هزيمة الجيوش الفرنسية في سيدن Sedan.
الجمهورية الثالثة.
اثر هزيمة نابليون الثالث في سيدان قامت ثورة شعبية واعلنت في اليوم نفسه الجمهورية الثالثة. في 8 فيفري 1871 اقيمت انتخابات عامة مباشرة للذكور لانتخاب الجمعية الوطنية. وقد انتخبت الجمعية المذكورة في 17 فيفري من نفس العام ادولف Thiers رئيسا للسلطة التنفيذية, فوقع هذا الاخير معاهدة السلام, وقمع كمونة باريس Commune de Paris, واعاد التنظيم الاقتصادي والاداري في البلاد. ومنح قانون ريفيه Rivet الصادر في 31 اوت 1871 لرئيس السلطة التنفيذية لقب رئيس الجمهورية. خضع رفيه لسلطة الجمعية الوطنية واصبح مسؤولا أمامها . في 24 ماي 1873 استقال من منصبه. وانتخب المارشال مكماهون مكانه وهو ملكي التوجه.
مؤسسات الجمهورية الثالثة.
حددت القوانين الدستورية لعام 1875 هذه المؤسسات بتشكيل جمعيتين: غرفة النواب وتنتخب بالاقتراع العام المباشر لمدة أربعة 4 أعوام. ومجلس الشيوخ, يتم انتخابه بالاقتراع غير المباشر لمدة تسعة أعوام. تناقش الجمعيتان القوانين وتصوت عليها. يستطيع النواب والشيوخ اقتراح القوانين وطلب تعديلات عليها. وتنتخبان, مجتمعتين في جمعية عامة, رئيس الدولة الذي يأخذ لقب رئيس الجمهورية, لمدة 7 أعوام. يسمي هذا الاخير الوزراء ويعزلهم. ولكن ليست لديه سلطات فعلية. وعليه, ولان سلطاته غير فعلية فان كل الاعمال الصادرة عنه تحتاج لتوقيع الوزراء المختصين الى جانب توقيعه, فهو غير مسؤول سياسيا. مسؤوليته تمثيل الوطن وليس اتخاذ القرارات الهامة. سلطته الوحيدة تتمثل في اختيار رئيس المجلس, اي رئيس الحكومة. الوزراء مسؤولون أمام المجلسين عن السياسة الحكومية وعن اعمالهم الشخصية.
وضعت الحرب العالمية الثانية نهاية للجمهورية الثالثة. فاجتمعت الجمعية الوطنية في فيشي وسلمت السلطات الكاملة للمارشال بيتان. اصبحت فرنسا "الدولة الفرنسية" بدل "الجمهورية الفرنسية", وتشكل نظام غير ديمقراطي. عرفت الجمهورية فترة اضطرابات وتحديات: الاحتلال الاجنبي, فقدان الالزاس واللورين, وخضوع الجمعية الوطنية لهيمنة الملكيين.
الجمهورية الرابعة.
بعد تحرير باريس قامت حكومة مؤقتة في 25 اوت 1944. وبدأت رسميا الجمهورية الرابعة في 27 اكتوبر 1946. استقالت الحكومة المؤقتة لتترك للجمعية التأسيسية وضع دستور جديد. اختيرت جمعية تأسيسية بسلطات محدودة, كما كان يرغب الجنرال ديغول. ومنحت هذه الجمعية سلطات تشريعية. وانتخب رئيس الحكومة المؤقتة. كان امام الجمعية 7 شهور لوضع دستور جديد.
اسفرت الانتخابات التشريعية لشهر اكتوبر 1945 عن فوز كبير لثلاثة احزاب سياسية هي: الحزب الشيوعي الفرنسي, الذي كان له دور كبير في المقاومة حصل على اساسها على ثقة الناخبين. الحركة الجمهورية الشعبية ذات التوجه الديمقراطي المسيحي. والحزب الاشتراكي. وقد شكلت هذه الاحزاب لاحقا قوة حكومية موحدة عرفت باسم الثالوث. في حين تراجع اليمين الكلاسيكي واليمين المتشدد الذي حكم قبل الحرب.
بعد قيام الجمعية الجديدة شكل ديغول حكومته وسمى الوزراء من الاحزاب الثلاثة المذكورة. ولكنه كان حذرا من الشيوعيين الذين جاءوا في المرتبة الاولى ولم يخصص لهم الا 5 وزارات معينا الامين العام لهذا الحزب, موريس توريز, نائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزير دولة. ومنح مؤيديه غير المنتمين لأي من هذه الاحزاب 6 وزارات. مما اسفر عن خلافات عديدة بينه وبين الاحزاب الثلاثة الفائزة بالأغلبية في الجمعية, في مسائل عديدة, وخاصة حول طبيعة النظام السياسي المستقبلي . وهذا ما انعكس على صياغة الدستور.
رفض الفرنسيون مشروع الدستور الذي قدمته لهم الجمعية المذكرة للتصويت عليه. وكما هو منصوص عليه استقالت الجمعية لتحل محلها جمعية تأسيسية اخرى انتخبت في 2 جوان 1946 بنفس الشروط التي قامت بموجبها الجمعية المستقيلة. و تمت الموافقة باستفتاء عام على مشروع الدستور الذي وضعته الجمعية الجديدة في 13 اكتوبر 1946 , ودخل حيز التنفيذ في 27 من الشهر ذاته. وحلت الجمعية الوطنية المنتخبة بالاقتراع المباشر محل غرفة النواب القديمة, بسلطات منها التصويت على القوانين ومراقبة الحكومة. وحل مجلس الجمهورية المنتخب بالاقتراع العام غير المباشر لمدة 6 اعوام , بسلطات اقل من سلطات الجمعية الوطنية, محل مجلس الشيوخ القديم .وهكذا أقام الدستور نظاما برلمانيا.
يُنتخب رئيس الجمهورية لمدة 7 اعوام من قبل البرلمان مجتمعا : الجمعية الوطنية ومجلس الجمهورية. وهو غير مسؤول سياسيا. وعليه, يجب ان يوقع, الى جانب توقيعه, رئيس المجلس, مجلس الوزراء, والوزير المختص, على كل القرارات التي يتخذها. رئيس مجلس الوزراء هو رئيس السلطة التنفيذية الفعلي. لأنه مسؤول سياسيا. وهو بطبيعة الحال رئيس الاغلبية البرلمانية التي بفضلها يتم انتخاب رئيس الجمهورية.
في ظل هذه الجمهورية حصلت المرأة على حق التصويت في 22 افريل/نيسان 1944. واستعملته لأول مرة في عام 1945 في انتخاب اعضاء الجمعية التأسيسية.
جاء في مقدمة دستور 27 اكتوبر 1946 ما يلي:
عشية انتصار الشعوب الحرة على الانظمة التي حاولت استعباد واذلال الانسان, يطالب الشعب الفرنسي من جديد بان لكل انسان, دون تمييز في اصله ودينه او معتقده, حقوق ثابتة ومقدسة غير قابلة للتنازل عنها. ويعود للتأكيد بقوة على حقوق وحريات الانسان والمواطن, المكرسة في اعلان الحقوق لعام 1789. وعلى المبادئ الاساسية المعترف بها من قبل قوانين الجمهورية.
يطالب, بين امور أخرى, وبشكل خاص وضروري لعصرنا الحالي, بالمبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية التالية:
ان يضمن القانون للمرأة حقوقا مساوية لحقوق الرجل في كل المجالات.
ان يضمن لكل انسان مضطهد, بسبب نشاطه في سبيل الحرية, حق اللجوء على اراضي الجمهورية.
ـ ـ ـ ـ.
عرفت الجمهورية الرابعة ازمات عديدة وبالتالي عدم استقرار(20 ازمة وزارية في 11 عاما ) منها بشكل خاص, ازمة تحرر المستعمرات. الازمة الفيتنامية 1946ـ 1954 . والازمة الجزائرية 1954 ـ 1962. تعاقب على رئاسة الجمهورية رئيسان بسلطات مقيدة هما: فنسان اريول Vincent Auriol ورينيه كوتي René Coty/
انهارت الجمهورية الرابعة عام 1958. في 1 جوان/ حزيران 1958 سمى رنيه كوتي شارل ديغول على رأس الحكومة. و منحت الجمعية الوطنية سلطة تأسيسية لصياغة دستور جديد.
الجمهورية الخامسة.
عاد الجنرال ديغول الى السلطة بعد محاولة الانقلاب العسكري في الجزائر. وقد سُمي رئيسا للحكومة في 1 جوان 1958 فاعد فريقا لصياغة دستور جديد بإشراف ميشال دوبريه. واقر الدستور بعد استفتاء عام بنسبة 85,1% . و اصبح في 4 اكتوبر 1958 دستور الجمهورية الخامسة. (تم تعديل هذا الدستور منذ اعتماده و إلى عام 2008, 24 مرة) (الوثائق الفرنسية. وثائق دراسات رقم 04ـ1 ).
جاء في مقدمة الدستور المذكور:
يعلن الشعب الفرنسي تمسكه بحقوق الانسان وبمبادئ السيادة القومية حسبما تم تعريفها بإعلان حقوق الانسان الصادر عام 1789, المؤكد عليها والمكملة بمقدمة دستور عام 1946 . وكذلك بالحقوق والواجبات المعرّفة في ميثاق البيئية لعام 2004.
لا يصنف رجال القانون الدستوري النظام الفرنسي على انه برلماني, وانما على انه نظام اقرب الى الرئاسي, او انه شبه رئاسي شبه برلماني, او نظام برلماني مع سلطات رئاسية قوية. مع التمييز بين النظري وما هو جار العمل عليه. نظام يمضي في اتجاه يسهل تعاون السلطة التنفيذية مع التشريعية في اطار نظام فصل مرن للسلطات, خلافا لما هو معروف في النظام الرئاسي في الولايات المتحدة الامريكية, الذي يفصل فصلا حادا بين السلطتين . فجعل لكل سلطة تجاه الاخرى وسائل اكراه, أي انه يمكن للجمعية الوطنية الاطاحة بالحكومة بتصويت حجب الثقة عنها, كما حدث للحكومة الاولى لجورج بومبيدو في 5 اكتوبر 1962. وبالمقابل يمكن لرئيس الجمهورية حل الجمعية الوطنية ,كما فعل جاك شيراك في 21 افريل 1997.
يعرف النظام السياسي استقرارا عندما تكون الاغلبية البرلمانية تدعم رئيس الجمهورية و من ذات التوجه السياسي الذي ينتهجه. فتمر عندها اعمال السلطتين دون كبير عناء. الوزير الاول مسؤول امام الجمعية الوطنية, ومسؤول في الوقت نفسه امام رئيس الجمهورية, الذي يحثه احيانا على الاستقالة. تحت تأثير الغالبية البرلمانية, وحسب المبدأ الديغولي لم يكن هناك عزل للوزير الاول من قبل رئيس الجمهورية.
ولا يعيق استمرارية النظام كون الغالبية في الجمعية الوطنية ليست هي الغالبية الرئاسية, اي انها من اتجاه سياسي مخالف لاتجاه الرئيس. فعندها يتم اللجوء الى ما يعرف بالتساكن cohabitation . وهذا ما حصل في عهد فرنسوا ميتران, وفي عهد شيراك. حيث تكون الحكومة عندها مرتبطة بالبرلمان وليس برئيس الجمهورية. مما ينتج عنه تقلص سلطات رئيس الجمهورية.
يتمتع رئيس الجمهورية الخامسة بسلطات اوسع بكثير من تلك التي كانت مقررة للرئيس في الجمهورية الرابعة. وكان في هذا دور كبير لمؤسس الجمهورية , حيث يقال ان ديغول فصل سلطات رئيس الجمهورية على مقاسه.
مع المرونة في فصل السلطات, تعزز الجمهورية الخامسة سيطرة السلطة التنفيذية على البرلمان, وسيطرة الوزير الاول على الوزراء, وتقلص امكانيات طرح المسؤوليات السياسية للحكومة امام البرلمان.
منح الدستور حق الرقابة على دستورية القوانين لمنع البرلمانيين من التهرب من الالزامات التي فرضها الدستور, وبشكل خاص لمنع احتمال توسيع المجال التشريعي خارج الحدود الدستورية. فالمجلس الدستوري المكون من 9 اعضاء مسميين لمدة 9 اعوام من قبل السلطة السياسية ــ 3 يسميهم رئيس الجمهورية. و3 يسميهم رئيس الجمعية الوطنية .و 3 يسميهم رئيس مجلس الشيوخ. يضاف اليهم قدماء رؤساء الجمهورية ــ وسيلة رئيسية فعالة في عقلنة انصار البرلمانية. وقد تعزز دوره ابتداء من الثمانينات بفضل التعديلات الدستورية المتعلقة به و اللجوء المتواتر لطلب آرائه. وكثرت القرارات الصادرة عنه. ومن الناحية العملية تجري استشارته بصدد كل القوانين الهامة. كما انه, ومع الوقت, وبفضل الخبرة المتراكمة فان تقنياته في الرقابة اصبحت في غاية الدقة والمهنية. حتى ان الدستوري الامريكي الس ستون سويت سماه "السياسة الدستورية" اي طريقة حكم تتميز بالتداخل بين صياغة القوانين ورقابة دستوريتها. ودخل ضمن سلطات المجلس السهر على قانونية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والاستفتاءات.
صرح ميشال دوبريه اوت 1958 " لأنّ الاستقرار الحكومي في فرنسا لا ينتج عن القانون الانتخابي , فيجب ان ينتج هذا الاستقرار, على الاقل في جزء منه, عن التنظيم الدستوري". ومن هنا جاء وضع احكام دستورية تسمح للحكومة الاستمرار في الحكم وقيادة سياساتها في حالة غياب اكثرية مساندة لها في الجمعية الوطنية.
تضمن الدستور 17 المذكور عنوانا. يقع تحت كل عنوان عدة مواد. تحت العنوان الاول جاء ان فرنسا جمهورية موحدة. علمانية. ديمقراطية. واجتماعية. تضمن مساواة جميع المواطنين أمام القانون, دون تمييز في الاصل او العرق او الدين. وتحترم كل المعتقدات.
وخصص العنوان الثاني لرئيس الجمهورية 12 مادة (من 5 الى 19) .
فهو يسمي الوزير الاول في منصبه كما يقيله بناء على تقديم هذا الاخير استقالته من الحكومة (المادة 8).
ينظم استفتاءات بناء على اقتراح الحكومة (المادة 11و 89)
يحل الجمعية الوطنية (المادة 12).
وفي حالة الازمات ( مثل الاعتداء على التراب الوطني والازمات الداخلية..) يمكنه تحمل مسؤوليات استثنائية (المادة 16) الامر الذي يخلق نظام سلطة استثناء مؤقتة (6 أشهر) ضمن الشروط المنصوص عليها (راي الوزير الاول, رئيس الجمعية الوطنية, رئيس مجلس الشيوخ, رئيس المجلس الدستوري).
ينتخب الرئيس بالاقتراع العام المباشر ولمدة 7 أعوام , اصبحت بعد عام 2000 خمسة أعوام .
ونصت المواد من 20 الى 23 من العنوان الثالث على ان الحكومة تحدد وتقود سياسة الامة. وهي مسؤولة امام البرلمان ضمن الشروط والإجراءات المنصوص عليها في المادة 49 و 50.
يقود الوزير الاول النشاط الحكومي. وهو مسؤول عن الدفاع الوطني. ويؤمن تنفيذ , مع الاخذ بالاعتبار احكام المادة 13 . ويمارس سلطات تنظيمية. يمكنه تفويض بعض سلطاته للوزراء. (المادة 21).
وتم تخصيص العنوان الرابع للبرلمان (المواد 24 الى 33 ). والعنوان الخامس للعلاقات بين البرلمان والحكومة (المواد 34 الى 2ـ51).
والعنوان السادس للمعاهدات والاتفاقيات الدولية ( المواد 52 الى 55). والعنوان السابع للمجلس الدستوري (المواد 56 الى 63). اما العنوان الثامن فقد تم تخصيصه للهيئة القضائية autorité judiciaire ولم يسميها سلطة pouvoir كما فعل فيما يتعلق بالسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. (المواد 64 الى 1ـ 66 ) وهذا ما يثير تساؤلات وانتقادات ومطالبات, رغم الاعتراف بان الهيئة القضائية تعامل على انها سلطة لا تقل عن السلطتين الاخريتين. والعنوان التاسع للمحكمة العليا Haute Cour (المواد 67 الى 68) العنوان العاشر متعلق بالمسؤولية الجنائية لأعضاء الحكومة ( المواد 1ـ 68 الى 3ـ 63). العنوان 11 للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئية (المواد 69 الى 71). والعنوان 11 مكرر ,المضاف الى القانون الدستوري في جويليه 2008, متعلق بالدفاع عن الحقوق (مادة وحيدة 1ـ 71). العنوان 12 متعلق بالنشاطات والفاعليات الاقليمية (المواد 72 الى 1ـ 75). العنوان 13 احكام متعلقة بكالدونيا الجديدة nouvelle Calédonie (المواد من 76 الى 77). العنوان 14 متعلق بالفرنكوفونية (المواد 87 الى 88). العنوان 15 متعلق بالجماعة الاوروبية والاتحاد الاوروبي (المواد 1ـ 88 الى 5ـ 88 ). العنوان 16 متعلق بمراجعة الدستور (مادة وحيدة 89). العنوان 17 احكام انتقالية. عنوان تم الغاؤه بالقانون الدستوري لشهر اوت/اب 1995.
بقيت الجمهورية الفرنسية لفترة طويلة تعتبر كنموذج هو الاكثر ملائمة للدولة البسيطة المركزية . كما ان المراجعة الدستورية لعام 2003 اضافت الى الدستور التأكيد بان "تنظيم الجمهورية غير مركزي". وعليه فيمكن ان يكون نموذجا صالحا لنظام اللامركزية.
د. هايل نصر
يتبع.
التعليقات (0)